صفحة 1 من 1

في ذكرى رحيل ماوتسي تونغ , القصة المجهولة

مرسل: الأربعاء ديسمبر 04, 2013 5:38 am
بواسطة نواف الموسى 333
ثلاثون عاماً مضت على رحيل ماوتسي تونغ، زعيم الصين الجديدة، وموحدها تحت راية الشيوعية. رحل ماوتسي تونغ، ورحلت معه منظومته الفكرية، التي اتخذت اسم وصفة الماوية ، في الصين أولاً، التي بنى دعائمها، ثم في الحركة الشيوعية العالمية، التي قسم صفوفها، منذ السنوات الأولى التي أعقبت انتصار الثورة الصينية، وترافقت مع قيام نظام اشتراكي عالمي، بقيادة الإتحاد السوفياتي. بعد رحيل ماو غاب في الصين لقب الزعيم الأوحد. وتقلص بالتدريج، وبسرعة مذهلة، الحديث القديم عن الدور الذي كان يريد ماو أن يعطيه للصين، كدولة شيوعية عظمى، مقترناً بنظريته الماوية، كصيغة مختلفة عن الصيغة السوفياتية لتعميم أفكار ماركس، ولنقل هذه الأفكار إلى الواقع، في العالم المعاصر. ووضع جثمان ماو في متحف كبير وسط العاصمة بكين، لكي يستقر فيه، ولتستقر معه في هذا المتحف المعظم أفكاره وسياساته ونهجه التدميري الذي رافقه في الثورة وفي بناء دولة الصين الشعبية.

وخلف ماو في زعامة الحزب الشيوعي الصيني، وفي قيادة الدولة الصينية العظمى، دينغ هسياو بينغ، الذي كان أحد ضحايا ماو في الثورة الثقافية. فباشر هذا الزعيم الجديد، على الفور، بتغيير نهج ماو، بالكامل، في بناء الصين الجديدة. ورفض دينغ أن يبقى، بعد تقدمه في السن، في موقع المسؤولية. وترك للأجيال الجديدة أن تتابع الطريق الواقعي، المرتبط بالعصر، لبناء الصين، حجراً حجراً، من دون "قفزة كبرى" أو "ثورة ثقافية" أو أي مغامرة تحمل طابع التسريع القسري في تحقيق التقدم. إذ اعتبر دينغ أن للتقدم شروطاً موضوعية واقعية، وزمناً ضرورياً لا بد من اجتيازه، وأن صنع التقدم إنما يحتاج إلى جهد الصينيين جميعاً. وفي ظل توفر هذه الشروط، وليس خارجها، تستطيع الصين أن تنتقل، مرحلة إثر مرحلة، لتأخذ دورها الطبيعي غير المفتعل، الذي يعود لها في الزمن الحالي، والذي سيعود لها في المستقبل القريب، وفي المستقبل البعيد، على وجه التحديد.
ماذا يعني هذا الكلام، في معرض الحديث عن الكتاب الذي صدر مؤخراً باللغة العربية عن دار النهار، في الذكرى الثلاثين لغياب ماوتسي تونغ، حاملاً إلى العالم ما اعتبره مؤلفاه القصة المجهولة لحياة هذه الشخصية الصينية العجائبية؟
الموضوع هنا يتصل بكاتب هذه السطور، الشيوعي العتيق، ابن المدرستين في الشيوعية، القديمة المنهارة منها، والجديدة التي لم تولد بعد، والتي تبحث عن ذاتها، ويسهم في البحث عنها وعن توليدها المنتمون إليها. بل أن هذا الموضوع إنما يتصل، في الحقيقة، بالملايين من أمثالي، من الأجيال المتعاقبة، من شيوعيي بلداننا العربية، ومن شيوعيي العالم الكثر، الذين حطم انهيار التجربة الإشتراكية أحلامهم، وتركهم أسرى حالتين: الوهم باستعادة الماضي عند بعضهم، والبحث، عند الآخرين، عن الجديد الذي لم يولد بعد.
أسوق هذا الكلام، بعد أن فرغت من قراءة هذا الكتاب الضخم عن القصة المجهولة لحياة ماوتسي تونغ، الذي وضعه كل من الصينية يونغ تشانغ وزوجها الإنكليزي جون هوليداي. وضخامة الكتاب لا تنحصر في عدد صفحاته الستمئة واثنتين وثمانين. بل أن ضخامته تتمثل، أساساً، في هذا الحشد الهائل من المعلومات التي بذل المؤلفان جهداً كبيراً يستحقان عليه التقدير من أجل الحصول عليها من مصادرها المتعددة، بما في ذلك من ترسانة أرشيف ماوتسي تونغ الشخصي بالذات. لكن الأكثر إثارة للدهشة في هذا الكتاب هو تلك العناية الفائقة، التي لا تخلو، في نظر قارئ شيوعي مثلي، من وظيفة سياسية وأيديولجية، للربط المحكم بين أمور ثلاثة. الأمر الأول يتعلق بالتطور المتسق، الحافل بالتناقضات، لشخصية ماوتسي تونغ، ولطبائعه ولطموحاته، وللجرائم غير المسبوقة في تاريخ العالمين القديم والحديث، التي ترافقت مع مغامراته، وأعطت لهذه المغامرات طابعها المزدوج والمتناقض، طابع التدمير من أجل البناء. الأمر الثاني يتعلق بالملحمة الأسطورية المتمثلة ببناء دولة الصين الجديدة، بقيادة ماوتسي تونغ. وهو أمر ينبغي ألا يغيب، أو يغيَّب، في الحديث عن تلك الحقبة من تاريخ الصين. الأمر الثالث يتعلق بمفهوم ماوتسي تونغ للشيوعية، وربط هذا المفهوم، عند ماو في الممارسة، ربطاً محكماً بين مطامحه الشخصية كزعيم متوّج، بلا منازع، لبلده، وحلمه في بناء الدولة الصينية العظمى، من ناحية، وبين تطويع فكر ماركس ومشروعه الإشتراكي لهذين الطموح الشخصي عنده، ولحلمه القومي الصيني، الذي أراد، كما قال هو بالذات، أن يحل في العصر الجديد، في الفكر وفي الممارسة، محل التراث العظيم للحكيم الصيني القديم كونفوشيوس، من ناحية ثانية.
ويكاد القارئ يتذكر، من خلال هذه المعطيات التاريخية، الغزوات المغولية، من هولاكو إلى جنكيزخان إلى تيمورلنك. وجميعهم كانوا أبطالاً قوميين في نظر شعوبهم وأنشأوا دولاً وحضارات دامت قروناً.
كان عليَّ، وأنا أقرأ الكتاب مع زوجتي، في مسلسل ليلي على امتداد أسبوعين كاملين، أن أبحث عما يمكن أن يوحّد بين ما كنت أعرفه عن ماوتسي تونغ خلال الأعوام الستين من عمري كشيوعي، وبين ما يمكن أن يقدمه لي هذا الكتاب ولكل الذين سيقرأونه من أمثالي، مما لم نكن نعرفه، أومما كان مخفياً عنا، أو مما لم نكن نسعى لمعرفته، خوفاً من اكتشاف الحقيقة المرة، الحقيقة المأساوية التي سبق أن قدمت لنا عن عهد ستالين في أواسط خمسينيات القرن الماضي.
فماذا أعطانا هذا الكتاب من جديد لم نكن نعرفه عن هذه الشخصية الإستثنائية التي تحمل اسم وتاريخ وفكر ومغامرات ماوتسي تونغ؟
سيكون من الصعب، بل من غير الممكن إطلاقاً، أن أقدم عرضاً لهذا الكتاب، فصلاً فصلاً، وحدثاً حدثاً، ومرحلة مرحلة من تطور شخصية ماوتسي تونغ، ومن تطور حلمه في بناء الصين العظيمة، وعن مغامراته لتحقيق هذا الحلم.
سأتوقف باختصار عند بعض الاحداث والوقائع التي تقدم صورة مكثفة عما هو ضروري معرفته، حول ما كان يرمي إلى تحقيقه ماوتسي تونغ، منذ شبابه الباكر، في ما يشبه الأسطورة، بالنسبة إلى مستقبل الصين، وحول نظرته إلى موقعها القادم في العالم المعاصر، وحول سياساته، وحول أفكاره، وحول ممارساته. إذ أن هذه المعرفة ستجعلنا أكثر قدرة على معرفة ما هو ضروري معرفته حول ما يجري اليوم، وبعد ثلاثين عاماً من غياب ماوتسي تونغ، من إعداد لهذا الدور المرتقب للصين، على يد القادة الجدد، الذين اختلفوا عن ماو في فهمهم لهذا الدور، وتمايزوا تمايزاً أساسياً عنه، في الفكر وفي السياسة وفي البراغماتية. كما تمايزوا عن ماو في الفهم الواقعي لأفكار ماركس، وفي تجاوز هذه الأفكار في الآن ذاته. وتمايزوا عنه، في العلاقة الأكثر إنسانية مع مواطنيهم، حتى وهم يتابعون النهج القديم في احتكار السياسة والسلطة. وهو احتكار كان الحزب الواحد، الحزب الشيوعي، هو عنوانه الأبرز، الذي لم ير قادته الجدد أي تناقض بين اسمه وبين دلالات هذا الإسم، وبين برنامجه الداعي إلى بناء رأسمالية حديثة. وكان المؤتمر الأخير للحزب الأكثر تأكيداً على هذا النهج. الأمر الذي يذكر بما فعله لينين بعد انتصار ثورة أوكتوبر بأربعة أعوام، حين أعلن، من موقع السلطة باسم الحزب الشيوعي الروسي، "السياسة الإقتصادية الجديدة" (النيب)، بديلاً من السياسة السابقة التي أقرّ بفشلها في الحرب الأهلية، التي حملت عنوان "الشيوعية الحربية"، وأحدثت دماراً فوق الدمار الذي كانت تعيشه روسيا من جراء مشاركتها في الحرب العالمية الأولى. وكان من أبرز ما جاء في "السياسة الإقتصادية الجديدة" الدعوة إلى إقامة ما سمّاه لينين "رأسمالية الدولة" في روسيا، كخيار لا بديل منه، بالنسبة إلى الشيوعيين الروس في تلك المرحلة الأولى، المرحلة التي ينبغي أن يتم فيها بناء القاعدة المادية للإشتراكية في بلدهم.
لقد رصد مؤلفا الكتاب تطور شخصية ماوتسي تونغ وهو في ريعان شبابه. فاكتشفا جانباً أساسياً من طباعه التي رافقت مسيرته الطويلة. فهو "الضعيف الإيمان" كما يقولان. وهو الأناني. وهو صاحب المزاج الفردي الحاد، الذي جعله لا يحب أحداً، ولا يحسب حساباً لأحد. طموحاته غير محدودة. لا يخاف اقتحام الصعوبات، أيا كان نوعها وحجمها. لكنه يهيئ نفسه لكل حالة تنشأ في طريقه الذي يريد بسلوكه أن يقوده إلى المجد. ولا يتردد في الدوس على حياة ومصائر الأقربين إليه، حتى أفراد عائلته، زوجاته وأبنائه، حين كان يرى أن ذلك يسهل له طريقه للوصول إلى ما يبتغي. وهي صفات كانت تزداد قوة ورسوخاً عند ماو كلما كان يتقدم في طريقه إلى السلطة، داخل الحزب الشيوعي الصيني، منذ السنوات الأولى لتأسيسه في عام 1921، وإلى السلطة المطلقة في الحزب وفي البلاد، في المراحل التي كانت تتأسس فيها العناصر الأولى للدولة الصينية الحديثة، وصولاً إلى المرحلة التي انتصرت فيها الثورة بقيادته، وبدأت تبنى فيها الصين الجديدة، بزعامته، ووفق أفكاره وسياساته.
وقد لاحظت، أو هكذا خيّل إليَّ، أن مؤلفي الكتاب تسرّعا في استحضار اسم ستالين، في الحديث عن الحزب الشيوعي الصيني، وعن الجيش الأحمر الذي أنشأه الحزب، ارتباطاً بالنموذج السوفياتي. فستالين لم يصبح زعيماً مطلقاً للإتحاد السوفياتي إلا بعد سنوات من وفاة لينين، أي في أواخر عشرينيات القرن الماضي. ثم أنني لاحظت أن المؤلفين لم يدركا المعنى الحقيقي لاهتمام الإتحاد السوفياتي بالصين، وتحديداً في عهد قيادة لينين للحزب الشيوعي الروسي وللدولة السوفياتية، وللأممية الشيوعية. وبقدر ما تيسر لي من معرفة بتاريخ الثورة الروسية، وبسياسة لينين في قيادته لها، وللدولة السوفياتية التي أنشأها في أعقاب انتصار الثورة الإشتراكية، فإنني أستنتج، بما في ذلك بالإستناد إلى أقوال لينين بالذات، بأن توجهات الدولة السوفياتية الخاصة بنشر أفكار الإشتراكية على الصعيد العالمي، قد اختلفت، بعد انتهاء الحرب الأهلية الروسية في عام 1921، عما سبقها، في لحظة تأسيس الأممية الشيوعية في عام 1919. كان هدف الأممية الشيوعية تأسيس أحزاب شيوعية في كل بلدان العالم، لا سيما في أوروبا المتقدمة. لكن الحرب الأهلية، وتدخل أربع عشرة دولة في تلك الحرب لمنع الثورة من تحقيق كامل أهدافها، وهي كانت حليفة لروسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى، جعلت لينين يتوجه نحو بلدان الشرق الآسيوي، التي كانت معظمها تناضل من أجل تحررها من السيطرة الإستعمارية، المتمثلة بالدول الأوروبية تحديداً. ومعروفة في التاريخ توجهات لينين نحو شعوب الشرق، بما فيها مناطق آسيا الوسطى التي صارت جزءاً من الإتحاد السوفياتي بعد انتصار ثورة أوكتوبر، وصولاً إلى الهند وإيران وأفغانستان والصين والهند الصينية، والبلدان العربية، التي كانت مصر، بالنسبة إلى لينين، أكثرها أهمية، وأكثرها أهلية لانتصار الثورة الوطنية التحررية فيها. وقد حدثت في جميع هذه البلدان ثورات وطنية في تلك الفترة بالذات. وكان مؤتمر باكو لشعوب الشرق، الذي عقد بقيادة لينين بمبادرة منه في عام 1921، التعبير المميز عن هذه التوجهات عند لينين، التي أكدها، بالنسبة إليه، فشل ثورتي ألمانيا والمجر الإشتراكيتين، اللتين قامتا مباشرة في أعقاب انتصار ثورة أوكتوبر، تضامناً معها، واستلهاماً لأفكارها، واستكمالاً لمسيرتها. وكانت قد بدأت تتكوّن، منذ ذلك التاريخ، العناصر الأولى للفاشية التي قادت أوروبا والعالم إلى الحرب العالمية الثانية، بعد خمسة عشر عاماً من وفاة لينين. ومعروفة المقولة الشهيرة للينين، التي تعبر عن جوهر توجهاته المشار إليها:
آسيا المتقدمة وأوروبا المتخلفة.
كان ستالين لصيقاً بلينين. لكنه كان دونه بالتأكيد ثقافة وفكراً. وقد حاول أن يأخذ منه بعضاً من أفكاره، وبعضاً من صفاته، نزعته الفردية، التي هي أسوأ صفاته، وترك جانباً الإيجابيات من تلك الصفات والسمات والأفكار. وتابع ستالين، بعد وفاة لينين، الإهتمام ذاته بالشرق الآسيوي. وكانت الصين في مقدمة اهتماماته. ويروي مؤلفا الكتاب تفاصيل جديدة، غير معروفة بالنسبة إليَّ، وربما بالنسبة إلى كثيرين في مشارق الأرض ومغاربها، حول دور موسكو، بقيادة ستالين، في الدعم الذي كان يقدم للحزب الشيوعي الصيني، وللجيش الأحمر الصيني، وللمناطق التي كان يستولي عليها الشيوعيون الصينيون، في زجفهم الصعب وباهظ الكلفة بشرياً ومادياً، لا سيما في المسيرة الطويلة الشهيرة، التي كان يقودها ماوتسي تونغ، في اتجاه الحدود مع منشوريا، للإقتراب من الإتحاد السوفياتي، ولجعل الدعم المادي والسياسي والعسكري من قبل هذا الأخير، للثورة الصينية، أكثر منالاً وأكثر فاعلية.
ويبدو لقارئ الكتاب بوضوح أن ماوتسي تونغ، إضافة إلى طموحاته وكفاءاته الشخصية، وإلى نزواته ومغامراته اللصيقة بشخيصته، كان قد بدأ يتسقط أخبار ستالين، ويتخذ منه مثالاً له، في ظروف الصين وتقاليدها وأوضاعها الخاصة. ورغم أن ماو، كما يشير إلى ذلك المؤلفان، قد انتسب إلى الحزب الشيوعي في وقت مبكر، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يدخل إلى صفوف حزب الكيومنتانغ القومي، الذي كان قد أسسه الزعيم الوطني صن يات صن، وخلفه بعد وفاته، في زعامة الحزب وفي زعامة الحركة الوطنية الصينية، تشان كاي شك. لكن ماو سرعان ما ترك هذا الحزب القومي، وبدأ خطته للإستيلاء التدريجي على قيادة الحزب الشيوعي، وعلى القيادة العسكرية للجيش الأحمر. وبدأ، في الوقت ذاته، يخوض صراعاً سياسياً وعسكرياً، باسم حزبه الشيوعي، مع تشان كاي شك. إذ كانت قد تبلورت فكرة الثورة، بدعم من موسكو، للإستيلاء على السلطة في هذا البلد الآسيوي الكبير. لكن هذا الصراع كان يزداد صعوبة وتعقيداً، بالنظر للمطامع اليابانية، من جهة، وللمطامع وللمصالح البريطانية، وحتى الأميركية، في الصين، من جهة ثانية. وكان ستالين يرى في الثورة الصينية أمرين متناقضين. فمن جهة كان يرى حاجة الإتحاد السوفياتي إلى وجود دولة آسيوية عظمى تقف إلى جانبه وتشاطره السياسة والإقتصاد، والموقع والقوة العسكريتين، والأيديولجيا. وكان يرى، من جهة ثانية، المخاطر المتمثلة بتبلور مصالح صينية حقيقية كلما كانت تقترب الثورة الصينية من احتمال انتصارها. لكن ستالين سرعان ما بدأ يرى في نموذج ماوتسي تونغ، القيادي المغامر وشديد الطموح، خصماً محتملاً وداهماً. وهذا ما أصبح واضحاً من دون التباس في المرحلة الأخيرة من الثورة، وبالأخص في المرحلة الأولى التي أعقبت انتصارها. وهو ما أبرزه مؤلفا الكتاب في القسم الأخير من كتابهما، عندما أشارا بوضوح إلى العقبات التي ظلت تحول دون تحقيق زيارة ماوتسي تونغ إلى موسكو، بقرار واعٍ من ستالين. وكان هذا التأخير المتعمد في تلبية رغبة ماو لزيارة موسكو يشير إلى القلق عند ستالين من هذا المارد الآتي من قلب ذلك البلد العظيم إلى موقع القيادة في الحركة الشيوعية، التي كان الإتحاد السوفياتي زعيمها غير المنازع. فإن قيام نظام شيوعي في الصين كان، في نظر ستالين، سيؤهل كلاً من ماوتسي تونغ والدولة الصينية بزعامته للعب دور كبير في السياسة العالمية، ولو بالتدريج، دور يتطابق مع حجم الصين. وقد اكتشف ماوتسي تونغ، عن كثب، ومن دون كبير جهد، خلال زيارته الأولى إلى موسكو للقاء ستالين في عام 1951، كيف أن ستالين قد تعامل معه بصلافة، وبإذلال مقصودين. وفهم المغزى من ذلك. فبدأ، بعد ذلك التاريخ، يهيئ للمرحلة اللاحقة في العلاقة مع الإتحاد السوفياتي. ورغم أن معاهدة الصداقة بين البلدين كانت تشير إلى التكامل بين الجبارين الشيوعيين في كل الميادين، كضروة لكل منهما، ولما كانا يعتبرانه يصب في مصلحة أفكارهما المشتركة المتمثلة بالشيوعية، فإن عناصر الخلاف بينهما كانت تتكوّن وتكبر بسرعة، خصوصاً بعد وفاة ستالين. وسرعان ما انفجر الصراع بين القطبين الكبيرين في أول مؤتمر للأحزاب الشيوعية عقد في موسكو في صيف عام 1957. وهو المؤتمر الذي أعقب حدثين كبيرين: الأول هو المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي الذي كرس نهجاً جديداً في الحزب السوفياتي مغايراًَ لنهج ستالين، مرفقاً بتقرير يدين جرائم ستالين خلال عهده الطويل. الثاني هو التدخل السوفياتي في المجر لقمع ما سمي بالـ"ثورة" لإصلاح الإشتراكية.
لكن الطرفين اتفقا على أن يبقى ذلك الخلاف سرياً، ربما بانتظار أن يعد كل منهما العدة لما بعد الإنفجار، أو ربما للبحث في إمكانية تجنب انفجار ذلك الخلاف، بالنظر لمخاطره الكبرى عليهما. لكن الإنفجار لم يتأخر. وظهر إلى العلن في المؤتمر الثاني للأحزاب الشيوعية، الذي عقد في موسكو أيضاً في عام 1960. وكان خروتشوف قد حل محل ستالين في قيادة الإتحاد السوفياتي، بعد صراع قصير مع الحرس القديم. وكان من نتائج ذلك الإنفجار انقسام الحركة الشيوعية بين موالٍ للإتحاد السوفياتي وموالٍ للصين. لكن الإتحاد السوفياتي ظل هو الأقوى في تقاسم النفوذ. أما الأحزاب الشيوعية فقد دفعت الثمن الباهظ لذلك الخلاف وللإنقسام الذي أدى إليه في المعسكر الإشتراكي وفي الحركة الشيوعية العالمية. إذ واجهتها صراعات وانقسامات حادة، أدت إلى إضعاف دورها في بلدانها. كذلك واجهت حركات التحرر الوطني مثل تلك الإنقسامات. وتعطل إلى حد كبير ، بفعل ذلك الصراع بين الجبارين، دور المنظمات الديمقراطية العالمية، التي كانت قد تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية بدور مباشر من موسكو، ودعم لاحق من بكين. وكنت شاهداً على ذلك، بحكم وجودي على التوالي، في منظمتين من تلك المنظمات، في بودابست وفي فيينا، هما اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي ومجلس السلم العالمي.
لم يعر مؤلفا الكتاب لهذا الحدث الكبير المشار إليه اهتمامهما. إذ كان همهما الأساسي هو متابعة تطور شخصية ماوتسي تونغ، مرحلة إثر مرحلة. وقد سجلا، خلال جهدهما الكبير في هذه المهمة، وقائع مذهلة تركزت أساساً على الجرائم التي ارتكبها ماو في سعيه للإستيلاء على السلطة في الحزب، ثم للإستيلاء على السلطة في الصين بعد انتصار الثورة. لكنهما ركزا، خصوصاً، على نهج ماو في بناء الدولة الصينية بقيادته، النهج الذي أنتج دماراً غير مسبوق في تاريخ العالم المعاصر. وباستطاعة القارئ، إذا ما توفر عنده الوقت والجلد والصبر لقراءة الكتاب من ألفه إلى يائه، أن يرى كيف أن ماو كان يمارس أنواعاً متعددة من الإرهاب والقتل والتعذيب، مباشرة، وعبر المؤامرات المحاكة بواسطة زبانيته، من أجل تحقيق مآربه، وتثبيت زعامته. وكان يضحي بالألوف من الشيوعيين، من دون أن يرف له جفن، قياديين وكوادر وأعضاء عاديين. وكان يقصي بالتآمر رفاقه في القيادة، الواحد تلو الآخر، ويذلهم ثم يعيدهم أذلاء إلى مواقع الولاء له. وكان من أوائل تلك الأعمال ومن أكثرها إجراماً بحق رفاقه في الحزب ما رافق عقد المؤتمر السابع للحزب في عام 1945. وهو المؤتمر الذي أبرز فيه ماو نظريته، التي حملت لأول مرة صفة "فكر ماو". واقتضى ذلك منه إحداث تطهير في الحزب شمل قياديين كباراً وكوادر. كما شهد أعمال تعذيب وإذلال. ولم يتردد ماو، عشية استكمال خطته لفتح الصين، كما سمّى ذلك مؤلفا الكتاب، في إعلان ما سماه ماو "حرب الأفيون الثورية"، سعياً للحصول على المال، مستلهماً في ذلك حرب الأفيون الشهيرة التي عرفتها الصين في القرن التاسع عشر بين المقاطعات الصينية المتصارعة.
تابع ماوتسي تونغ، وفق ما يروي الكتاب، طريقه إلى بناء الصين العظمى، بعد انتصار الثورة. فخاض أولى مغامراته المعروفة "بالقفزة الكبرى". وهي "قفزة" لم تكن متوفرة شروطها الموضوعية للنجاح. فقسم الصين إلى "كومونات". وطلب من هذه الكومونات أن تتنافس فيما بينها في الإنتاج الصناعي بأدوات متخلفة، والإستعانة في ذلك بالفلاحين. فكان الفلاحون الضحية الكبرى لتلك "القفزة". إذ هلك من جراء المجاعة، خلال أقل من عشر سنوات من عمر "القفزة"، اثنان وثلاثون مليوناً منهم، كما يؤكد مؤلفا الكتاب في استقصاءاتهم التاريخية. وهكذا أثبتت "القفزة الكبرى" فشلها. وواجهت ماو انتقادات حادة بسببها، من قبل رفاقه في قيادة الحزب والدولة، ومن قبل المواطنين العاديين. إلا أنه رفض الإقرار بالفشل. وانتقل إلى "الثورة الثقافية" التي قضى فيها على الكثير مما ارتبط بتاريخ الصين القديم وبحضارتها، وما اختزنته المكتبات من كنوز ثقافية في الآداب والفنون، وما احتوته المعابد القديمة من تراث حضاري. إذ أحرق ماو الكثير من هذه الكنوز، باعتبارها كانت تمثل في نظره نماذج للثقافة البرجوازية والإقطاعية المعادية لأفكار الثورة البروليتارية، ودائماً باسم الشيوعية المغدورة، وباسم أفكار ماركس، المداسة هي وقيمها ومثلها بأقدام طغاة من أمثال ستالين إلى ماوتسي تونغ وبول بوت في كمبوديا. ولم يكتف ماو بذلك. بل هو قرر، في ذات عام من أعوام طغيانه في زمن الثورة الثقافية، إيقاف التعليم في المدارس تحريراً للأجيال الجديدة من الآثار السلبية للثقافة البرجوازية. لكن واحداً من أبشع ما يشير إليه الكتاب، وما هو معروف في تاريخ الحزب الشيوعي الصيني، هو موقف ماوتسي تونغ من رفاقه الكبار، شركائه في قيادة الثورة والبلاد والحزب، ليوشاوشي وشو إن لاي وتشو ته ودينغ هسياوبينغ، وآخرين من كبار القادة ومن كبار المفكرين. إذ أن هؤلاء ظلوا يواجهون الإضطهاد والإذلال، والإقصاء من مواقعهم، إلى أن غادر أكثرهم الحياة، الواحد منهم إثر الآخر، في أسوأ ما تكون عليه