الدبلوماسية العامة الرقمية والسياسة الخارجية
مرسل: الجمعة نوفمبر 29, 2013 1:59 am
شهد العقد الأول من القرن الـ21 ظهور الدبلوماسية العامة الرقمية التي يقصد بها تسخير الإنترنت وتكنولوجيا الاتصال الحديثة للتواصل مع جمهور خارجي بهدف خلق بيئة تمكين للسياسة الخارجية لبلد ما، وذلك بفضل المنصات الرقمية التي تمثل جهازا عصبيا جديدا للعالم. فقد أصبح ممكنا التواصل بشكل فوري مع «مجتمعات الإنترنت» التي تشكل قوة سياسية متنامية الأهمية في عملية صنع السياسة الخارجية في بلدانها، مما يستدعي من دول مجلس التعاون الخليجي دمج الدبلوماسية العامة الرقمية في عملية صناعة قرار السياسة الخارجية وتنفيذه.
لقد أدركت الدول ذات السياسات الخارجية النشطة أهمية دمج الدبلوماسية العامة الرقمية في عملية صنع قرار السياسة الخارجية، حيث تساهم الدبلوماسية العامة الرقمية في تمكين السياسة الخارجية عن طريق إيصالها إلى جمهور خارجي،
من شرح أهدافها ومقاصدها، وعرض سياقاتها وخلفياتها، والدفاع عنها وحمايتها من التشويه، واعتماد الإطار الفلسفي لها سواء كان مصلحيا واقعيا أو مثاليا أخلاقيا. فقد أصبحت السياسة الخارجية - في أحد أبعادها - صراعا بين الخطابات التفسيرية للدول المتنافسة على النفوذ إقليميا ودوليا. لذلك تتنافس السياسات الخارجية للدول بعضها مع بعض على الإطار المفسر للقضايا الإقليمية والدولية. فغمار السياسة الدولية يخاض بسياسة الكلمة، كما يقول أحد الباحثين. ومن هنا فإن كل دولة تحاول - عبر دبلوماسيتها العامة الرقمية - ترويج رؤيتها وإضعاف رؤية الدول المنافسة لها تجاه تلك القضايا. وتجسد المقاربات الدولية المختلفة للأزمة السورية، بجلاء، هذا الصراع على الفوز في معركة تأطير السياسات الخارجية. لذا لم يكن مستغربا أن تعمد روسيا الاتحادية إلى تصوير اصطفافها مع النظام السوري على أنه دفاع عن الأمم المتحدة والقانون الدولي، بيد أن محاولتها باءت بالفشل لأنه حتى أفضل الجهود الإعلامية تعجز عن ترويج السياسة الخارجية المثيرة للجدل.
وعلى مستوى الممارسة الدبلوماسية، تشجع الدول النشطة في الشأن الدولي دبلوماسييها على استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي كجزء أساسي من عملهم باعتبار أن فوائد استخدامها تتجاوز مخاطرها وأنها منتدى للانخراط في المناقشات الدائرة حول العالم كل يوم مع الأعداد الهائلة من المستخدمين. ووزارات الخارجية التي لا تتكيف مع هذا التغير تخسر فرصا ثمينة لـ«تعريف» سياسات بلدها، وبالتالي لإيجاد بيئة تمكين لأهداف تلك السياسات. فالخيار المتاح أمام الدبلوماسي الحديث محصور بين أن يعرِّف هو سياسات بلده «لمجتمعات الإنترنت» التي بلغت 2,5 مليار شخص عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أو أن يعرفها الآخرون. لذلك أنشأ وزير الخارجية الإيراني المكلف بالملف النووي محمد جواد ظريف حسابا على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» باللغة الإنجليزية. وتجاوز عدد حسابات وزارة الخارجية الأميركية 300 حساب على «تويتر»، و400 صفحة على «فيس بوك» تكتب باللغة الإنجليزية ولغة البلد المضيف، ووصل عدد اللغات لتي تغرد بها على «تويتر» إلى 11 لغة في عام 2013. ووصل عدد الدبلوماسيين الأميركيين في الخارج الذين يستخدمون أدوات الدبلوماسية العامة الرقمية إلى قرابة 900 دبلوماسي، منهم 39 سفيرا. وبحلول مايو (أيار) 2013 وصل عدد متابعي مواقع وزارة الخارجية على «تويتر» و«فيس بوك» إلى 26 مليون متابع بزيادة قدرها 350% عن يناير (كانون الثاني) 2012.
