By ناصر الخريصي 333 - الأحد ديسمبر 01, 2013 5:40 pm
- الأحد ديسمبر 01, 2013 5:40 pm
#66922
اعتمدت التحولاتُ الحاصلة في السياسة الخارجية التركية خلال العقد الماضي على تحقيق الاستقرار الداخلي على الصعيد السياسي والاقتصادي، فصُناع السياسة التركية يرون أن المزاوجة بين التنمية السياسية وتعزيز القدرات الاقتصادية في الداخل منحت تركيا مزايا كثيرة، مكنتها من تطوير وتنفيذ سياسات نشطة ومؤثرة في محيطها الإقليمي، كما في المناطق البعيدة مثل إفريقيا وآسيا.
وترى قيادات حزب العدالة أن الاقتصاد غدا المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية، وأن العلاقات الاقتصادية لم تعد تخضع للاعتبارات السياسية، وإنما العكس، وهو ما يجعل السمة البارزة لسياسة تركيا الخارجية خصوصية التصور الاقتصادي؛ حيث قاد زعماء الحزب احتياجَ تركيا لتوسيع أسواقها التصديرية من جانب، وحاجاتها الضخمة من الطاقة من جانب آخر؛ لتقوية أواصر علاقات تركيا مع دول كان لها في الماضي معها علاقات محدودة.
ترتب على ذلك أن ارتفعت حصة التجارة الخارجية بين تركيا ودول الشرق الأوسط من 6 في المائة عام 2002 تمثل زهاء 3.9 مليار دولار، إلى 16 في المائة عام 2010 تمثل زهاء 23.6 مليار دولار. وقد انخفضت حصة الصادرات التي تعتمد على الموارد الطبيعية والمنتجات ذات التكنولوجية المنخفضة من 63 في المائة في عام 2002 إلى 44 في المائة عام 2010. هذا فيما ارتفعت حصة المنتجات متوسطة وعالية التكنولوجيا من 37 في المائة عام 2002 إلى 44 في المائة عام 2010.
التداعيات الاقتصادية للربيع العربي
ومع اندلاع ثورات "الربيع العربي" تخوفت تركيا من أن تتأثر استثماراتها الضخمة في المنطقة بالتغيرات التي تشهدها بعض الدول العربية. وقد اعتبرت أن مشكلات سياسية وأمنية من شأنها أن تفضي إلى مشكلات اقتصادية قد تقلص من حجم الصادرات التركية لدول المنطقة، بما قد يسفر عن زيادة الأعباء المالية التي قد تؤثر سلبًا على معدلات نمو الاقتصاد التركي.
لقد بدا القلق التركي واضحًا، سواء حيال الاستثمارات التركية أم إزاء معدلات التبادل التجاري بين تركيا ودول "الربيع العربي". فقد كان الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية التركية خلال السنوات العشر الأخيرة تعظيم الصادرات التركية إلى دول الشرق الأوسط، فخلال هذه السنوات استطاعت أنقرة أن تضاعف حجم تجارتها مع هذه الدول زهاء خمسة أضعاف. لذلك فقد انتقد الكثير من رجال الأعمال ممن لديهم استثمارات ضخمة في دول "الربيع العربي" المواقف التركية، معتبرين أن السياسات التركية من شأنها أن تضر بالاستثمارات التركية في المنطقة العربية.
وقد تصاعد القلق التركي حيال اتفاقات التجارة الحرة التي أبرمتها مع عدد من الدول العربية، ومنها الاتفاقية الموقعة مع كل من مصر وليبيا، وكذلك اتفاقية إقامة منطقة مشتركة بين لبنان وسوريا والأردن وتركيا، وهي الاتفاقية التي علقت بعد ذلك بسبب الموقف التركي من أحداث الثورة السورية.
وتخوفت تركيا كذلك من ارتفاع أسعار النفط عالميًّا بسبب أحداث المنطقة الملتهبة، لما لذلك من تأثيرات على ارتفاع معدل العجز في الميزان التجاري، بالنظر لاعتماد تركيا على استيراد أكثر من 90 في المائة من احتياجاتها النفطية من الخارج. وتكشف المقارنة بين حجم الصادرات والواردات التركية عن تضاعف حجم العجز في ميزان التجارة الخارجية من 5.5 مليارات دولار في إبريل 2010 إلى 9 مليارات دولار في إبريل 2011.
