- الاثنين ديسمبر 02, 2013 6:50 pm
#67180
قلائل هم من ذاع صيتهم فى العالم بفضل تحرير شعوبهم من العبودية والاستعمار الذى جثم على صدور شعوب العالم الثالث ردحا من الزمن، وكان من أبرزهم الزعيم نيلسون مانديلا حيث يحتفل العالم يوم الخميس 18 يوليو باليوم الدولى لنيلسون مانديلا الذى أقرته الأمم المتحدة فى الثانى من نوفمبر عام 2009، اعترافا بإسهاماته نحو تحقيق السلام والحرية فى العالم وهو يوافق أيضا يوم ميلاده.
ويأتى هذا اليوم وأنظار العالم أجمع تتجه إلى جوهانسبرج، حيث يعانى الزعيم الجنوب أفريقى" 95 عاما" من حالة صحية حرجة، ولكنها مستقرة حسب قول الأطباء، وذلك بعد حياة طويلة قضاها مناضلا ومدافعا عن الحرية ومعارضا شرسا لسياسة التمييز العنصرى فى جنوب أفريقيا.
وكانت حالة الزعيم نيلسون مانديلا قد تدهورت منذ الثامن من يونيو الماضى بسبب تجدد إصابته بالتهاب رئوى أصيب به منذ عامين ونصف، ويرجع إلى إصابته بالسل أبان سجنه فى جزيرة روبن أيلند قبالة مدينة الكاب أكبر سجن أفريقى فى عصر العبودية قاسى فيه أبشع أنواع التعذيب بما فيها الأعمال الشاقة التى كانت سببا فى مرضه الحالى عندما كان يكسر صخور الجبل الحمضية.
وسيرة ومسيرة مانديلا هى انتصار على الذات وتيار مضاد لشهوة الانتقام لقد قدم درسا راقيا فى التسامح، من أجل البناء والارتفاع فوق الألأم، ويرى أن الانتقام يدمر إيجابيات الثورات، فالسنوات التى قضاها وراء القضبان كانت كفيلة بأن يباشر عمليات الانتقام المضادة ولكنه تحلى بروح الصفح والغفران لبداية جديدة، ومنذ اللحظات الأولى التى أعلنت فيها نتيجة فوز مانديلا بمنصب الرئاسة رأى أن مهمته هى التوفيق وإيجاد الثقة لدى كثير من الأقليات خاصة البيض والملونين الذين كانوا يشعرون بقلق بشأن المستقبل وأراد أن يشعرهم بالأمان، ويذكرهم بأن معركة التحرير ليست معركة ضد مجموعة معينة أو لون معين لكنها ضد نظام طاغ.
نيلسون مانديلا ليس شخصا مناضلا فقط وإنما يعد رمزا للإرادة الجماعية والكفاح الاجتماعى والسياسى الحقيقى، فكفاح هذا الرجل ضد التمييز العنصرى رسخ مفهوم النضال بشكل جمعى، مما أفرز كوكبة من المناضلين الأفارقة الذين ساروا على خطاه النضالى، كما رسم صورة مختلفة للنضال، فالمناضل ليس هو فقط المعارض للنظام والمنادى بإسقاط الحكومة، وهو ليس المطالب بمحاربة الفساد ومؤسساته ولا فى ترسيخ الديمقراطية والحريات المجتمعية فعلى الرغم من أهمية كل ذلك فإن المناضل أولا يجب أن يكون أنسانا، يقدس القيم الإنسانية ويتبنى الحرية بمفهومها المجرد، حرية العقيدة، والعقل، والضمير.
كما أن المناضل هو الذى يثبت بفعله أن نضاله هو الذى أهله بأن يكون ضمير أمته ومجتمعه وليس الصدفة أو العناية الإلهية.
وقال نيلسون مانديلا مقولته الشهيرة: "إن الحرية لا تقبل التجزئة لأن القيود التى تكبل شخصا واحدا فى بلادى إنما هى قيود تكبل أبناء وطنى أجمعين"، وحين قالها كان يرسل رسالة ملخصها أن القيم السامية فى العدالة والحرية لا يمكن احتكارها إطلاقا، وأن العائد من ورائها لابد أن يكون مصلحة جماعية وإلا فقدت سموها ومغزاها وتأثيرها.