وفي ظل تنامي الدور النشط للسياسات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي في القضايا الإقليمية والدولية أصبح من الأهمية بمكان أن تكون الدبلوماسية العامة الرقمية جزءا لا يتجزأ من عملية صنع قرار السياسة الخارجية في الدول الست، أو المخاطرة بخسارة صراع «المعنى» لصالح خصومها السياسيين، وبالتالي تآكل قدرتها على التأثير في الشأن الإقليمي والدولي. فالسياسات الدولية، في عصر المعلومات، تتطلب صياغة إدراك الجمهور الدولي.
يقول السفير البريطاني لدى لبنان توم فليتشر إن الإعلام الاجتماعي أصبح أمرا لا غنى عنه في العمل الدبلوماسي الحديث، وإنه لا يمكن إهمال مواطني الإنترنت الذين أصبحوا جزءا من المناقشات المتعلقة بالسياسة الخارجية. ويضيف توماس فريدمان، الكاتب الصحافي المعروف بصحيفة «نيويورك تايمز»، أن شبكات التواصل الاجتماعي أجبرت أغلب السياسيين على الانخراط في حوار ذي اتجاهين مع الجمهور الأجنبي.
كما ينبغي على دول المجلس، على مستوى الممارسة الدبلوماسية، تفعيل الدبلوماسية العامة الرقمية عبر دمج تكنولوجيا الارتباط بالشبكات مثل «تويتر» و«فيس بوك» و«يوتيوب» في «الأدوات» المهنية للدبلوماسيين بما يخدم أهداف سياساتها الخارجية. فمن المهم لوزارات الخارجية أن تعمق التزامها باستخدام هذه التكنولوجيا التي تمثل منصات حوار تفاعلي. ويتمثل تعميق هذا الالتزام في اتخاذ إجراءات، منها إنشاء جهاز للدبلوماسية العامة الرقمية يتولى تطوير استراتيجية شاملة لها بما يضمن التنسيق بين الأجهزة الحكومية وشبه الحكومية المعنية بتنفيذ الدبلوماسية العامة الرقمية، ووضوح الارتباط بين أهداف ووسائل تنفيذ ومحتوى الدبلوماسية العامة الرقمية، ووضع هيكل تنظيمي مناسب ومبادئ توجيهية عامة لاستخدام وسائل الإعلام الاجتماعية وتكنولوجيا التواصل الجديدة، واستقطاب الموظفين الذين يملكون ناصية لغات وثقافة المجتمعات المحلية التي يعملون داخلها، وتدريب الدبلوماسيين قبل أن يتم إيفادهم للخارج، وتشجيعهم على استخدام تكنولوجيا الشبكات، وتطوير مؤشرات نوعية وكمية لتقييم أداء الدبلوماسيين في مجال أنشطة الدبلوماسية العامة الرقمية، والحرص على استخدام القواعد المنهجية المعروفة في صياغة برامج الدبلوماسية الرقمية، والاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية. وعلى مستوى الرسالة أو المحتوى ينبغي مراعاة الانخراط في حوار ذي اتجاهين في الوقت الحقيقي، وإيجاد التوازن المطلوب بين المعلومات المشوقة التي تثير اهتمام الجمهور المستهدف والمعلومات التي تحاول وزارات الخارجية إيصالها إلى هذا الجمهور. فالرسالة التي لا تجذب الانتباه لن يلتقطها الجمهور المستهدف، وبالتالي لن تُسمع، وهذا يستدعي تخفيف درجة «التحكم» في محتوى الرسالة الإعلامية بما ينسجم مع التغير في بيئة المعلومات.
