منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#66499
تمثلت مقدمة محاضرتي العلمية التي ألقيتها في جامعة زويل عن مشكلات البحث العلمي في الوطن العربي في تحديد المداخل الأساسية التي من خلالها سأناقش الموضوع‏.‏
وحددت هذه المداخل في ثلاثة هي مدخل سوسيولوجيا العلم, أي علاقة العلم بالأنساق السياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمع, ومدخل السياسة العلمية التي تضع استراتيجيات وتكتيك البحث العلمي في بلد ما, وأخيرا مدخل المشروع النهضوي ونقصد بذلك علي وجه التحديد علاقة العلم بالتنمية.
وقررنا في نهاية مقالنا الماضي أنه بالإضافة إلي هذه المداخل هناك مشكلات أخري مهمة تحتاج إلي مناقشة نقدية. وأبرز هذه المشكلات علاقة النظام السياسي بالبحث العلمي, وعلاقة البحث العلمي بالأمن القومي, وعلاقة المجتمع العلمي بالنخبة السياسية, وأخيرا الاستراتيجية العلمية بين الرغبة والقدرة.
ما هو تأثير النظام السياسي علي البحث العلمي؟ كانت هذه هي المشكلة التي دار بصددها الخلاف بين الباحثين الذين تصدوا لمناقشة مشكلات البحث العلمي في الوطن العربي.
وكان رأيي أن النظام السياسي يؤثر تأثيرا بالغا بممارساته علي المناخ الفكري, ويتوقف ذلك علي نوع النظام ذاته. ذلك أن البحث العلمي يقتضي ممارسة للحرية الأكاديمية في أجلي صورها, ويتطلب تنوع الأداء واختلافه, وإمكانية التعبير عن الاختلاف حتي مع ممثلي السلطة السياسية. إذا انتفي هذا المناخ الليبرالي الذي يؤمن بالتعددية, فهناك احتمال كبير أن تضل جهود البحث العلمي بتأثير الخوف, وخوفا من القهر الذي قد تمارسه السلطة السياسية. كما أن اتجاهات النخبة السياسية الحاكمة إزاء العلم, سواء من ناحية تقديره باعتباره قيمة عليا في ذاته من ناحية, ووسيلة ناجعة من ناحية أخري للتصدي للمشكلات التي يجابهها المجتمع, ستحدد إلي حد كبير حجم الاهتمام الذي سيولي للمؤسسات العلمية, ودرجة التركيز علي تأهيل الأفراد العلميين, ومقدار التمويل الذي سيخصص للبحث العلمي, ونوع الصلة التي ستقوم بين أعضاء المجتمع العلمي والنخبة السياسية الحاكمة, سعيا وراء ترشيد صنع القرار.
غير أن تأثير توجهات النظام السياسي, وإدراكات النخبة السياسية الحاكمة ليست في الواقع سوي طرف واحد من أطراف المعادلة, ذلك أن الطرف الثاني هم العلماء أنفسهم الذين يكونون ما يطلق عليه المجتمع العلمي. وهذا المجتمع العلمي- في البلاد المتقدمة علميا وتكنولوجيا- له سطوة هائلة في عملية اتخاذ القرار العلمي. فقد استطاع أعضاؤه أن يبنوا لنفسهم مكانة خاصة في المجتمع تحت شعار العلم بالغ الأهمية بحيث لا ينبغي أن يترك للسياسيين. ومعني ذلك بمفهوم المخالفة- أن تترك عملية إصدار القرار العلمي للعلميين أنفسهم. غير أن ذلك يثير أسئلة متعددة: هل العلميون يختلفون حقا عن غيرهم من أفراد الشعب فيما يتعلق بالتطلعات والطموحات والأساليب الملتوية في بعض الأحيان التي تتبع للوصول إلي المكانة؟ وألا يمكن أن تغريهم اعتبارات الشهرة العلمية أو الرغبة في الكسب المادي, مما يؤدي بهم ذلك إلي الانحراف في ممارساتهم العلمية, مما يثير قضية أخلاقيات البحث العلمي بكل جوانبها المتشعبة؟
وحتي لا تأخذنا النظرات المقارنة في سياسات العلم الاجنبية بعيدا عن الوطن العربي, فإننا نستطيع أن نلخص جوانب التأثير السياسي علي البحث العلمي في الوطن العربي في عدد من المقولات الأساسية.
