By محمد فهد القحطاني 6 - الاثنين ديسمبر 02, 2013 1:45 pm
- الاثنين ديسمبر 02, 2013 1:45 pm
#67141
فوز حركة النهضة الإسلامية بـ ٤١ بالمئة من مقاعد الجمعية التأسيسة التونسية الشهر الماضي أثار جدلا واسعا حول صعود الإسلام السياسي في الواقع العربي، وانطلقت أصوات كثيرة في الإعلام الغربي تخذر من أن الربيع العربي سينتهي إلى شتاء إسلامي، ومن أن الإسلاميين الذين يمتطون الديمقراطية سرعان ما سينقلبوا عليها ويؤسسوا لإماراتهم الإسلامية ذات الصورة النمطية المنغرسة في الوعي الغربي منذ الحادي عشر من سبتمبر
حركة النهضة التونسية التي فازت بالانتخابات البرلمانية التونسية لن تكون استثناء في الواقع العربي، فقد حصل حزب العدالة والتنمية على المرتبة الأولى في الانتخابات المغربية، ومن المتوقع أن يتقدم الإسلاميون في الانتخابات التشريعية الاسبوع القادم في مصر ، وإذا أجريت انتخابات حرة ونزيهة في اليمن حال سقوط نظام الرئيس علي عبد الله صالح فمن المتوقع أن يفوز التجمع اليمني للإصلاح ذو الخلفية الإسلامية، وهو نمط سنراه يتكرر في الواقع العربي كلما أتيح للعملية الديمقراطية أن تأخذ مجراها.
الضجيج الذي رافق فوز الإسلاميين في الانتخابات التونسية ينبغي أن لا يحجب عنا القراءة الهادئة والمعمقة لصعود الإسلام السياسي ، والفرص الجديدة التي تحملها مشاركة الإسلاميين في الحكم، بعد عقود من الدكتاتورية والتسلط والفساد الذي طبع الأنظمة العربية، ووضعها في مواجهة الغضب الشعبي العربي خلال ما يعرف بالربيع العربي.
هناك عدد من الإشكاليات التي لمستها مؤخرا في تناول موضوع الإسلام السياسي في الإعلام الغربي وفي الحديث مع دوائر الفعل السياسي والفكري الغربية حيال ظاهرة الإسلام السياسي،
الإشكالية الأولى تبدأ من التعامل مع المصطلح ذاته، فلفظ (إسلامي) في الذهنية الغربية سلبي من حيث المبدأ، ويعود ذلك إلى الاختزال والسطحية الإعلامية التي واكبت الحديث عن الواقع الإسلامي خلال العقد الفائت، بالإضافة إلى النظرة الانفعالية التي رافقت ما سمي بالحرب على الإرهاب، نظرة لم تتمكن من رصد الفوارق الهائلة بين أطياف الحركات والتيارات التي تنتمي إلى فهم معين للإسلام، فالسلفية الجهادية وعلى رأسها تنظيم القاعدة لا تؤمن بالعمل السياسي، ولم يتردد أيمن الظواهري في انتقاد حركة حماس عندما قررت المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، كما انتقد مرارا جماعة الإخوان المسلمين ومنهجها الرافض لاستخدام العنف في تغيير الواقع السياسي، وفي المقابل التزمت الحركات الإسلامية المنتمية عموما إلى الفكر الإصلاحي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، بالنضال السلمي من داخل اللعبة السياسية، لا سيما بعدما رأت نتائج التكلفة الهائلة للصراع المسلح بين الإخوان المسلمين في سوريا وبين نظام حافظ الأسد عام ١٩٨٢، والذي ذهب ضحيته ما يزيد على عشرين ألف قتيل وعشرات الآلاف من السجناء والمشردين. التجربة السورية عمقت لدى الحركات الإسلامية شعورا بضرورة تفادي التغيير من خلال العمل المسلح، ورسخت منهج (الصبر الاستراتيجي) على الرغم من محاربة هذه الحركات من قبل الأنظمة العربية وحرمانها من العمل السياسي والزج بناشطيها في غياهب السجون.
الإشكالية الثانية تتلخص في النظر إلى الإسلاميين على أنهم طارئون على العمل السياسي ، وأنهم أغرار مندفعون بحماس أيدلوجي متشدد، تعوزهم المرونة وتنقصهم الخبرة، والحقيقة أن الإسلاميين جزء قديم ومكون رئيس في الحراك السياسي العربي منذ عشرينيات القرن الماضي، وبرزت جماعة الأخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عام .١٩٢٨كلاعب رئيس في العمل السياسي في مصر خلال العهود السياسية المتعاقبة ، وتاريخ الحركات الإسلامية في الدول العربية الأخرى حافل بكل مظاهر العمل السياسي: المعارضة، المشاركة السياسية، التحالفات والائتلافات وكذا الوصول إلى الحكم . صحيح أن الحركات الإسلامية لعبت دور المعارضة في معظم الأحيان، ولكنها شاركت في انتخابات برلمانية منذ الأربعينيات، كما تحالفت مع قوى سياسية علمانية وقومية واشتراكية، وشاركت جزئيا في حكومات متعددة ابتداء في السودان والأردن واليمن والجزائر، وتحالفت مع أنظمة غير إسلامية كما حدث مع نظام نميري في السودان عام١٩٧٧ ، هذا بالاضافة الى تجارب أخرى متفاوتة أثرت في الوعي الإسلامي التراكمي: الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ وما ثار حولها من جدل، وصول الاسلاميين إلى السلطة في السودان عام ١٩٨٩ في أعقاب انقلاب قاموا به بالتعاون مع بعض ضباط الجيش، فوز الجبهة الاسلامية للانقاذ في الجزائر بالانتخابات عام ١٩٩١ فانقلب عليها الجيش ولم يسمح لحكومتها بأن تقوم، وفي عام ١٩٩٦ اجتاحت حركة طالبان معظم الأراضي الأفغانية وأسست إمارتها الإسلامية، وفي عام ٢٠٠٣ فازت حركة المقاومة الإسلامية في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وكانت النتيجة عدم الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية وفرض الحصار على غزة، هذه التجارب المتفاوتة في نجاحها وفشلها أضافت إلى الإسلام السياسي عمقا ووعيا وخبرة، وقدمت نماذج مهمة لحوار معمق دار في أوساط الإسلاميين حول طبيعة الدولة والسلطة ودور الاسلام في الحياة العامة. ولعل من أهم التجارب تأثيرا في الواقع السياسي الإسلامي الراهن وصول حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية إلى السلطة في تركيا بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية عام ٢٠٠٢، فالتجربة التركية تحديدا تمثل مصدر إلهام لعدد من الحركات الإسلامية، فمع أن حزب العدالة والتنمية لا يصف نفسه بأنه إسلامي، إلا أن تجربة السنوات العشر الماضية في تركيا قدمت وصفة ينظر إليها كثير من الإسلاميين على أنها ناجحة، إذ تجمع ثلاث سمات مهمة: المرجعية الإسلامية العامة، الديمقراطية التعددية والنمو الاقتصادي الكبير.
التجارب السياسية المتنوعة هذه الممتدة من طالبان إلى أردوغان كان لها أثر عميق في إنضاج الإسلام السياسي، ومنحته مرونة وسعة، لم تقتصر على شكليات وآليات العمل السياسي، بل انتقلت إلى صميم الوعي والإدراك الفكري لفلسفة علاقة الإسلام بالدولة الحديثة، وكان ذلك واضحا في الحوار الداخلي بين مكونات التيار الإسلامي، فطورت في الثمانينيات مقولات جديدة داخل الحركة الاسلامية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والموقف من الأقليات الدينية والإثنية بالإضافة إلى حقوق المراة والعلاقات الدولية، ووجد المفكرون الإسلاميون في أصول الفقه الإسلامي القائم على الأولويات والمقاصد وترجيح المصلحة ما أصل لمنهج سياسي عميق، لا يختلف في مقاصده العليا عن القيم العالمية في مجال السياسة والعلاقات الدولية
ومع ذلك فإنه من الضروري التنبيه إلى أن الإسلام السياسي قد عانى في العقدين الماضيين ضغوطا كبيرة من قبل النظم الديكتاتورية العربية، ازدادت عمقا وتفاقما في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١، إذ استغلت الأنظمة العربية الحرب على الإرهاب في الانقضاض على المعرضة الإسلامية، فأغلقت المؤسسات الإسلامية، وحظر عملها، ومنع منتسبوها من العمل العام، وازدحمت بهم السجون وقضى بعضهم تحت التعذيب ومنع كثير منهم من الوظيفة والسفر والحقوق الأساسية للمواطنين، وهو ما ترك مرارات عميقة في نفوس الإسلاميين، وعليه فمن الضروري أخذ ذلك بالاعتبار في قرائتنا لبعض تصريحات وخطابات الناشطين الإسلاميين، فمن الطبيعي أن نسمع عبارات انفعالية أو شعارات موغلة في الحماس أو حتى تهديدات غير متسامحة، فبعض قيادات الحركات الإسلامية ممن يتصدرون الحملات الانتخابية أفرج عنهم من السجون قبل شهور قليلة، وليس من الإنصاف أن نتوقع منهم خطاب الدبلوماسيين المحترفين.
وعلى الرغم من ذلك فإن أن الخطاب السياسي الاسلامي قد اتسم بالانضباط والتوازن عموما، ولعل الحركة الاسلامية التونسية قد قدمت قدوة حسنة في تعاملها السياسي والاعلامي قبل وبعد فوزها بالانتخابات، ومع أن الحركة الإسلامية التونسية كانت من أكثر الحركات تضررا من قمع نظام بن علي، إلا أن قادتها نجحوا في تطوير خطاب سياسي متسامح، وانفتحوا على قوى سياسية علمانية ويسارية معتدلة، وطمأن قادة حركة النهضة مواطنيهم على أن الحركة لن تتدخل في حياتهم الشخصية، وأنها ستحترم حقوق الناس في الاختيار ، كما قدمت الحركة مثالا متقدما على مشاركة المرأة، فقد وصل ٤٢ امرأة من النهضة إلى الجمعية التأسيسية من مجموع ٤٩ امرأة فزن في الانتخابات الأخيرة.
خطاب الحركات الإسلامية تجاه الغرب التزم ذات السياق المتوازن، فمع أن الحركات الإسلامية قد وصلت اليوم إلى مواقع النفوذ والتأثير بفضل شرعية الخيار الشعبي ونتيجة لثورته، وأن الشارع العربي يعرف حجم الدعم الغربي للأنظمة العربية المتسلطة خلال العقود الماضية، وتغاضي الغرب عن الانتهاكات الجسيمة للحقوق السياسية والانسانية في مقابل تحقيق مصالح اقتصادية وأمنية غربية، إلى أن الثورات العربية ومعها الحركات الإسلامية لم تبادر إلى الثأر، بل اتسم خطابها عموما بالتوازن، ذلك أن الإسلاميين يدركون كما يدرك غيرهم من مكونات الحراك الشعبي العربي توازنات القوى الدولية،ويعرفون أهمية التواصل العالمي في عالم متشابك اقتصادي وسياسيا
إن نافذة الفرصة الحالية تتيح للغرب أن يتخلص من الصورة السلبية المنطبعة في الذهنية العربية عن دور الغرب في دعم الأنظمة المستبدة، ولن يتحقق ذلك إلا بدعم غربي واضح وصريح للعملية الديمقراطية في العالم العربي والقبول بنتائجها دون التدخل لصالح طرف على طرف، فالديمقراطية هي الخيار الوحيد للعبور بالمنطقة إلى الاستقرار والأمن والتسامح، وهي اليوم أعز على قلوب العرب من أي شيء، ولن يتسامحوا مع محاولات التلاعب في مسارها.
لقد عانت المنطقة العربية كثيرا من محاولات إقصاء الإسلاميين ومنعهم من الحياة العامة، ولم تحصد جراء ذلك إلا مزيدا من التسلط والديكتاتورية والفساد، هذا بالإضافة إلى العنف والتشدد، إن استحقاق مشاركة الإسلاميين في الحكم سيأتي بعدد من التحديات والعقبات في داخل الصف الإسلامي وفي علاقة الإسلاميين بغيرهم من التيارات والقوى المحلية والدولية، غير أن هذه الديناميكية وذلك التدافع هو ما سيضمن إنضاج التحول الديمقراطي العربي وسيعبر به إلى إجماع سياسي يصل إلى نقطة توازن مفقود في أقطارنا منذ عقود، وعلى الإسلاميين في سبيل تحقيق عبور آمن نحو ذلك المستقبل المنشود أن لا يعيشوا حالة من الثقة الزائدة بالنفس، وأن يمدوا أيديهم لكل القوى والتيارات السياسية مهما كان رصيدها الانتخابي، وأن يحرصوا على شراكات وتحالفات سياسية حقيقية معها حتى وإن اقتضى الأمر تقديم تنازلات كبيرة، فالمرحلة الحالية هي التي ستحدد مسار المستقبل العربي لعقود قادمة، ولا يقوى على رسم ملامحها تيار منفرد، ولا حركة واحدة بعينها.
حركة النهضة التونسية التي فازت بالانتخابات البرلمانية التونسية لن تكون استثناء في الواقع العربي، فقد حصل حزب العدالة والتنمية على المرتبة الأولى في الانتخابات المغربية، ومن المتوقع أن يتقدم الإسلاميون في الانتخابات التشريعية الاسبوع القادم في مصر ، وإذا أجريت انتخابات حرة ونزيهة في اليمن حال سقوط نظام الرئيس علي عبد الله صالح فمن المتوقع أن يفوز التجمع اليمني للإصلاح ذو الخلفية الإسلامية، وهو نمط سنراه يتكرر في الواقع العربي كلما أتيح للعملية الديمقراطية أن تأخذ مجراها.
الضجيج الذي رافق فوز الإسلاميين في الانتخابات التونسية ينبغي أن لا يحجب عنا القراءة الهادئة والمعمقة لصعود الإسلام السياسي ، والفرص الجديدة التي تحملها مشاركة الإسلاميين في الحكم، بعد عقود من الدكتاتورية والتسلط والفساد الذي طبع الأنظمة العربية، ووضعها في مواجهة الغضب الشعبي العربي خلال ما يعرف بالربيع العربي.
هناك عدد من الإشكاليات التي لمستها مؤخرا في تناول موضوع الإسلام السياسي في الإعلام الغربي وفي الحديث مع دوائر الفعل السياسي والفكري الغربية حيال ظاهرة الإسلام السياسي،
الإشكالية الأولى تبدأ من التعامل مع المصطلح ذاته، فلفظ (إسلامي) في الذهنية الغربية سلبي من حيث المبدأ، ويعود ذلك إلى الاختزال والسطحية الإعلامية التي واكبت الحديث عن الواقع الإسلامي خلال العقد الفائت، بالإضافة إلى النظرة الانفعالية التي رافقت ما سمي بالحرب على الإرهاب، نظرة لم تتمكن من رصد الفوارق الهائلة بين أطياف الحركات والتيارات التي تنتمي إلى فهم معين للإسلام، فالسلفية الجهادية وعلى رأسها تنظيم القاعدة لا تؤمن بالعمل السياسي، ولم يتردد أيمن الظواهري في انتقاد حركة حماس عندما قررت المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، كما انتقد مرارا جماعة الإخوان المسلمين ومنهجها الرافض لاستخدام العنف في تغيير الواقع السياسي، وفي المقابل التزمت الحركات الإسلامية المنتمية عموما إلى الفكر الإصلاحي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، بالنضال السلمي من داخل اللعبة السياسية، لا سيما بعدما رأت نتائج التكلفة الهائلة للصراع المسلح بين الإخوان المسلمين في سوريا وبين نظام حافظ الأسد عام ١٩٨٢، والذي ذهب ضحيته ما يزيد على عشرين ألف قتيل وعشرات الآلاف من السجناء والمشردين. التجربة السورية عمقت لدى الحركات الإسلامية شعورا بضرورة تفادي التغيير من خلال العمل المسلح، ورسخت منهج (الصبر الاستراتيجي) على الرغم من محاربة هذه الحركات من قبل الأنظمة العربية وحرمانها من العمل السياسي والزج بناشطيها في غياهب السجون.
الإشكالية الثانية تتلخص في النظر إلى الإسلاميين على أنهم طارئون على العمل السياسي ، وأنهم أغرار مندفعون بحماس أيدلوجي متشدد، تعوزهم المرونة وتنقصهم الخبرة، والحقيقة أن الإسلاميين جزء قديم ومكون رئيس في الحراك السياسي العربي منذ عشرينيات القرن الماضي، وبرزت جماعة الأخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عام .١٩٢٨كلاعب رئيس في العمل السياسي في مصر خلال العهود السياسية المتعاقبة ، وتاريخ الحركات الإسلامية في الدول العربية الأخرى حافل بكل مظاهر العمل السياسي: المعارضة، المشاركة السياسية، التحالفات والائتلافات وكذا الوصول إلى الحكم . صحيح أن الحركات الإسلامية لعبت دور المعارضة في معظم الأحيان، ولكنها شاركت في انتخابات برلمانية منذ الأربعينيات، كما تحالفت مع قوى سياسية علمانية وقومية واشتراكية، وشاركت جزئيا في حكومات متعددة ابتداء في السودان والأردن واليمن والجزائر، وتحالفت مع أنظمة غير إسلامية كما حدث مع نظام نميري في السودان عام١٩٧٧ ، هذا بالاضافة الى تجارب أخرى متفاوتة أثرت في الوعي الإسلامي التراكمي: الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ وما ثار حولها من جدل، وصول الاسلاميين إلى السلطة في السودان عام ١٩٨٩ في أعقاب انقلاب قاموا به بالتعاون مع بعض ضباط الجيش، فوز الجبهة الاسلامية للانقاذ في الجزائر بالانتخابات عام ١٩٩١ فانقلب عليها الجيش ولم يسمح لحكومتها بأن تقوم، وفي عام ١٩٩٦ اجتاحت حركة طالبان معظم الأراضي الأفغانية وأسست إمارتها الإسلامية، وفي عام ٢٠٠٣ فازت حركة المقاومة الإسلامية في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وكانت النتيجة عدم الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية وفرض الحصار على غزة، هذه التجارب المتفاوتة في نجاحها وفشلها أضافت إلى الإسلام السياسي عمقا ووعيا وخبرة، وقدمت نماذج مهمة لحوار معمق دار في أوساط الإسلاميين حول طبيعة الدولة والسلطة ودور الاسلام في الحياة العامة. ولعل من أهم التجارب تأثيرا في الواقع السياسي الإسلامي الراهن وصول حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية إلى السلطة في تركيا بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية عام ٢٠٠٢، فالتجربة التركية تحديدا تمثل مصدر إلهام لعدد من الحركات الإسلامية، فمع أن حزب العدالة والتنمية لا يصف نفسه بأنه إسلامي، إلا أن تجربة السنوات العشر الماضية في تركيا قدمت وصفة ينظر إليها كثير من الإسلاميين على أنها ناجحة، إذ تجمع ثلاث سمات مهمة: المرجعية الإسلامية العامة، الديمقراطية التعددية والنمو الاقتصادي الكبير.
التجارب السياسية المتنوعة هذه الممتدة من طالبان إلى أردوغان كان لها أثر عميق في إنضاج الإسلام السياسي، ومنحته مرونة وسعة، لم تقتصر على شكليات وآليات العمل السياسي، بل انتقلت إلى صميم الوعي والإدراك الفكري لفلسفة علاقة الإسلام بالدولة الحديثة، وكان ذلك واضحا في الحوار الداخلي بين مكونات التيار الإسلامي، فطورت في الثمانينيات مقولات جديدة داخل الحركة الاسلامية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والموقف من الأقليات الدينية والإثنية بالإضافة إلى حقوق المراة والعلاقات الدولية، ووجد المفكرون الإسلاميون في أصول الفقه الإسلامي القائم على الأولويات والمقاصد وترجيح المصلحة ما أصل لمنهج سياسي عميق، لا يختلف في مقاصده العليا عن القيم العالمية في مجال السياسة والعلاقات الدولية
ومع ذلك فإنه من الضروري التنبيه إلى أن الإسلام السياسي قد عانى في العقدين الماضيين ضغوطا كبيرة من قبل النظم الديكتاتورية العربية، ازدادت عمقا وتفاقما في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١، إذ استغلت الأنظمة العربية الحرب على الإرهاب في الانقضاض على المعرضة الإسلامية، فأغلقت المؤسسات الإسلامية، وحظر عملها، ومنع منتسبوها من العمل العام، وازدحمت بهم السجون وقضى بعضهم تحت التعذيب ومنع كثير منهم من الوظيفة والسفر والحقوق الأساسية للمواطنين، وهو ما ترك مرارات عميقة في نفوس الإسلاميين، وعليه فمن الضروري أخذ ذلك بالاعتبار في قرائتنا لبعض تصريحات وخطابات الناشطين الإسلاميين، فمن الطبيعي أن نسمع عبارات انفعالية أو شعارات موغلة في الحماس أو حتى تهديدات غير متسامحة، فبعض قيادات الحركات الإسلامية ممن يتصدرون الحملات الانتخابية أفرج عنهم من السجون قبل شهور قليلة، وليس من الإنصاف أن نتوقع منهم خطاب الدبلوماسيين المحترفين.
وعلى الرغم من ذلك فإن أن الخطاب السياسي الاسلامي قد اتسم بالانضباط والتوازن عموما، ولعل الحركة الاسلامية التونسية قد قدمت قدوة حسنة في تعاملها السياسي والاعلامي قبل وبعد فوزها بالانتخابات، ومع أن الحركة الإسلامية التونسية كانت من أكثر الحركات تضررا من قمع نظام بن علي، إلا أن قادتها نجحوا في تطوير خطاب سياسي متسامح، وانفتحوا على قوى سياسية علمانية ويسارية معتدلة، وطمأن قادة حركة النهضة مواطنيهم على أن الحركة لن تتدخل في حياتهم الشخصية، وأنها ستحترم حقوق الناس في الاختيار ، كما قدمت الحركة مثالا متقدما على مشاركة المرأة، فقد وصل ٤٢ امرأة من النهضة إلى الجمعية التأسيسية من مجموع ٤٩ امرأة فزن في الانتخابات الأخيرة.
خطاب الحركات الإسلامية تجاه الغرب التزم ذات السياق المتوازن، فمع أن الحركات الإسلامية قد وصلت اليوم إلى مواقع النفوذ والتأثير بفضل شرعية الخيار الشعبي ونتيجة لثورته، وأن الشارع العربي يعرف حجم الدعم الغربي للأنظمة العربية المتسلطة خلال العقود الماضية، وتغاضي الغرب عن الانتهاكات الجسيمة للحقوق السياسية والانسانية في مقابل تحقيق مصالح اقتصادية وأمنية غربية، إلى أن الثورات العربية ومعها الحركات الإسلامية لم تبادر إلى الثأر، بل اتسم خطابها عموما بالتوازن، ذلك أن الإسلاميين يدركون كما يدرك غيرهم من مكونات الحراك الشعبي العربي توازنات القوى الدولية،ويعرفون أهمية التواصل العالمي في عالم متشابك اقتصادي وسياسيا
إن نافذة الفرصة الحالية تتيح للغرب أن يتخلص من الصورة السلبية المنطبعة في الذهنية العربية عن دور الغرب في دعم الأنظمة المستبدة، ولن يتحقق ذلك إلا بدعم غربي واضح وصريح للعملية الديمقراطية في العالم العربي والقبول بنتائجها دون التدخل لصالح طرف على طرف، فالديمقراطية هي الخيار الوحيد للعبور بالمنطقة إلى الاستقرار والأمن والتسامح، وهي اليوم أعز على قلوب العرب من أي شيء، ولن يتسامحوا مع محاولات التلاعب في مسارها.
لقد عانت المنطقة العربية كثيرا من محاولات إقصاء الإسلاميين ومنعهم من الحياة العامة، ولم تحصد جراء ذلك إلا مزيدا من التسلط والديكتاتورية والفساد، هذا بالإضافة إلى العنف والتشدد، إن استحقاق مشاركة الإسلاميين في الحكم سيأتي بعدد من التحديات والعقبات في داخل الصف الإسلامي وفي علاقة الإسلاميين بغيرهم من التيارات والقوى المحلية والدولية، غير أن هذه الديناميكية وذلك التدافع هو ما سيضمن إنضاج التحول الديمقراطي العربي وسيعبر به إلى إجماع سياسي يصل إلى نقطة توازن مفقود في أقطارنا منذ عقود، وعلى الإسلاميين في سبيل تحقيق عبور آمن نحو ذلك المستقبل المنشود أن لا يعيشوا حالة من الثقة الزائدة بالنفس، وأن يمدوا أيديهم لكل القوى والتيارات السياسية مهما كان رصيدها الانتخابي، وأن يحرصوا على شراكات وتحالفات سياسية حقيقية معها حتى وإن اقتضى الأمر تقديم تنازلات كبيرة، فالمرحلة الحالية هي التي ستحدد مسار المستقبل العربي لعقود قادمة، ولا يقوى على رسم ملامحها تيار منفرد، ولا حركة واحدة بعينها.