العلاقات العربية الامريكية بعد الحرب العالمية الثانية
مرسل: الخميس نوفمبر 28, 2013 1:03 pm
فى أعقاب الحرب العالمية الثانية بدأ صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية بسرعة مذهلة من جراء دورها فى هزيمة النازية والفاشية، "فقد كان للولايات الفضل الحاسم فى إنقاذ أوربا من هزيمة نكراء على يد ألمانيا واليابان وإيطاليا فى الحرب العالمية الثانية التى كانت تستهدف حرمان الدول الأوربية التقليدية من مستعمراتها وفرض نموذجها وسيطرتها على هذه المستعمرات بل على العالم أجمع، كما لعب ثقل أمريكا الاقتصادى وآلياتها فى تحقيق الازدهار، وسيطرتها على مؤسسات "بريتون وودز"() دورًا كبيرًا فى القضاء على أوربا والنيل من النموذج الأوربى فى عقر داره."
لقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تحدث تغيرًا ملحوظًا فى توازنات القوة العسكرية والاقتصادية، وأن تحيل أوربا إلى الظل الأمريكى، فقد كانت سنوات الحرب الست (1939 – 1945) فترة التحول الفعلى لأمريكا من موقع الوصيف لبريطانيا إلى مرتبة الصدارة؛ حيث ثبتت دعائمها خلال هذه الحرب باعتبارها قوة عالمية أولى على حساب قوى الاستعمار التقليدية، وقد ساعدها على ذلك، "أن الحرب العالمية الثانية قد تركت فراغًا فى مراكز القوة الأوربية، فقد تدمرت القاعدة الصناعية الألمانية وأرهق الصراع كلاً من بريطانيا العظمى وفرنسا، وهذا الوضع أخلى الساحة للاتحاد السوفييتى، والولايات المتحدة لتحتلا مراكز القوة، وكلتاهما تعارض الأخرى."، مما كان له الأثر البالغ فى مختلف أنحاء الكرة الأرضية، فقد رأت أمريكا أنه بقدر ما تكبدته من خسائر وما أنفقته من أموال يكون مقدار مسئوليتها فى المحافظة على الأوضاع التى تتفق مع مصلحتها السياسية بين مجموع الدول، ولم تفرض أمريكا سيطرتها على أوربا فحسب بل "امتدت إلى الوطن العربى الذى كان مجالا اقتصاديًا خصبًا، تستنفد مواده الأولية وتقتحم أسواقه. حيث وضعت حالة الاستقرار فى الشرق الأوسط والمحافظة على نفطه ضمن أولوياتها "فحصلت على امتيازات البترول فى شبه جزيرة العرب من الأسرة الوهابية وتولت الإشراف على الممرات والمعابر إلى شبه الجزيرة، وأخذت تراقب عن كثب شعوب الشرق الأوسط المحيطة بهذه الآبار حتى لا تصبح فريسة للنفوذ السوفييتى؛ حيث أن انضمام هذه الشعوب إلى الجبهة الشيوعية فى حالة قيام حرب ضد الولايات المتحدة يهدد هذه الآبار بضياعها منها، ويحتم عليها فى حالة اليأس المبادرة بتدميرها.
لقد كان الهدف الأساسى للولايات المتحدة الأمريكية هو الحصول على نفط عربى رخيص من منطقة الخليج العربى وخصوصا من العربية السعودية، "فقد كان النفط عاملا أساسيا فى النمو السريع لأهمية المنطقة العربية بالنسبة للماكينة العسكرية الأمريكية، وهذا متعلق من جهة أولى بضمان تزويد أمريكا بالوقود السائل، ومن جهة أخرى لسياسة التوسع والنهب من قبل الشركات النفطية الأمريكية.
وقد شهدت السنوات الثلاثون التى أعقبت الحرب العالمية الثانية فترة مد وجزر بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية، وقد تمثلت نواحى الاتفاق والخلاف فى العلاقات العربية الأمريكية خلال تلك الفترة فيما يأتى:
1- موقف الولايات المتحدة الأمريكية من قضية الاستقلال والوحدة العربية:
إن صراع العرب ضد الاستعمار الأوربى من أجل الاستقلال كان لابد أن يجد صدى وإن كان محدودًا لدى الولايات المتحدة الأمريكية "التى أيدت سياسيًا استقلال كل من سوريا ولبنان عام 1946، كما أيدت بوضوح تغيير النظام الملكى فى مصر بثورة عسكرية عام 1952، وأظهرت عدم معارضة للأمانى الوطنية فى بقية الأقطار العربية للتخلص من الاستعمار الفرنسى، وبقايا الاستعمار الإنجليزى ولم يكن التأييد الأمريكى لاستقلال الدول العربية نابعًا من نية صادقة لتحقيق المصلحة العربية فى مقابل معاداة الحلفاء الأوربيين، وإنما جاء تأكيدًا للنظرية البراجماتية التى تضع المنفعة الذاتية فى صدارة أولوياتها حيث جاء ذلك التأييد "كرغبة من الولايات المتحدة لكى تطوق الأقطار العربية بصنيع يسهل لها أن يصبح نفوذها متواجدًا فى تلك الأقطار بصورة منفردة بعد زوال النفوذ الأوربى، ومن ثم يمكن حماية المصالح الرأسمالية والاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة، بل وزيادتها".
كما حاول العرب تحقيق أهدافهم فى بناء مجتمعات أفضل عن طريق الوحدة العربية، وإقامة مشروعات التكامل الاقتصادية والدفاع المشترك وذلك من خلال جامعة الدول العربية التى تأسست عام 1945، وصدور ميثاقها فى مارس من ذلك العام بمدينة القاهرة، التى صارت مقرًا لها، انطلاقًا من سبق مصر فى المجال السياسى والحضارى، وثقلها السكانى بالمقارنة مع الدول العربية الست الأخرى، وهى الملكة العربية السعودية، واليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، وشرق الأردن.