هذا في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من صعوبات بسبب ارتفاع الطفرة الاستهلاكية المدفوعة بالائتمان إلى ذروتها، وتجاوز العجز في الحساب الجاري نسبة 10 في المائة، وهو وضع كان محدِّدا رئيسيا في أن يتوقع صندوق النقد الدولي انخفاض نسبة النمو الاقتصادي إلى 2.2 في المائة خلال عام 2012.
وعلى الرغم من الحذر الذي أبدته تركيا في التعامل مع أحداث المنطقة؛ فإن من الواضح أن مواقفها التي لم تنسجم كليا مع محددات مواقف العديد من دول مجلس التعاون الخليجي، ساهمت في تعطل توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع دول الخليج، وذلك بسبب طلب الأخيرة توقيع الاتفاقية دون إبداء أي أسباب، وهي اتفاقية كان من المقرر توقيعها في ديسمبر 2011، ومن المرجح توقيعها بنهاية هذا العام بعد تحسن العلاقات بسبب تبني مقاربة واحدة حيال تطورات الأزمة السورية.
كما ساهمت الأحداثُ التي شهدتها دول "الربيع العربي" في تراجع إجمالي صادرات تركيا إليها بنسبة 13 في المائة. ففي حين كان نصيب مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن 6.48 في المائة من إجمالي الصادرات الخارجية التركية في عام 2010؛ تراجعت هذه النسبة إلى 4.74 في المائة نتيجة تداعيات "الربيع العربي". وقد تراجع إجمالي الصادرات التركية خلال عام 2011 إلى هذه الدول العربية الخمس من 7 مليارات و272.5 مليون إلى 6 مليارات و323 مليون دولار.
التحركات التركية والأهداف الاقتصادية
وقد عكست زيارةُ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى دول الربيع العربي في سبتمبر 2011، على رأس وفد وزاري عالي المستوى وبرفقة 280 من رجال الأعمال؛ الأهمية الاقتصادية لعلاقات تركيا مع الدول العربية، حيث سعت تركيا للمساهمة في إعادة أعمار دول "الربيع العربي" وإمداد هذه الدول بخدمات الاتصالات، والمشاركة في قطاع التشييد والبناء. كما سعت تركيا إلى مضاعفة الاستثمارات التركية في مصر، بما يوفر فرص عمل أكبر أمام العمالة المصرية التي يوجد منها بالفعل قرابة 50 ألف مصري يعملون في الشركات التركية بمصر.
وفي هذا الإطار تشير التقديرات التركية إلى احتمال تزايد استثمارات تركيا في مصر من 1.5 مليار دولار إلى 5 مليارات خلال العامين المقبلين، وأن تزيد المبادلات التجارية من 3.5 مليارات دولار إلى 5 مليارات دولار قبل نهاية عام 2012، وإلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2015، وهو أمر من شأن تحققه أن يزيد من الروابط السياسية والاقتصادية بين البلدين، وقد يدفع بتحقق نبوءة رئيس الوزراء رجب طيب أوردغان بأن تكون أنقرة مفتاح القاهرة لأوروبا، وأن تكون القاهرة مفتاح أنقرة لإفريقيا.
وقد أبرم رجالُ الأعمال الأتراك خلال زيارتهم لمصر برفقة رئيس الوزراء التركي اتفاقيات تجارية تقدر بزهاء 850 مليون جنيه، كما ازداد إقبال رجال الأعمال الأتراك على الاستثمار في كل من مصر وتونس، باعتبار أنهما الدولتان اللتان شهدتا استقرارا نسبيًّا، بما أدى إلى عودة الارتفاع لقيمة الصادرات التركية إلى مصر بنهاية عام 2011 بنسبة 23 في المائة، وإلى تونس بنسبة 12.3 في المائة مقارنة بعام 2010. هذا في الوقت الذي تراجع فيه حجم الصادرات التركية إلى ليبيا بنسبة 63 في المائة، وإلى اليمن بنسبة 15 في المائة، وإلى سوريا بنسبة 14 في المائة، مقارنة بعام 2010 بسبب الوضع الأمني في هذه الدول.
