- الأحد ديسمبر 01, 2013 11:29 pm
#67033
أصبحت دارفور في بؤرة الأحداث نتيجة الأجندات الخارجية،فالسودان بمساحته الشاسعة وثرواته الكبيرة يعتبر "قارة" حيث فيه موارد طبيعية كثيرة، لذلك ما إن يرى الطامعون أن هناك ثروات في منطقة ما حتى يتكالبون عليها وهو ما يحدث الآن في دارفور فهو صراع على الموارد الطبيعية بالإضافة إلى أجندات خفية وليس صراعًا من أجل وقف أي انتهاكات إنسانية.
وهناك وضع قبلي مختلف ومعقد في دارفور، حيث إنها تقع في منطقة جغرافية تعرف بالحزام السوداني يمتد من البحرالأحمر شرقًا إلى المحيط غربًا وتكاد تكون الثقافة العربية متجانسة فيه، وإقليم دارفور هو جزء من هذا الحزام العربي الإسلامي يشمل لاهومي ومالي وموريتانيا وجنوب الجزائر والمغرب حتى ان هناك تشابهًا في السحنات واللبس والغناء –فهذه المنطقة يرتبط تاريخها بالاسلام والعروبة، وليس هناك صراع مسلمين وغير مسلمين-الخلفية واحدة، والدين واحد ولا صراع ثقافي كل الذي يحدث نتيجة صراع الإنسان مع الطبيعة.
من المسؤول؟:
بعد المسافة بين دارفور والخرطوم وضعف البنية التحتية،تسبب في وقوع تهميش غير مقصود، حيث لا توجد سياسة محددة تتبعها الحكومة السودانية او الحكومات السابقة.
والأزمات التي مر بها السودان بعض منها قد نكون مسؤولين عنه، ونحن لا نعفي أنفسنا تمامًا ولكن بسبب تهميش بعض المناطق نتيجة لانشغال الحكومة بالصراعات الجانبية بالاضافة إلى الظروف الطبيعية التي عانى منها السودان. فمنذ استقلال السودان عام 1956م بدأت مشكلة الجنوب واستنزاف الموارد والبشر والقوات المسلحة،وفترة زمنية طويلة كان يمكن ان تستغل وان يستفاد منها في استخراج الثروات التي يمتاز بها السودان.واليوم توجد فرصة لدى السودان للاستفادة من موارده الطبيعية، من استخراج النفط، والاستفادة من موارد المياه والاراضي الزراعية التي تصل 80% من مساحة السودان، فنحن على أعتاب طفرة تنموية كبيرة في السودان.
وبدأت الأزمة في التفاقم خاصة بعد انهيار ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي سابقًا في أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي، حيث بدأ عصر الأمركة الجديد ليعيد النظر في كثير من الأوضاع السابقة، وفي مقدمة هذه المراجعات حظي العالم الإسلامي بالنصيب الأوفر من الاستهداف الأمريكي على كافة الأصعدة.
ولما كان السودان يعاني من حرب طاحنة وطويلة في جنوبه، وصراع أحزابه على السلطة في الشمال، فقد مثَل نموذجًا تجرى عليه تجارب التدخل الأمريكي التي بدأت بمحاولات العزل والإسقاط للنظام الحاكم وانتهت إلى قناعات احتوائه وترويضه.
والإشارة للدور الأمريكي لا تعني تجاهل الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية الأخرى الضالعة في ما يجري في السودان عامة وما يجري في دارفور على وجه أخص.
ظل إقليم دارفور الذي يسلط عليه الأضواء حاليًا على مدى ثلاثة عقود يعيش أوضاعًا مضطربة ولم يعرف الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بسبب ظواهر طبيعية وأمنية وسياسية، فقد عانت المنطقة من فترات جفاف وتصحر قادت إلى ثلاث مجاعات كبيرة عام 1973م وعام 1985م وعام 1992م.
ومشكلة دارفور أو الأزمة الإنسانية التي تبارت الدول والمنظمات على إظهارها خلال الفترة الأخيرة باعتبارها أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم خلال الفترة الأخيرة لم تكن وليدة اليوم ولم تكن أيضًا وليدة الأحداث الطارئة في السنوات الأخيرة وإنما هي حصيلة لنزاعات وتراكمات ورواسب ساهمت فيها الأوضاع السياسية والنخب الحاكمة في السودان منذ الاستقلال.
وظلت هذه الأزمة مكتومة ولم تسلط عليها الأضواء رغم تحذير بعض المراقبين من أن هناك نارًا تحت الرماد قد تشتعل في أي لحظة.
وقد تطورت الصراعات القبلية في دارفور بتحالف بعض القبائل العربية ضد الفور في مناطق جبل مرة ووادي صالح بعد الانفلات الأمنى عام 1986م حيث انتظمت هذه القبائل فيما سمى ب (التجمع العربي) والذي أنشئ في بداية الثمانييات عندما كان أحمد إبراهيم دريج وهو من الفور يتولى منصب حاكم الإقليم ليكون كيانًا سياسيًا سريًا هدفه السيطرة على جميع أراضى دارفور وطرد جميع القبائل غير العربية من المنطقة، ونتج عن هذا الكيان تنظيم سرى آخر عرف بتنظيم (قريش) وهدفه تجميع القبائل العربية بدارفور وكردفان وفق برنامج ممرحل لحكم السودان ومنافسة قبائل الشمال التي استأثرت بالحكم منذ الاستقلال.
وفى مواجهة التجمع العربي والذي كان يجد الدعم من السلطات الرسمية في الخرطوم إبان حكومة الصادق المهدي حاول الفور إحياء حركة "سونى" التي تأسست كمنظمة عسكرية سرية عام 1965م وكذراع لنهضة دارفور التي كانت تضم جميع مثقفي المنطقة بالخرطوم بيد أن الفور فشلوا في إحياء التنظيم بسبب عدم خبرتهم العسكرية وتضييق القبائل العربية والحكومة لهم.
وقد ساعدت سياسات الحكومة المركزية في الخرطوم والتي ظلت تنظر إلى دارفور بأنها منطقة مرشحة للتمرد بعد ثورة داود بولاد القيادي في الجبهة الإسلامية القومية والذي انضم للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في بداية التسعينيات بسبب موقف قادة الجبهة من الصراع القبلي بين قبيلته الفور وبعض المجموعات العربية. وقاد مجموعة من مقاتلي الحركة في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1991م بهدف السيطرة على منطقة جبل مرة لإعلان انضمام الفور للتمرد. إلا أن الحكومة استنفرت جميع القبائل وخاصة العربية التي استطاعت القضاء على قواته وألقي القبض عليه وأعدم رميًا بالرصاص.
وبعد مقتل بولاد بدأ الفور في وضع الترتيبات اللازمة لإنشاء كيان عسكري بدلًا من الميليشيات غير المنظمة وأجروا اتصالات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق كما أجروا اتصالات مع قياداتهم السياسية في الخارج وعلى رأسهم أحمد إبراهيم دريج حاكم إقليم دارفور السابق ورئيس الحزب الفيدرالي.
ويرى العديد من أبناء دارفور أن الشرارة لهذا النزاع الأخير قد انطلقت عام 1986م في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي حينما تجمعت بعض القبائل العربية تحت مسمى التجمع العربي بدعم من حزب الأمة في مواجهة قبيلة الفور التي يدعمها الحزب الاتحادي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحكومي.
وقد ظهر هذا الصراع في الحرب الأهلية بين الفور وبعض القبائل العربية في مناطق جبل مرة وجنوب وغرب دارفور والتي راح ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن وبلغت خسائرها أكثر من 20 مليون دولار. وقد استطاعت حكومة الإنقاذ إجبار الطرفين للتوصل إلى اتفاقية صلح قبلي هش في أيامها الأولي إلا أن الصراعات القبلية تواصلت بعد عام 1993م في مختلف مناطق دارفور الشمالية والغربية بين القبائل العربية والأفريقية خاصة قبائل الفور والمساليت والزغاوة.
ولعبت العوامل السياسية دورًا مهمًا في إذكاء هذه الصراعات التي كانت في الأساس صراعًا حول المرعى والماء وساهمت الحكومة المركزية في تأجيجها بعد تطبيق سياسة تقسيم الولايات بإنشاء إدارات أهلية جديدة للقبائل الرعوية في أراضى القبائل المستقرة علمًا بأن أغلب هذه القبائل وافدة من تشاد وألغت الحكومة بمقتضى ذلك الإدارات الأهلية القديمة.