"ومن الوسائل التى اتبعت لإضعاف شأن الجامعة العربية وتشتيت وحدة الأعضاء وإفساد خططها ومشروعاتها إنشاء محور أنقرة – كراتشى، أى تكوين حلف من تركيا وباكستان بمساعدة الديمقراطية الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية بكافة أنواع المساعدات من أموال ومعدات دفاع وأسلحة ومعونة فنية ... إلخ، وذلك نظير انحيازها للمعسكر الغربى، ولا شك أن هذا الحلف كان يلاقى كما صرح ساسة الولايات المتحدة الأمريكية ترحيبًا حارًا، حيث تعتبره تطمينًا لها فى بسط نفوذها فى الشرق الأوسط.
لقد كانت سياسة الولايات المتحدة نحو قضية الوحدة العربية، تقوم على تجنب كل ما يؤدى إلى وحدة العرب، اعتقادًا منها بأن العرب المتحدين سيعملون على تحقيق المصلحة العربية قبل أى اعتبار آخر، وهذا معناه أنه لن يكون هناك نفوذ سياسى أو استغلال اقتصادى أمريكى فى الأقطار العربية، وانطلاقا من هذا التصور نلاحظ مواقف أمريكا من العديد من مشروعات الوحدة التى أعلنت على الساحة العربية، "ومن ذلك عدم ترحيبها بالوحدة المصرية السورية لعام 1958م، لأن تلك الوحدة قد تزيد من نفوذ عبد الناصر، واستقطاب الجماهير العربية تجاه معاداة السياسة الأمريكية وتدعيم قدرات النظم المناوئة للامبريالية الغربية.
2- الرفض العربى للمشروع الأمريكى (النقطة الرابعة):
أعلن الرئيس "هارى ترومان"() Harry Truman (1884-1972)، عام 1949 عن مشروعه الخاص بالدول المتخلفة والمعرف باسم (النقطة الرابعة)، وجاء إعلان الرئيس الأمريكى فى كلمات نصها "إننا يجب أن نخطو إلى وضع برنامج جديد لجعل تقدمنا العلمى وتقدمنا الصناعى فى خدمة تنمية البلاد المتخلفة فى العالم، وأن يكون هدفنا مساعدة الشعوب الحرة فى العالم فى جهودها الذاتية لإنتاج مزيد من الطعام، ومزيد من الملابس، ومزيد من وسائل المعيشة، ومزيد من الأجهزة التكنولوجية، وكل ذلك للتخفيف من أعباء هذه الشعوب.
وهنا يكمن النفاق الأمريكى الذى يحمل أفكارًا وأباطيل مضللة عن البراءة والصلاح والفضيلة، تخفى وراءها الوجه الحقيقى لأمريكا الذى لا يخلو من ملامح الاستئساد والمصلحة الذاتية المقترنة بالدوافع الأنانية، حيث كانت الولايات المتحدة تأمل من وراء هذا المشروع إلى استقرار الأوضاع السياسية فى المنطقة، وإلى أن يشعر المواطنون العرب بجميل الولايات المتحدة فتفقد الشيوعية العالمية، ويفقد الاتحاد السوفيتى تأثيرهما فى المنطقة العربية، وينتج عن ذلك تقلص التهديد الموجه ضد أمن الولايات المتحدة، ومصالحها الاقتصادية، غير أن العون الاقتصادى والمساعدات العسكرية لم يكونا كافيين لمنع التغلغل السوفيتى فى الشرق الأوسط. بالرغم من أن مشروع النقطة الرابعة كان له دور مهم فى تنمية الأقطار العربية التى استفادت منه، فإنه كان سلاحًا فى يد الولايات المتحدة الأمريكية، تشهره وقتما تشاء فى وجه أية دولة تعترض مصالحها فى الشرق الأوسط وأكبر دليل على ذلك "إلغاء المساعدات الأمريكية بموجب مشروع النقطة الرابعة لمصر مثلا عندما رفضت الانضمام للتحالفات الأوربية التى تتزعمها الولايات المتحدة وترعاها فى المنطقة.
3- الموقف العربى من عرض "قيادة الدفاع المشترك":
ذهب تفكير الولايات المتحدة فى تغلغلها فى الشرق الأوسط إلى تنظيم خطة دفاع مرتبطة بالدفاع الأوربى، وعمدت بشتى الطرق إلى محاولة اشتراك شعوب الشرق الأوسط فيها.
"فقد كانت المساعدات الاقتصادية والفنية – وبصفة أساسية – التى قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الأقطار العربية بموجب مشروع النقطة الرابعة مقدمة لطرح ما عرف باسم "قيادة الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط"، على مصر وغيرها من الأقطار العربية 1951. غير أن العرب وقفوا موقف المعارضة من هذا العرض "فهم لا يريدون أن يصبحوا مخلب القط فى الحرب القادمة، ويتخذ منهم درع لتلقى الضربات الأولى حتى يتفادى الغرب حدة الحرب إذا بدأت فى الشرق الأوسط، هذا إلى جانب أن عرض الدفاع المشترك المرتبط ارتباطًا وثيقًا بمصالح الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص فيه إهدار لاستقلال العرب وكرامتهم وكيانهم فهو اعتراف مباشر بعدم قدرتهم على حماية أنفسهم "ومن ثم رفضته مصر، وقد أيدتها الدول العربية فى رفضها للعرض الأمريكى.