نيلسون مانديلا لم يثنه كبر سنه وضعف صحته عن اهتمامه بقضايا حرية الشعوب والآمال الحقيقية بشأن حقوق الإنسان والحق فى عيش كريم حيث وجه رسالة إلى ثوار مصر وتونس، مناشدا أن لا ينجرفوا وراء شهوة التشفى والمطاردة لكل ما يتصل بالنظام القديم، مؤكدا أن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، فالهدم فعل سلبى والبناء فعل إيجابى، ويقول فى رسالته إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضى المرير ولقد برهنت الأيام أن هذا الخيار كان هو الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا أما إلى الحرب أو إلى الديكتاتورية من جديد.
لقد دعا الرئيس الأمريكى باراك أوباما خلال زيارته مؤخرا لجنوب أفريقيا إلى تلقى الإلهام من مانديلا الذى ظل صامدا خلال مدة سجنه الطويلة، كما قال إن النموذج الذى قدمه مانديلا لقوة المبدأ والشعب المدافع عن حقه لا يزال متألقا كمنارة مضيئة.
إن أعظم ما فى مسيرة مانديلا تواضعه وإنسانيته وصدقه وهو الذى إذا قال فعل ولابد أن يصدقه الآخرون ، لكنه أبدا ودوما يتذكر أنه بشر، ويكتب مانديلا .. لقد سرت ذلك الطريق الطويل نحو الحرية وحاولت ألا أتعثر، ولكنى اتخذت خطوات خاطئة على الطريق، وقد اكتشفت السر، أنه بعد أن يكمل الإنسان تسلق تل يكتشف أن هناك تلالا أخرى كثيرة عليه تسلقها.
وتعد حياة نيلسون مانديلا ملحمة من ملاحم النضال فى القرن العشرين ونموذج حى لقوة الإرادة والتصميم، وترتبط أحداثها بواقع الحياة التى عاشتها بلاده فهو من أبرز المناضلين لسياسة التمييز العنصرى وهو يطلق عليه اسم "ماديبا"، أى العظيم المبجل وهو لقب يطلق على الشخص الأرفع شأنا بين أهل عشيرته، وقد قال عنه المراقبون يصعب اختصار إنجازات مانديلا ومساهمته فى نضال البلد من أجل الحرية "إنه رمز التواضع ونكران الذات لقد كان مانديلا مناضلا فى سبيل الحرية وسجينا سياسيا ومحاميا وصانعا للسلام ورئيسا لجنوب أفريقيا عام 1994 ثم تقاعد عام 1999".
أمضى مانديلا أكثر من ربع عمره فى سجون التمييز العنصرى بل وقضى كل عمره مطاردا أو سجينا لكنه لم ينكسر ولم يتراجع، ببساطة لأنه يؤمن بقضية كرس لها عمره، لذلك كان طبيعيا ألا يساوم نظام جنوب أفريقيا العنصرى، وألا يعقد صفقات مع أجهزة أمنه.
ولد نيلسون مانديلا زعيم جنوب أفريقيا التاريخى وقائد النضال ضد التمييز العنصرى فى 18 يوليو 1918 فى مقاطعة ترانسكاى، واسمه عند الميلاد هو "دوليهلاهلا " ومعناه باللغة الأفريقية "المشاغب" وكان والده رئيسا لقبيلة التيمبو وتوفى ومانديلا لايزال صغيرا ، وتربى فى حياة مليئة بالبطولات أهلته لأن ينتخب مكان والده.
وحصل مانديلا على ليسانس الحقوق عام 1942 بعد فترة دراسية مضطربة، وأحس بمعاناة شعبه من النظام العنصرى فانتمى إلى حزب المجلس الوطنى الأفريقى المعارض للتمييز العنصرى ولعب دورا حاسما فى تحويل الحزب إلى حركة جماهيرية شاملة لمختلف فئات السود.
