عصر القوميات
مرسل: السبت نوفمبر 30, 2013 7:22 pm
في بداية القرن العشرين كتب ساطع الحصري عن عصر القوميات وكانت معظم الدول العربية وآسيا وإفريقية تحت الاحتلال الأوروبي المباشر.
نحن اليوم في بدايات القرن الواحد والعشرين وقد انتهى القرن العشرين وتغيرت أحوالنا وظروفنا، فهل تغيرت بما توقعه الحصري؟
عصر القوميات
اتفقت كلمة المؤرخين والباحثين على تسمية القرن التاسع عشر باسم "عصر القوميات"... وأنا لا أعترض على هذه التسمية، من حيث الأساس، غير أني اعتقد أن الدقة العلمية تحتم علينا أن نقيد ذلك بقيد صغير، ولكنه مهم، فنقول: "عصر القوميات في أوروبا".
إن القرن المذكور - الذي امتد بين انتهاء الحرب العالمية الأولى (قـ19) أو بين معاهدات فينا وتوابعها وبين معاهدات فرساي ولواحقها - إذا كان عصر "انتصار القوميات" بالنسبة إلى البلاد الأوروبية، فانه كان عصر شيء آخر بالنسبة إلى البلاد الأسيوية والإفريقية.. إنه كان عصر استفحال الاستعمار، حقا، إن القرن المذكور كان "عصر انتصار القوميات، في البلاد الأوروبية" بكل معنى الكلمة.
فان خارطة أوروبا السياسية تغيرت خلال القرن المذكور تغيرا أساسيا في اتجاه ثابت عام: هو تكوين دول قومية في مختلف أنحاء القارة الأوروبية.
خلال هذا القرن توحدت ألمانيا، فكونت دولة عظيمة قامت مقام الدول والدويلات الألمانية الكثيرة.
وتوحدت إيطاليا، بعد أن حررت جميع أقطارها من الحكم الأجنبي، ومن حكم الملوك والأمراء الإقليميين.
واستقلت بولونيا، ووحدت أقطارها الثلاثة التي كانت موزعة بين روسيا وألمانيا والنمسا.
وتكونت دولة يوغسلافيا، ووحدت أقطارها التي كانت موزعة بين إمبراطورية النمسا وبين السلطنة العثمانية.
وفضلا عن ذلك كله، قد انفصلت فنلندا عن روسيا، والنرويج وبلجيكا عن هولندا.
كما تكونت عدة دول جديدة: اليونان، وألبانيا، ورومانيا، و بلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا..
ومقابل ذلك انقرضت إمبراطورية النمسا والمجر، وتوزعت البلاد التي كانت تابعة لها، بين سبع دول مختلفة.
كما انقرضت السلطنة العثمانية، وتوزعت بلادها الأوروبية بين خمس دول مختلفة فضلا عن جزئها الذي بقي تابعا للجمهورية التركية، التي خلفت السلطنة المذكورة.
مبدأ القوميات
إن كل هذه التبدلات والتطورات العظيمة، إنما حدثت وفق مقتضيات "مبدأ القوميات" على أساس استقلال الأمم عن الدول الأجنبية التي كانت تحكمها واتحاد الأمم التي كانت مجزأة وموزعة بين دول عديدة، وبتعبير أقصر: على أساس تكوين "الدول القومية".
وغني عن البيان أن هذه التطورات والتقلبات السياسية الخطيرة، لم تحدث كلها مرة واحدة، وبصورة فجائية، بل حدثت في تواريخ مختلفة، وبعد سلسلة طويلة من الأحداث الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، ومن الثورات والحروب الداخلية والخارجية ، فالوحدة اليوغسلافية مثلا، لم تتحقق إلا بعد مرور ستة عقود من السنين على تحقق الوحدة الإيطالية، كما أن استقلال إرلنده، تأخر عن استقلال اليونان مدة تناهز القرن الكامل.