ونتيجة لذلك اندلع الصراع المسلح بين قبيلة المساليت الأفريقية وبعض القبائل العربية، وشهدت المنطقة نتيجة لهذه التحولات إحراقًا للقرى وتشريدًا للمواطنين.
بيد أن الصراع لم يتطور إلى صراع سياسي عسكري وتمرد مسلح إلا بعد قيام مجموعة مسلحة من أبناء الفور الذين تحالفوا مع الزغاوة باحتلال مدينة قولو عاصمة محافظة جبل مرة بغرب دارفور في 19 يوليو/ تموز 2002م حيث تم لأول مرة إعلان الحركة المسلحة وتوزيع منشورات سياسية باسم جيش تحرير دارفور وحدد أهداف الحركة الجديدة في تحرير الإقليم من سيطرة الشماليين بحجة مساهمتهم في تردي الخدمات وتهميش المنطقة.
وفي عام 2003م تحولت دارفور إلى منطقة عمليات عسكرية تمامًا لمواجهة التحالف الجديد خاصة وأن الحكومة بدأت في التنبه لخطورة الادعاءات التي بدأت تنتشر من أن مسلحي الزغاوة يسعون لإقامة "دولة الزغاوة الكبرى" والتي تضم دارفور وتشاد وأجزاء من ليبيا والنيجر.
وقد استفاد التجمع العربي من هذا الادعاء في التقرب من الحكومة والتنسيق معها لمواجهة التهديد الأمنى الجديد وقد تزامن ذلك مع انضمام أعداد كبيرة من أبناء الزغاوة من الإسلاميين إلى حركة العدالة والمساواة والتي أسسها القيادي الإسلامي السابق الدكتور خليل إبراهيم ، وإلى الحركة المسلحة والتي غيرت اسمها إلى "جيش تحرير السودان" .
وأصبح للحركتين قوات منظمة حيث تملك الحركة الشعبية أكثر من 16 ألف جندي فيما تملك حركة العدالة حوالي 9 آلاف كما أصبح لهما برنامج وخطاب سياسي يطالب بتحقيق المساواة في السلطة والثروة لجميع أبناء المناطق المهمشة في السودان.
وفي فبراير 2003م شنت حركتا التمرد في غرب السودان "جيش تحريرالسودان" و"حركة العدل والمساواة" تمردًا مسلحًا ضد حكومة الخرطوم. وكان التمرد مدعومًا من قبل "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وبالتنسيق معها وقائدها جون جارانج، المدعوم من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا عن طريق أوغندا بشكل رئيسي.
الاستنفار الشعبي والتنسيق بين الحكومة وبعض القبائل العربية بشمال وغرب دارفور والتي لها نفوذ على مستوى الحكومة المركزية بالخرطوم لم يتم بصورة واضحة إلا بعد أحداث الفاشر في أبريل/ نيسان 2003م عندما استطاع المتمردون تدمير 6 طائرات عسكرية في مطار المدينة واختطاف قائد عسكري برتبة لواء.
وأدت هذه الأحداث إلى لفت انتباه العالم والرأي العام المحلي داخل السودان الذي ربما لم يسمع من قبل بالتمرد المسلح. رغم أن المتمردين كانوا قد سيطروا على مناطق جبل مرة وأجزاء واسعة من مناطق الزغاوة في شمال الإقليم على الحدود الشمالية الغربية مع تشاد وليبيا وأدت العملية محليًا إلى عدة نتائج سلبية حيث أوقفت الحكومة المفاوضات التي كان يجريها وإلى شمال دارفور الفريق إبراهيم سليمان لحل القضية سلميًا بالاستجابة للمطالب الشعبية.
وبدأت الحكومة في التعبئة لسحق التمرد عسكريًا واستنفرت القبائل المختلفة لمواجهة تطورات الأحداث والتي كانت تصفها قبل ذلك بعمليات قطاع الطرق والنهب واستفادت من مليشيات القبائل العربية في منطقة جبل مرة والتي كانت تقاتل الفور والزغاوة تحت اسم "الجنجويد". واعترفت بها رسميا -حسب ما تقول المعارضة في دارفور- كقوات دفاع شعبي يتم معاملتها كقوات نظامية، كما استفادت من الوجود المسلح لبعض العناصر الأجنبية التي دخلت السودان عبر الحدود مع ليبيا ووصلت إلى مناطق وادي صالح بغرب دارفور وأغلبها من العناصر العربية التي كانت تستهدف تشاد في الأساس.
وتكاتفت القبائل العربية بشمال وغرب دارفور بعد أن وفرت لها الحكومة السلاح والأموال -حسب مصادر المعارضة - وظهر ما يعرف بمليشيات الجنجويد والتي تحولت من مجموعة صغيرة كانت تحارب في مناطق جبل مرة للاستحواذ على نفوذ محلي إلى مليشيات منظمة ومدربة تحت سيطرة الجيش السوداني تملك أسلحة حديثة، وانتشرت في كل مناطق الإقليم الشمالي والغربي.
وقد تحولت مليشيات الجنجويد من أداة لقتال المتمردين إلى أداة هدم ضد المواطنين العزل واستغلت الأوضاع لصالحها وقد ترتب على عملياتها الوضع المأساوي الذي تعيشه دارفور حاليًا والتي لم تعرفه عبر تاريخها الطويل حيث لأول مرة يهاجر السودانيون إلى تشاد بدلًا من استقبال السودان للاجئين التشاديين كما هو معروف عادة.
وقد مارس المتمردون أيضًا عمليات البطش والتعذيب ضد المواطنين المعارضين لهم من هذه القبائل الأفريقية وشكل المتمردون محاكم إجازية لمحاكمة المواطنين وفرضوا ضرائب وإتاوات عليهم واختطفوا زعماء القبائل وموظفين حكوميين وسيارات المواطنين وبذلك أصبح مواطنو الفري في دارفور هدفًا لعمليات الجنجويد والمتمردين معًا.
وعلى الرغم من محاولات الحكومة إنكار علاقاتها بالجنجويد إلا أن كل القرائن - حسب أوساط المعارضة - تدل على وجود هذه العلاقة والتنسيق بل إن الجنجويد في نظر مواطني دارفور الوليد الشرعي لحكومة الإنقاذ والتي استفادت من حرب قبلية بسيطة كان يمكن حلها إلى إنشاء كيان عسكري أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي لسكان دارفور، ورغم أن الجنجويد يتكون في الغالب من القبائل العربية إلا أن القبائل العربية الكبرى بجنوب دارفور مثل الرزيقات والبنى هلبة والهبانية والتعايشة والمعاليا لم تشارك فيها حيث إن أغلب المشاركين من القبائل العربية بشمال وغرب دارفور من رعاة الإبل والذين فقدوا مواشيهم بسبب الجفاف والتصحر، وانضمت إليهم المجموعات المهاجرة من تشاد والتي لها أطماع استيطانية في دارفور بسبب فقدانها أراضيها في تشاد.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الصراع في دارفور وعمليات الجنجويد صراعًا بين الرعاة والمزارعين بسبب شح الموارد الطبيعية لعامل الجفاف والتصحر لأن هذه العمليات وإن كانت تتم برعاية الحكومة إلا أن لها أهدافًا خفية تتمثل في طرد القبائل الأفريقية المستقرة من أراضيها وسلبها مواشيها وممتلكاتها ورغم إصرار الحكومة على نفى ذلك إلا أن الدلائل تدحض ذلك حيث إنه يصعب تصنيف القبائل طبقًا لادعاءات الحكومة من حيث الرعاة والمزارعون.
وأصبحت دارفور بسبب التمرد وعمليات الجنجويد منطقة طاردة للسكان وقد تركت هذه العمليات أوضاعًا سلبية على الوضع الاقتصادي وهجر المواطنون المدن ومن أشهرها مدينة مليط التجارية الحدودية مع ليبيا والتي أصبحت تعاني أوضاعًا مأساوية بسبب إغلاق الطريق البري فهاجر أغلب سكانها للخرطوم وجنوب دارفور.