وفى عام 1952 بدأ الحزب حملة "التحدى" وكان مانديلا مشرفا عليها وحرض الشعب على مقاومة قوانين التمييز العنصرى وفى أعقاب مظاهرة عارمة فى شوارع جوهانسبرج يوم 6 أبريل من نفس العام أقدم نظام التمييز العنصرى على اعتقال 8500 مناضل "من المؤتمر الوطنى الأفريقى" وصدر حكم بالسجن تسعة أشهر مع وقف التنفيذ فى حق مانديلا ولم تقتصر أولى متاعب الزعيم الأفريقى مع القضاء على هذا الحدث، ففى 5 ديسمبر عام 1956أعتقلت سلطات نظام التمييز العنصرى 156 مناضلا من - المؤتمر الوطنى الأفريقى، بينهم مانديلا، وتم الإفراج عنهم جميعا بعد محاكمة استغرقت أربع سنوات.
وفى 21 مارس 1960 أطلقت الشرطة النيران على مظاهرة شارك فيها 5000 من السكان السود فى حى شاريفيل الفقير، مما أسفر عن وقوع 69 قتيلا، وشكلت هذه الصفحة الدامية منعرجا هاما فى مسار نيلسون مانديلا السياسى وفى كفاحه ضد سياسة التمييز العنصرى، حيث دفع به الى حد القطيعة مع فلسفة نبذ العنف وانتهاج الكفاح المسلح عبر أنشاء الجناح العسكرى للمؤتمر الوطنى الأفريقى.
وفى الخامس من أغسطس 1962 وبعد 17 شهرا من العمل السرى، أعتقلت السلطات نيلسون مانديلا وزجت به فى السجن عام ،1963 وتمت محاكمة معظم قادة "المؤتمر الوطنى" المعتقلين بتهم الخيانة والتخريب والتآمر ضد استقلال البلاد وحكم على مانديلا بالسجن مدى الحياة، ويتضح من صفحات كفاح مانديلا أنه ثائر صلد لايلين وواثق من خطواته فقد تولى الدفاع عن نفسه بنفسه، ومن كلماته المأثورة يقول أثناء محاكمتى دخلت قاعة المحكمة بملابس "الكوسا" المصنوعة من جلد النمر، وقد اخترت هذا الزى لأبرز المعنى الرمزى لكونى رجلا أفريقيا يحاكم فى محكمة للرجل الأبيض وكنت أحمل على كتفى تاريخ قومى وثقافاتهم، وكنت على يقين أن ظهورى بذلك الزى سيخيف السلطة من ثقافة أفريقيا وحضارتها، وبهذه الكلمات أكد مانديلا أنه يستحق أن تكون حياته مصدر إلهام للمظلومين فى سائر الأرض.
بدأ نيلسون مانديلا سنوات السجن المؤبد فى عام 1964 فى زنزانة جزيرة روبن أيلاند،و كان رقمه 4666/4، حيث قضى 18 عاما من 27 عام فى السجن قبل أن ينقل فى عام 1982 الى سجن بولسمور حيث الحراسة المشددة، ومع استمرار سنوات السجن أصبح الزعيم الجنوب أفريقى يمثل أكثر من غيره فى عيون الرأى العام الدولى الرمز المثالى للكفاح ضد التمييز العنصرى.
ولاحت أمام مانديلا فرص كثيرة للخروج من غياهب السجون ومغادرة وحدة وظلمة الزنازين إلى قصور الرفاهية عبر مساومة رخيصة تقضى بتخليه عن مناهضة النظام العنصرى، لكن مانديلا لم يكن لديه غير رد واحد لم يتغير وهو "القضية ليست نيلسون مانديلا، لكنها قضية شعب ووطن" على عكس من ارتضوا بالمساومات والصفقات من أجل كرسى فى البرلمان.
فى 10 يونيو 1980 تم نشر رسالة استطاع مانديلا إرسالها للمجلس الأفريقى القومى قال فيها، اتحدوا، وجهزوا، وحاربوا، اذمابين سندان التحرك الشعبى ومطرقة المقاومة المسلحة سنسحق الفصل العنصرى".