وقد جاء هذا الرفض مخالفًا لتوقعات الولايات المتحدة الأمريكية، ومخيبًا لآمالها حيث عبر "اتشيسون" Ecshison وكيل وزارة الخارجية الأمريكية والذى حمل العرض إلى الحكومة المصرية "بأن حكومة الولايات المتحدة تعتبر رفض مصر للعرض الأمريكى عمل غير ودى.
ولم تيأس الولايات المتحدة الأمريكية وكررت محاولة تقديم العرض إلى مصر بعد ثورة يوليو 1952، "ولكن الرئيس جمال عبد الناصر رفض العرض بشدة وأعلن استعداد مصر فى عهدها الجديد للدفاع عن نفسها دون الدخول فى تحالفات خارجية.
4- الموقف العربى من حلف بغداد:
عارضت مصر حلف بغداد الذى اتجهت أمريكا إلى تكوينه فى عهد الرئيس "إدوارد ايزنهاور"() E.Eisenhower (1890-1969)، بعد رفض العرب فكرة إنشاء مشروع الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط، "وهو حلف تتزعمه العراق ذات النظام الموالى للغرب، مع العمل على ضم دول أخرى مثل تركيا، بريطانيا لذلك التحالف، ومن ثم تزداد قوة العراق، لتصبح زعيمة الكتلة الأسيوية من العالم العربى، مما يدفع الدول الأخرى المترددة فى الانضمام إلى الحلف إلى إعلان انضمامها، وبذلك يضعف موقف مصر، وقوتها فى العالم العربى، ويصبح فى الإمكان احتواء أخطار النظام الناصرى المتزايدة.
ولم تنضم أمريكا للحلف رسميًا، رغم أنها كانت المحرضة على إنشائه، "واقتصر اشتراكها فى الحلف على بعض اللجان المحددة وهى اللجنة العسكرية واللجنة الاقتصادية، ولجنة مكافحة التخريب.
ويرى البعض أن سبب إحجام الولايات المتحدة عن الانضمام رسميا إلى التحالف هو "معارضة السعودية ومصر له، حيث لم تكن الولايات المتحدة ترغب آنذاك فى إثارة عدائهما، . ويمكن أن نضيف إلى الأسباب التى أدت إلى إحجام الولايات المتحدة عن الانضمام الرسمى إلى حلف بغداد، "عدم رغبة أمريكا فى الارتباط مع بريطانيا – الدولة الاستعمارية السابقة – والتى كانت ستسيئ إلى صورة الولايات المتحدة فى منطقة الشرق الأوسط.
5- الموقف الأمريكى من مشروع السد العالى:
أبت الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن ترد الضربة لمصر خاصة بعد مواقفها الرافضة للسياسات الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط وقد حانت لها الفرصة عندما "بدأ الرئيس المصرى "جمال عبد الناصر" فى التفكير فى بناء السد العالى، فتقدمت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا فى عام 1955 لتمويل بناء هذا السد الضخم، وقد وضعت الولايات المتحدة فى حساباتها أن"مساعدتها لمشروع أسوان سوف يعوض بشكل جيد بتأييد مصر لسياسة الغرب فى المنطقة وأن عرفان مصر بالجميل سيجعلها تمتنع عن قلب خطط الهيمنة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وقد أكد وكيل الخارجية الأمريكية للشئون الاقتصادية هذا المنطق بقوله: "شعرنا أنه إذا ما انشغلت حكومة ناصر لمدة عشر سنوات بشئ يمتص مواردهم فى تحسين رفاهية شعبهم، فإن هذا سيكون حركة بناءة وقد يكون فى هذا مصلحة ذاتية لنا، حيث سيتحقق سلام فى هذه المنطقة، بأن يضع اقتصاد مصر فى موقف لا يستطيع معه أن ينفق مبالغ ضخمة فى شراء الأسلحة السوفيتية، وقد تقدم البنك الدولى للإنشاء والتعمير بعرض مماثل لتمويل السد، هذا فى الوقت الذى أبدى فيه الاتحاد السوفيتى اهتمامًا محدودًا بالمشروع، وبعد بدء المفاوضات بين الأطراف المعنية، وجهت أمريكا ضربة انتقامية لمصر بسحب العرض الأمريكى لتمويل المشروع، حيث وجدت أن حساباتها كانت أكثر تبسيطًا ولم تحقق المكاسب المرجوة، وكانت مبررات أمريكا لهذا الانسحاب تتلخص فى "وجود ضغوط من الجمعيات النشطة الموالية لإسرائيل الذين اعتقدوا بأنه لابد للولايات المتحدة أن تمنع المساعدة عن مصر طالما أنها ترفض إقامة سلام مع إسرائيل. هذا إلى جانب "هجوم الرئيس "جمال عبد الناصر" المستمر ضد التدخل الأمريكى فى الشئون العربية، ورفضه عرض مشروعى الدفاع المشترك، وحلف بغداد. هذا بالإضافة إلى عامل هام كان له الدور الكبير فى توتر العلاقات المصرية الأمريكية وهو "اعتراف عبد الناصر بجمهورية الصين الشعبية أكبر مراكز الشيوعية فى قارة أسيا فى منتصف شهر مايو 1956 الذى قدمته مصر كوقاية لها عند القيام بحظر تسليح من جانب بريطانيا والولايات المتحدة، علاوة على صفقات الأسلحة التى عقدتها مصر مع الاتحاد السوفيتى.
وهنا أبدى الاتحاد السوفيتى استعداده لإمداد مصر بالقروض والخبرة الفنية لتمويل السد، بعد تخلى أمريكا، ومن ثم يكسب الاتحاد السوفيتى مودة الشعوب العربية، باعتباره حليفًا ظهر وقت الضيق.