وهناك اتهامات موجهة ضد الحكومة بعدم الجدية في القضايا المتعلقة بالمنطقة خاصة وأنها لم تنفذ في السابق مقررات وتوصيات أكثر من 15 مؤتمرًا أمنيًا وقبليًا ناقشت وأوصت بمعالجة قضايا دارفور. ويرى البعض أن تكليف الشرطة للقيام بمهام نزع أسلحة الجنجويد محاولة للتهرب من الواقع باعتبار الشرطة كانت قد فشلت في السابق في التعامل مع قضية النهب المسلح فكيف لها أن تتعامل مع مليشيات عسكرية مدربة تملك سلاحًا أقوى من سلاحها؟
وتقليديًا يعد إقليم دارفور مواليًا لحزب الأمة وذلك لانتماء الغالبية من أهله لطائفة الأنصار التي تقودها أسرة المهدي. وقد كان الإقليم يمثل منطقة مغلقة لنفوذ ذلك الحزب حتى الآن رغم محاولات اختراقه من القوى الحديثة المحلية والأحزاب العقائدية خاصة الجبهة الإسلامية القومية التي ركزت في دعايتها على إهمال الحكومات المركزية وقيادة حزب الأمة لقضايا تطوير الإقليم ونجحت الحركة الإسلامية في تحقيق اختراقات واضحة خاصة وسط الشباب والمتعلمين من خريجي الجامعات حيث يلاحظ أن أغلب رؤساء الاتحادات الطلابية بالجامعات على مدى السنوات من دارفور ولكن انشقاق الحركة الإسلامية السودانية إلى فريقين بقيادة الدكتور حسن الترابي والفريق عمر البشير أثر تأثيرًا كبيرًا على أبناء دارفور حيث انضم أغلبهم إلى الترابي واستغلت الحكومة ذلك واتهمت المتمردين خاصة حركة العدالة والمساواة بأنها موالية للمؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي بعد الانشقاق واتهم الشعبي بدعم المتمردين وحتى أن إعادة اعتقال الدكتور الترابي مؤخرًا جاء في إطار هذه الاتهامات.
ويأتي الدور البارز الذي لعبه جون جارانج وحركته "الحركة الشعبية لتحرير السودان" والذي حارب حكومات الخرطوم المتعاقبة منذ عشرين عامًا في جنوب السودان. وفي مارس من عام 2002م بدأت الحركة الشعبية لتحرير السودان بتدريب 1500 مقاتل شاب من دارفور. وهنالك تقارير موثوق بها تؤكد أن الحركة تزود متمردي دارفور بالدعم اللوجستي. وقد أعلن زعماء التمرد في دارفور - الذين التقوا بجون جارانج وممثلي مؤتمر البيجا وهي حركة تمرد في شرق السودان مدعومة من قبل أريتريا - أنهم يريدون "تغيير النظام في الخرطوم".
من ناحية أخرى تجدر الإشارة إلى أن معظم زعماء التمرد في دارفور على صلة وثيقة مع حسن الترابي - الزعيم الديني الذي انشق عن حكومة البشير قبل أكثر من عامين.
ومنذ العام 2001م والحكومتان الأمريكية والبريطانية تسعيان إلى فرض ما تسمى مفاوضات السلام مع جون جارانج والحركة الشعبية في كينيا على الحكومة السودانية. وقد تم إجبار حكومة البشير على تقديم التنازل تلو الآخر في تلك المفاوضات.
ومن هنا فإن تفعيل تمرد دارفور واجه حكومة الخرطوم باحتمال فتح حرب على جبهتين أو ربما ثلاث.
تحت هذه التهديدات وبعد مشاهدة غزو العراق،وسقوط نظام صدام ، وافق الرئيس البشير على صفقة تمنح جارانج سلطة فعلية ليس على الجنوب فحسب، بل على كل السودان. وقد تم عزل المفاوضين السودانيين الذين رفضوا تلك التنازلات مثل مستشار الرئيس الدكتور غازي صلاح الدين.
بالنسبة للقوى الأنجلوأمريكية، ستؤدي هذه الصفقة إلى إزالة القوميين السودانيين الذين يصرون على تطوير بلدهم وفق رؤيتهم المستقلة، كما ستؤدي إلى اختتام سلسلة تحولات القوى الجيوبوليتيكية في أفريقيا خاصة في منطقة البحيرات وحوض النيل.
ويأمل هؤلاء أن تظهر في السودان دمى حاكمة إلى جانب صنائعهم يويري موسيفيني في أوغندا وبول كاجامي في رواندا وأساياس أفورقي في أريتريا. هؤلاء الزعماء كانوا جميعًا ماركسيين راديكاليين وتحولوا فجأة إلى أتباع متحمسين لأيديولوجية السوق الحرة الأنجلوأمريكية ليعملوا تحت راية صندوق النقد والبنك الدوليين ووفق شروطهما الاقتصادية الهدامة.
إن "تغيير النظام" في الخرطوم سيعطي الأنجلوأمريكيين مدخلًا للسيطرة على المخزونات النفطية الكبيرة للسودان المقدرة حتى الآن بسبعة مليارات برميل. من ناحية أخرى ستتمكن هذه القوى من خلال السيطرة على الخرطوم من استخدام مياه النيل لابتزاز مصر.
إن الكارثة الإنسانية في دارفور، مثل تلك التي وقعت في الكونجو، هي بالمقام الأول نتيجة للاستغلال الاقتصادي والجيوبوليتيكي البشع الذي مارسته القوى الغربية وبالذات بريطانيا والولايات المتحدة لدول تلك المنطقة.
بعض اللائمة تقع على الحكومة السودانية التي اعتقدت أنها بتقديمها التنازلات للولايات المتحدة وبريطانيا في المفاوضات مع جارانج حول الجنوب ستكون بمأمن من شرهما.
أسباب الأزمة فى دارفور
1- احتراف معظم أهل دارفور الزراعة والرعى كحرفتين أساسيتين، حيث يتحرك معظم المواطنين بحيواناتهم فى أراض واسعة يتراوح مناخها من السافانا الغنية إلى المناخ الصحراوى، وتبعًا لذلك تختلف درجات الغطاء النباتى، وتتوفر المياه باختلاف فصول السنة مما يتحتم معه حركة الرعاة فى المنطقة طلبًا للكلأ والماء، الأمر الذى يسبب احتكاكات ونزاعات بين القبائل التى تعتمد فى معيشتها على الـزراعة وتلك التى ترعى الماشية والأغنام والجمال، لكن سرعان ما يتم احتواء هذه الاحتكاكات أو الاشتباكات بواسطة أعيان القبائل المختلفة. وكنتاج طبيعى للظروف الطبيعية التى اجتاحت المنطقة فى الأعوام السابقة مثل الجفاف والتصحر فقد ظهرت خلافات ونزاعات بين القبائل التى تمارس الزراعة وتلك التى تحترف الرعى.. وقد كان من الإفرازات السلبية لهذه الظاهرة أن لجأ الأفراد ضعيفو النفوس إلى تكوين عصابات لنهب وترويع المواطنين الأبرياء، وهو ما يعرف بعصابات النهب المسلح التى اتخذت من هذا العمل الإجرامى الذى ينتهك القانون وسيلة لدعم وتمويل النشاط العسكرى للمجموعات المتمردة، فضلًا عمن يقومون بارتكاب مثل هذه الجرائم لمكاسب شخصية. لذلك استوجب هذا الوضع أن تضطلع الحكومة بمسئولياتها وواجباتها فى الحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين الأبرياء، كما قامت الدولة بتشكيل محاكم خاصة لضمان سرعة البت فى تلك الجرائم نظرًا لما لها من مخاطر قد تفضى إلى فتنة وحرب أهلية.
2- أدت الانفراطات الأمنية، والأحداث السياسية فى بعض الدول المجاورة لإقليم دارفور عبر التاريخ إلى نزوح عدد كبير من قبائل تلك البلدان، خاصة تشاد وأفريقيا الوسطى إلى إقليم دارفور، وقد استقرت أغلب تلك القبائل بأرض الإقليم، ساعد فى ذلك التداخل الأسرى واللغوى والتاريخ المشترك للمنطقة التى كانت مملكة واحدة فيما يسمى بالسودان القديم والذى يمتد من السنغال وغامبيا على المحيط الأطلسى إلى أثيوبيا فى أقصى شرق القارة الأفريقية.
3- ومن إفرازات النزاعات التشادية الداخلية منذ أوائل السبعينيات، فضلًا عن القتال الذى استمر فى جنوب السودان لعقدين من الزمان انتشار الأسلحة بمختلف أنواعها وتكديسها لدى المواطنين فى بيئة يصعب على الدولة والوجود الحكومى تعقبها، وقد تفاقمت هذه المشكلة فى الفترة الأخيرة عندما برز استخدام الأسلحة المتطورة بواسطة عصابات النهب المسلح التى أضحت تقلق مضاجع المواطنين، الأمر الذى استوجب قيام الدولة بواجبها ومسئوليتها فى بسط هيبتها بتدعيم الأمن وتعقب الجناة وتقديمهم للقضاء العادل.