وأمام تزايد الضغط الدولى، اضطرت سلطات نظام التمييز العنصرى فى الأول من ديسمبر 1988 إلى إخراج مانديلا من السجن ووضعه رهن الإقامة الجبرية وفى 11 فبراير 1990 استعاد نيلسون مانديلا حريته المطلقة بعد أن قضى 27 عاما فى سجون نظام التمييز العنصرى، وجاء قرار الإفراج عنه فى أعقاب قرار رفع الحظر على نشاطات المؤتمر الوطنى الأفريقى من قبل رئيس جنوب أفريقيا فريدريك دى كليرك فى يوليو 1989.
وقبل أن يتنسم نيلسون مانديلا هواء الحرية قال "إذا خرجت من السجن فى نفس الظروف التى اعتقلت فيها فأننى سأقوم بنفس الممارسات التى سجنت من أجلها.. إنها إرادة رجل أفنى حياته فى مكافحة التمييز العنصرى.. وحكمة ثائر لم يسقط من ذاكرته معاناة شعبه"، معبرا عن ضمير الأمة بقوله"العظمة فى هذه الحياة ليست فى التعثر، ولكن فى القيام بعد كل مرة نتعثر فيها".
يصف نيلسون مانديلا لحظات خروجه من السجن فى مذكراته "رحلتى نحو الحرية بقوله، رغم أنى كنت أبلغ من العمر 71 عاما وقت خروجى من السجن فإننى شعرت بأنى ولدت من جديد".
دون اسم نيلسون مانديلا فى صفحات التاريخ بانتخابه رئيسا للجمهورية فى 27 أبريل 1994 أثر أول انتخابات متعددة الأعراق تشهدها البلاد فى تاريخها ، وبمجرد اعتلائه كرسى الرئاسة بادر الزعيم الجنوب أفريقى بإنشاء لجنة"الحقيقة والمصالحة" وهى لجنة عملت على تمهيد الطريق باتجاه المصالحة، وتضميد الجراح والنظرة الى المستقبل ومحاولة تأسيس قواعد ديمقراطية تعددية، ونجحت فى نهاية المطاف فى رد الاعتبار لجنوب أفريقيا وتحسين صورتها على الساحة الدولية.. وبالرغم من شعبيته لم يحاول إسقاط حزب المؤتمر الحاكم فى أنانية سياسية، ولم يحاول إقصاء الآخرين ولكن فعل العكس بالتأكيد على مبدأ المشاركة والحوار والاهتمام بتحسين ظروف هذا البلد ، وفهمت جنوب أفريقيا الدرس، وتمسكت بالخيار الديمقراطى وهو ما جنبها السقوط فى حروب أهلية، واعتمد مانديلا على سياسة تجميع كل الأوراق وعدم تخويف المستثمرين، وأصحاب رءوس الأموال البيض الذين جرى تأمينهم لتشجيعهم على مواصلة الإسهام فى مشروعات التنمية.
وبعد عطاء كبير غادر رمز الكفاح ضد التمييز العنصرى النشاط السياسى المؤسساتى كرسى الرئاسة عام 1999 لرفيق الكفاح ثابو مبيكى، لقد رفض أن يبقى فى الحكم إلا فترة واحدة وترك السلطة راضيا ليضع أسس أقامة دولة ديمقراطية تؤمن بتداول السلطة واحترام أرادة الشعب.
وواصل مانديلا بعد تقاعده دوره الوطنى من خلال الجمعيات والحركات المنادية بحقوق الإنسان حول العالم، وفى يونيو عام 2004 قرر مانديلا التقاعد وترك الحياة العامة ، وأكد أنه لا يجد مكانا أفضل من البيت مع أحفاده.
حصل الزعيم نيلسون مانديلا على جائزة نوبل للسلام فى أكتوبر 1993 بالاشتراك مع رئيس جنوب أفريقيا فريدريك دى كليرك عرفانا بدورهما فى المسار الذى شقته البلاد على طريق المصالحة وطى حقبة التمييز العنصرى.
ووجد نيلسون مانديلا التكريم فى كل مكان فى العالم حتى أنه حصل على الدكتوراه الفخرية من خمسين جامعة فى أنحاء العالم، ونظرا لجهوده تم اختياره سفير الأمم المتحدة للنوايا الحسنة، كما منحته منظمة العفو الدولية جائزة سفير الضمير عام 2006، والتى تعد أرفع تكريم تمنحه تلك المنظمة. وكرم أيضا من عدد من زعماء العالم، كما تم تشييد تمثال له فى ميدان البرلمان بلندن، لقد استحق مانديلا كل هذا التكريم بعد حياة حافلة من النضال والكفاح من أجل بلده.