خلاصه القول أن السياسة الخارجية النشطة تتطلب دبلوماسية عامة رقمية نشطة، ويتعين على دول المجلس دمج الدبلوماسية العامة الرقمية في عملية صنع قرار السياسة الخارجية وتنفيذه، أو المخاطرة بأن تجد أولويات سياستها الخارجية والإطار التفسيري لها خارج السياق، خصوصا بين جيل الإنترنت الذي تتصاعد أهميته في صنع السياسات الخارجية في العالم.
* أكاديمي سعودي متخصص في الإعلام السياسي بمعهد الدراسات الدبلوماسية في الرياض
د. خالد بن إبراهيم الرويتع - صحيفة الشرق الاوسط
لقد أدركت الدول ذات السياسات الخارجية النشطة أهمية دمج الدبلوماسية العامة الرقمية في عملية صنع قرار السياسة الخارجية، حيث تساهم الدبلوماسية العامة الرقمية في تمكين السياسة الخارجية عن طريق إيصالها إلى جمهور خارجي،
من شرح أهدافها ومقاصدها، وعرض سياقاتها وخلفياتها، والدفاع عنها وحمايتها من التشويه، واعتماد الإطار الفلسفي لها سواء كان مصلحيا واقعيا أو مثاليا أخلاقيا. فقد أصبحت السياسة الخارجية - في أحد أبعادها - صراعا بين الخطابات التفسيرية للدول المتنافسة على النفوذ إقليميا ودوليا. لذلك تتنافس السياسات الخارجية للدول بعضها مع بعض على الإطار المفسر للقضايا الإقليمية والدولية. فغمار السياسة الدولية يخاض بسياسة الكلمة، كما يقول أحد الباحثين. ومن هنا فإن كل دولة تحاول - عبر دبلوماسيتها العامة الرقمية - ترويج رؤيتها وإضعاف رؤية الدول المنافسة لها تجاه تلك القضايا. وتجسد المقاربات الدولية المختلفة للأزمة السورية، بجلاء، هذا الصراع على الفوز في معركة تأطير السياسات الخارجية. لذا لم يكن مستغربا أن تعمد روسيا الاتحادية إلى تصوير اصطفافها مع النظام السوري على أنه دفاع عن الأمم المتحدة والقانون الدولي، بيد أن محاولتها باءت بالفشل لأنه حتى أفضل الجهود الإعلامية تعجز عن ترويج السياسة الخارجية المثيرة للجدل.
وعلى مستوى الممارسة الدبلوماسية، تشجع الدول النشطة في الشأن الدولي دبلوماسييها على استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي كجزء أساسي من عملهم باعتبار أن فوائد استخدامها تتجاوز مخاطرها وأنها منتدى للانخراط في المناقشات الدائرة حول العالم كل يوم مع الأعداد الهائلة من المستخدمين. ووزارات الخارجية التي لا تتكيف مع هذا التغير تخسر فرصا ثمينة لـ«تعريف» سياسات بلدها، وبالتالي لإيجاد بيئة تمكين لأهداف تلك السياسات. فالخيار المتاح أمام الدبلوماسي الحديث محصور بين أن يعرِّف هو سياسات بلده «لمجتمعات الإنترنت» التي بلغت 2,5 مليار شخص عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أو أن يعرفها الآخرون. لذلك أنشأ وزير الخارجية الإيراني المكلف بالملف النووي محمد جواد ظريف حسابا على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» باللغة الإنجليزية. وتجاوز عدد حسابات وزارة الخارجية الأميركية 300 حساب على «تويتر»، و400 صفحة على «فيس بوك» تكتب باللغة الإنجليزية ولغة البلد المضيف، ووصل عدد اللغات لتي تغرد بها على «تويتر» إلى 11 لغة في عام 2013. ووصل عدد الدبلوماسيين الأميركيين في الخارج الذين يستخدمون أدوات الدبلوماسية العامة الرقمية إلى قرابة 900 دبلوماسي، منهم 39 سفيرا. وبحلول مايو (أيار) 2013 وصل عدد متابعي مواقع وزارة الخارجية على «تويتر» و«فيس بوك» إلى 26 مليون متابع بزيادة قدرها 350% عن يناير (كانون الثاني) 2012.