وقد صرح السفير السوفيتى فى القاهرة عن استعداد بلاده للتمويل حيث قال: "إن بلاده مستعدة للمساهمة فى بناء السد العالى، وحدد هذه المساهمة بالمعونة الفنية والمعدات، وأموال يتم تسديدها بسلع خلال خمسة وعشرين عامًا، وأدى ذلك إلى فزع كبير فى الغرب، وتحركت بريطانيا لتحذير واشنطن من التهديد السوفيتى القادم.وكان على مصر الثورة أن تقبل التحدى الغربى والأمريكى وتواصل خططها فى البناء والنمو والتنمية، وتعتمد فى ذلك على مواردها فكان تأميم شركة قناة السويس.
موقف أمريكا من تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى:
بعد أن قررت الولايات المتحدة وبريطانيا سحب مساهمتها فى تمويل السد العالى، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر فى 26 يوليو 1956 قراره التاريخى بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس لتصبح شركة مساهمة مصرية، وليحقق بذلك حلم الشعب المصرى فى امتلاك مقدراته، وإدارة ممتلكاته، وكان رد الفعل الغربى عنيفًا جدًا خاصة من جانب انجلترا وفرنسا اللتين وجهتا تهديدات عسكرية ضد مصر سرعان ما تحولت إلى عدوان ثلاثى بمشاركة إسرائيل. أما موقف أمريكا من هذا العدوان فيتمثل فى "إعلان "دالاس" Dallas (1888-1959) (وزير الخارجية الأمريكية إبان حرب 1956) بأن الولايات المتحدة الأمريكية غير مستعدة لأن توافق على عمليات الدول الثلاث الصديقة ضد مصر، وكان "عبد الناصر" قد توقع رد فعل الجانب الأمريكى لأن "تدخلها ضد دولة صغيرة سينظر إليه على أنه دليل على إفلاسها السياسى، فضلاً على أنه سيحرجها أمام الدول العربية التى لها مصالح حيوية معها وفى مقدمتها السعودية. هذا إلى جانب أن "دول العدوان الثلاثى اتخذت قرارها ضد مصر دون استشارة الولايات المتحدة. ورغم أن أمريكا قد وقفت ضد العدوان وساهمت بدور كبير فى رده إلا أن هناك بعض المواقف غير الودية التى اتخذتها عقب انتهائه "فعندما قام "جمال عبد الناصر" بجس نبض إدارة ايزنهاور بعد العدوان عندما طلبت مصر معونة عاجلة من السلع الغذائية والوقود والأدوية رفضت الولايات المتحدة، كما رفضت أن تلغى قرارها بتجميد أرصدة مصر لديها. وذلك بسبب رفض مصر لمشروع "أيزنهاور" – وهذا أكبر دليل على تناقض السياسة الأمريكية وازدواجية قراراتها؛ فبينما وقفت ضد دول العدوان الثلاثى مما كان له أثر طيب عند العرب، فإن موقفها بعد ذلك بعقاب مصر اقتصاديًا، قد محا ذلك الأثر الطيب، وحلت محله فى نفوس العرب الكراهية.
7- الموقف العربى من مشروع ايزنهاور:
بعد جلاء دول العدوان الثلاثى (انجلترا – فرنسا – إسرائيل) على مصر عام 1956، وتقلص النفوذ الإنجليزى الفرنسى من منطقة الشرق الأوسط، حاولت الولايات المتحدة أن ترث هذا النفوذ، وأن تكسب تأييد الحكام العرب لسياستها فى المنطقة، فأعلنت ما عرف بمشروع ايزنهاور، ذلك المشروع الذى أعلنه الرئيس الأمريكى ايزنهاور فى يناير 1957، وحدده فى ثلاث نقاط هى:
"1- إن تبادر الولايات المتحدة إلى التعاون مع دول منطقة الشرق الأوسط لبناء اقتصادها على أسس متينة، وقد تم اعتماد 200 مليون دولار سنويًا لهذا الغرض.
2- إعطاء الرئيس الأمريكى سلطات أكبر لاستخدام الأموال المخصصة فى مساعدة أية دولة ترغب فى التعاون العسكرى والمساعدة الاقتصادية.
3- السماح باستخدام القوات المسلحة التابعة للولايات المتحدة لتأمين وحماية سلامة المنطقة والاستقلال السياسى لكل دولة تطلب مثل هذه المساعدة ضد العدوان المسلح العلنى من أية دولة تسيطر عليها الشيوعية الدولية.
ولا يختلف مشروع "ايزنهاور" كثيرا عن عرض الدفاع المشترك، وقد لاقى نفس المصير، ففى الوقت الذى "أعلنت فيه كل من تركيا وإيران والعراق ولبنان وإسرائيل ترحيبها بمبدأ "ايزنهاور"، رفضته كل من مصر وسوريا والمملكة العربية السعودية والأردن، وقد ردت الولايات المتحدة على معارضة مصر لمبدأ ايزنهاور- كما سبق وأن ذكرنا – بالعديد من المواقف العدائية.
8- موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الصراع العربى الإسرائيلى:
عقب الحرب العالمية الثانية، نشطت الحركة الصهيونية فى تذكير الدول الكبرى، بتنفيذ وعد بلفور، وأخذت تذيع على العالم مجازر النازية الهتلرية التى كان العالم ولا يزال قريبًا منها، وراحوا يستثيرون الشعب الأمريكى عليها، حيث بدت الدعاوى الصهيونية أمام الرأى العالم الأمريكى، وكأنها حجج قانونية عادلة.