السياسات التجارية التركية الجديدة
تأثرت المواقف التركية حيال الثورات العربية بمصالح تركيا الاقتصادية في المنطقة التي شهدت تطورات مهمة على صعيد العلاقات الاقتصادية التركية العربية بفعل فاعلية إستراتيجية تركيا الخاصة بعمليات "البحث عن أسوق جديدة" وازدهار سياسات التصدير بديلا عن أية "برامج أيديولوجية"، وذلك فيما أطلق عليه "السياسات التجارية" الجديدة لأنقرة.
وقد انعكس ذلك في مواقف تركيا المتغيرة من ثورات "الربيع العربي"؛ حيث ساندت مبكرا كلا من الثورة المصرية والتونسية، وذلك بسبب انخفاض حجم الاستثمارات التركية في الدولتين مقارنة بليبيا على سبيل المثال. ففي ليبيا وحدها يوجد زهاء 25 ألف مواطن تركي. كما يشكل السوق الليبي السوق الثاني للمتعاقدين الأتراك في الخارج بعد روسيا، ويوجد في ليبيا زهاء 120 شركة تركية.
وقد أفضت الجهود التي بذلتها أنقرة من أجل إعادة تمتين العلاقات مع النظم العربية الجديدة في دول الربيع العربي إلى تطورات اقتصادية إيجابية خلال عام 2012؛ حيث شهدت الأشهر الثلاثة الأولى من العام انتعاشة في الصادرات التركية إلى دول الربيع العربي، بعد فترة من الركود في العلاقات التجارية، حيث سجلت الصادرات التركية إلى البُلدان الثلاثة زيادة بنسبة 84 بالمائة، لترتفع من 899 مليون دولار في العام الماضي إلى 1.6 مليار دولار.
وذكرت وكالةُ الأناضول للأنباء أنه بالمقارنة بين الربعين الأولين من عامي 2011 و2012، ارتفعت قيمة الصادرات التركية إلى ليبيا من 264 إلى 526 مليون دولار، وإلى تونس من 139 إلى 208 مليون دولار، وإلى مصر من 496 إلى 917 مليون دولار.
ومن المتوقع أن تشهد العلاقات الاقتصادية التركية الليبية طفرة كبرى خلال الفترة المقبلة، لا سيما بعد إعلان الحكومة الليبية أنها ستقدم فرصا استثمارية بقيمة 100 مليار دولار للشركات التركية، كما أُعلن عن منح الشركات التركية استثمارات في قطاع التشييد والبناء وصلت قيمتها إلى 15 مليار دولار. وتسعى تركيا في هذا الإطار إلى مضاعفة حجم الصادرات التركية لكل من مصر وليبيا، وذلك بعد تدشين خط "RORO" الملاحي بين ميناءَيْ مرسين التركي والإسكندرية المصري، والذي يعتبره الأتراك أن من شأنه أن يجعل من مدينة الإسكندرية بوابة تركيا للدول العربية وإفريقيا.
مساعدات تركية لدول الربيع العربي
قامت تركيا بالاتفاق مع مصر في سبتمبر 2012 على تقديم تمويل قدره 2 مليار دولار، وذلك بغرض المساعدة في تقوية احتياطي العملات الأجنبية لدى البنك المركزي المصري، وكذلك دعم البنية الأساسية لخطط الاستثمار للحكومة المصرية، والتي سوف تساهم بدورها في تنمية الاقتصاد الكلي وتنمية فرص نمو الاقتصاد المصري. وقد قامت شركات تركية باستثمارات تقدر بمليار ونصف في مصر خلال عام 2012.
كما اتفقت الدولتان على تشكيل لجنة عليا مشتركة برئاسة رئيسي الوزراء في البلدين من أجل تعميق التعاون المشترك في كافة المجالات، وخصوصًا في مجالات التصنيع ونقل الخبرة التركية في مجال السياسة النقدية، ودعم وتذليل فرص الاستثمار والتعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين.
وفيما يتعلق بتونس؛ فقد وقعت تركيا مع الحكومة التونسية في يناير 2012 أربع اتفاقيات تعاون، بينها اتفاقية قرض بقيمة نصف مليار دولار مخصص لإنعاش الاقتصاد التونسي. كما وقعت الدولتان مذكرات تفاهم بشان إقامة منطقة تجارة حرة، وتبادل المنتجات الزراعية. ويُتيح هذا الاتفاق الأخير لتونس رفع حصتها من صادرات التمور المعفاة من الأداء الجمركي إلى تركيا لتبلغ خمسة آلاف طن سنويا. كما ستتولى تركيا تدريب شبان تونسيين في مجال التجارة الخارجية والسياحة.