4- على صعيد آخر شهد إقليم دارفور الكبرى استقطابًا حادًا فى مختلف عهود الأنظمة الديمقراطية حيث مارست مختلف الأحزاب السياسية، وبخاصة الحزبين الكبيرين، استقطابًا لأغراض حزبية اتسم بالطابع القبلى، ومساندة قبيلة على حساب قبيلة أخرى، الأمر الذى عرّض تماسك النسيج الاجتماعى فى الإقليم إلى الضعف، وأوجد مناخًا من عدم الثقة فيما بين قبائل الإقليم.
5- منذ بداية نشاط الحركة الشعبية فى جنوب السودان، سعت الحركة إلى إيجاد موطئ قدم لها فى الإقليم عن طريق تجنيد بعض أفراد القبائل، وتسليحهم.
6- على صعيد آخر، تعرضت دارفور الكبرى، وشمال الإقليم بوجه خاص إلى موجة الجفاف المشهورة فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى والتى امتدت لأكثر من عقد من الزمان، ونجم عنها مجاعة فى أكثر من موقع فى الإقليم، وأدت إلى حراك سكانى هائل من شمال الإقليم إلى جنوبه الذى يتمتع بموارد طبيعية أفضل بكثير من تلك التى تتوفر فى إقليم الشمال. وكان من الإفرازات السالبة لهذا الحراك السكانى قيام تنظيمات مسلحة متباينة الأهداف، منها ما هدف للدفاع عن القبيلة ومصالحها والحفاظ على ممتلكاتها رعيًا كان أم زراعة، ومنها من وجد فى عدم الاستقرار مناخًا ملائمًا لتأسيس تنظيمات للنهب المسلح خدمة لمصالح ذاتية وفردية. وقد انتظمت هذه الجماعات المسلحة فى مجموعات معارضة كحركة تحرير السودان (قطاع دارفور) وحركة العدل والمساواة، وتسببت فى إفشال مساعى الدولة السلمية لمعالجة الأوضاع، ولجأت إلى حمل السلاح وتأجيج الصراعات وترويع المواطنين وتعريض حياتهم وممتلكاتهم للخطر وممارسة أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان.
7- الفشل السياسي السوداني في إقامة الدولة الوطنية وإنجاز التنمية المتسامية والعادلة على مستوى القطر، فالسودان منذ الاستقلال ورث الدولة الكولونيالية بحدودها الإدارية واقتصادها وطريقة الحكم دون أن يحولها إلى دولة وطنية حديثة تحقق الاندماج القومي أو الوحدة في التنوع الثقافي بحيث يمكن الثقافات المختلفة التي يضمها السودان من أن تعيش انتماءً قوميًا يمثل الحد الأدنى القادر على ربط كل هذه الشعوب من خلال الشعور بالمواطنة الواحدة التي تساوي الجميع بغض النظر عن الأديان أو اللهجات أو الثقافات، وأن تكون هذه العوامل مصدر قوة في الانتماء للوطن الواحد وليست أدوات فرقة أو اختلافات وخلافات كما يحدث الآن.
لقد تعاقبت الحكومات الوطنية منذ الاستقلال 1956م ولم تهتم بالإقليم فتركزت التنمية والامتيازات في العاصمة وفي المنطقة النيلية الوسطية الشمالية وبعض المدن الكبرى نسبيًا. وكان هذا الوضع يبدو وكأنه التطور الطبيعي لكل دول العالم الثالث ولكن مع ازدياد التهميش والفقر ومع بروز فئات متعلمة وواعية في تلك المناطق، صار من الصعب اعتبار أن الأمر الواقع هو أفضل الممكن أو كما يقال ليس في الإمكان أحسن مما كان. أهملت الحكومات الوطنية قضية التنمية باستمرار فقد كانت برامجها شبه خالية من التنمية لذلك لم تقم مشروعات أثناء توليها الحكم وللمفارقة أن بعض المشروعات التي أقيمت في تلك المناطق قامت بها نظم عسكرية. وبدا وكأن التنمية والديمقراطية لا يلتقيان، وهذه مشكلة سياسية وفكرية تواجه السودانيين حتى الآن: كيف يمكن أن تجمع أحزابهم وقواهم السياسية بين استدامة الديمقراطية وبناء وتنمية شاملة عادلة؟!
يؤكد الدكتور حيدر إبراهيم - مدير مركز الدراسات السودانية - أن مشكلة دارفور هي جزء من مشكلة الفشل السياسي السوداني في إقامة الدولة الوطنية وإنجاز التنمية المتسامية والعادلة على مستوى القطر فهي مشكلة تنموية وسياسية أي حرمان مواطني تلك المناطق من المشاركة الفعلية في السلطة والثروة.
8- بقاء منطقة دارفور سلطنة مستقلة حتى 1916م أي أكثر من سبعة عشر عامًا من الحكم الثنائي على السودان. لذلك لدى الدارفوريين شعور بالاستقلال لأنهم أقرب إلى السودان الغربي الكبير منه إلى السودان النيلي الشرقي. فهي بعيدة جغرافيًا وسياسيًا عن العاصمة وفي فترات الحكم المركزي يكون ارتباطها بالخرطوم شكليًا, فالعاصمة لا تقدم خدمات والإقليم لا يرى ما يستوجب الولاء وهذا ما أضعف الانتماء القومي وسوف يعيد للحياة الانتماءات القبلية ويعمق الفوارق الإثنية وعندما حاول نظام النميري (69-1985م) تطبيق النظام اللامركزي تسبب في إحياء التنافس القبلي والعشائري حول المناصب والسلطة السياسية. وتفاقمت الأوضاع خلال الحكم الحالي مع زيادة تفويض الأقاليم في حكم ذاتها مما أشعل الصراع الداخلي وكانت الحكومة تحاول أن تخفي وجود مشكلات سياسية وحين بدأت بعض المجموعات تخرج عن سلطة الدولة كانت تسمى عصابات النهب المسلح ولم تحاول الحكومة البحث عن مسببات الخروج.
9- العامل المحلي الذي ساهم بقوة في تأجيج نيران الفتنة هو استغلال مجموعة من السياسيين للظروف التي أوجدها الصراع المسلح، فحاولوا أن يديروا صراعهم مع الحكومة بدماء الأبرياء والمخدوعين في دارفور، فأضفوا على المشكلة مسحة سياسية مطلبية وظلوا يطوفون بعواصم الغرب - خاصة لندن - ويعقدون المؤتمرات الصحفية ويصرحون لأجهزة الإعلام باعتبارهم ممثلين لأهل دارفور، بينما هدفهم الأول هو السماح لهم بنصيب في كعكة السلطة واقتطاع جزء لهم من موارد الثروة، وفي سبيل تحقيق هذه الغايات أطلقوا شرور العنصرية من عقالها فأفسدوا لوحة التعايش السلمي بين القبائل في الإقليم والتي دامت لعقود طويلة.
10- الولايات المتحدة التي ورثت بريطانيا في المنطقة، تستخدم المبدأ الاستعماري نفسه: (فرق تسد) ولكن بأساليب جديدة وأدوات مستحدثة. وهي اللاعب الرئيس في الساحة السودانية الآن ساعدها في ذلك ضعف وهشاشة القوى السياسية السودانية، وامتلاك الكثير من مقاليد الأمور في دول الجوار السوداني. وهي تعمل بحماس شديد هذه الأيام لتسوية مشكلة جنوب السودان بما يضمن لها أكبر قدر من النفوذ والمصالح في السودان، وقبل عامين رتبت لوقف إطلاق النار في جبال النوبة وتواجدت عسكريًا في تلك البقعة لتنطلق منها إلى شمال السودان بعد أن ضمنت جنوبه، وفي هذا السياق ليس مستغربًا أن يلمح مسئول بوزارة الخارجية الأمريكية إلى إمكانية حل مشاكل دارفور بنفس الطريقة التي عولجت بها مشكلة الجنوب في إشارة إلى مبدأ تقرير المصير وهو ما بدأ يردده متمردو دارفور مؤخرًا مع مطالب تقسيم الثروة والسلطة. ومن هنا ندرك أن السكين الأمريكي لن يتوقف عند حد انفصال الجنوب - الذي بدت ملامحه واضحة الآن - وإنما سيطال تقطيع أجزاء السودان الباقية. فقضايا دارفور وجبال النوبة والإنقسنا والبجا وغيرها مما اصطلحوا على تسميتها بالمناطق المهمشة تظل روافد تغذي الرغبة الأمريكية لتقسيم السودان وتطويعه.