وتعتبر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ظاهرة فريدة من نوعها، حيث ترتبط قوة عالمية كبرى بدولة صغيرة ارتباطًا لم يحدث له مثيل فى تاريخ العلاقات الدولية، الأمر الذى دفع الكاتب "ستيفن غرين" إلى وصفها بقوله "لم تقم أية علاقة مشابهة مع دولة أخر، علاقة يزود الأمريكيون إسرائيل بموجبها بكل مقومات الحياة اليومية.
لقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تحدث تغيرًا ملحوظًا فى توازنات القوة العسكرية والاقتصادية، وأن تحيل أوربا إلى الظل الأمريكى، فقد كانت سنوات الحرب الست (1939 – 1945) فترة التحول الفعلى لأمريكا من موقع الوصيف لبريطانيا إلى مرتبة الصدارة؛ حيث ثبتت دعائمها خلال هذه الحرب باعتبارها قوة عالمية أولى على حساب قوى الاستعمار التقليدية، وقد ساعدها على ذلك، "أن الحرب العالمية الثانية قد تركت فراغًا فى مراكز القوة الأوربية، فقد تدمرت القاعدة الصناعية الألمانية وأرهق الصراع كلاً من بريطانيا العظمى وفرنسا، وهذا الوضع أخلى الساحة للاتحاد السوفييتى، والولايات المتحدة لتحتلا مراكز القوة، وكلتاهما تعارض الأخرى."، مما كان له الأثر البالغ فى مختلف أنحاء الكرة الأرضية، فقد رأت أمريكا أنه بقدر ما تكبدته من خسائر وما أنفقته من أموال يكون مقدار مسئوليتها فى المحافظة على الأوضاع التى تتفق مع مصلحتها السياسية بين مجموع الدول، ولم تفرض أمريكا سيطرتها على أوربا فحسب بل "امتدت إلى الوطن العربى الذى كان مجالا اقتصاديًا خصبًا، تستنفد مواده الأولية وتقتحم أسواقه. حيث وضعت حالة الاستقرار فى الشرق الأوسط والمحافظة على نفطه ضمن أولوياتها "فحصلت على امتيازات البترول فى شبه جزيرة العرب من الأسرة الوهابية وتولت الإشراف على الممرات والمعابر إلى شبه الجزيرة، وأخذت تراقب عن كثب شعوب الشرق الأوسط المحيطة بهذه الآبار حتى لا تصبح فريسة للنفوذ السوفييتى؛ حيث أن انضمام هذه الشعوب إلى الجبهة الشيوعية فى حالة قيام حرب ضد الولايات المتحدة يهدد هذه الآبار بضياعها منها، ويحتم عليها فى حالة اليأس المبادرة بتدميرها.
لقد كان الهدف الأساسى للولايات المتحدة الأمريكية هو الحصول على نفط عربى رخيص من منطقة الخليج العربى وخصوصا من العربية السعودية، "فقد كان النفط عاملا أساسيا فى النمو السريع لأهمية المنطقة العربية بالنسبة للماكينة العسكرية الأمريكية، وهذا متعلق من جهة أولى بضمان تزويد أمريكا بالوقود السائل، ومن جهة أخرى لسياسة التوسع والنهب من قبل الشركات النفطية الأمريكية.
وقد شهدت السنوات الثلاثون التى أعقبت الحرب العالمية الثانية فترة مد وجزر بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية، وقد تمثلت نواحى الاتفاق والخلاف فى العلاقات العربية الأمريكية خلال تلك الفترة فيما يأتى:
1- موقف الولايات المتحدة الأمريكية من قضية الاستقلال والوحدة العربية:
إن صراع العرب ضد الاستعمار الأوربى من أجل الاستقلال كان لابد أن يجد صدى وإن كان محدودًا لدى الولايات المتحدة الأمريكية "التى أيدت سياسيًا استقلال كل من سوريا ولبنان عام 1946، كما أيدت بوضوح تغيير النظام الملكى فى مصر بثورة عسكرية عام 1952، وأظهرت عدم معارضة للأمانى الوطنية فى بقية الأقطار العربية للتخلص من الاستعمار الفرنسى، وبقايا الاستعمار الإنجليزى ولم يكن التأييد الأمريكى لاستقلال الدول العربية نابعًا من نية صادقة لتحقيق المصلحة العربية فى مقابل معاداة الحلفاء الأوربيين، وإنما جاء تأكيدًا للنظرية البراجماتية التى تضع المنفعة الذاتية فى صدارة أولوياتها حيث جاء ذلك التأييد "كرغبة من الولايات المتحدة لكى تطوق الأقطار العربية بصنيع يسهل لها أن يصبح نفوذها متواجدًا فى تلك الأقطار بصورة منفردة بعد زوال النفوذ الأوربى، ومن ثم يمكن حماية المصالح الرأسمالية والاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة، بل وزيادتها".
كما حاول العرب تحقيق أهدافهم فى بناء مجتمعات أفضل عن طريق الوحدة العربية، وإقامة مشروعات التكامل الاقتصادية والدفاع المشترك وذلك من خلال جامعة الدول العربية التى تأسست عام 1945، وصدور ميثاقها فى مارس من ذلك العام بمدينة القاهرة، التى صارت مقرًا لها، انطلاقًا من سبق مصر فى المجال السياسى والحضارى، وثقلها السكانى بالمقارنة مع الدول العربية الست الأخرى، وهى الملكة العربية السعودية، واليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، وشرق الأردن.