وقد دشنت تركيا في بدايات عام 2012 "منتدى تركيا وتونس وليبيا"، بهدف دعم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول الثلاث، لا سيما وأن تركيا تهدف إلى إنشاء منطقة تجارة حرة بجنوب تونس وعلى بعد 100 كيلو متر من الأراضي الليبية. وتهدف تركيا كذلك إلى تدشين مشروعات كبرى مع الحكومة الليبية التي تمتلك قرابة 110 مليارات دولار مجمدة في البنوك في جميع أنحاء العالم، كما تبغي تنويع مجالات استثماراتها في ليبيا من خلال المشاركة في مشروعات البنية التحتية، ودعم التعاون في مجالات الطاقة؛ حيث تتجه تركيا للاعتماد بشكل أكبر على استيراد احتياجاتها النفطية من ليبيا.
وفي هذا الإطار؛ تسعى الحكومة التركية إلى إنهاء المشكلات التي تعاني منها الاستثمارات التركية في ليبيا والبالغة زهاء 18 مليار دولار، لا سيما وأن هناك مستحقات للعديد من الشركات التركية لدى الحكومة الليبية تقدر بزها 1.4 مليار دولار، ولم تحصل عليها بسبب الاضطرابات الأمنية والوضع السياسي في البلاد منذ اندلاع الثورة الليبية. كما تسعى تركيا أيضا إلى ضمان ودائع شركاتها في البنوك الليبية والتي تقدر بحوالي 100 مليون دولار. كما تهدف لضمان التعويضات المناسبة للشركات التركية التي تعرضت لخسائر وأعمال نهب بسبب الفوضى الأمنية التي تعاني منها البلاد.
هذه المؤشرات في مجملها توضح أن العقلية الاقتصادية كانت حاكمة في تحركات التركية حيال دول الربيع العربي، فعلى الرغم من أن الخسائر التركية على الصعيد الاقتصادي بدت ضخمة مع اندلاع الثورات العربية؛ إلا أن قدرة تركيا على التواصل مع النخب الجديدة الصاعدة عبر صناديق الانتخابات منحها شرعية المطالبة بالمشاركة في مشروعات تجارية واقتصادية كبرى في هذه الدول التي لم تكتف بدعم علاقاتها التجارية والاقتصادية مع تركيا، وإنما أرسلت وفودا رسمية وغير رسمية من أجل الاستفادة من الخبرات الاقتصادية والتجارية التركية.
منقول : المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة
وترى قيادات حزب العدالة أن الاقتصاد غدا المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية، وأن العلاقات الاقتصادية لم تعد تخضع للاعتبارات السياسية، وإنما العكس، وهو ما يجعل السمة البارزة لسياسة تركيا الخارجية خصوصية التصور الاقتصادي؛ حيث قاد زعماء الحزب احتياجَ تركيا لتوسيع أسواقها التصديرية من جانب، وحاجاتها الضخمة من الطاقة من جانب آخر؛ لتقوية أواصر علاقات تركيا مع دول كان لها في الماضي معها علاقات محدودة.
ترتب على ذلك أن ارتفعت حصة التجارة الخارجية بين تركيا ودول الشرق الأوسط من 6 في المائة عام 2002 تمثل زهاء 3.9 مليار دولار، إلى 16 في المائة عام 2010 تمثل زهاء 23.6 مليار دولار. وقد انخفضت حصة الصادرات التي تعتمد على الموارد الطبيعية والمنتجات ذات التكنولوجية المنخفضة من 63 في المائة في عام 2002 إلى 44 في المائة عام 2010. هذا فيما ارتفعت حصة المنتجات متوسطة وعالية التكنولوجيا من 37 في المائة عام 2002 إلى 44 في المائة عام 2010.
التداعيات الاقتصادية للربيع العربي
ومع اندلاع ثورات "الربيع العربي" تخوفت تركيا من أن تتأثر استثماراتها الضخمة في المنطقة بالتغيرات التي تشهدها بعض الدول العربية. وقد اعتبرت أن مشكلات سياسية وأمنية من شأنها أن تفضي إلى مشكلات اقتصادية قد تقلص من حجم الصادرات التركية لدول المنطقة، بما قد يسفر عن زيادة الأعباء المالية التي قد تؤثر سلبًا على معدلات نمو الاقتصاد التركي.
