- السبت نوفمبر 30, 2013 6:20 pm
#66726
معاملة الأسرى في الإسلام
جاء الإسلام وغرضه إنصاف المظلوم، وهداية الضالِّ، وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ونشر الرحمة والعدالة، فقد استطاع الإسلام نقل البشريَّة من التعامل الهمجي الذي كان يُلاقيه الأسير إلى وضع كله رحمة ورأفة به وبحاله، وكان للإسلام فضل السبق في ذلك؛ فقد حرص الإسلام على الإحسان إلى الأسرى فقال تعالى في كتابه العزيز: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]" وقال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يُحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك[4].
ووضع الإسلام تشريعات للأسرى، وفي الوقت الذي كان يُنَكَّل بالأسير في الأمم السابقة فقد وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تحثُّ على معاملة الأسرى معاملة حسنة تليق به كإنسان، يقول الله تعالى في سورة الأنفال: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الأنفال: 70]"، فإذا كان المولى سبحانه يَعِدُ الأسرى الذين في قلوبهم خيرٌ بالعفو والمغفرة، فإنَّ المسلمين لا يملكون بعد هذا إلا معاملتهم بأقصى درجة ممكنة من الرحمة والإنسانيَّة.
لقد قرَّر الإسلام بسماحته أنه يجب على المسلمين إطعام الأسير وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكَمِّيَّة لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكنًا، استجابة لأمر الله تعالى في قوله في سورة الإنسان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[الإنسان: 8]"، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بحُسن معاملة الأسرى فقال صلى الله عليه وسلم: "اسْتَوْصُوا بِالأَسْرَى خَيْرًا[5]، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب وامتهان الأسرى، فقد رأى صلى الله عليه وسلم أسرى يهود بني قُرَيْظة موقوفين في العراء في ظهيرة يوم قائظ، فقال مخاطِبًا المسلمين المكلَّفين بحراستهم: "لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السّلاَحِ، وَقَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا"[6]."
وامتثل الصحابة رضوان الله عليهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يحسنون إلى أسراهم، والفضل ما شهد به الأسرى أنفسهم، فيقول أبو عزيز بن عمير وكان في أسرى بدر: "كُنْتُ مَعَ رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ قَفَلُوا، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا طَعَامًا خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ؛ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا يَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ إلاَّ نَفَحَنِي بِهَا؛ قَالَ: فَأَسْتَحِي فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا"[7]. والأمثلة في ذلك كثيرة ومتعدِّدة.
حقوق الأسرى في الإسلام
رغم أنَّ هؤلاء الأسرى ما هم إلا محاربون للإسلام ؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإحسان إليهم، وتلك صورة الإسلام الحقيقية أمامهم، ويُدرِكون عندها أنه ما جاء إلا رحمة للعالمين، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولم يأمر الإسلام بالإحسان إلى الأسرى فقط، بل وضع أسسًا في كيفيَّة معاملة الأسرى، وقرَّر لهم واجبات وحقوقًا على المسلمين؛ منها الحقُّ في الطعام، والكسوة، والمعاملة الحسنة، وكلُّ ذلك له شواهد في سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وحضارة المسلمين.
المعاملة الحسنة
أمر الإسلام بحُسن معاملة الأسرى والرفق بهم وعدم إيذائهم، أو التعرُّض لما يجرح كرامتهم، تعدت صور المعاملة الحسنة للأسرى فشملت العفو، أو المعالجة من الأمراض، أو غير ذلك من صور المعاملة الحسنة، مما دفع بعضهم إلى أن يعتنق الإسلام كثُمَامَةَ بن أُثَالٍ رضى الله عنه، فقد رُوي أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ سَيِّدِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ، قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْطَلِقُوا بِثُمَامَةَ". فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَوَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الأَدْيَانِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَإِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى. فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ"[8]لقد دفعت هذه المعاملة الحسنة ثُمَامة إلى الإسلام دفعًا قويًّا، ولو أنه رأى جفاء في المعاملة أو تعذيبًا ما فكَّر لحظة في أن يدخل في هذا الدين.
وأسلم كذلك الوليد بن أبي الوليد القرشي المخزومي الذي أُسِرَ في بدر، ورأى المعاملة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ مع أنه قد قَدِمَ من مكة محارِبًا للمسلمين، فدفعته هذه المعاملة الحسنة إلى الإسلام، ولِصِدْقِ نيَّته أسلم بعد أن افتداه أهلُه من الأَسْرِ، حتى لا يُقال: إنه أسلم جزعًا من الأسر.
وقد بلغ أمر معاملة الأسرى إلى حد العفو عنهم، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أسيرًا لأبي الهيثم بن التيهان وأوصاه به خيرًا فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني بك خيرًا، فأنت حُرٌّ لوجه الله[9]. وفي رواية أخرى أنه قال له: أنت حرٌّ لوجه الله، ولك سهم من مالي[10].
وظلَّ الصحابة على هذه المعاملة الحسنة للأسرى حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُؤْثَر عنهم أنهم اضطهدوا أسيرًا أو آذَوْه أو عذَّبوه، حتى الهرمزان الذي نقض العهد مع المسلمين أكثر من مرَّة، كما قتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك، لما وقع في أيدي المسلمين أسيرًا لم يُعَذِّبوه ولم يضطهدوه ولم يُؤْذُوه جرَّاء ما فعله من جرائم في حقِّ المسلمين. وكذلك كان الحال مع كل الأسرى فلم يكن للأسرى غير المعاملة الحسنة، ولم يكن يعاملهم المسلمون بمثل معاملاتهم.
وكما أمر الإسلام بالمعاملة الحسنة للأسرى - ونهى عن تعذيبهم والإضرار بهم، ولقد وصل الأمر إلى أبعد من ذلك فعندما رأى النبي r أسرى بني قريظة في الشمس نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال لأصحابه: "لا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السِّلاحِ، قَيِّلُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا"[11].
بل إن شريعة الإسلام تَذْهَب إلى ما هو أبعدَ من ذلك، حيث تمنعُ تعذيب الأسير للإدلاء بمعلومات عن العدوِّ، وقد قيل للإمام مالك: أَيُعذَّبُ الأسيرُ إن رُجِيَ أن يدلَّ على عورة العدوِّ؟ قال: ما سمعت بذلك، وهذا ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة عندما ضربوا غلامين من قريش وقعا أسيرين في أحداث بدر، فقال لهم: "إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، وَاللهِ إِنَّهُمَا لِقُرَيْشِ...". مع أن هذين الغلامين اللذين ضُرِبَا كانا يمدَّان الجيش المعادي بالماء[12].
أمَّا التعذيب المعروف في هذا العصر، ومنه ما جرى في جوانتنامو وفي سجن أبو غريب في العراق وتناقلته وسائل الإعلام، فهو أمر مرفوض ويتناقض مع جميع المبادئ الأخلاقيَّة والقيم الدينيَّة والمواثيق الدُّوَلِيَّة، وتنصُّ اتفاقية جنيف بشأن معاملة الأسرى على ما يلي: (يجب معاملة الأسرى معاملة إنسانيَّة في جميع الأوقات... وعلى الأخصِّ ضدَّ جميع أعمال العنف أو التهديد، ولهم الحقُّ في احترام أشخاصهم وشرفهم في جميع الأحوال، ويحتفظون بكامل أهليَّتهم المدنيَّة التي كانت لهم عند وقوع الأسر، ويجب أن تعامل النساء الأسيرات بكلِّ الاعتبار الواجب لجنسهنَّ)[13]. وهذا ما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان.
تقديم الأسير على النفس في الطعام
من الحقوق التي كفلها الإسلام للأسير حقُّ الطعام فلا يجوز تركه بدون طعام وشراب حتى يهلك، فهذا مخالف لشرع الله عز وجل، وفي السيرة النبويَّة والتاريخ الإسلامي أمثلة ونماذج تدلُّ على ذلك، ولقد أمر الله عز وجل بذلك فقال في كتابه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}، فإطعام الأسير المشرِك قُرْبَة إلى الله عز وجل [14]. وذكر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر أصحابه يوم بدر أن يُكرِموا الأسرى، فكانوا يُقَدِّمونهم على أنفسهم عند الغداء[15].
ويقول الشيخ سلمان العودة[16]: معنى هذا أنه لم يُطْعِمْه مما فضل من قُوتِهِ، وإنما يُطْعِمه من طَيِّب طعامه مع حاجته إليه ومحبَّته له؛ ولذلك كان منع الطعام عن الأسير من الكبائر كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ"[17].
فلما كان الحبسُ مانعًا للمحبوس من التصرف في أمر معاشه وكسبه، وَجَبَ على حابسه أن يَقُومَ بِحَقِّه، ولو كان ذلك في حقِّ الحيوان، فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء: 70]، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قرن حقَّ الأسير بالمسكين واليتيم، {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]"، حثًّا على القيام على إطعامه والإحسان إليه، وقد يكون هذا الإحسان سببًا في هدايته، كما كان الأمر في شأن ثُمَامة رضى الله عنه.
ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالأسرى فقال لهم: "اسْتَوْصُوا بِهِمْ – أَيْ بِالأَسْرَى - خَيْرًا"[18]، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يُؤْثِرُونَ على أنفسهم ويُطْعِمُون الأسرى تنفيذًا لوصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان يفعل الصحابة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما أراد الهرمزان أن يشرب وجيء له بقدح غليظ عافه ولم يشرب منه، فأمر سيدنا عمر بتغيير القدح[19]، فلم يُؤْثَرْ عن مسلم أنه ترك أسيرًا بدون طعام وشراب؛ بل إن صلاح الدين الأيوبي ناول أسيرًا من أسرى الصليبيين القدح الذي شرب منه ليشرب الأسير".
وبالرغم من أن إطعام أسرى الحرب أمر إنساني خالص، إلا أن الإسلام جعله عبادة يُؤْجَر عليه المرء، عندما قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان: 6].
http://islamstory.com/ar/%D8%AD%D9%82%D ... 8%A7%D9%85
جاء الإسلام وغرضه إنصاف المظلوم، وهداية الضالِّ، وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ونشر الرحمة والعدالة، فقد استطاع الإسلام نقل البشريَّة من التعامل الهمجي الذي كان يُلاقيه الأسير إلى وضع كله رحمة ورأفة به وبحاله، وكان للإسلام فضل السبق في ذلك؛ فقد حرص الإسلام على الإحسان إلى الأسرى فقال تعالى في كتابه العزيز: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]" وقال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يُحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك[4].
ووضع الإسلام تشريعات للأسرى، وفي الوقت الذي كان يُنَكَّل بالأسير في الأمم السابقة فقد وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تحثُّ على معاملة الأسرى معاملة حسنة تليق به كإنسان، يقول الله تعالى في سورة الأنفال: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الأنفال: 70]"، فإذا كان المولى سبحانه يَعِدُ الأسرى الذين في قلوبهم خيرٌ بالعفو والمغفرة، فإنَّ المسلمين لا يملكون بعد هذا إلا معاملتهم بأقصى درجة ممكنة من الرحمة والإنسانيَّة.
لقد قرَّر الإسلام بسماحته أنه يجب على المسلمين إطعام الأسير وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكَمِّيَّة لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكنًا، استجابة لأمر الله تعالى في قوله في سورة الإنسان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[الإنسان: 8]"، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بحُسن معاملة الأسرى فقال صلى الله عليه وسلم: "اسْتَوْصُوا بِالأَسْرَى خَيْرًا[5]، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب وامتهان الأسرى، فقد رأى صلى الله عليه وسلم أسرى يهود بني قُرَيْظة موقوفين في العراء في ظهيرة يوم قائظ، فقال مخاطِبًا المسلمين المكلَّفين بحراستهم: "لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السّلاَحِ، وَقَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا"[6]."
وامتثل الصحابة رضوان الله عليهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يحسنون إلى أسراهم، والفضل ما شهد به الأسرى أنفسهم، فيقول أبو عزيز بن عمير وكان في أسرى بدر: "كُنْتُ مَعَ رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ قَفَلُوا، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا طَعَامًا خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ؛ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا يَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ إلاَّ نَفَحَنِي بِهَا؛ قَالَ: فَأَسْتَحِي فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا"[7]. والأمثلة في ذلك كثيرة ومتعدِّدة.
حقوق الأسرى في الإسلام
رغم أنَّ هؤلاء الأسرى ما هم إلا محاربون للإسلام ؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإحسان إليهم، وتلك صورة الإسلام الحقيقية أمامهم، ويُدرِكون عندها أنه ما جاء إلا رحمة للعالمين، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولم يأمر الإسلام بالإحسان إلى الأسرى فقط، بل وضع أسسًا في كيفيَّة معاملة الأسرى، وقرَّر لهم واجبات وحقوقًا على المسلمين؛ منها الحقُّ في الطعام، والكسوة، والمعاملة الحسنة، وكلُّ ذلك له شواهد في سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وحضارة المسلمين.
المعاملة الحسنة
أمر الإسلام بحُسن معاملة الأسرى والرفق بهم وعدم إيذائهم، أو التعرُّض لما يجرح كرامتهم، تعدت صور المعاملة الحسنة للأسرى فشملت العفو، أو المعالجة من الأمراض، أو غير ذلك من صور المعاملة الحسنة، مما دفع بعضهم إلى أن يعتنق الإسلام كثُمَامَةَ بن أُثَالٍ رضى الله عنه، فقد رُوي أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ سَيِّدِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ، قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْطَلِقُوا بِثُمَامَةَ". فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَوَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الأَدْيَانِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَإِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى. فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ"[8]لقد دفعت هذه المعاملة الحسنة ثُمَامة إلى الإسلام دفعًا قويًّا، ولو أنه رأى جفاء في المعاملة أو تعذيبًا ما فكَّر لحظة في أن يدخل في هذا الدين.
وأسلم كذلك الوليد بن أبي الوليد القرشي المخزومي الذي أُسِرَ في بدر، ورأى المعاملة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ مع أنه قد قَدِمَ من مكة محارِبًا للمسلمين، فدفعته هذه المعاملة الحسنة إلى الإسلام، ولِصِدْقِ نيَّته أسلم بعد أن افتداه أهلُه من الأَسْرِ، حتى لا يُقال: إنه أسلم جزعًا من الأسر.
وقد بلغ أمر معاملة الأسرى إلى حد العفو عنهم، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أسيرًا لأبي الهيثم بن التيهان وأوصاه به خيرًا فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني بك خيرًا، فأنت حُرٌّ لوجه الله[9]. وفي رواية أخرى أنه قال له: أنت حرٌّ لوجه الله، ولك سهم من مالي[10].
وظلَّ الصحابة على هذه المعاملة الحسنة للأسرى حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُؤْثَر عنهم أنهم اضطهدوا أسيرًا أو آذَوْه أو عذَّبوه، حتى الهرمزان الذي نقض العهد مع المسلمين أكثر من مرَّة، كما قتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك، لما وقع في أيدي المسلمين أسيرًا لم يُعَذِّبوه ولم يضطهدوه ولم يُؤْذُوه جرَّاء ما فعله من جرائم في حقِّ المسلمين. وكذلك كان الحال مع كل الأسرى فلم يكن للأسرى غير المعاملة الحسنة، ولم يكن يعاملهم المسلمون بمثل معاملاتهم.
وكما أمر الإسلام بالمعاملة الحسنة للأسرى - ونهى عن تعذيبهم والإضرار بهم، ولقد وصل الأمر إلى أبعد من ذلك فعندما رأى النبي r أسرى بني قريظة في الشمس نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال لأصحابه: "لا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السِّلاحِ، قَيِّلُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا"[11].
بل إن شريعة الإسلام تَذْهَب إلى ما هو أبعدَ من ذلك، حيث تمنعُ تعذيب الأسير للإدلاء بمعلومات عن العدوِّ، وقد قيل للإمام مالك: أَيُعذَّبُ الأسيرُ إن رُجِيَ أن يدلَّ على عورة العدوِّ؟ قال: ما سمعت بذلك، وهذا ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة عندما ضربوا غلامين من قريش وقعا أسيرين في أحداث بدر، فقال لهم: "إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، وَاللهِ إِنَّهُمَا لِقُرَيْشِ...". مع أن هذين الغلامين اللذين ضُرِبَا كانا يمدَّان الجيش المعادي بالماء[12].
أمَّا التعذيب المعروف في هذا العصر، ومنه ما جرى في جوانتنامو وفي سجن أبو غريب في العراق وتناقلته وسائل الإعلام، فهو أمر مرفوض ويتناقض مع جميع المبادئ الأخلاقيَّة والقيم الدينيَّة والمواثيق الدُّوَلِيَّة، وتنصُّ اتفاقية جنيف بشأن معاملة الأسرى على ما يلي: (يجب معاملة الأسرى معاملة إنسانيَّة في جميع الأوقات... وعلى الأخصِّ ضدَّ جميع أعمال العنف أو التهديد، ولهم الحقُّ في احترام أشخاصهم وشرفهم في جميع الأحوال، ويحتفظون بكامل أهليَّتهم المدنيَّة التي كانت لهم عند وقوع الأسر، ويجب أن تعامل النساء الأسيرات بكلِّ الاعتبار الواجب لجنسهنَّ)[13]. وهذا ما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان.
تقديم الأسير على النفس في الطعام
من الحقوق التي كفلها الإسلام للأسير حقُّ الطعام فلا يجوز تركه بدون طعام وشراب حتى يهلك، فهذا مخالف لشرع الله عز وجل، وفي السيرة النبويَّة والتاريخ الإسلامي أمثلة ونماذج تدلُّ على ذلك، ولقد أمر الله عز وجل بذلك فقال في كتابه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}، فإطعام الأسير المشرِك قُرْبَة إلى الله عز وجل [14]. وذكر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر أصحابه يوم بدر أن يُكرِموا الأسرى، فكانوا يُقَدِّمونهم على أنفسهم عند الغداء[15].
ويقول الشيخ سلمان العودة[16]: معنى هذا أنه لم يُطْعِمْه مما فضل من قُوتِهِ، وإنما يُطْعِمه من طَيِّب طعامه مع حاجته إليه ومحبَّته له؛ ولذلك كان منع الطعام عن الأسير من الكبائر كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ"[17].
فلما كان الحبسُ مانعًا للمحبوس من التصرف في أمر معاشه وكسبه، وَجَبَ على حابسه أن يَقُومَ بِحَقِّه، ولو كان ذلك في حقِّ الحيوان، فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء: 70]، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قرن حقَّ الأسير بالمسكين واليتيم، {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]"، حثًّا على القيام على إطعامه والإحسان إليه، وقد يكون هذا الإحسان سببًا في هدايته، كما كان الأمر في شأن ثُمَامة رضى الله عنه.
ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالأسرى فقال لهم: "اسْتَوْصُوا بِهِمْ – أَيْ بِالأَسْرَى - خَيْرًا"[18]، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يُؤْثِرُونَ على أنفسهم ويُطْعِمُون الأسرى تنفيذًا لوصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان يفعل الصحابة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما أراد الهرمزان أن يشرب وجيء له بقدح غليظ عافه ولم يشرب منه، فأمر سيدنا عمر بتغيير القدح[19]، فلم يُؤْثَرْ عن مسلم أنه ترك أسيرًا بدون طعام وشراب؛ بل إن صلاح الدين الأيوبي ناول أسيرًا من أسرى الصليبيين القدح الذي شرب منه ليشرب الأسير".
وبالرغم من أن إطعام أسرى الحرب أمر إنساني خالص، إلا أن الإسلام جعله عبادة يُؤْجَر عليه المرء، عندما قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان: 6].
http://islamstory.com/ar/%D8%AD%D9%82%D ... 8%A7%D9%85