"ومن الوسائل التى اتبعت لإضعاف شأن الجامعة العربية وتشتيت وحدة الأعضاء وإفساد خططها ومشروعاتها إنشاء محور أنقرة – كراتشى، أى تكوين حلف من تركيا وباكستان بمساعدة الديمقراطية الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية بكافة أنواع المساعدات من أموال ومعدات دفاع وأسلحة ومعونة فنية ... إلخ، وذلك نظير انحيازها للمعسكر الغربى، ولا شك أن هذا الحلف كان يلاقى كما صرح ساسة الولايات المتحدة الأمريكية ترحيبًا حارًا، حيث تعتبره تطمينًا لها فى بسط نفوذها فى الشرق الأوسط.
لقد كانت سياسة الولايات المتحدة نحو قضية الوحدة العربية، تقوم على تجنب كل ما يؤدى إلى وحدة العرب، اعتقادًا منها بأن العرب المتحدين سيعملون على تحقيق المصلحة العربية قبل أى اعتبار آخر، وهذا معناه أنه لن يكون هناك نفوذ سياسى أو استغلال اقتصادى أمريكى فى الأقطار العربية، وانطلاقا من هذا التصور نلاحظ مواقف أمريكا من العديد من مشروعات الوحدة التى أعلنت على الساحة العربية، "ومن ذلك عدم ترحيبها بالوحدة المصرية السورية لعام 1958م، لأن تلك الوحدة قد تزيد من نفوذ عبد الناصر، واستقطاب الجماهير العربية تجاه معاداة السياسة الأمريكية وتدعيم قدرات النظم المناوئة للامبريالية الغربية.
2- الرفض العربى للمشروع الأمريكى (النقطة الرابعة):
أعلن الرئيس "هارى ترومان"() Harry Truman (1884-1972)، عام 1949 عن مشروعه الخاص بالدول المتخلفة والمعرف باسم (النقطة الرابعة)، وجاء إعلان الرئيس الأمريكى فى كلمات نصها "إننا يجب أن نخطو إلى وضع برنامج جديد لجعل تقدمنا العلمى وتقدمنا الصناعى فى خدمة تنمية البلاد المتخلفة فى العالم، وأن يكون هدفنا مساعدة الشعوب الحرة فى العالم فى جهودها الذاتية لإنتاج مزيد من الطعام، ومزيد من الملابس، ومزيد من وسائل المعيشة، ومزيد من الأجهزة التكنولوجية، وكل ذلك للتخفيف من أعباء هذه الشعوب.
وهنا يكمن النفاق الأمريكى الذى يحمل أفكارًا وأباطيل مضللة عن البراءة والصلاح والفضيلة، تخفى وراءها الوجه الحقيقى لأمريكا الذى لا يخلو من ملامح الاستئساد والمصلحة الذاتية المقترنة بالدوافع الأنانية، حيث كانت الولايات المتحدة تأمل من وراء هذا المشروع إلى استقرار الأوضاع السياسية فى المنطقة، وإلى أن يشعر المواطنون العرب بجميل الولايات المتحدة فتفقد الشيوعية العالمية، ويفقد الاتحاد السوفيتى تأثيرهما فى المنطقة العربية، وينتج عن ذلك تقلص التهديد الموجه ضد أمن الولايات المتحدة، ومصالحها الاقتصادية، غير أن العون الاقتصادى والمساعدات العسكرية لم يكونا كافيين لمنع التغلغل السوفيتى فى الشرق الأوسط. بالرغم من أن مشروع النقطة الرابعة كان له دور مهم فى تنمية الأقطار العربية التى استفادت منه، فإنه كان سلاحًا فى يد الولايات المتحدة الأمريكية، تشهره وقتما تشاء فى وجه أية دولة تعترض مصالحها فى الشرق الأوسط وأكبر دليل على ذلك "إلغاء المساعدات الأمريكية بموجب مشروع النقطة الرابعة لمصر مثلا عندما رفضت الانضمام للتحالفات الأوربية التى تتزعمها الولايات المتحدة وترعاها فى المنطقة.
3- الموقف العربى من عرض "قيادة الدفاع المشترك":
ذهب تفكير الولايات المتحدة فى تغلغلها فى الشرق الأوسط إلى تنظيم خطة دفاع مرتبطة بالدفاع الأوربى، وعمدت بشتى الطرق إلى محاولة اشتراك شعوب الشرق الأوسط فيها.
"فقد كانت المساعدات الاقتصادية والفنية – وبصفة أساسية – التى قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الأقطار العربية بموجب مشروع النقطة الرابعة مقدمة لطرح ما عرف باسم "قيادة الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط"، على مصر وغيرها من الأقطار العربية 1951. غير أن العرب وقفوا موقف المعارضة من هذا العرض "فهم لا يريدون أن يصبحوا مخلب القط فى الحرب القادمة، ويتخذ منهم درع لتلقى الضربات الأولى حتى يتفادى الغرب حدة الحرب إذا بدأت فى الشرق الأوسط، هذا إلى جانب أن عرض الدفاع المشترك المرتبط ارتباطًا وثيقًا بمصالح الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص فيه إهدار لاستقلال العرب وكرامتهم وكيانهم فهو اعتراف مباشر بعدم قدرتهم على حماية أنفسهم "ومن ثم رفضته مصر، وقد أيدتها الدول العربية فى رفضها للعرض الأمريكى.
وقد جاء هذا الرفض مخالفًا لتوقعات الولايات المتحدة الأمريكية، ومخيبًا لآمالها حيث عبر "اتشيسون" Ecshison وكيل وزارة الخارجية الأمريكية والذى حمل العرض إلى الحكومة المصرية "بأن حكومة الولايات المتحدة تعتبر رفض مصر للعرض الأمريكى عمل غير ودى.
ولم تيأس الولايات المتحدة الأمريكية وكررت محاولة تقديم العرض إلى مصر بعد ثورة يوليو 1952، "ولكن الرئيس جمال عبد الناصر رفض العرض بشدة وأعلن استعداد مصر فى عهدها الجديد للدفاع عن نفسها دون الدخول فى تحالفات خارجية.
4- الموقف العربى من حلف بغداد:
عارضت مصر حلف بغداد الذى اتجهت أمريكا إلى تكوينه فى عهد الرئيس "إدوارد ايزنهاور"() E.Eisenhower (1890-1969)، بعد رفض العرب فكرة إنشاء مشروع الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط، "وهو حلف تتزعمه العراق ذات النظام الموالى للغرب، مع العمل على ضم دول أخرى مثل تركيا، بريطانيا لذلك التحالف، ومن ثم تزداد قوة العراق، لتصبح زعيمة الكتلة الأسيوية من العالم العربى، مما يدفع الدول الأخرى المترددة فى الانضمام إلى الحلف إلى إعلان انضمامها، وبذلك يضعف موقف مصر، وقوتها فى العالم العربى، ويصبح فى الإمكان احتواء أخطار النظام الناصرى المتزايدة.
ولم تنضم أمريكا للحلف رسميًا، رغم أنها كانت المحرضة على إنشائه، "واقتصر اشتراكها فى الحلف على بعض اللجان المحددة وهى اللجنة العسكرية واللجنة الاقتصادية، ولجنة مكافحة التخريب.
ويرى البعض أن سبب إحجام الولايات المتحدة عن الانضمام رسميا إلى التحالف هو "معارضة السعودية ومصر له، حيث لم تكن الولايات المتحدة ترغب آنذاك فى إثارة عدائهما، . ويمكن أن نضيف إلى الأسباب التى أدت إلى إحجام الولايات المتحدة عن الانضمام الرسمى إلى حلف بغداد، "عدم رغبة أمريكا فى الارتباط مع بريطانيا – الدولة الاستعمارية السابقة – والتى كانت ستسيئ إلى صورة الولايات المتحدة فى منطقة الشرق الأوسط.
5- الموقف الأمريكى من مشروع السد العالى:
أبت الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن ترد الضربة لمصر خاصة بعد مواقفها الرافضة للسياسات الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط وقد حانت لها الفرصة عندما "بدأ الرئيس المصرى "جمال عبد الناصر" فى التفكير فى بناء السد العالى، فتقدمت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا فى عام 1955 لتمويل بناء هذا السد الضخم، وقد وضعت الولايات المتحدة فى حساباتها أن"مساعدتها لمشروع أسوان سوف يعوض بشكل جيد بتأييد مصر لسياسة الغرب فى المنطقة وأن عرفان مصر بالجميل سيجعلها تمتنع عن قلب خطط الهيمنة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وقد أكد وكيل الخارجية الأمريكية للشئون الاقتصادية هذا المنطق بقوله: "شعرنا أنه إذا ما انشغلت حكومة ناصر لمدة عشر سنوات بشئ يمتص مواردهم فى تحسين رفاهية شعبهم، فإن هذا سيكون حركة بناءة وقد يكون فى هذا مصلحة ذاتية لنا، حيث سيتحقق سلام فى هذه المنطقة، بأن يضع اقتصاد مصر فى موقف لا يستطيع معه أن ينفق مبالغ ضخمة فى شراء الأسلحة السوفيتية، وقد تقدم البنك الدولى للإنشاء والتعمير بعرض مماثل لتمويل السد، هذا فى الوقت الذى أبدى فيه الاتحاد السوفيتى اهتمامًا محدودًا بالمشروع، وبعد بدء المفاوضات بين الأطراف المعنية، وجهت أمريكا ضربة انتقامية لمصر بسحب العرض الأمريكى لتمويل المشروع، حيث وجدت أن حساباتها كانت أكثر تبسيطًا ولم تحقق المكاسب المرجوة، وكانت مبررات أمريكا لهذا الانسحاب تتلخص فى "وجود ضغوط من الجمعيات النشطة الموالية لإسرائيل الذين اعتقدوا بأنه لابد للولايات المتحدة أن تمنع المساعدة عن مصر طالما أنها ترفض إقامة سلام مع إسرائيل. هذا إلى جانب "هجوم الرئيس "جمال عبد الناصر" المستمر ضد التدخل الأمريكى فى الشئون العربية، ورفضه عرض مشروعى الدفاع المشترك، وحلف بغداد. هذا بالإضافة إلى عامل هام كان له الدور الكبير فى توتر العلاقات المصرية الأمريكية وهو "اعتراف عبد الناصر بجمهورية الصين الشعبية أكبر مراكز الشيوعية فى قارة أسيا فى منتصف شهر مايو 1956 الذى قدمته مصر كوقاية لها عند القيام بحظر تسليح من جانب بريطانيا والولايات المتحدة، علاوة على صفقات الأسلحة التى عقدتها مصر مع الاتحاد السوفيتى.
وهنا أبدى الاتحاد السوفيتى استعداده لإمداد مصر بالقروض والخبرة الفنية لتمويل السد، بعد تخلى أمريكا، ومن ثم يكسب الاتحاد السوفيتى مودة الشعوب العربية، باعتباره حليفًا ظهر وقت الضيق.
وقد صرح السفير السوفيتى فى القاهرة عن استعداد بلاده للتمويل حيث قال: "إن بلاده مستعدة للمساهمة فى بناء السد العالى، وحدد هذه المساهمة بالمعونة الفنية والمعدات، وأموال يتم تسديدها بسلع خلال خمسة وعشرين عامًا، وأدى ذلك إلى فزع كبير فى الغرب، وتحركت بريطانيا لتحذير واشنطن من التهديد السوفيتى القادم.وكان على مصر الثورة أن تقبل التحدى الغربى والأمريكى وتواصل خططها فى البناء والنمو والتنمية، وتعتمد فى ذلك على مواردها فكان تأميم شركة قناة السويس.
موقف أمريكا من تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى:
بعد أن قررت الولايات المتحدة وبريطانيا سحب مساهمتها فى تمويل السد العالى، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر فى 26 يوليو 1956 قراره التاريخى بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس لتصبح شركة مساهمة مصرية، وليحقق بذلك حلم الشعب المصرى فى امتلاك مقدراته، وإدارة ممتلكاته، وكان رد الفعل الغربى عنيفًا جدًا خاصة من جانب انجلترا وفرنسا اللتين وجهتا تهديدات عسكرية ضد مصر سرعان ما تحولت إلى عدوان ثلاثى بمشاركة إسرائيل. أما موقف أمريكا من هذا العدوان فيتمثل فى "إعلان "دالاس" Dallas (1888-1959) (وزير الخارجية الأمريكية إبان حرب 1956) بأن الولايات المتحدة الأمريكية غير مستعدة لأن توافق على عمليات الدول الثلاث الصديقة ضد مصر، وكان "عبد الناصر" قد توقع رد فعل الجانب الأمريكى لأن "تدخلها ضد دولة صغيرة سينظر إليه على أنه دليل على إفلاسها السياسى، فضلاً على أنه سيحرجها أمام الدول العربية التى لها مصالح حيوية معها وفى مقدمتها السعودية. هذا إلى جانب أن "دول العدوان الثلاثى اتخذت قرارها ضد مصر دون استشارة الولايات المتحدة. ورغم أن أمريكا قد وقفت ضد العدوان وساهمت بدور كبير فى رده إلا أن هناك بعض المواقف غير الودية التى اتخذتها عقب انتهائه "فعندما قام "جمال عبد الناصر" بجس نبض إدارة ايزنهاور بعد العدوان عندما طلبت مصر معونة عاجلة من السلع الغذائية والوقود والأدوية رفضت الولايات المتحدة، كما رفضت أن تلغى قرارها بتجميد أرصدة مصر لديها. وذلك بسبب رفض مصر لمشروع "أيزنهاور" – وهذا أكبر دليل على تناقض السياسة الأمريكية وازدواجية قراراتها؛ فبينما وقفت ضد دول العدوان الثلاثى مما كان له أثر طيب عند العرب، فإن موقفها بعد ذلك بعقاب مصر اقتصاديًا، قد محا ذلك الأثر الطيب، وحلت محله فى نفوس العرب الكراهية.
7- الموقف العربى من مشروع ايزنهاور:
بعد جلاء دول العدوان الثلاثى (انجلترا – فرنسا – إسرائيل) على مصر عام 1956، وتقلص النفوذ الإنجليزى الفرنسى من منطقة الشرق الأوسط، حاولت الولايات المتحدة أن ترث هذا النفوذ، وأن تكسب تأييد الحكام العرب لسياستها فى المنطقة، فأعلنت ما عرف بمشروع ايزنهاور، ذلك المشروع الذى أعلنه الرئيس الأمريكى ايزنهاور فى يناير 1957، وحدده فى ثلاث نقاط هى:
"1- إن تبادر الولايات المتحدة إلى التعاون مع دول منطقة الشرق الأوسط لبناء اقتصادها على أسس متينة، وقد تم اعتماد 200 مليون دولار سنويًا لهذا الغرض.
2- إعطاء الرئيس الأمريكى سلطات أكبر لاستخدام الأموال المخصصة فى مساعدة أية دولة ترغب فى التعاون العسكرى والمساعدة الاقتصادية.
3- السماح باستخدام القوات المسلحة التابعة للولايات المتحدة لتأمين وحماية سلامة المنطقة والاستقلال السياسى لكل دولة تطلب مثل هذه المساعدة ضد العدوان المسلح العلنى من أية دولة تسيطر عليها الشيوعية الدولية.
ولا يختلف مشروع "ايزنهاور" كثيرا عن عرض الدفاع المشترك، وقد لاقى نفس المصير، ففى الوقت الذى "أعلنت فيه كل من تركيا وإيران والعراق ولبنان وإسرائيل ترحيبها بمبدأ "ايزنهاور"، رفضته كل من مصر وسوريا والمملكة العربية السعودية والأردن، وقد ردت الولايات المتحدة على معارضة مصر لمبدأ ايزنهاور- كما سبق وأن ذكرنا – بالعديد من المواقف العدائية.
8- موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الصراع العربى الإسرائيلى:
عقب الحرب العالمية الثانية، نشطت الحركة الصهيونية فى تذكير الدول الكبرى، بتنفيذ وعد بلفور، وأخذت تذيع على العالم مجازر النازية الهتلرية التى كان العالم ولا يزال قريبًا منها، وراحوا يستثيرون الشعب الأمريكى عليها، حيث بدت الدعاوى الصهيونية أمام الرأى العالم الأمريكى، وكأنها حجج قانونية عادلة.
وتعتبر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ظاهرة فريدة من نوعها، حيث ترتبط قوة عالمية كبرى بدولة صغيرة ارتباطًا لم يحدث له مثيل فى تاريخ العلاقات الدولية، الأمر الذى دفع الكاتب "ستيفن غرين" إلى وصفها بقوله "لم تقم أية علاقة مشابهة مع دولة أخر، علاقة يزود الأمريكيون إسرائيل بموجبها بكل مقومات الحياة اليومية.