ويجب ألا يغرب عن البال أن فكرة "حقوق القوميات" قوبلت بمعارضة شديدة، في أوروبا نفسها، ليس من قبل رجال السياسة فحسب، بل من قبل الكثيرين من رجال الفكر والقلم أيضا.
لأن هؤلاء كثيرا ما كانوا يتأثرون بسياسة الدول التي ينتسبون إليها، فينظرون إلى هذه العقبات والقضايا بمنظار مصالحهم الوطنية، ولذلك كثيرا ما كانوا يسلمون بحقوق القوميات بالنسبة إلى بعض الأمم وينكرونها بالنسبة إلى بعضها الآخر، كما كانوا يتفننون في اختراع "المبررات" لآرائهم ومواقفهم هذه، تارة باسم "المصالح الدولية"، وطورا باسم "المثل الإنسانية السامية".
مثلا، "أرنست رينان" الشهير، صرح- في كتابه "مستقبل العالم"- بأنه يؤيد مبدأ القوميات، عندما تكون الأمة المحكومة أرقى من الأمة التي تحكمها، ولكنه لا يرى رأي الذين يلتزمون هذا المبدأ على الإطلاق، لأنه يعتقد بأن ما يتطلبه " تقدم البشرية وتكاملها "، يجب أن يسمو فوق جميع الاعتبارات في هذا المضمار.
وبديهي، أنه كان يعني بذلك: أن الأمم المحكومة لا تستحق الاستقلال، إذا كانت أقل تقدما من الأمم التي تحكمها.
إن الكتاب والمفكرين الذين كانوا ينظرون إلى أمور القوميات بمثل هذه النظرات المتحيزة، كانوا كثيرين في مختلف البلاد الأوروبية.
مثلا: "كارل ماركس" وأصحابه كانوا يؤيدون ثورة البولونيين على روسيا، ولكنهم كانوا يستنكرون ثورة المجريين على النمسا، وحجتهم في ذلك كانت قولهم: إن البولونيين أكثر تقدما من الروس، ولكن المجريين كانوا اشد رجعية من النمساويين.
والمؤرخ المفكر الأسباني المشهور "دي مارغال"، أيضا لم يسلم بحق المجريين في الثورة على النمسا، ولكنه اعتبر ثورة البولونيين على روسيا "ثورة مقدسة" تمشيا مع نظريته في النظم الفيدرالية.
حقوق قومية
وأما "الحقوق القومية" للشعوب الأسيوية والإفريقية، فمن الطبيعي أنه ما كان يفكر فيها أحد من كتاب القرن التاسع عشر، في أوروبا، لأن جميع الكتاب والمفكرين كانوا يزعمون بأن الشعوب المذكورة ليست متأخرة فحسب، بل محرومة من قابلية التقدم أيضا!
إن أبرز الأمثلة وأغربها على التمييز بين "الأوروبيين" وبين غير الأوروبيين" في أمر "الحقوق القومية" صادفتها في كتاب مطبوع باللغة الفرنسية سنة 1860، في "مبدأ القوميات".
كان المؤلف "ماكسجين دولوس" من اشد المتحمسين للمبدأ المذكور، انه كان في رومانيا سنة 1857، حين اندفع أهالي الإمارتين- مولدافيا وفلاخيا- يتنادون للاتحاد، ويعملون على تحقيقه بكل حماس، على الرغم من مخالفة الدول العظمى لذلك، وشاهد بعينيه مظاهر ذلك التيار القومي الشديد.
كما انه كان في ايطاليا، سنة 1859 عندما اندفع الايطاليون يصوتون للوحدة بحماس منقطع النظير، وشاهد بمرأى عينيه كيف كان الناس يؤلفون قوافل طويلة، يشترك فيها الشيوخ والشبان، الرجال والنساء، من أهالي المدن والأرياف يصفقون للوحدة بسرور وابتهاج.