ويأتى هذا اليوم وأنظار العالم أجمع تتجه إلى جوهانسبرج، حيث يعانى الزعيم الجنوب أفريقى" 95 عاما" من حالة صحية حرجة، ولكنها مستقرة حسب قول الأطباء، وذلك بعد حياة طويلة قضاها مناضلا ومدافعا عن الحرية ومعارضا شرسا لسياسة التمييز العنصرى فى جنوب أفريقيا.
وكانت حالة الزعيم نيلسون مانديلا قد تدهورت منذ الثامن من يونيو الماضى بسبب تجدد إصابته بالتهاب رئوى أصيب به منذ عامين ونصف، ويرجع إلى إصابته بالسل أبان سجنه فى جزيرة روبن أيلند قبالة مدينة الكاب أكبر سجن أفريقى فى عصر العبودية قاسى فيه أبشع أنواع التعذيب بما فيها الأعمال الشاقة التى كانت سببا فى مرضه الحالى عندما كان يكسر صخور الجبل الحمضية.
وسيرة ومسيرة مانديلا هى انتصار على الذات وتيار مضاد لشهوة الانتقام لقد قدم درسا راقيا فى التسامح، من أجل البناء والارتفاع فوق الألأم، ويرى أن الانتقام يدمر إيجابيات الثورات، فالسنوات التى قضاها وراء القضبان كانت كفيلة بأن يباشر عمليات الانتقام المضادة ولكنه تحلى بروح الصفح والغفران لبداية جديدة، ومنذ اللحظات الأولى التى أعلنت فيها نتيجة فوز مانديلا بمنصب الرئاسة رأى أن مهمته هى التوفيق وإيجاد الثقة لدى كثير من الأقليات خاصة البيض والملونين الذين كانوا يشعرون بقلق بشأن المستقبل وأراد أن يشعرهم بالأمان، ويذكرهم بأن معركة التحرير ليست معركة ضد مجموعة معينة أو لون معين لكنها ضد نظام طاغ.
نيلسون مانديلا ليس شخصا مناضلا فقط وإنما يعد رمزا للإرادة الجماعية والكفاح الاجتماعى والسياسى الحقيقى، فكفاح هذا الرجل ضد التمييز العنصرى رسخ مفهوم النضال بشكل جمعى، مما أفرز كوكبة من المناضلين الأفارقة الذين ساروا على خطاه النضالى، كما رسم صورة مختلفة للنضال، فالمناضل ليس هو فقط المعارض للنظام والمنادى بإسقاط الحكومة، وهو ليس المطالب بمحاربة الفساد ومؤسساته ولا فى ترسيخ الديمقراطية والحريات المجتمعية فعلى الرغم من أهمية كل ذلك فإن المناضل أولا يجب أن يكون أنسانا، يقدس القيم الإنسانية ويتبنى الحرية بمفهومها المجرد، حرية العقيدة، والعقل، والضمير.
كما أن المناضل هو الذى يثبت بفعله أن نضاله هو الذى أهله بأن يكون ضمير أمته ومجتمعه وليس الصدفة أو العناية الإلهية.
وقال نيلسون مانديلا مقولته الشهيرة: "إن الحرية لا تقبل التجزئة لأن القيود التى تكبل شخصا واحدا فى بلادى إنما هى قيود تكبل أبناء وطنى أجمعين"، وحين قالها كان يرسل رسالة ملخصها أن القيم السامية فى العدالة والحرية لا يمكن احتكارها إطلاقا، وأن العائد من ورائها لابد أن يكون مصلحة جماعية وإلا فقدت سموها ومغزاها وتأثيرها.
نيلسون مانديلا لم يثنه كبر سنه وضعف صحته عن اهتمامه بقضايا حرية الشعوب والآمال الحقيقية بشأن حقوق الإنسان والحق فى عيش كريم حيث وجه رسالة إلى ثوار مصر وتونس، مناشدا أن لا ينجرفوا وراء شهوة التشفى والمطاردة لكل ما يتصل بالنظام القديم، مؤكدا أن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، فالهدم فعل سلبى والبناء فعل إيجابى، ويقول فى رسالته إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضى المرير ولقد برهنت الأيام أن هذا الخيار كان هو الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا أما إلى الحرب أو إلى الديكتاتورية من جديد.
لقد دعا الرئيس الأمريكى باراك أوباما خلال زيارته مؤخرا لجنوب أفريقيا إلى تلقى الإلهام من مانديلا الذى ظل صامدا خلال مدة سجنه الطويلة، كما قال إن النموذج الذى قدمه مانديلا لقوة المبدأ والشعب المدافع عن حقه لا يزال متألقا كمنارة مضيئة.
إن أعظم ما فى مسيرة مانديلا تواضعه وإنسانيته وصدقه وهو الذى إذا قال فعل ولابد أن يصدقه الآخرون ، لكنه أبدا ودوما يتذكر أنه بشر، ويكتب مانديلا .. لقد سرت ذلك الطريق الطويل نحو الحرية وحاولت ألا أتعثر، ولكنى اتخذت خطوات خاطئة على الطريق، وقد اكتشفت السر، أنه بعد أن يكمل الإنسان تسلق تل يكتشف أن هناك تلالا أخرى كثيرة عليه تسلقها.
وتعد حياة نيلسون مانديلا ملحمة من ملاحم النضال فى القرن العشرين ونموذج حى لقوة الإرادة والتصميم، وترتبط أحداثها بواقع الحياة التى عاشتها بلاده فهو من أبرز المناضلين لسياسة التمييز العنصرى وهو يطلق عليه اسم "ماديبا"، أى العظيم المبجل وهو لقب يطلق على الشخص الأرفع شأنا بين أهل عشيرته، وقد قال عنه المراقبون يصعب اختصار إنجازات مانديلا ومساهمته فى نضال البلد من أجل الحرية "إنه رمز التواضع ونكران الذات لقد كان مانديلا مناضلا فى سبيل الحرية وسجينا سياسيا ومحاميا وصانعا للسلام ورئيسا لجنوب أفريقيا عام 1994 ثم تقاعد عام 1999".
أمضى مانديلا أكثر من ربع عمره فى سجون التمييز العنصرى بل وقضى كل عمره مطاردا أو سجينا لكنه لم ينكسر ولم يتراجع، ببساطة لأنه يؤمن بقضية كرس لها عمره، لذلك كان طبيعيا ألا يساوم نظام جنوب أفريقيا العنصرى، وألا يعقد صفقات مع أجهزة أمنه.
ولد نيلسون مانديلا زعيم جنوب أفريقيا التاريخى وقائد النضال ضد التمييز العنصرى فى 18 يوليو 1918 فى مقاطعة ترانسكاى، واسمه عند الميلاد هو "دوليهلاهلا " ومعناه باللغة الأفريقية "المشاغب" وكان والده رئيسا لقبيلة التيمبو وتوفى ومانديلا لايزال صغيرا ، وتربى فى حياة مليئة بالبطولات أهلته لأن ينتخب مكان والده.
وحصل مانديلا على ليسانس الحقوق عام 1942 بعد فترة دراسية مضطربة، وأحس بمعاناة شعبه من النظام العنصرى فانتمى إلى حزب المجلس الوطنى الأفريقى المعارض للتمييز العنصرى ولعب دورا حاسما فى تحويل الحزب إلى حركة جماهيرية شاملة لمختلف فئات السود.
وفى عام 1952 بدأ الحزب حملة "التحدى" وكان مانديلا مشرفا عليها وحرض الشعب على مقاومة قوانين التمييز العنصرى وفى أعقاب مظاهرة عارمة فى شوارع جوهانسبرج يوم 6 أبريل من نفس العام أقدم نظام التمييز العنصرى على اعتقال 8500 مناضل "من المؤتمر الوطنى الأفريقى" وصدر حكم بالسجن تسعة أشهر مع وقف التنفيذ فى حق مانديلا ولم تقتصر أولى متاعب الزعيم الأفريقى مع القضاء على هذا الحدث، ففى 5 ديسمبر عام 1956أعتقلت سلطات نظام التمييز العنصرى 156 مناضلا من - المؤتمر الوطنى الأفريقى، بينهم مانديلا، وتم الإفراج عنهم جميعا بعد محاكمة استغرقت أربع سنوات.