لقد بدا القلق التركي واضحًا، سواء حيال الاستثمارات التركية أم إزاء معدلات التبادل التجاري بين تركيا ودول "الربيع العربي". فقد كان الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية التركية خلال السنوات العشر الأخيرة تعظيم الصادرات التركية إلى دول الشرق الأوسط، فخلال هذه السنوات استطاعت أنقرة أن تضاعف حجم تجارتها مع هذه الدول زهاء خمسة أضعاف. لذلك فقد انتقد الكثير من رجال الأعمال ممن لديهم استثمارات ضخمة في دول "الربيع العربي" المواقف التركية، معتبرين أن السياسات التركية من شأنها أن تضر بالاستثمارات التركية في المنطقة العربية.
وقد تصاعد القلق التركي حيال اتفاقات التجارة الحرة التي أبرمتها مع عدد من الدول العربية، ومنها الاتفاقية الموقعة مع كل من مصر وليبيا، وكذلك اتفاقية إقامة منطقة مشتركة بين لبنان وسوريا والأردن وتركيا، وهي الاتفاقية التي علقت بعد ذلك بسبب الموقف التركي من أحداث الثورة السورية.
وتخوفت تركيا كذلك من ارتفاع أسعار النفط عالميًّا بسبب أحداث المنطقة الملتهبة، لما لذلك من تأثيرات على ارتفاع معدل العجز في الميزان التجاري، بالنظر لاعتماد تركيا على استيراد أكثر من 90 في المائة من احتياجاتها النفطية من الخارج. وتكشف المقارنة بين حجم الصادرات والواردات التركية عن تضاعف حجم العجز في ميزان التجارة الخارجية من 5.5 مليارات دولار في إبريل 2010 إلى 9 مليارات دولار في إبريل 2011.
هذا في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من صعوبات بسبب ارتفاع الطفرة الاستهلاكية المدفوعة بالائتمان إلى ذروتها، وتجاوز العجز في الحساب الجاري نسبة 10 في المائة، وهو وضع كان محدِّدا رئيسيا في أن يتوقع صندوق النقد الدولي انخفاض نسبة النمو الاقتصادي إلى 2.2 في المائة خلال عام 2012.
وعلى الرغم من الحذر الذي أبدته تركيا في التعامل مع أحداث المنطقة؛ فإن من الواضح أن مواقفها التي لم تنسجم كليا مع محددات مواقف العديد من دول مجلس التعاون الخليجي، ساهمت في تعطل توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع دول الخليج، وذلك بسبب طلب الأخيرة توقيع الاتفاقية دون إبداء أي أسباب، وهي اتفاقية كان من المقرر توقيعها في ديسمبر 2011، ومن المرجح توقيعها بنهاية هذا العام بعد تحسن العلاقات بسبب تبني مقاربة واحدة حيال تطورات الأزمة السورية.
كما ساهمت الأحداثُ التي شهدتها دول "الربيع العربي" في تراجع إجمالي صادرات تركيا إليها بنسبة 13 في المائة. ففي حين كان نصيب مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن 6.48 في المائة من إجمالي الصادرات الخارجية التركية في عام 2010؛ تراجعت هذه النسبة إلى 4.74 في المائة نتيجة تداعيات "الربيع العربي". وقد تراجع إجمالي الصادرات التركية خلال عام 2011 إلى هذه الدول العربية الخمس من 7 مليارات و272.5 مليون إلى 6 مليارات و323 مليون دولار.
التحركات التركية والأهداف الاقتصادية
وقد عكست زيارةُ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى دول الربيع العربي في سبتمبر 2011، على رأس وفد وزاري عالي المستوى وبرفقة 280 من رجال الأعمال؛ الأهمية الاقتصادية لعلاقات تركيا مع الدول العربية، حيث سعت تركيا للمساهمة في إعادة أعمار دول "الربيع العربي" وإمداد هذه الدول بخدمات الاتصالات، والمشاركة في قطاع التشييد والبناء. كما سعت تركيا إلى مضاعفة الاستثمارات التركية في مصر، بما يوفر فرص عمل أكبر أمام العمالة المصرية التي يوجد منها بالفعل قرابة 50 ألف مصري يعملون في الشركات التركية بمصر.