وهناك وضع قبلي مختلف ومعقد في دارفور، حيث إنها تقع في منطقة جغرافية تعرف بالحزام السوداني يمتد من البحرالأحمر شرقًا إلى المحيط غربًا وتكاد تكون الثقافة العربية متجانسة فيه، وإقليم دارفور هو جزء من هذا الحزام العربي الإسلامي يشمل لاهومي ومالي وموريتانيا وجنوب الجزائر والمغرب حتى ان هناك تشابهًا في السحنات واللبس والغناء –فهذه المنطقة يرتبط تاريخها بالاسلام والعروبة، وليس هناك صراع مسلمين وغير مسلمين-الخلفية واحدة، والدين واحد ولا صراع ثقافي كل الذي يحدث نتيجة صراع الإنسان مع الطبيعة.
من المسؤول؟:
بعد المسافة بين دارفور والخرطوم وضعف البنية التحتية،تسبب في وقوع تهميش غير مقصود، حيث لا توجد سياسة محددة تتبعها الحكومة السودانية او الحكومات السابقة.
والأزمات التي مر بها السودان بعض منها قد نكون مسؤولين عنه، ونحن لا نعفي أنفسنا تمامًا ولكن بسبب تهميش بعض المناطق نتيجة لانشغال الحكومة بالصراعات الجانبية بالاضافة إلى الظروف الطبيعية التي عانى منها السودان. فمنذ استقلال السودان عام 1956م بدأت مشكلة الجنوب واستنزاف الموارد والبشر والقوات المسلحة،وفترة زمنية طويلة كان يمكن ان تستغل وان يستفاد منها في استخراج الثروات التي يمتاز بها السودان.واليوم توجد فرصة لدى السودان للاستفادة من موارده الطبيعية، من استخراج النفط، والاستفادة من موارد المياه والاراضي الزراعية التي تصل 80% من مساحة السودان، فنحن على أعتاب طفرة تنموية كبيرة في السودان.
وبدأت الأزمة في التفاقم خاصة بعد انهيار ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي سابقًا في أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي، حيث بدأ عصر الأمركة الجديد ليعيد النظر في كثير من الأوضاع السابقة، وفي مقدمة هذه المراجعات حظي العالم الإسلامي بالنصيب الأوفر من الاستهداف الأمريكي على كافة الأصعدة.
ولما كان السودان يعاني من حرب طاحنة وطويلة في جنوبه، وصراع أحزابه على السلطة في الشمال، فقد مثَل نموذجًا تجرى عليه تجارب التدخل الأمريكي التي بدأت بمحاولات العزل والإسقاط للنظام الحاكم وانتهت إلى قناعات احتوائه وترويضه.
والإشارة للدور الأمريكي لا تعني تجاهل الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية الأخرى الضالعة في ما يجري في السودان عامة وما يجري في دارفور على وجه أخص.
ظل إقليم دارفور الذي يسلط عليه الأضواء حاليًا على مدى ثلاثة عقود يعيش أوضاعًا مضطربة ولم يعرف الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بسبب ظواهر طبيعية وأمنية وسياسية، فقد عانت المنطقة من فترات جفاف وتصحر قادت إلى ثلاث مجاعات كبيرة عام 1973م وعام 1985م وعام 1992م.
ومشكلة دارفور أو الأزمة الإنسانية التي تبارت الدول والمنظمات على إظهارها خلال الفترة الأخيرة باعتبارها أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم خلال الفترة الأخيرة لم تكن وليدة اليوم ولم تكن أيضًا وليدة الأحداث الطارئة في السنوات الأخيرة وإنما هي حصيلة لنزاعات وتراكمات ورواسب ساهمت فيها الأوضاع السياسية والنخب الحاكمة في السودان منذ الاستقلال.
وظلت هذه الأزمة مكتومة ولم تسلط عليها الأضواء رغم تحذير بعض المراقبين من أن هناك نارًا تحت الرماد قد تشتعل في أي لحظة.
وقد تطورت الصراعات القبلية في دارفور بتحالف بعض القبائل العربية ضد الفور في مناطق جبل مرة ووادي صالح بعد الانفلات الأمنى عام 1986م حيث انتظمت هذه القبائل فيما سمى ب (التجمع العربي) والذي أنشئ في بداية الثمانييات عندما كان أحمد إبراهيم دريج وهو من الفور يتولى منصب حاكم الإقليم ليكون كيانًا سياسيًا سريًا هدفه السيطرة على جميع أراضى دارفور وطرد جميع القبائل غير العربية من المنطقة، ونتج عن هذا الكيان تنظيم سرى آخر عرف بتنظيم (قريش) وهدفه تجميع القبائل العربية بدارفور وكردفان وفق برنامج ممرحل لحكم السودان ومنافسة قبائل الشمال التي استأثرت بالحكم منذ الاستقلال.
وفى مواجهة التجمع العربي والذي كان يجد الدعم من السلطات الرسمية في الخرطوم إبان حكومة الصادق المهدي حاول الفور إحياء حركة "سونى" التي تأسست كمنظمة عسكرية سرية عام 1965م وكذراع لنهضة دارفور التي كانت تضم جميع مثقفي المنطقة بالخرطوم بيد أن الفور فشلوا في إحياء التنظيم بسبب عدم خبرتهم العسكرية وتضييق القبائل العربية والحكومة لهم.
وقد ساعدت سياسات الحكومة المركزية في الخرطوم والتي ظلت تنظر إلى دارفور بأنها منطقة مرشحة للتمرد بعد ثورة داود بولاد القيادي في الجبهة الإسلامية القومية والذي انضم للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في بداية التسعينيات بسبب موقف قادة الجبهة من الصراع القبلي بين قبيلته الفور وبعض المجموعات العربية. وقاد مجموعة من مقاتلي الحركة في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1991م بهدف السيطرة على منطقة جبل مرة لإعلان انضمام الفور للتمرد. إلا أن الحكومة استنفرت جميع القبائل وخاصة العربية التي استطاعت القضاء على قواته وألقي القبض عليه وأعدم رميًا بالرصاص.
وبعد مقتل بولاد بدأ الفور في وضع الترتيبات اللازمة لإنشاء كيان عسكري بدلًا من الميليشيات غير المنظمة وأجروا اتصالات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق كما أجروا اتصالات مع قياداتهم السياسية في الخارج وعلى رأسهم أحمد إبراهيم دريج حاكم إقليم دارفور السابق ورئيس الحزب الفيدرالي.
ويرى العديد من أبناء دارفور أن الشرارة لهذا النزاع الأخير قد انطلقت عام 1986م في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي حينما تجمعت بعض القبائل العربية تحت مسمى التجمع العربي بدعم من حزب الأمة في مواجهة قبيلة الفور التي يدعمها الحزب الاتحادي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحكومي.
وقد ظهر هذا الصراع في الحرب الأهلية بين الفور وبعض القبائل العربية في مناطق جبل مرة وجنوب وغرب دارفور والتي راح ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن وبلغت خسائرها أكثر من 20 مليون دولار. وقد استطاعت حكومة الإنقاذ إجبار الطرفين للتوصل إلى اتفاقية صلح قبلي هش في أيامها الأولي إلا أن الصراعات القبلية تواصلت بعد عام 1993م في مختلف مناطق دارفور الشمالية والغربية بين القبائل العربية والأفريقية خاصة قبائل الفور والمساليت والزغاوة.
ولعبت العوامل السياسية دورًا مهمًا في إذكاء هذه الصراعات التي كانت في الأساس صراعًا حول المرعى والماء وساهمت الحكومة المركزية في تأجيجها بعد تطبيق سياسة تقسيم الولايات بإنشاء إدارات أهلية جديدة للقبائل الرعوية في أراضى القبائل المستقرة علمًا بأن أغلب هذه القبائل وافدة من تشاد وألغت الحكومة بمقتضى ذلك الإدارات الأهلية القديمة.
ونتيجة لذلك اندلع الصراع المسلح بين قبيلة المساليت الأفريقية وبعض القبائل العربية، وشهدت المنطقة نتيجة لهذه التحولات إحراقًا للقرى وتشريدًا للمواطنين.
بيد أن الصراع لم يتطور إلى صراع سياسي عسكري وتمرد مسلح إلا بعد قيام مجموعة مسلحة من أبناء الفور الذين تحالفوا مع الزغاوة باحتلال مدينة قولو عاصمة محافظة جبل مرة بغرب دارفور في 19 يوليو/ تموز 2002م حيث تم لأول مرة إعلان الحركة المسلحة وتوزيع منشورات سياسية باسم جيش تحرير دارفور وحدد أهداف الحركة الجديدة في تحرير الإقليم من سيطرة الشماليين بحجة مساهمتهم في تردي الخدمات وتهميش المنطقة.
وفي عام 2003م تحولت دارفور إلى منطقة عمليات عسكرية تمامًا لمواجهة التحالف الجديد خاصة وأن الحكومة بدأت في التنبه لخطورة الادعاءات التي بدأت تنتشر من أن مسلحي الزغاوة يسعون لإقامة "دولة الزغاوة الكبرى" والتي تضم دارفور وتشاد وأجزاء من ليبيا والنيجر.
وقد استفاد التجمع العربي من هذا الادعاء في التقرب من الحكومة والتنسيق معها لمواجهة التهديد الأمنى الجديد وقد تزامن ذلك مع انضمام أعداد كبيرة من أبناء الزغاوة من الإسلاميين إلى حركة العدالة والمساواة والتي أسسها القيادي الإسلامي السابق الدكتور خليل إبراهيم ، وإلى الحركة المسلحة والتي غيرت اسمها إلى "جيش تحرير السودان" .
وأصبح للحركتين قوات منظمة حيث تملك الحركة الشعبية أكثر من 16 ألف جندي فيما تملك حركة العدالة حوالي 9 آلاف كما أصبح لهما برنامج وخطاب سياسي يطالب بتحقيق المساواة في السلطة والثروة لجميع أبناء المناطق المهمشة في السودان.
وفي فبراير 2003م شنت حركتا التمرد في غرب السودان "جيش تحريرالسودان" و"حركة العدل والمساواة" تمردًا مسلحًا ضد حكومة الخرطوم. وكان التمرد مدعومًا من قبل "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وبالتنسيق معها وقائدها جون جارانج، المدعوم من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا عن طريق أوغندا بشكل رئيسي.
الاستنفار الشعبي والتنسيق بين الحكومة وبعض القبائل العربية بشمال وغرب دارفور والتي لها نفوذ على مستوى الحكومة المركزية بالخرطوم لم يتم بصورة واضحة إلا بعد أحداث الفاشر في أبريل/ نيسان 2003م عندما استطاع المتمردون تدمير 6 طائرات عسكرية في مطار المدينة واختطاف قائد عسكري برتبة لواء.
وأدت هذه الأحداث إلى لفت انتباه العالم والرأي العام المحلي داخل السودان الذي ربما لم يسمع من قبل بالتمرد المسلح. رغم أن المتمردين كانوا قد سيطروا على مناطق جبل مرة وأجزاء واسعة من مناطق الزغاوة في شمال الإقليم على الحدود الشمالية الغربية مع تشاد وليبيا وأدت العملية محليًا إلى عدة نتائج سلبية حيث أوقفت الحكومة المفاوضات التي كان يجريها وإلى شمال دارفور الفريق إبراهيم سليمان لحل القضية سلميًا بالاستجابة للمطالب الشعبية.
وبدأت الحكومة في التعبئة لسحق التمرد عسكريًا واستنفرت القبائل المختلفة لمواجهة تطورات الأحداث والتي كانت تصفها قبل ذلك بعمليات قطاع الطرق والنهب واستفادت من مليشيات القبائل العربية في منطقة جبل مرة والتي كانت تقاتل الفور والزغاوة تحت اسم "الجنجويد". واعترفت بها رسميا -حسب ما تقول المعارضة في دارفور- كقوات دفاع شعبي يتم معاملتها كقوات نظامية، كما استفادت من الوجود المسلح لبعض العناصر الأجنبية التي دخلت السودان عبر الحدود مع ليبيا ووصلت إلى مناطق وادي صالح بغرب دارفور وأغلبها من العناصر العربية التي كانت تستهدف تشاد في الأساس.
وتكاتفت القبائل العربية بشمال وغرب دارفور بعد أن وفرت لها الحكومة السلاح والأموال -حسب مصادر المعارضة - وظهر ما يعرف بمليشيات الجنجويد والتي تحولت من مجموعة صغيرة كانت تحارب في مناطق جبل مرة للاستحواذ على نفوذ محلي إلى مليشيات منظمة ومدربة تحت سيطرة الجيش السوداني تملك أسلحة حديثة، وانتشرت في كل مناطق الإقليم الشمالي والغربي.
وقد تحولت مليشيات الجنجويد من أداة لقتال المتمردين إلى أداة هدم ضد المواطنين العزل واستغلت الأوضاع لصالحها وقد ترتب على عملياتها الوضع المأساوي الذي تعيشه دارفور حاليًا والتي لم تعرفه عبر تاريخها الطويل حيث لأول مرة يهاجر السودانيون إلى تشاد بدلًا من استقبال السودان للاجئين التشاديين كما هو معروف عادة.
وقد مارس المتمردون أيضًا عمليات البطش والتعذيب ضد المواطنين المعارضين لهم من هذه القبائل الأفريقية وشكل المتمردون محاكم إجازية لمحاكمة المواطنين وفرضوا ضرائب وإتاوات عليهم واختطفوا زعماء القبائل وموظفين حكوميين وسيارات المواطنين وبذلك أصبح مواطنو الفري في دارفور هدفًا لعمليات الجنجويد والمتمردين معًا.
وعلى الرغم من محاولات الحكومة إنكار علاقاتها بالجنجويد إلا أن كل القرائن - حسب أوساط المعارضة - تدل على وجود هذه العلاقة والتنسيق بل إن الجنجويد في نظر مواطني دارفور الوليد الشرعي لحكومة الإنقاذ والتي استفادت من حرب قبلية بسيطة كان يمكن حلها إلى إنشاء كيان عسكري أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي لسكان دارفور، ورغم أن الجنجويد يتكون في الغالب من القبائل العربية إلا أن القبائل العربية الكبرى بجنوب دارفور مثل الرزيقات والبنى هلبة والهبانية والتعايشة والمعاليا لم تشارك فيها حيث إن أغلب المشاركين من القبائل العربية بشمال وغرب دارفور من رعاة الإبل والذين فقدوا مواشيهم بسبب الجفاف والتصحر، وانضمت إليهم المجموعات المهاجرة من تشاد والتي لها أطماع استيطانية في دارفور بسبب فقدانها أراضيها في تشاد.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الصراع في دارفور وعمليات الجنجويد صراعًا بين الرعاة والمزارعين بسبب شح الموارد الطبيعية لعامل الجفاف والتصحر لأن هذه العمليات وإن كانت تتم برعاية الحكومة إلا أن لها أهدافًا خفية تتمثل في طرد القبائل الأفريقية المستقرة من أراضيها وسلبها مواشيها وممتلكاتها ورغم إصرار الحكومة على نفى ذلك إلا أن الدلائل تدحض ذلك حيث إنه يصعب تصنيف القبائل طبقًا لادعاءات الحكومة من حيث الرعاة والمزارعون.
وأصبحت دارفور بسبب التمرد وعمليات الجنجويد منطقة طاردة للسكان وقد تركت هذه العمليات أوضاعًا سلبية على الوضع الاقتصادي وهجر المواطنون المدن ومن أشهرها مدينة مليط التجارية الحدودية مع ليبيا والتي أصبحت تعاني أوضاعًا مأساوية بسبب إغلاق الطريق البري فهاجر أغلب سكانها للخرطوم وجنوب دارفور.
وهناك اتهامات موجهة ضد الحكومة بعدم الجدية في القضايا المتعلقة بالمنطقة خاصة وأنها لم تنفذ في السابق مقررات وتوصيات أكثر من 15 مؤتمرًا أمنيًا وقبليًا ناقشت وأوصت بمعالجة قضايا دارفور. ويرى البعض أن تكليف الشرطة للقيام بمهام نزع أسلحة الجنجويد محاولة للتهرب من الواقع باعتبار الشرطة كانت قد فشلت في السابق في التعامل مع قضية النهب المسلح فكيف لها أن تتعامل مع مليشيات عسكرية مدربة تملك سلاحًا أقوى من سلاحها؟
وتقليديًا يعد إقليم دارفور مواليًا لحزب الأمة وذلك لانتماء الغالبية من أهله لطائفة الأنصار التي تقودها أسرة المهدي. وقد كان الإقليم يمثل منطقة مغلقة لنفوذ ذلك الحزب حتى الآن رغم محاولات اختراقه من القوى الحديثة المحلية والأحزاب العقائدية خاصة الجبهة الإسلامية القومية التي ركزت في دعايتها على إهمال الحكومات المركزية وقيادة حزب الأمة لقضايا تطوير الإقليم ونجحت الحركة الإسلامية في تحقيق اختراقات واضحة خاصة وسط الشباب والمتعلمين من خريجي الجامعات حيث يلاحظ أن أغلب رؤساء الاتحادات الطلابية بالجامعات على مدى السنوات من دارفور ولكن انشقاق الحركة الإسلامية السودانية إلى فريقين بقيادة الدكتور حسن الترابي والفريق عمر البشير أثر تأثيرًا كبيرًا على أبناء دارفور حيث انضم أغلبهم إلى الترابي واستغلت الحكومة ذلك واتهمت المتمردين خاصة حركة العدالة والمساواة بأنها موالية للمؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي بعد الانشقاق واتهم الشعبي بدعم المتمردين وحتى أن إعادة اعتقال الدكتور الترابي مؤخرًا جاء في إطار هذه الاتهامات.
ويأتي الدور البارز الذي لعبه جون جارانج وحركته "الحركة الشعبية لتحرير السودان" والذي حارب حكومات الخرطوم المتعاقبة منذ عشرين عامًا في جنوب السودان. وفي مارس من عام 2002م بدأت الحركة الشعبية لتحرير السودان بتدريب 1500 مقاتل شاب من دارفور. وهنالك تقارير موثوق بها تؤكد أن الحركة تزود متمردي دارفور بالدعم اللوجستي. وقد أعلن زعماء التمرد في دارفور - الذين التقوا بجون جارانج وممثلي مؤتمر البيجا وهي حركة تمرد في شرق السودان مدعومة من قبل أريتريا - أنهم يريدون "تغيير النظام في الخرطوم".
من ناحية أخرى تجدر الإشارة إلى أن معظم زعماء التمرد في دارفور على صلة وثيقة مع حسن الترابي - الزعيم الديني الذي انشق عن حكومة البشير قبل أكثر من عامين.
ومنذ العام 2001م والحكومتان الأمريكية والبريطانية تسعيان إلى فرض ما تسمى مفاوضات السلام مع جون جارانج والحركة الشعبية في كينيا على الحكومة السودانية. وقد تم إجبار حكومة البشير على تقديم التنازل تلو الآخر في تلك المفاوضات.
ومن هنا فإن تفعيل تمرد دارفور واجه حكومة الخرطوم باحتمال فتح حرب على جبهتين أو ربما ثلاث.
تحت هذه التهديدات وبعد مشاهدة غزو العراق،وسقوط نظام صدام ، وافق الرئيس البشير على صفقة تمنح جارانج سلطة فعلية ليس على الجنوب فحسب، بل على كل السودان. وقد تم عزل المفاوضين السودانيين الذين رفضوا تلك التنازلات مثل مستشار الرئيس الدكتور غازي صلاح الدين.
بالنسبة للقوى الأنجلوأمريكية، ستؤدي هذه الصفقة إلى إزالة القوميين السودانيين الذين يصرون على تطوير بلدهم وفق رؤيتهم المستقلة، كما ستؤدي إلى اختتام سلسلة تحولات القوى الجيوبوليتيكية في أفريقيا خاصة في منطقة البحيرات وحوض النيل.
ويأمل هؤلاء أن تظهر في السودان دمى حاكمة إلى جانب صنائعهم يويري موسيفيني في أوغندا وبول كاجامي في رواندا وأساياس أفورقي في أريتريا. هؤلاء الزعماء كانوا جميعًا ماركسيين راديكاليين وتحولوا فجأة إلى أتباع متحمسين لأيديولوجية السوق الحرة الأنجلوأمريكية ليعملوا تحت راية صندوق النقد والبنك الدوليين ووفق شروطهما الاقتصادية الهدامة.
إن "تغيير النظام" في الخرطوم سيعطي الأنجلوأمريكيين مدخلًا للسيطرة على المخزونات النفطية الكبيرة للسودان المقدرة حتى الآن بسبعة مليارات برميل. من ناحية أخرى ستتمكن هذه القوى من خلال السيطرة على الخرطوم من استخدام مياه النيل لابتزاز مصر.
إن الكارثة الإنسانية في دارفور، مثل تلك التي وقعت في الكونجو، هي بالمقام الأول نتيجة للاستغلال الاقتصادي والجيوبوليتيكي البشع الذي مارسته القوى الغربية وبالذات بريطانيا والولايات المتحدة لدول تلك المنطقة.
بعض اللائمة تقع على الحكومة السودانية التي اعتقدت أنها بتقديمها التنازلات للولايات المتحدة وبريطانيا في المفاوضات مع جارانج حول الجنوب ستكون بمأمن من شرهما.
أسباب الأزمة فى دارفور
1- احتراف معظم أهل دارفور الزراعة والرعى كحرفتين أساسيتين، حيث يتحرك معظم المواطنين بحيواناتهم فى أراض واسعة يتراوح مناخها من السافانا الغنية إلى المناخ الصحراوى، وتبعًا لذلك تختلف درجات الغطاء النباتى، وتتوفر المياه باختلاف فصول السنة مما يتحتم معه حركة الرعاة فى المنطقة طلبًا للكلأ والماء، الأمر الذى يسبب احتكاكات ونزاعات بين القبائل التى تعتمد فى معيشتها على الـزراعة وتلك التى ترعى الماشية والأغنام والجمال، لكن سرعان ما يتم احتواء هذه الاحتكاكات أو الاشتباكات بواسطة أعيان القبائل المختلفة. وكنتاج طبيعى للظروف الطبيعية التى اجتاحت المنطقة فى الأعوام السابقة مثل الجفاف والتصحر فقد ظهرت خلافات ونزاعات بين القبائل التى تمارس الزراعة وتلك التى تحترف الرعى.. وقد كان من الإفرازات السلبية لهذه الظاهرة أن لجأ الأفراد ضعيفو النفوس إلى تكوين عصابات لنهب وترويع المواطنين الأبرياء، وهو ما يعرف بعصابات النهب المسلح التى اتخذت من هذا العمل الإجرامى الذى ينتهك القانون وسيلة لدعم وتمويل النشاط العسكرى للمجموعات المتمردة، فضلًا عمن يقومون بارتكاب مثل هذه الجرائم لمكاسب شخصية. لذلك استوجب هذا الوضع أن تضطلع الحكومة بمسئولياتها وواجباتها فى الحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين الأبرياء، كما قامت الدولة بتشكيل محاكم خاصة لضمان سرعة البت فى تلك الجرائم نظرًا لما لها من مخاطر قد تفضى إلى فتنة وحرب أهلية.
2- أدت الانفراطات الأمنية، والأحداث السياسية فى بعض الدول المجاورة لإقليم دارفور عبر التاريخ إلى نزوح عدد كبير من قبائل تلك البلدان، خاصة تشاد وأفريقيا الوسطى إلى إقليم دارفور، وقد استقرت أغلب تلك القبائل بأرض الإقليم، ساعد فى ذلك التداخل الأسرى واللغوى والتاريخ المشترك للمنطقة التى كانت مملكة واحدة فيما يسمى بالسودان القديم والذى يمتد من السنغال وغامبيا على المحيط الأطلسى إلى أثيوبيا فى أقصى شرق القارة الأفريقية.
3- ومن إفرازات النزاعات التشادية الداخلية منذ أوائل السبعينيات، فضلًا عن القتال الذى استمر فى جنوب السودان لعقدين من الزمان انتشار الأسلحة بمختلف أنواعها وتكديسها لدى المواطنين فى بيئة يصعب على الدولة والوجود الحكومى تعقبها، وقد تفاقمت هذه المشكلة فى الفترة الأخيرة عندما برز استخدام الأسلحة المتطورة بواسطة عصابات النهب المسلح التى أضحت تقلق مضاجع المواطنين، الأمر الذى استوجب قيام الدولة بواجبها ومسئوليتها فى بسط هيبتها بتدعيم الأمن وتعقب الجناة وتقديمهم للقضاء العادل.
4- على صعيد آخر شهد إقليم دارفور الكبرى استقطابًا حادًا فى مختلف عهود الأنظمة الديمقراطية حيث مارست مختلف الأحزاب السياسية، وبخاصة الحزبين الكبيرين، استقطابًا لأغراض حزبية اتسم بالطابع القبلى، ومساندة قبيلة على حساب قبيلة أخرى، الأمر الذى عرّض تماسك النسيج الاجتماعى فى الإقليم إلى الضعف، وأوجد مناخًا من عدم الثقة فيما بين قبائل الإقليم.
5- منذ بداية نشاط الحركة الشعبية فى جنوب السودان، سعت الحركة إلى إيجاد موطئ قدم لها فى الإقليم عن طريق تجنيد بعض أفراد القبائل، وتسليحهم.
6- على صعيد آخر، تعرضت دارفور الكبرى، وشمال الإقليم بوجه خاص إلى موجة الجفاف المشهورة فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى والتى امتدت لأكثر من عقد من الزمان، ونجم عنها مجاعة فى أكثر من موقع فى الإقليم، وأدت إلى حراك سكانى هائل من شمال الإقليم إلى جنوبه الذى يتمتع بموارد طبيعية أفضل بكثير من تلك التى تتوفر فى إقليم الشمال. وكان من الإفرازات السالبة لهذا الحراك السكانى قيام تنظيمات مسلحة متباينة الأهداف، منها ما هدف للدفاع عن القبيلة ومصالحها والحفاظ على ممتلكاتها رعيًا كان أم زراعة، ومنها من وجد فى عدم الاستقرار مناخًا ملائمًا لتأسيس تنظيمات للنهب المسلح خدمة لمصالح ذاتية وفردية. وقد انتظمت هذه الجماعات المسلحة فى مجموعات معارضة كحركة تحرير السودان (قطاع دارفور) وحركة العدل والمساواة، وتسببت فى إفشال مساعى الدولة السلمية لمعالجة الأوضاع، ولجأت إلى حمل السلاح وتأجيج الصراعات وترويع المواطنين وتعريض حياتهم وممتلكاتهم للخطر وممارسة أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان.
7- الفشل السياسي السوداني في إقامة الدولة الوطنية وإنجاز التنمية المتسامية والعادلة على مستوى القطر، فالسودان منذ الاستقلال ورث الدولة الكولونيالية بحدودها الإدارية واقتصادها وطريقة الحكم دون أن يحولها إلى دولة وطنية حديثة تحقق الاندماج القومي أو الوحدة في التنوع الثقافي بحيث يمكن الثقافات المختلفة التي يضمها السودان من أن تعيش انتماءً قوميًا يمثل الحد الأدنى القادر على ربط كل هذه الشعوب من خلال الشعور بالمواطنة الواحدة التي تساوي الجميع بغض النظر عن الأديان أو اللهجات أو الثقافات، وأن تكون هذه العوامل مصدر قوة في الانتماء للوطن الواحد وليست أدوات فرقة أو اختلافات وخلافات كما يحدث الآن.
لقد تعاقبت الحكومات الوطنية منذ الاستقلال 1956م ولم تهتم بالإقليم فتركزت التنمية والامتيازات في العاصمة وفي المنطقة النيلية الوسطية الشمالية وبعض المدن الكبرى نسبيًا. وكان هذا الوضع يبدو وكأنه التطور الطبيعي لكل دول العالم الثالث ولكن مع ازدياد التهميش والفقر ومع بروز فئات متعلمة وواعية في تلك المناطق، صار من الصعب اعتبار أن الأمر الواقع هو أفضل الممكن أو كما يقال ليس في الإمكان أحسن مما كان. أهملت الحكومات الوطنية قضية التنمية باستمرار فقد كانت برامجها شبه خالية من التنمية لذلك لم تقم مشروعات أثناء توليها الحكم وللمفارقة أن بعض المشروعات التي أقيمت في تلك المناطق قامت بها نظم عسكرية. وبدا وكأن التنمية والديمقراطية لا يلتقيان، وهذه مشكلة سياسية وفكرية تواجه السودانيين حتى الآن: كيف يمكن أن تجمع أحزابهم وقواهم السياسية بين استدامة الديمقراطية وبناء وتنمية شاملة عادلة؟!
يؤكد الدكتور حيدر إبراهيم - مدير مركز الدراسات السودانية - أن مشكلة دارفور هي جزء من مشكلة الفشل السياسي السوداني في إقامة الدولة الوطنية وإنجاز التنمية المتسامية والعادلة على مستوى القطر فهي مشكلة تنموية وسياسية أي حرمان مواطني تلك المناطق من المشاركة الفعلية في السلطة والثروة.
8- بقاء منطقة دارفور سلطنة مستقلة حتى 1916م أي أكثر من سبعة عشر عامًا من الحكم الثنائي على السودان. لذلك لدى الدارفوريين شعور بالاستقلال لأنهم أقرب إلى السودان الغربي الكبير منه إلى السودان النيلي الشرقي. فهي بعيدة جغرافيًا وسياسيًا عن العاصمة وفي فترات الحكم المركزي يكون ارتباطها بالخرطوم شكليًا, فالعاصمة لا تقدم خدمات والإقليم لا يرى ما يستوجب الولاء وهذا ما أضعف الانتماء القومي وسوف يعيد للحياة الانتماءات القبلية ويعمق الفوارق الإثنية وعندما حاول نظام النميري (69-1985م) تطبيق النظام اللامركزي تسبب في إحياء التنافس القبلي والعشائري حول المناصب والسلطة السياسية. وتفاقمت الأوضاع خلال الحكم الحالي مع زيادة تفويض الأقاليم في حكم ذاتها مما أشعل الصراع الداخلي وكانت الحكومة تحاول أن تخفي وجود مشكلات سياسية وحين بدأت بعض المجموعات تخرج عن سلطة الدولة كانت تسمى عصابات النهب المسلح ولم تحاول الحكومة البحث عن مسببات الخروج.
9- العامل المحلي الذي ساهم بقوة في تأجيج نيران الفتنة هو استغلال مجموعة من السياسيين للظروف التي أوجدها الصراع المسلح، فحاولوا أن يديروا صراعهم مع الحكومة بدماء الأبرياء والمخدوعين في دارفور، فأضفوا على المشكلة مسحة سياسية مطلبية وظلوا يطوفون بعواصم الغرب - خاصة لندن - ويعقدون المؤتمرات الصحفية ويصرحون لأجهزة الإعلام باعتبارهم ممثلين لأهل دارفور، بينما هدفهم الأول هو السماح لهم بنصيب في كعكة السلطة واقتطاع جزء لهم من موارد الثروة، وفي سبيل تحقيق هذه الغايات أطلقوا شرور العنصرية من عقالها فأفسدوا لوحة التعايش السلمي بين القبائل في الإقليم والتي دامت لعقود طويلة.
10- الولايات المتحدة التي ورثت بريطانيا في المنطقة، تستخدم المبدأ الاستعماري نفسه: (فرق تسد) ولكن بأساليب جديدة وأدوات مستحدثة. وهي اللاعب الرئيس في الساحة السودانية الآن ساعدها في ذلك ضعف وهشاشة القوى السياسية السودانية، وامتلاك الكثير من مقاليد الأمور في دول الجوار السوداني. وهي تعمل بحماس شديد هذه الأيام لتسوية مشكلة جنوب السودان بما يضمن لها أكبر قدر من النفوذ والمصالح في السودان، وقبل عامين رتبت لوقف إطلاق النار في جبال النوبة وتواجدت عسكريًا في تلك البقعة لتنطلق منها إلى شمال السودان بعد أن ضمنت جنوبه، وفي هذا السياق ليس مستغربًا أن يلمح مسئول بوزارة الخارجية الأمريكية إلى إمكانية حل مشاكل دارفور بنفس الطريقة التي عولجت بها مشكلة الجنوب في إشارة إلى مبدأ تقرير المصير وهو ما بدأ يردده متمردو دارفور مؤخرًا مع مطالب تقسيم الثروة والسلطة. ومن هنا ندرك أن السكين الأمريكي لن يتوقف عند حد انفصال الجنوب - الذي بدت ملامحه واضحة الآن - وإنما سيطال تقطيع أجزاء السودان الباقية. فقضايا دارفور وجبال النوبة والإنقسنا والبجا وغيرها مما اصطلحوا على تسميتها بالمناطق المهمشة تظل روافد تغذي الرغبة الأمريكية لتقسيم السودان وتطويعه.