وفى 21 مارس 1960 أطلقت الشرطة النيران على مظاهرة شارك فيها 5000 من السكان السود فى حى شاريفيل الفقير، مما أسفر عن وقوع 69 قتيلا، وشكلت هذه الصفحة الدامية منعرجا هاما فى مسار نيلسون مانديلا السياسى وفى كفاحه ضد سياسة التمييز العنصرى، حيث دفع به الى حد القطيعة مع فلسفة نبذ العنف وانتهاج الكفاح المسلح عبر أنشاء الجناح العسكرى للمؤتمر الوطنى الأفريقى.
وفى الخامس من أغسطس 1962 وبعد 17 شهرا من العمل السرى، أعتقلت السلطات نيلسون مانديلا وزجت به فى السجن عام ،1963 وتمت محاكمة معظم قادة "المؤتمر الوطنى" المعتقلين بتهم الخيانة والتخريب والتآمر ضد استقلال البلاد وحكم على مانديلا بالسجن مدى الحياة، ويتضح من صفحات كفاح مانديلا أنه ثائر صلد لايلين وواثق من خطواته فقد تولى الدفاع عن نفسه بنفسه، ومن كلماته المأثورة يقول أثناء محاكمتى دخلت قاعة المحكمة بملابس "الكوسا" المصنوعة من جلد النمر، وقد اخترت هذا الزى لأبرز المعنى الرمزى لكونى رجلا أفريقيا يحاكم فى محكمة للرجل الأبيض وكنت أحمل على كتفى تاريخ قومى وثقافاتهم، وكنت على يقين أن ظهورى بذلك الزى سيخيف السلطة من ثقافة أفريقيا وحضارتها، وبهذه الكلمات أكد مانديلا أنه يستحق أن تكون حياته مصدر إلهام للمظلومين فى سائر الأرض.
بدأ نيلسون مانديلا سنوات السجن المؤبد فى عام 1964 فى زنزانة جزيرة روبن أيلاند،و كان رقمه 4666/4، حيث قضى 18 عاما من 27 عام فى السجن قبل أن ينقل فى عام 1982 الى سجن بولسمور حيث الحراسة المشددة، ومع استمرار سنوات السجن أصبح الزعيم الجنوب أفريقى يمثل أكثر من غيره فى عيون الرأى العام الدولى الرمز المثالى للكفاح ضد التمييز العنصرى.
ولاحت أمام مانديلا فرص كثيرة للخروج من غياهب السجون ومغادرة وحدة وظلمة الزنازين إلى قصور الرفاهية عبر مساومة رخيصة تقضى بتخليه عن مناهضة النظام العنصرى، لكن مانديلا لم يكن لديه غير رد واحد لم يتغير وهو "القضية ليست نيلسون مانديلا، لكنها قضية شعب ووطن" على عكس من ارتضوا بالمساومات والصفقات من أجل كرسى فى البرلمان.
فى 10 يونيو 1980 تم نشر رسالة استطاع مانديلا إرسالها للمجلس الأفريقى القومى قال فيها، اتحدوا، وجهزوا، وحاربوا، اذمابين سندان التحرك الشعبى ومطرقة المقاومة المسلحة سنسحق الفصل العنصرى".
وأمام تزايد الضغط الدولى، اضطرت سلطات نظام التمييز العنصرى فى الأول من ديسمبر 1988 إلى إخراج مانديلا من السجن ووضعه رهن الإقامة الجبرية وفى 11 فبراير 1990 استعاد نيلسون مانديلا حريته المطلقة بعد أن قضى 27 عاما فى سجون نظام التمييز العنصرى، وجاء قرار الإفراج عنه فى أعقاب قرار رفع الحظر على نشاطات المؤتمر الوطنى الأفريقى من قبل رئيس جنوب أفريقيا فريدريك دى كليرك فى يوليو 1989.
وقبل أن يتنسم نيلسون مانديلا هواء الحرية قال "إذا خرجت من السجن فى نفس الظروف التى اعتقلت فيها فأننى سأقوم بنفس الممارسات التى سجنت من أجلها.. إنها إرادة رجل أفنى حياته فى مكافحة التمييز العنصرى.. وحكمة ثائر لم يسقط من ذاكرته معاناة شعبه"، معبرا عن ضمير الأمة بقوله"العظمة فى هذه الحياة ليست فى التعثر، ولكن فى القيام بعد كل مرة نتعثر فيها".
يصف نيلسون مانديلا لحظات خروجه من السجن فى مذكراته "رحلتى نحو الحرية بقوله، رغم أنى كنت أبلغ من العمر 71 عاما وقت خروجى من السجن فإننى شعرت بأنى ولدت من جديد".
دون اسم نيلسون مانديلا فى صفحات التاريخ بانتخابه رئيسا للجمهورية فى 27 أبريل 1994 أثر أول انتخابات متعددة الأعراق تشهدها البلاد فى تاريخها ، وبمجرد اعتلائه كرسى الرئاسة بادر الزعيم الجنوب أفريقى بإنشاء لجنة"الحقيقة والمصالحة" وهى لجنة عملت على تمهيد الطريق باتجاه المصالحة، وتضميد الجراح والنظرة الى المستقبل ومحاولة تأسيس قواعد ديمقراطية تعددية، ونجحت فى نهاية المطاف فى رد الاعتبار لجنوب أفريقيا وتحسين صورتها على الساحة الدولية.. وبالرغم من شعبيته لم يحاول إسقاط حزب المؤتمر الحاكم فى أنانية سياسية، ولم يحاول إقصاء الآخرين ولكن فعل العكس بالتأكيد على مبدأ المشاركة والحوار والاهتمام بتحسين ظروف هذا البلد ، وفهمت جنوب أفريقيا الدرس، وتمسكت بالخيار الديمقراطى وهو ما جنبها السقوط فى حروب أهلية، واعتمد مانديلا على سياسة تجميع كل الأوراق وعدم تخويف المستثمرين، وأصحاب رءوس الأموال البيض الذين جرى تأمينهم لتشجيعهم على مواصلة الإسهام فى مشروعات التنمية.
وبعد عطاء كبير غادر رمز الكفاح ضد التمييز العنصرى النشاط السياسى المؤسساتى كرسى الرئاسة عام 1999 لرفيق الكفاح ثابو مبيكى، لقد رفض أن يبقى فى الحكم إلا فترة واحدة وترك السلطة راضيا ليضع أسس أقامة دولة ديمقراطية تؤمن بتداول السلطة واحترام أرادة الشعب.
وواصل مانديلا بعد تقاعده دوره الوطنى من خلال الجمعيات والحركات المنادية بحقوق الإنسان حول العالم، وفى يونيو عام 2004 قرر مانديلا التقاعد وترك الحياة العامة ، وأكد أنه لا يجد مكانا أفضل من البيت مع أحفاده.
حصل الزعيم نيلسون مانديلا على جائزة نوبل للسلام فى أكتوبر 1993 بالاشتراك مع رئيس جنوب أفريقيا فريدريك دى كليرك عرفانا بدورهما فى المسار الذى شقته البلاد على طريق المصالحة وطى حقبة التمييز العنصرى.
ووجد نيلسون مانديلا التكريم فى كل مكان فى العالم حتى أنه حصل على الدكتوراه الفخرية من خمسين جامعة فى أنحاء العالم، ونظرا لجهوده تم اختياره سفير الأمم المتحدة للنوايا الحسنة، كما منحته منظمة العفو الدولية جائزة سفير الضمير عام 2006، والتى تعد أرفع تكريم تمنحه تلك المنظمة. وكرم أيضا من عدد من زعماء العالم، كما تم تشييد تمثال له فى ميدان البرلمان بلندن، لقد استحق مانديلا كل هذا التكريم بعد حياة حافلة من النضال والكفاح من أجل بلده.