وفي هذا الإطار تشير التقديرات التركية إلى احتمال تزايد استثمارات تركيا في مصر من 1.5 مليار دولار إلى 5 مليارات خلال العامين المقبلين، وأن تزيد المبادلات التجارية من 3.5 مليارات دولار إلى 5 مليارات دولار قبل نهاية عام 2012، وإلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2015، وهو أمر من شأن تحققه أن يزيد من الروابط السياسية والاقتصادية بين البلدين، وقد يدفع بتحقق نبوءة رئيس الوزراء رجب طيب أوردغان بأن تكون أنقرة مفتاح القاهرة لأوروبا، وأن تكون القاهرة مفتاح أنقرة لإفريقيا.
وقد أبرم رجالُ الأعمال الأتراك خلال زيارتهم لمصر برفقة رئيس الوزراء التركي اتفاقيات تجارية تقدر بزهاء 850 مليون جنيه، كما ازداد إقبال رجال الأعمال الأتراك على الاستثمار في كل من مصر وتونس، باعتبار أنهما الدولتان اللتان شهدتا استقرارا نسبيًّا، بما أدى إلى عودة الارتفاع لقيمة الصادرات التركية إلى مصر بنهاية عام 2011 بنسبة 23 في المائة، وإلى تونس بنسبة 12.3 في المائة مقارنة بعام 2010. هذا في الوقت الذي تراجع فيه حجم الصادرات التركية إلى ليبيا بنسبة 63 في المائة، وإلى اليمن بنسبة 15 في المائة، وإلى سوريا بنسبة 14 في المائة، مقارنة بعام 2010 بسبب الوضع الأمني في هذه الدول.
السياسات التجارية التركية الجديدة
تأثرت المواقف التركية حيال الثورات العربية بمصالح تركيا الاقتصادية في المنطقة التي شهدت تطورات مهمة على صعيد العلاقات الاقتصادية التركية العربية بفعل فاعلية إستراتيجية تركيا الخاصة بعمليات "البحث عن أسوق جديدة" وازدهار سياسات التصدير بديلا عن أية "برامج أيديولوجية"، وذلك فيما أطلق عليه "السياسات التجارية" الجديدة لأنقرة.
وقد انعكس ذلك في مواقف تركيا المتغيرة من ثورات "الربيع العربي"؛ حيث ساندت مبكرا كلا من الثورة المصرية والتونسية، وذلك بسبب انخفاض حجم الاستثمارات التركية في الدولتين مقارنة بليبيا على سبيل المثال. ففي ليبيا وحدها يوجد زهاء 25 ألف مواطن تركي. كما يشكل السوق الليبي السوق الثاني للمتعاقدين الأتراك في الخارج بعد روسيا، ويوجد في ليبيا زهاء 120 شركة تركية.
وقد أفضت الجهود التي بذلتها أنقرة من أجل إعادة تمتين العلاقات مع النظم العربية الجديدة في دول الربيع العربي إلى تطورات اقتصادية إيجابية خلال عام 2012؛ حيث شهدت الأشهر الثلاثة الأولى من العام انتعاشة في الصادرات التركية إلى دول الربيع العربي، بعد فترة من الركود في العلاقات التجارية، حيث سجلت الصادرات التركية إلى البُلدان الثلاثة زيادة بنسبة 84 بالمائة، لترتفع من 899 مليون دولار في العام الماضي إلى 1.6 مليار دولار.
وذكرت وكالةُ الأناضول للأنباء أنه بالمقارنة بين الربعين الأولين من عامي 2011 و2012، ارتفعت قيمة الصادرات التركية إلى ليبيا من 264 إلى 526 مليون دولار، وإلى تونس من 139 إلى 208 مليون دولار، وإلى مصر من 496 إلى 917 مليون دولار.
ومن المتوقع أن تشهد العلاقات الاقتصادية التركية الليبية طفرة كبرى خلال الفترة المقبلة، لا سيما بعد إعلان الحكومة الليبية أنها ستقدم فرصا استثمارية بقيمة 100 مليار دولار للشركات التركية، كما أُعلن عن منح الشركات التركية استثمارات في قطاع التشييد والبناء وصلت قيمتها إلى 15 مليار دولار. وتسعى تركيا في هذا الإطار إلى مضاعفة حجم الصادرات التركية لكل من مصر وليبيا، وذلك بعد تدشين خط "RORO" الملاحي بين ميناءَيْ مرسين التركي والإسكندرية المصري، والذي يعتبره الأتراك أن من شأنه أن يجعل من مدينة الإسكندرية بوابة تركيا للدول العربية وإفريقيا.