وفي ظل تنامي الدور النشط للسياسات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي في القضايا الإقليمية والدولية أصبح من الأهمية بمكان أن تكون الدبلوماسية العامة الرقمية جزءا لا يتجزأ من عملية صنع قرار السياسة الخارجية في الدول الست، أو المخاطرة بخسارة صراع «المعنى» لصالح خصومها السياسيين، وبالتالي تآكل قدرتها على التأثير في الشأن الإقليمي والدولي. فالسياسات الدولية، في عصر المعلومات، تتطلب صياغة إدراك الجمهور الدولي.
يقول السفير البريطاني لدى لبنان توم فليتشر إن الإعلام الاجتماعي أصبح أمرا لا غنى عنه في العمل الدبلوماسي الحديث، وإنه لا يمكن إهمال مواطني الإنترنت الذين أصبحوا جزءا من المناقشات المتعلقة بالسياسة الخارجية. ويضيف توماس فريدمان، الكاتب الصحافي المعروف بصحيفة «نيويورك تايمز»، أن شبكات التواصل الاجتماعي أجبرت أغلب السياسيين على الانخراط في حوار ذي اتجاهين مع الجمهور الأجنبي.
كما ينبغي على دول المجلس، على مستوى الممارسة الدبلوماسية، تفعيل الدبلوماسية العامة الرقمية عبر دمج تكنولوجيا الارتباط بالشبكات مثل «تويتر» و«فيس بوك» و«يوتيوب» في «الأدوات» المهنية للدبلوماسيين بما يخدم أهداف سياساتها الخارجية. فمن المهم لوزارات الخارجية أن تعمق التزامها باستخدام هذه التكنولوجيا التي تمثل منصات حوار تفاعلي. ويتمثل تعميق هذا الالتزام في اتخاذ إجراءات، منها إنشاء جهاز للدبلوماسية العامة الرقمية يتولى تطوير استراتيجية شاملة لها بما يضمن التنسيق بين الأجهزة الحكومية وشبه الحكومية المعنية بتنفيذ الدبلوماسية العامة الرقمية، ووضوح الارتباط بين أهداف ووسائل تنفيذ ومحتوى الدبلوماسية العامة الرقمية، ووضع هيكل تنظيمي مناسب ومبادئ توجيهية عامة لاستخدام وسائل الإعلام الاجتماعية وتكنولوجيا التواصل الجديدة، واستقطاب الموظفين الذين يملكون ناصية لغات وثقافة المجتمعات المحلية التي يعملون داخلها، وتدريب الدبلوماسيين قبل أن يتم إيفادهم للخارج، وتشجيعهم على استخدام تكنولوجيا الشبكات، وتطوير مؤشرات نوعية وكمية لتقييم أداء الدبلوماسيين في مجال أنشطة الدبلوماسية العامة الرقمية، والحرص على استخدام القواعد المنهجية المعروفة في صياغة برامج الدبلوماسية الرقمية، والاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية. وعلى مستوى الرسالة أو المحتوى ينبغي مراعاة الانخراط في حوار ذي اتجاهين في الوقت الحقيقي، وإيجاد التوازن المطلوب بين المعلومات المشوقة التي تثير اهتمام الجمهور المستهدف والمعلومات التي تحاول وزارات الخارجية إيصالها إلى هذا الجمهور. فالرسالة التي لا تجذب الانتباه لن يلتقطها الجمهور المستهدف، وبالتالي لن تُسمع، وهذا يستدعي تخفيف درجة «التحكم» في محتوى الرسالة الإعلامية بما ينسجم مع التغير في بيئة المعلومات.
خلاصه القول أن السياسة الخارجية النشطة تتطلب دبلوماسية عامة رقمية نشطة، ويتعين على دول المجلس دمج الدبلوماسية العامة الرقمية في عملية صنع قرار السياسة الخارجية وتنفيذه، أو المخاطرة بأن تجد أولويات سياستها الخارجية والإطار التفسيري لها خارج السياق، خصوصا بين جيل الإنترنت الذي تتصاعد أهميته في صنع السياسات الخارجية في العالم.
* أكاديمي سعودي متخصص في الإعلام السياسي بمعهد الدراسات الدبلوماسية في الرياض
د. خالد بن إبراهيم الرويتع - صحيفة الشرق الاوسط