ولذلك نرى المؤلف يسجل في كتابه مناظر هذا الاندفاع ومناقبه بكل تقدير وإعجاب، ويدافع عن مبدأ القوميات عن خبرة وإيمان، حتى انه يقول بوجوب تحقيق الوحدة الألمانية أيضا، مخالفا في ذلك معظم ساسة فرنسا وكتابها..
ومع كل ذلك، نراه في نفس الكتاب، عندما يذكر شعوب إفريقيا الشمالية بمناسبة من المناسبات، يقول بوجوب وضعها تحت حكم دول جنوب أوروبا.... وبعد أن يقسم المغرب الأقصى والأوسط والأدنى- مع ليبيا- بين اسبانيا وفرنسا وايطاليا، ينتهي إلى القول بوجوب وضع مصر تحت حكم اليونان!...
ومن الغريب أن الكاتب الألماني المعروف "ماكس نورداو" أيضا اشترك في هذا النوع من التفكير، على الرغم من اشتهاره بالجرأة في الرأي، وعلى الرغم من تحمسه لمبدأ القوميات تحمسا منقطع النظير.
فنراه في البحث الذي نشره عن "القومية" يهزأ بأسلوب لاذع عنيف، بكل من لا يقدر أهمية الفكرة القومية حق قدرها، فيقول :
"إن الذين فقدوا البصيرة، هم وحدهم يزعمون بان الفكرة القومية، لهي من الآراء الطارئة، التي لن تلبث أن تندثر وتتلاشى، كما تندثر "الموضات" وتتلاشى! ثم يؤكد إيمانه بالقضايا القومية بهذه العبارات الحاسمة:
"إن الوعي القومي، من الأمور التي تحدث بالضرورة وبصورة طبيعية، في مرحلة معينة من التطور البشري، في الأفراد والجماعات.".
"إنه من نوع الظواهر والحوادث الطبيعية التي لا يمكن منعها، حتى ولا تأخيرها.... وذلك مثل حوادث المد والجزر في البحر، وحرارة الشمس في موسم الصيف".
ومع ذلك نراه يقول، في الفصل الذي كتبه من "مستقبل البشر":
"إن بلاد شمال إفريقيا ستكون مهجرا للشعوب الأوروبية، وأما سكانها الحاليون، فسينزحون إلى الجنوب، إلى البلاد الاستوائية، إلى أن يفنوا هناك"!..
الانتصار والاستعمار
ولا غرابة والحالة هذه، إذا صار القرن التاسع عشر، عصر "انتصار القوميات" في أوروبا، وفي الوقت نفسه "عصر استفحال الاستعمار" في أفريقيا وآسيا، وإذا تعمقنا في البحث قليلا، توصلنا إلى حقيقة مهمة أخرى، وعلمنا: أن انتصار الفكرة القومية في أوروبا، كان من جملة الأسباب التي أدت إلى استفحال الاستعمار في آسيا وأفريقيا.
ذلك لأن انتصار مبدأ القوميات في أوروبا، لم يترك أمام أية دولة من الدول، أي مجال للتوسع في القارة المذكورة نفسها، لأن جميع دولها أصبحت قومية، ولأن حدود تلك الدول تقررت وفقا لمقتضيات مبدأ القوميات إلى أقصى حدود الإمكان.
ولذلك اضطرت الدول الطامحة، إلى تحويل أنظار توسعها خارج القارة الأوروبية، ومن المعلوم أن الاستعمار الأوروبي للقارة الأمريكية كان قد بلغ مداه قبل القرن المذكور، وتتالت الحركات الاستقلالية في مختلف أقطارها، وفي الأخير أعلن "مونرو" مبدأ : "أمريكا للأمريكيين"، فلم يترك للدول الأوروبية مجالا لتوسع جديد في تلك القارة أيضا.
ولهذه الأسباب كلها، توجهت أطماع التوسع بكليتها نحو القارتين الآسيوية والإفريقية...
وهذا العامل، بانضمامه إلى العوامل الاقتصادية المعروفة، دفع الدول الأوروبية إلى التهافت على استعمار تلك البلاد، بسرعة وبشراهة.
ولذلك شهد العالم هذا الحادث الغريب:
في الوقت الذي كانت خارطة أوروبا السياسية تتغير وتتطور وفق ما يرتضيه مبدأ "حقوق القوميات" صارت خارطة أسيا وأفريقيا تتخطط وتتكون وتتقسم، وفق مصالح المستعمرين ومساوماتهم القومية.
وهذا هو الذي جعل القرن التاسع عشر، عصر "انتصار القوميات" من جهة، وعصر "استفحال الاستعمار" من جهة أخرى.
ولكن.... من الطبيعي أن هذه الأحوال ما كان لها أن تدوم إلى الأبد، بل كان من الطبيعي، أن تستيقظ الشعوب الآسيوية والإفريقية من سباتها، الواحدة بعد الأخرى، وان تتزود بأسباب الحضارة العصرية من ناحية، وتعي حقوقها القومية وتطالب بها، وتثور على مستعمريها من ناحية أخرى.
ومن المعلوم أن البعض من الشعوب المذكورة استطاعت أن تقطع شوطا كبيرا في هذا السبيل، منذ بداية القرن الحالي (20)، ولا سيما منذ نهاية الحرب العالمية الأخيرة (II)، ولكن لا يزال أمام معظمها طريق طويل وشاق، محفوف بضروب من الموانع والعراقيل، من الأشواك والأدغال، من الشواهق والوديان.
ومع كل ذلك، لا شك أن الفكرة القومية ستتغلب في آخر الأمر، على جميع هذه الموانع والعراقيل... وستنتصر في البلاد المذكورة كما انتصرت من قبل في القارة الأوروبية.
ولهذا السبب، سيكون القرن الحالي (20): "عصر انتصار القوميات" في القارتين الأسيوية والإفريقية، و"عصر تلاشي الاستعمار وانهياره في جميع القارات".
ولا شك أن الأمة العربية ستكون أكثر المستفيدين من ذلك، لأنها في الحالة الحاضرة أشد المتضررين من الاستعمار ومن رواسبه ومخلفاته الخطيرة.
نحن اليوم في بدايات القرن الواحد والعشرين وقد انتهى القرن العشرين وتغيرت أحوالنا وظروفنا، فهل تغيرت بما توقعه الحصري؟
عصر القوميات
اتفقت كلمة المؤرخين والباحثين على تسمية القرن التاسع عشر باسم "عصر القوميات"... وأنا لا أعترض على هذه التسمية، من حيث الأساس، غير أني اعتقد أن الدقة العلمية تحتم علينا أن نقيد ذلك بقيد صغير، ولكنه مهم، فنقول: "عصر القوميات في أوروبا".
إن القرن المذكور - الذي امتد بين انتهاء الحرب العالمية الأولى (قـ19) أو بين معاهدات فينا وتوابعها وبين معاهدات فرساي ولواحقها - إذا كان عصر "انتصار القوميات" بالنسبة إلى البلاد الأوروبية، فانه كان عصر شيء آخر بالنسبة إلى البلاد الأسيوية والإفريقية.. إنه كان عصر استفحال الاستعمار، حقا، إن القرن المذكور كان "عصر انتصار القوميات، في البلاد الأوروبية" بكل معنى الكلمة.
فان خارطة أوروبا السياسية تغيرت خلال القرن المذكور تغيرا أساسيا في اتجاه ثابت عام: هو تكوين دول قومية في مختلف أنحاء القارة الأوروبية.
خلال هذا القرن توحدت ألمانيا، فكونت دولة عظيمة قامت مقام الدول والدويلات الألمانية الكثيرة.
وتوحدت إيطاليا، بعد أن حررت جميع أقطارها من الحكم الأجنبي، ومن حكم الملوك والأمراء الإقليميين.
واستقلت بولونيا، ووحدت أقطارها الثلاثة التي كانت موزعة بين روسيا وألمانيا والنمسا.
وتكونت دولة يوغسلافيا، ووحدت أقطارها التي كانت موزعة بين إمبراطورية النمسا وبين السلطنة العثمانية.
وفضلا عن ذلك كله، قد انفصلت فنلندا عن روسيا، والنرويج وبلجيكا عن هولندا.
كما تكونت عدة دول جديدة: اليونان، وألبانيا، ورومانيا، و بلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا..
ومقابل ذلك انقرضت إمبراطورية النمسا والمجر، وتوزعت البلاد التي كانت تابعة لها، بين سبع دول مختلفة.
كما انقرضت السلطنة العثمانية، وتوزعت بلادها الأوروبية بين خمس دول مختلفة فضلا عن جزئها الذي بقي تابعا للجمهورية التركية، التي خلفت السلطنة المذكورة.
مبدأ القوميات
إن كل هذه التبدلات والتطورات العظيمة، إنما حدثت وفق مقتضيات "مبدأ القوميات" على أساس استقلال الأمم عن الدول الأجنبية التي كانت تحكمها واتحاد الأمم التي كانت مجزأة وموزعة بين دول عديدة، وبتعبير أقصر: على أساس تكوين "الدول القومية".
وغني عن البيان أن هذه التطورات والتقلبات السياسية الخطيرة، لم تحدث كلها مرة واحدة، وبصورة فجائية، بل حدثت في تواريخ مختلفة، وبعد سلسلة طويلة من الأحداث الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، ومن الثورات والحروب الداخلية والخارجية ، فالوحدة اليوغسلافية مثلا، لم تتحقق إلا بعد مرور ستة عقود من السنين على تحقق الوحدة الإيطالية، كما أن استقلال إرلنده، تأخر عن استقلال اليونان مدة تناهز القرن الكامل.
ويجب ألا يغرب عن البال أن فكرة "حقوق القوميات" قوبلت بمعارضة شديدة، في أوروبا نفسها، ليس من قبل رجال السياسة فحسب، بل من قبل الكثيرين من رجال الفكر والقلم أيضا.
لأن هؤلاء كثيرا ما كانوا يتأثرون بسياسة الدول التي ينتسبون إليها، فينظرون إلى هذه العقبات والقضايا بمنظار مصالحهم الوطنية، ولذلك كثيرا ما كانوا يسلمون بحقوق القوميات بالنسبة إلى بعض الأمم وينكرونها بالنسبة إلى بعضها الآخر، كما كانوا يتفننون في اختراع "المبررات" لآرائهم ومواقفهم هذه، تارة باسم "المصالح الدولية"، وطورا باسم "المثل الإنسانية السامية".
مثلا، "أرنست رينان" الشهير، صرح- في كتابه "مستقبل العالم"- بأنه يؤيد مبدأ القوميات، عندما تكون الأمة المحكومة أرقى من الأمة التي تحكمها، ولكنه لا يرى رأي الذين يلتزمون هذا المبدأ على الإطلاق، لأنه يعتقد بأن ما يتطلبه " تقدم البشرية وتكاملها "، يجب أن يسمو فوق جميع الاعتبارات في هذا المضمار.
وبديهي، أنه كان يعني بذلك: أن الأمم المحكومة لا تستحق الاستقلال، إذا كانت أقل تقدما من الأمم التي تحكمها.
إن الكتاب والمفكرين الذين كانوا ينظرون إلى أمور القوميات بمثل هذه النظرات المتحيزة، كانوا كثيرين في مختلف البلاد الأوروبية.
مثلا: "كارل ماركس" وأصحابه كانوا يؤيدون ثورة البولونيين على روسيا، ولكنهم كانوا يستنكرون ثورة المجريين على النمسا، وحجتهم في ذلك كانت قولهم: إن البولونيين أكثر تقدما من الروس، ولكن المجريين كانوا اشد رجعية من النمساويين.
والمؤرخ المفكر الأسباني المشهور "دي مارغال"، أيضا لم يسلم بحق المجريين في الثورة على النمسا، ولكنه اعتبر ثورة البولونيين على روسيا "ثورة مقدسة" تمشيا مع نظريته في النظم الفيدرالية.
حقوق قومية
وأما "الحقوق القومية" للشعوب الأسيوية والإفريقية، فمن الطبيعي أنه ما كان يفكر فيها أحد من كتاب القرن التاسع عشر، في أوروبا، لأن جميع الكتاب والمفكرين كانوا يزعمون بأن الشعوب المذكورة ليست متأخرة فحسب، بل محرومة من قابلية التقدم أيضا!
إن أبرز الأمثلة وأغربها على التمييز بين "الأوروبيين" وبين غير الأوروبيين" في أمر "الحقوق القومية" صادفتها في كتاب مطبوع باللغة الفرنسية سنة 1860، في "مبدأ القوميات".
كان المؤلف "ماكسجين دولوس" من اشد المتحمسين للمبدأ المذكور، انه كان في رومانيا سنة 1857، حين اندفع أهالي الإمارتين- مولدافيا وفلاخيا- يتنادون للاتحاد، ويعملون على تحقيقه بكل حماس، على الرغم من مخالفة الدول العظمى لذلك، وشاهد بعينيه مظاهر ذلك التيار القومي الشديد.
كما انه كان في ايطاليا، سنة 1859 عندما اندفع الايطاليون يصوتون للوحدة بحماس منقطع النظير، وشاهد بمرأى عينيه كيف كان الناس يؤلفون قوافل طويلة، يشترك فيها الشيوخ والشبان، الرجال والنساء، من أهالي المدن والأرياف يصفقون للوحدة بسرور وابتهاج.
ولذلك نرى المؤلف يسجل في كتابه مناظر هذا الاندفاع ومناقبه بكل تقدير وإعجاب، ويدافع عن مبدأ القوميات عن خبرة وإيمان، حتى انه يقول بوجوب تحقيق الوحدة الألمانية أيضا، مخالفا في ذلك معظم ساسة فرنسا وكتابها..
ومع كل ذلك، نراه في نفس الكتاب، عندما يذكر شعوب إفريقيا الشمالية بمناسبة من المناسبات، يقول بوجوب وضعها تحت حكم دول جنوب أوروبا.... وبعد أن يقسم المغرب الأقصى والأوسط والأدنى- مع ليبيا- بين اسبانيا وفرنسا وايطاليا، ينتهي إلى القول بوجوب وضع مصر تحت حكم اليونان!...
ومن الغريب أن الكاتب الألماني المعروف "ماكس نورداو" أيضا اشترك في هذا النوع من التفكير، على الرغم من اشتهاره بالجرأة في الرأي، وعلى الرغم من تحمسه لمبدأ القوميات تحمسا منقطع النظير.
فنراه في البحث الذي نشره عن "القومية" يهزأ بأسلوب لاذع عنيف، بكل من لا يقدر أهمية الفكرة القومية حق قدرها، فيقول :
"إن الذين فقدوا البصيرة، هم وحدهم يزعمون بان الفكرة القومية، لهي من الآراء الطارئة، التي لن تلبث أن تندثر وتتلاشى، كما تندثر "الموضات" وتتلاشى! ثم يؤكد إيمانه بالقضايا القومية بهذه العبارات الحاسمة:
"إن الوعي القومي، من الأمور التي تحدث بالضرورة وبصورة طبيعية، في مرحلة معينة من التطور البشري، في الأفراد والجماعات.".
"إنه من نوع الظواهر والحوادث الطبيعية التي لا يمكن منعها، حتى ولا تأخيرها.... وذلك مثل حوادث المد والجزر في البحر، وحرارة الشمس في موسم الصيف".
ومع ذلك نراه يقول، في الفصل الذي كتبه من "مستقبل البشر":
"إن بلاد شمال إفريقيا ستكون مهجرا للشعوب الأوروبية، وأما سكانها الحاليون، فسينزحون إلى الجنوب، إلى البلاد الاستوائية، إلى أن يفنوا هناك"!..
الانتصار والاستعمار
ولا غرابة والحالة هذه، إذا صار القرن التاسع عشر، عصر "انتصار القوميات" في أوروبا، وفي الوقت نفسه "عصر استفحال الاستعمار" في أفريقيا وآسيا، وإذا تعمقنا في البحث قليلا، توصلنا إلى حقيقة مهمة أخرى، وعلمنا: أن انتصار الفكرة القومية في أوروبا، كان من جملة الأسباب التي أدت إلى استفحال الاستعمار في آسيا وأفريقيا.
ذلك لأن انتصار مبدأ القوميات في أوروبا، لم يترك أمام أية دولة من الدول، أي مجال للتوسع في القارة المذكورة نفسها، لأن جميع دولها أصبحت قومية، ولأن حدود تلك الدول تقررت وفقا لمقتضيات مبدأ القوميات إلى أقصى حدود الإمكان.
ولذلك اضطرت الدول الطامحة، إلى تحويل أنظار توسعها خارج القارة الأوروبية، ومن المعلوم أن الاستعمار الأوروبي للقارة الأمريكية كان قد بلغ مداه قبل القرن المذكور، وتتالت الحركات الاستقلالية في مختلف أقطارها، وفي الأخير أعلن "مونرو" مبدأ : "أمريكا للأمريكيين"، فلم يترك للدول الأوروبية مجالا لتوسع جديد في تلك القارة أيضا.
ولهذه الأسباب كلها، توجهت أطماع التوسع بكليتها نحو القارتين الآسيوية والإفريقية...
وهذا العامل، بانضمامه إلى العوامل الاقتصادية المعروفة، دفع الدول الأوروبية إلى التهافت على استعمار تلك البلاد، بسرعة وبشراهة.
ولذلك شهد العالم هذا الحادث الغريب:
في الوقت الذي كانت خارطة أوروبا السياسية تتغير وتتطور وفق ما يرتضيه مبدأ "حقوق القوميات" صارت خارطة أسيا وأفريقيا تتخطط وتتكون وتتقسم، وفق مصالح المستعمرين ومساوماتهم القومية.
وهذا هو الذي جعل القرن التاسع عشر، عصر "انتصار القوميات" من جهة، وعصر "استفحال الاستعمار" من جهة أخرى.
ولكن.... من الطبيعي أن هذه الأحوال ما كان لها أن تدوم إلى الأبد، بل كان من الطبيعي، أن تستيقظ الشعوب الآسيوية والإفريقية من سباتها، الواحدة بعد الأخرى، وان تتزود بأسباب الحضارة العصرية من ناحية، وتعي حقوقها القومية وتطالب بها، وتثور على مستعمريها من ناحية أخرى.
ومن المعلوم أن البعض من الشعوب المذكورة استطاعت أن تقطع شوطا كبيرا في هذا السبيل، منذ بداية القرن الحالي (20)، ولا سيما منذ نهاية الحرب العالمية الأخيرة (II)، ولكن لا يزال أمام معظمها طريق طويل وشاق، محفوف بضروب من الموانع والعراقيل، من الأشواك والأدغال، من الشواهق والوديان.
ومع كل ذلك، لا شك أن الفكرة القومية ستتغلب في آخر الأمر، على جميع هذه الموانع والعراقيل... وستنتصر في البلاد المذكورة كما انتصرت من قبل في القارة الأوروبية.
ولهذا السبب، سيكون القرن الحالي (20): "عصر انتصار القوميات" في القارتين الأسيوية والإفريقية، و"عصر تلاشي الاستعمار وانهياره في جميع القارات".
ولا شك أن الأمة العربية ستكون أكثر المستفيدين من ذلك، لأنها في الحالة الحاضرة أشد المتضررين من الاستعمار ومن رواسبه ومخلفاته الخطيرة.