مساعدات تركية لدول الربيع العربي
قامت تركيا بالاتفاق مع مصر في سبتمبر 2012 على تقديم تمويل قدره 2 مليار دولار، وذلك بغرض المساعدة في تقوية احتياطي العملات الأجنبية لدى البنك المركزي المصري، وكذلك دعم البنية الأساسية لخطط الاستثمار للحكومة المصرية، والتي سوف تساهم بدورها في تنمية الاقتصاد الكلي وتنمية فرص نمو الاقتصاد المصري. وقد قامت شركات تركية باستثمارات تقدر بمليار ونصف في مصر خلال عام 2012.
كما اتفقت الدولتان على تشكيل لجنة عليا مشتركة برئاسة رئيسي الوزراء في البلدين من أجل تعميق التعاون المشترك في كافة المجالات، وخصوصًا في مجالات التصنيع ونقل الخبرة التركية في مجال السياسة النقدية، ودعم وتذليل فرص الاستثمار والتعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين.
وفيما يتعلق بتونس؛ فقد وقعت تركيا مع الحكومة التونسية في يناير 2012 أربع اتفاقيات تعاون، بينها اتفاقية قرض بقيمة نصف مليار دولار مخصص لإنعاش الاقتصاد التونسي. كما وقعت الدولتان مذكرات تفاهم بشان إقامة منطقة تجارة حرة، وتبادل المنتجات الزراعية. ويُتيح هذا الاتفاق الأخير لتونس رفع حصتها من صادرات التمور المعفاة من الأداء الجمركي إلى تركيا لتبلغ خمسة آلاف طن سنويا. كما ستتولى تركيا تدريب شبان تونسيين في مجال التجارة الخارجية والسياحة.
وقد دشنت تركيا في بدايات عام 2012 "منتدى تركيا وتونس وليبيا"، بهدف دعم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول الثلاث، لا سيما وأن تركيا تهدف إلى إنشاء منطقة تجارة حرة بجنوب تونس وعلى بعد 100 كيلو متر من الأراضي الليبية. وتهدف تركيا كذلك إلى تدشين مشروعات كبرى مع الحكومة الليبية التي تمتلك قرابة 110 مليارات دولار مجمدة في البنوك في جميع أنحاء العالم، كما تبغي تنويع مجالات استثماراتها في ليبيا من خلال المشاركة في مشروعات البنية التحتية، ودعم التعاون في مجالات الطاقة؛ حيث تتجه تركيا للاعتماد بشكل أكبر على استيراد احتياجاتها النفطية من ليبيا.
وفي هذا الإطار؛ تسعى الحكومة التركية إلى إنهاء المشكلات التي تعاني منها الاستثمارات التركية في ليبيا والبالغة زهاء 18 مليار دولار، لا سيما وأن هناك مستحقات للعديد من الشركات التركية لدى الحكومة الليبية تقدر بزها 1.4 مليار دولار، ولم تحصل عليها بسبب الاضطرابات الأمنية والوضع السياسي في البلاد منذ اندلاع الثورة الليبية. كما تسعى تركيا أيضا إلى ضمان ودائع شركاتها في البنوك الليبية والتي تقدر بحوالي 100 مليون دولار. كما تهدف لضمان التعويضات المناسبة للشركات التركية التي تعرضت لخسائر وأعمال نهب بسبب الفوضى الأمنية التي تعاني منها البلاد.
هذه المؤشرات في مجملها توضح أن العقلية الاقتصادية كانت حاكمة في تحركات التركية حيال دول الربيع العربي، فعلى الرغم من أن الخسائر التركية على الصعيد الاقتصادي بدت ضخمة مع اندلاع الثورات العربية؛ إلا أن قدرة تركيا على التواصل مع النخب الجديدة الصاعدة عبر صناديق الانتخابات منحها شرعية المطالبة بالمشاركة في مشروعات تجارية واقتصادية كبرى في هذه الدول التي لم تكتف بدعم علاقاتها التجارية والاقتصادية مع تركيا، وإنما أرسلت وفودا رسمية وغير رسمية من أجل الاستفادة من الخبرات الاقتصادية والتجارية التركية.
منقول : المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة