منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#67397
بعد اتفاق جنيف: طهران وحلم الوفاق مع 'الشيطان الأكبر'
بما أن أميركا هي التي قادت المفاوضات، فلا حاجة لإيران لدوام استخدام شعار 'الموت لأميركا'، إذ يجري عملياً الاكتفاء بشعار مستتر وجاري التنفيذ على قدم وساق مفاده: الموت للسوريين.
العرب محمود الريماوي [نُشر في 29/11/2013، العدد: 9394، ص(8)]
يعكس الاتفاق الغربي الإيراني واقعا جديدا نسبيا في كل من أميركا وإيران، وباحتساب أن الولايات المتحدة هي من قادت عملياً المفاوضات عن الطرف الغربي، وقد بات شائعاً الآن أن مفاوضات سرية جرت بين ممثلين لكل من واشنطن وطهران، وأن هذه المفاوضات هي التي مهدت لاتفاق مجموعة الخمسة زائد واحد مع الوفد الإيراني في جنيف.

الواقع الجديد نسبياً يتمثل في إدارة ديمقراطية في البيت الأبيض تعتبر المواجهة العسكرية هي الخيار الأقصى والأخير مع الخصوم، وليست الخيار الأول والرئيس. وفي الوقت ذاته فإن هذه الإدارة تضع الحدّ من الطموحات الإيرانية النووية هدفاً رئيساً لها، ولهذا كرّر الرئيس أوباما مخاطبة الكونغرس بضرورة عدم سن عقوبات جديدة على إيران، وحذّر بأن البديل لحل سياسي/ دبلوماسي متفاوض عليه هو المواجهة العسكرية. وقد سبق لأغلبية الكونغرس من ديمقراطيين وجمهوريين، أن حبّذوا نزع الأسلحة الكيماوية السورية بدلاً من توجيه ضربة عسكرية للنظام في دمشق، وقد اعتمد أوباما على هذه السابقة، من أجل تكرار جزء من السيناريو مع الملف النووي الإيراني وذلك لجهة تحبيذ بلوغ الهدف عبر التفاوض والضغط الدبلوماسي وتجنب الدخول في مواجهة عسكرية، علماً بأن هذه المواجهة نظرياً تفوق في محاذيرها بأضعاف، أية ردود محتملة من قبل النظام في دمشق على ضربة كان مهددا بها.

على الطرف الآخر فإن حسن روحاني الرئيس الإيراني المنتخب، يسعى للجمع بين مطالب الإصلاحيين في بلاده بالعمل على رفع العقوبات وتطبيع العلاقات مع دول العالم، مع الاحتفاظ بالحد الأدنى من مطامح المحافظين المتشددين من أجل رؤية ايران نووية. رحلة روحاني إلى نيويورك للمشاركة في الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة كانت أقرب إلى «حج» سياسي، فقد قام الرجل بقدر من النجاح بتسويق «التغيير» في بلاده، والاستعداد للانفتاح على الغرب والحوار معه. دون أن يكون هذا الرجل نسخة جديدة عن الرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي. إنه أقرب في أدائه إلى هاشمي رفسنجاني كرجل معتدل ضمن دائرة المحافظين المتشددين، والذي يحظى بثقة المرجع علي خامئني.

والآن فإن الاتفاق الذي تم في جنيف 19 نوفمبر 2013 هو مرحلي ومؤقت، يسري لمدة ستة أشهر، يقيد طهران إذ يخفض من نسب التخصيب إلى خمسة بالمئة ويطلق يد المفتشين الدوليين للقيام بمهامهم في أي وقت، وعلى إيران أن تُسلّم معلومات مفصّلة إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتضمن تصاميم المنشآت النووية ووصفا لكل مبنى في كل موقع نووي. أما الإفراج عن الأرصدة الإيرانية (بالمليارات) فلم يتم التطرق إليه، لكن عقوبات اقتصادية سيجري تخفيفها ومن أبرزها التجارة الإنسانية المتعلقة بالغذاء والدواء، والعقوبات على تجارة الذهب والمعادن الثمينة، وعلى صناعة السيارات في إيران. بنود الاتفاق ترضي جزئيا الطرفين المتفاوضين كما هو الحال في أية مفاوضات جدية بين فريقين يتمتعان بقدر من الندّية. ومع الفارق بين الوضعين السوري والإيراني فإن ثمة تشابها بين الاتفاقين، إذ مع النظام في دمشق يتم نزع السلاح الكيماوي، بينما مع طهران يتم وضع المنشآت النووية تحت رقابة مشددة ويحظر بناء أية منشآت جديدة.

في واقع الأمر إن الاتفاق يقيد يد طهران ولا يطلقها. الذين هللوا للاتفاق في معسكر الحلف القائم بين طهران ودمشق استندوا إلى أن الدول الكبرى فاوضت طهران وهذا بحد ذاته في رأيهم انتصار عظيم بصرف النظر عن بنود الاتفاق وآفاقه. إيران أصبحت دولة كبرى في مصاف بقية الدول الكبرى في العالم، ولو أن هذه الأخيرة قيدت الأولى وكبحت جماحها، وبما أن أميركا هي التي قادت المفاوضات، فلا حاجة الآن لدى هذا المعسكر لدوام استخدام شعار «الموت لأميركا»، إذ يجري عملياً الاكتفاء بشعار مستتر ولكنه جاري التنفيذ على قدم وساق وعلى مدار الساعة مفاده: الموت للسوريين.

لاشك الآن أن الاتفاق أشاع مناخاً جديدا في علاقات الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدول العالم، وأنه يمثل خطوة تمهيدية لحالة تطبيع غربي مع طهران. الشيطنة والتأثيم المتبادلان في سبيلهما للانحسار، وكلا الطرفين يخسر بذلك ذخيرة أيديولوجية للتمكين الداخلي، علماً أن طهران هي الخاسر الأكبر في هذا المجال، وهي التي استخدمت ذخيرة العداء لكل ما هو غربي، للتمكين في الداخل وللتستر على ضعف التنمية في هذا البلد النفطي حيث يعيش أكثر من نصف الإيرانيين تحت خط الفقر: خمسة ملايين على الأقل عاطلون عن العمل، ومئات المصانع والوحدات الإنتاجية أغلقت أبوابها في لسنوات الخمس الأخيرة وسرّحت عشرات الآلاف من العمال.

وفي واقع الحال فإن هذا الإفقار الداخلي مرتبط عضوياً بمطامح النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وتسخير جزء كبير من موارد هذا البلد لغايات التمكين في الخارج، ولعل الرعاية الإيرانية لحرب النظام في دمشق على شعبه تسليحاً وتمويلاً على مدار 32 شهرا، هي نموذج صارخ على كيفية إنفاق الموارد وتوجيهها.

من الواضح أن الصعوبات الاقتصادية التي فاقمتها العقوبات على تصدير النفط الإيراني هي في صلب توجه روحاني وفريقه الأقل تشدداً في الحكم، نحو إبرام تسوية مؤقتة مع الغرب بخصوص الملف النووي.

من حق العرب والجوار الخليجي لإيران بالذات، التوجس الشديد من المطامح النووية الإيرانية، والترحيب الحذر بالاتفاق له ما يسوغه، وذلك استناداً إلى مفاوضات طويلة بل ماراثونية جرت بين طهران ومجموعة الخمسة زائد واحد، إضافة إلى سلسلة من المباحثات الإيرانية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد استغلتها طهران للتوسع في منشآتها النووية، وفي المثابرة على التمكن في الخارج: من العراق إلى لبنان وسوريا وفلسطين واليمن والبحرين ومصر.

لاشك أن الاتفاق سيكون موضع ترحيب عربي أوضح، إذا ما وفّر بيئة تراجع فيها طهران أية مطامح أو نوازع لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وتوقفت عن سياساتها التدخلية في أرجاء واسعة من العالم العربي، وإذا ما أبدت سلوكاً مُطَمْئِناً تجاه دول الخليج، وهي التي طالما وضعت الوجود الأميركي مادة دعائية سلبية، علما أن المطامع الإيرانية المقترنة بالغطرسة، ومن قبلها مطامع نظام صدام، هي الأساس والمحرك للاستعانة الخليجية بقدرات دفاعية غربية.

ويستحق الملاحظة في ختام هذا العرض أن اتفاق طهران مع الغرب عموماً ومع واشنطن خصوصاً، يبطل المقولة الإيرانية بأن الخليجيين قد استقدموا «الأعداء» إلى شواطئ الخليج، بعدما أصبح استئناف العلاقات بين طهران وواشنطن، حُلماً يراود الإيرانيين الحاكمين في الليل والنهار، من أجل الخروج من عزلتهم، والتحرر من القيد الثقيل للعقوبات.

كاتب أردني