أولا: يؤدي مناخ القهر السياسي إلي التأثير سلبيا علي ممارسة البحث العلمي في الوطن العربي, سواء في مجال البحوث الاجتماعية والسياسية, أو في مجال العلوم الطبيعية. وفي المجال الأخير هناك مجال واسع للاختيار بين بدائل عديدة في مجالات حساسة. مثلا هل ندخل مجال البحث النووي أولا؟ هل ندخل مجال بحوث الفضاء أولا؟ توافر حد أدني من حرية التعبير والتفكير هو الذي يسمح للعلماء أن يعبروا عن آرائهم بحرية, حتي لو خالفت آراء النخبة السياسية الحاكمة.
ثانيا: يتوقف نمو البحث العلمي في بلد ما علي مدي إيمان النخبة السياسية بالعلم ذاته كقيمة أساسية في المجتمع, وعلي ضرورة تأسيس عملية صنع القرار علي نتائج البحوث العلمية.
وينعكس الإيمان بجدوي العلم علي نوعية المؤسسات التي ستنشأ لإدارة عملية البحث العلمي, وكفاءة القائمين عليها وشمول نظرتهم للعلم وقدراتهم في مجال تعبئة الطاقات العلمية وحجم الميزانيات التي ستخصص للبحث العلمي.
وفي البلاد التي اتخذت قرارا حاسما في هذا المجال, عادة ما يتشكل مجلس أعلي للعلم والتكنولوجيا كما هو الحال في الهند برئاسة رئيس الجمهورية, إشارة رمزية للاهتمام السياسي بالموضوع.
ثالثا: يتوقف نمو البحث العلمي في بلد ما علي نوعية أعضاء المجتمع العلمي ذاته من ناحية ارتفاع مستوي التأهيل العلمي, وتكامل التخصصات العلمية, والقدرة علي تشكيل فرق بحثية متكاملة, والوعي بالعلم وأهميته, وتطبيق أخلاقيات البحث العلمي بكل صرامة, والقدرة علي العمل للصالح العام, وتضييق نطاق الخلاقات المهنية, والاحتكام إلي تقاليد ممارسة البحث العلمي في البلاد العريقة في هذا المضمار.
رابعا: غير أن ذلك يستدعي من النظام السياسي أن يولي الباحثين العلميين عناية خاصة, باعتبارهم جماعة استراتيجية تستطيع أن تلعب دورا حاسما في التقدم, لو أحسن إعدادهم وتوظيفهم للقيام بمهامهم. ومن هنا لابد من وضع سياسة قومية لإعداد الباحثين العلميين وتأهيلهم وإرسالهم في بعثات علمية للخارج, وتسهيل حضورهم للمؤتمرات العلمية. وقبل ذلك كله, لابد من الارتفاع بالمستوي الاقتصادي للباحثين, وإعطائهم أجورا ومرتبات عالية تكفل لهم التفرغ التام للبحث العلمي.
خامسا: قبل ذلك كله لابد من وضع سياسة علمية يشارك في وضعها القادة العلميون في مختلف التخصصات, ويمكن للباحثين العلميين من مختلف الأجيال مناقشتها قبل إقرارها بصورة ديمقراطية.
كل هذه اعتبارات أساسية تتعلق بمشكلات البحث العلمي في الوطن العربي, وهي التي يجب أن نوليها أعظم الاهتمام, لأن توافر القاعدة الصناعية والتكنولوجية في الوطن العربي شرط ضروري للتقدم في البحث العلمي وإن لم يكن كافيا. ذلك أنه بغير توفير الشروط المؤسسية والفكرية والثقافية والعلمية والاقتصادية التي تكفل لأعضاء المجتمع العلمي أن يمارسوا الإبداع في مناخ حر, لا يمكن لنا في الوطن العربي أن نتقدم علميا.
آن لنا في النهاية أن نقتنع بأن الحرية بكل تجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية هي شرط تقدم الوطن العربي.

السيد يسين - صحيفة الاهرام العربي