منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#66553
لا يمكن تخيل واقعنا المعاصر بدون دور التكنولوجيا الرقمية في أحداثه اليومية،‮ ‬وعلى مستويات تفاعلاته المختلفة،‮ ‬فقد خلقت ثورة الاتصالات واقعا معولما،‮ ‬قوامه شبكات التواصل وتبادل المعلومات‮. ‬وقد ظل تأثير هذا الواقع بعيدا عن تفاعلات العلاقات الدولية والنظام الدولي الحافل بالتغيرات،‮ ‬عبر عقدين من الحرب الباردة‮.‬غير أن ثورة الاتصالات فرضت على باحثي العلاقات الدولية أخيرا إعادة النظر في المفاهيم الواقعية الحاكمة للحقل،‮ ‬في ظل ما تفرضه من تحديات‮. ‬ومن هنا،‮ ‬تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يسعي لإعادة النظر في أطروحات السياسة الدولية التقليدية،‮ ‬في ظل تحديات ثورة الاتصالات الرقمية‮/ ‬السيبرية‮.‬

مفهوم السياسات السيبرية‮:‬

ترى البروفيسور شكري أن الفضاء الإلكتروني‮ - ‬المتسم بالانتشار الفائق،‮ ‬والسيولة،‮ ‬وقوامه شبكات الإنترنت،‮ ‬ومئات الملايين من الأجهزة التي تربطها بالمؤسسات والشركات التي تقوم على هذه الشبكة،‮ ‬وترتبط بها،‮ ‬والخبرات التي يفرزها‮ -‬ قد خلق واقعا إنسانيا جديدا يمثل تحديا للنظرية المعاصرة في العلاقات الدولية، وكذلك على مستوي السياسات والممارسات‮.

‬هذه التحديات تمثلت في عناصر الوقت،‮ ‬وقدرة التكنولوجيا على الاختراق،‮ ‬والارتباط،‮ ‬والتشبيك‮. ‬ومن ثم،‮ ‬ظهرت السياسات السيبرية أو الإلكترونية‮.‬ وهي تشير إلي التداخل بين واقعين، يتمثل الأول في السياسة بمفهوم القوة القادرة على إحداث التأثير بين الفواعل، أي تحديد من يملك القدرة على إنفاذ إرادته،‮ ‬وحدود هذه القدرة، والواقع الآخر يشير إلي مجال جديد من التفاعلات الإنسانية بكل ما تحمله من شروط وتنافس‮.‬

ويحاول الكتاب ذو الفصول العشرة أن يستكشف أوجه تأثير السياسات السيبرية الصاعدة في العلاقات الدولية،‮ ‬والبدائل المستقبلية لهذا التأثير، وكذلك يسعي إلي وضع أسس لنظرية علاقات دولية جديدة نابعة من القضايا التي يطرحها الفضاء الإلكتروني‮. ‬واستخدمت شكري في سعيها هذا مناهج وأدوات إمبريقية متعددة ترتكز حول مراجعة وملاحظة أثر الفضاء الإلكتروني على الأفراد،‮ ‬والدول، والفواعل من‮ ‬غير الدول على المستوي العابر للقوميات‮.‬

ويقع الكتاب في جزأين، يتناول الجزء الأول،‮ ‬الذي يتكون من ثلاثة فصول،‮ ‬الأطر النظرية، والسياقات الإمبريقية اللازمة للنظر في نظرية العلاقات الدولية المعاصرة‮. ‬ويتناول الفصل الثاني التحديات التي يفرضها الواقع الافتراضي على المجالي، ويسعي هذا الفصل إلي توفير إطار مفاهيمي للدراسة،‮ ‬وأن يحدد العلاقة بين الواقع الافتراضي والواقع الحركي للنظام الدولي، وكذلك يمهد للقضايا التي يهتم بها باقي الكتاب‮.‬

ويعتمد هذا الفصل أساسا على تطوير التنظيرات الكلاسيكية للمدرسة الواقعية‮. ‬ويطرح الفصل الثالث نماذج في تناول قضية الواقع الافتراضي، ويتناول قضية الاستقطاب الإلكتروني الثنائي بين الولايات المتحدة والصين،‮ ‬بحسبانه نمطا جديدا لتفاعلات العلاقات الدولية‮. ‬ويسعي هذا الفصل إلي الإجابة على بعض الأسئلة من قبيل كثافة الولوج إلي الفضاء الإلكتروني، وإلى أي مدي تتوافق النظرة السيبرية للنظام الدولي مع المنظور الواقعي الحركي لهذا النظام‮.‬

الفضاء الإلكتروني‮ .. ‬مستويات مختلفة للفاعلية‮:‬

يهتم الجزء الثاني من الكتاب بتحليل المستويات المختلفة لتأثير الفضاء الإلكتروني، لعل أول هذه المستويات هو المستوي الفردي‮.‬ وتري شكري أن الفضاء الإلكتروني عمل على تقوية فاعلية الفرد في مواجهة الدولة‮.‬ وقد وصلت هذه الفاعلية،‮ ‬التي تقوم أساسا على إتاحة وصول الافراد إلى المعلومات والمعرفة،‮ ‬إلى الدرجة التي لا يمكن للدولة تجاهلها، فقد وضعت تكنولوجيا الأفراد العاديين من المستخدمين في وضع من يستطيع خلق شبكات متجاوزة للدول والقوميات،‮ ‬وهو ما أدي إلى مراكمة عناصر القوة التي حازها الأفراد‮.‬ ومن ثم،‮ ‬أصبح لازما على منظري العلاقات الدولية الاهتمام بشكل كبير بالفرد كمستوي تحليلي أكثر مما هو في النظرية التقليدية‮.‬

وتعد الدولة،‮ ‬على الرغم من تغيرات الواقع الدولي،‮ ‬أحد أهم الفواعل ومتساويات تحليل الواقع الدولي‮.‬ وبالإضافة إلى عناصر القوة التقليدية المتمثلة في القدرات الاقتصادية،‮ ‬والعسكرية،‮ ‬والموارد،‮ ‬والسكان،‮ ‬أصبحت القوة التكنولوجية أحد عوامل مضاعفة قوة فاعلية الدولة في النظام الدولي‮. ‬

وفي الفصل الخامس،‮ ‬تقدم شكري تصنيفات لدول العالم،‮ ‬حسب إفادتها من القوة التكنولوجية،‮ ‬وقدرتها على دمج هذه القوة الذكية في أجهزة الدولة،‮ ‬واستخدامها في تفعيل وجودها على الساحة الدولية،‮ ‬والإفادة من موارد العالم،‮ ‬والتأثير في بناء النظام الدولي‮. ‬ويسعي هذا الفصل إلي الإجابة على مدي فاعلية الحكومة الإلكترونية،‮ ‬والمشاركة الإلكترونية كشكل من استخدام قوة الفضاء السيبري‮.‬

ويحاول الفصل السادس من الكتاب أن يتناول الصراعات الدولية السيبرية،‮ ‬ويري أنها تنقسم إلي ثلاثة أنواع،‮ ‬الأول يدور حول التحكم في الفضاء الإلكتروني الدولي، والثاني حول تحويل القوة الافتراضية إلي مميزات استراتيجية، والثالث متعلق بالصراعات الإلكترونية التي تهدد الأمن القومي للدول ذات السيادة‮. ‬

وهنا،‮ ‬تبرز ظواهر جديدة مثل عسكرة الفضاء الإلكتروني، وشن الحرب الإلكترونية، والأخطار الإلكترونية على البنية التحتية للدولة‮.‬ وتعد هذه الظواهر انقلابا في موازين العلاقات الدولية، إذ كثيرا ما رأت أن التكنولوجيا وما يتعلق بها من ظواهر اتصالية من السياسات الدنيا، فإذا بها تهدد السياسات العليا للدول‮. ‬أما الفصل السابع، فيحاول أن يستكشف أنماط التعاون الدولي حول تنظيم الفضاء الإلكتروني‮.‬

لقد تخطي النظام الدولي حدود الدول القومية،‮ ‬واتسعت مراكز اتخاذ القرار فيه لتتجاوزها،‮ ‬وتشمل مؤسسات وهيئات من‮ ‬غير الدول‮.‬ هذا ما يرتكز عليه الفصل الثامن من الكتاب،‮ ‬الذي يوضح أن تعدد الفاعلين الدوليين وتنوعهم قد خلق حالة من تغير قواعد اللعبة الدولية من أجل حيازة القوة وممارستها‮. ‬وقد أصبح استقرار النظام الدولي أكثر اعتمادية على الممارسات التي يقوم بها الفاعلون حتى لو كانوا من الأفراد من خلال الفضاء الإلكتروني‮. ‬وتري شكري أن مفهومي‮ "‬الاستمرارية والتلاقي‮" ‬أصبحا حاكمين لتفاعلات النظام الدولي،‮ ‬بعد صعود قوة الفضاء الإلكتروني في فاعلياته‮.

ويوضح الفصل التاسع سبل تدعيم هذين المبدأين،‮ ‬خاصة في حالة الدول النامية،‮ ‬التي رغم دمجها في النظام المعلوماتي الكوني،‮ ‬فإنها لا تزال تجد صعوبات وعقبات في الوصول إلي المعلومات،‮ ‬وتحويلها إلي موارد قوة وفاعلية‮. ‬وتحاول شكري في هذا الصدد طرح مقترحات لتمكين الولوج إلي المعرفة الإلكترونية‮.‬

ويمثل الفصل العاشر والأخير مجموعة من الاستنتاجات التي توصلت إليها شكري، ومن أهمها أن الولوج المتزايد إلي الفضاء الإلكتروني قد مكن أصواتا جديدة من التواصل،‮ ‬وأن يكون لها موقع على الشبكات العالمية،‮ ‬وأنها سهلت تطوير محتوي ومعرفة بشرية جديدة، ووفرت ساحات جديدة لمطالب جماعية بحل أزمات ومشكلات إنسانية مشتركة من ناحية،‮ ‬ومن ناحية أخرى ساعدت المؤسسات الدولية على الاستجابة لهذه الأزمات‮.‬

لقد أشارت النقاشات،‮ ‬التي أثارها الكتاب عبر فصوله،‮ ‬إلي العديد من التحولات الحادثة على مستوى النظام الدولي، وفي حقل نظرية العلاقات الدولية‮.‬ وتري شكري أن هذه التحولات ستتعمق أكثر،‮ ‬مع اتساع استخدام الفضاء الإلكتروني، وهيمنته على التفاعلات الإنسانية‮.‬ ولا يكتفي الكتاب في خاتمته برصد التحولات الواقعة حاليا،‮ ‬فيقدم استشرافا لها‮ ‬،مركزا على التنافسات المحيطة بالسياسات السيبرية في العلاقات الدولية‮. ‬