النهاية. ويقول مؤلفا الكتاب بأن ماو حرم شو إن لاي، بقرار سري منه، من المعالجة من مرض السرطان، وتركه يموت في فراشه عليلاً، مع بقائه حتى آخر أيام حياته رئيساً للحكومة. وكان هذا هو مصير ليو شاو شي، الذي ظل رئيساً للدولة حتى آخر حياته. أما دنغ هسياو بينغ فقد واجه السّحل في الشوارع، من دون أن يفارق الحياة. وكان ذلك من حظ الصين المعاصرة، صين ما بعد ماوتسي تونغ. إذ أصبح دينغ رمز نهضة الصين الجديدة، لكن في طريقة مختلفة بالكامل عن طريقة ماوتسي تونغ، وبالقليل من الخسائر. بل إن دينغ هو الذي وضع السياسة طويلة المدى لتحرير الصين من آثار المجاعة، التي كانت متبقية من عهد ماوتسي تونغ. واستعاد بالدبلوماسية جزيرة هونغ كونغ. ولم يغامر سياسياً وعسكرياً في السعي لاستعادة جزيرة تايوان. وأعاد العلاقة مع الإتحاد السوفياتي قبل أن ينهار، وتنهار معه التجربة الإشتراكية. وأقام علاقات سياسية مع الدول الكبرى، على أسس جديدة من الواقعية. وتخلى عن الماوية، في الفكر وفي السياسة، وفي عملية البناء. وأعاد العلاقة مع الأحزاب الشيوعية إلى طبيعتها، على قاعدة مبدئية الإحترام المتبادل وعدم التدخل من قبل أحد في شؤون الآخر، والإقرار باستقلالية كل حزب في تقرير سياساته ومواقفه وخياراته.
غادر ماوتسي تونغ الحياة في عام 1976، بعد أن كان قد بلغ الثانية والثمانين من عمره. لكنه تحول في سنوات عمره الأخيرة إلى ما يشبه المومياء. إذ هو فقد القدرة على الحركة وعلى النطق. وكان المقربون إليه من قادة البلاد يترجمون تمتماته ويحولونها إلى قرارات، تتوافق مع أهوائهم.
لم أكد أنتهي من قراءة الكتاب مع زوجتي حتى كدنا نصاب بالدوار. ورغم أن كثرة من المعلومات الواردة في الكتاب كانت غائبة عن معرفتي، إلا أنني كنت ألمّ بالكثير من أمثالها. لكننا تساءلنا كلانا بقلق، زوجتي وأنا، نحن الشيوعيين العتيقين، عما إذأ كانت تلك المعلومات التي حفل بها الكتاب صحيحة بالكامل. ولم يكن بوسعنا أن نجيب عن هذا التساؤل. لكن معرفتنا بما كان يجري في الإتحاد السوفياتي في عهد ستالين جعلتنا أقرب إلى تصديق تلك المعلومات. ومع ذلك لا بد من طرح السؤال، في ما يشبه النقد للمؤلفين، عن الأسباب التي جعلتهما يغفلان مجموعة من المعلومات تتصل بأفكار ماوتسي تونغ التي أشارا إليها إشارة عابرة، كما تتصل بأفكار رفاقه الكبار، ليوشاوشي وشو إن لاي وعدد غير قليل من كبار المنظرين للثورة الصينية. وكانت لهؤلاء القادة الكبار مؤلفاتهم. وكانت تلك المؤلفات تشكل مرجعيات في تفسير وتحديد وإغناء النظرية الماوية في الثورة الوطنية التحررية، وفي الثورة الإشتراكية. وكان من أهم هذه الكتب كتاب ماو "الديمقراطية الجديدة" وكتابه "في التناقض". أما الكتاب الأحمر فكان يتضمن مقتطفات من كتاباته وأقواله. ثم لماذا لم يتحدث الكتاب عن أفكار ليوشاو شي خصوصاً، وهو المنظر الثاني للثورة، في الفكر وفي السياسة وفي التنظيم الحزبي. ولماذا لم يتحدث الكتاب، في السياق ذاته، بما يكفي من الإهتمام، وليس بالإشارات العابرة، إلى الدور الكبير الذي لعبه شو إن لاي، أولاَ في مؤتمر باندونغ في عام 1955، وفي حركة عدم الإنحياز التي قامت على أساس قرارات هذا المؤتمر ، ثم في المراحل اللاحقة، بوصفه الأكثر اعتدالاً في العلاقات مع الدول، وذلك من موقعه رئيساً للحكومة على امتداد حياته حتى وفاته. ثم لماذا لم يبرز المؤلفان الخلاف الذي نشب في الحركة الشيوعية، وأدى إلى انقسامها. ولماذا لم يشرا إلى التنظيرات السياسية لماو حول حركة التحرر الوطني، وحول الإستعمار كنمر من ورق، وحول سياسة التعايش السلمي، التي كان يسلكها الإتحاد السوفياتي، والتي اعتبرها ماو خيانة للبروليتاريا وللنضال الطبقي وللنضال ضد الإستعمار.
هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى تكملها، لا ترمي إلى التشكيك بالجهد الذي بذله مؤلفا الكتاب في إبراز العناصر المكونة لشخصية ماوتسي تونغ ولمسيرته الطويلة، منذ البدايات حتى نهاية العمر. بل أن الهدف من هذا الأسئلة هو معرفة الوظيفة السياسية والتاريخية، والأيديولوجية، من وراء التركيز على الطابع الوحشي والإجرامي لشخصية هذا الزعيم الصيني الإستثنائي. فإذا كان الغرض من الكتاب هو الاستنتاج بأن الشيوعية هي مثل سواها من الحركات في التاريخ، منذ القدم وحتى عصرنا الحالي، ترتبط أفكارها وبرامجها بأهواء ونزوات شخصيات كبيرة، وبمصالح توحد بين المطامح الشخصية والمطامح القومية، وأنها، بالتالي، غير معنية كثيراً بمصالح البشر، أفراداً وجماعات، وغير معنية بتحقيق السعادة لهم، كما تدعي أفكارها وبرامجها، إذا كان هذا هو الغرض السياسي من إصدار الكتاب، فإن ذلك سيكون من قبل المؤلفين تأكيداً أيديولوجياً يقلل من شأن دورهما كمؤرخين موضوعيين لحدث تاريخي كبير، يتصل بشخص ماوتسي تونغ، وبولادة الصين الجديدة. وإذ أشير إلى هذا "الخلل" (في الكتاب) في الأمور المشار إليها، برغم أهمية الجهد المبذول فيه من قبل مؤلفيه في متابعة تطور شخصية ماوتسي تونغ، فلأنني متمايز في انتمائي إلى الشيوعية عن كل التجارب التي حملت اسمها، ومتمايز في افكاري عن محاولات عدد من المفكرين الماركسيين في تفسير أفكار ماركس. لكنني، في الوقت عينه، أصرّ على إعلان انتمائي إلى المثل والمبادئ والقيم التي ارتبطت بمشروع ماركس لتغيير العالم. وهي مثل ومبادئ وقيم تؤكد على احترام الإنسان الفرد، وعلى احترام خياراته واحترام حريته. وهي تتمثل في تحقيق التقدم في ميادينه كافة مقروناً بالحرية وبحق البشر في العدالة الإجتماعية التي تحقق لهم السعادة، التي هي هدف كل الأفكار العظيمة منذ فجر التاريخ، حتى أيامنا الراهنة. وهي الأفكار والأهداف التي حاول أصحاب المطامح الخاصة من المغامرين إجهاضها، وتفريغها من مضامينها الإنسانية الحقيقية.
لقد أتيح لي أن أزور البلدان الإشتراكية كلها، ومنها الصين. وجاءت زيارتي إلى الصين في عهدين مختلفين: عهد ماوتسي تونغ في عام 1954، وعهد دنغ هسياو بينغ في عام 1987. ولست أدعي أنني كنت قادراً في عام 1954 على رؤية الأشياء والوقائع، أو حتى جزءاً يسيراً مما جاء منها في هذا الكتاب. لكن زيارتي لصين ما بعد ماوتسي تونغ قد قدمت لي صورة مختلفة عما تتجه الصين الجديدة إليه في توجهاتها السياسية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية. وهي توجهات تربط بين أمرين كبيرين متلازمين، برغم ما يمكن أن يحدث من فجوات مرحلية بينهما، هما: تحقيق التقدم للصين في كل الميادين، من أجل أن تصبح دولة عظمى بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتأمين الشروط التي تتيح للشعب الصيني التمتع الكامل بهذا التقدم. ولقد سمعت كلاماً صريحاً من نائب الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني هو شي لي، الذي استقبلني مع وفد الحزب الشيوعي اللبناني في عام 1987 بصفتي نائباً للأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، إذ قال لي بالحرف الواحد:" إن مهمتنا للأعوام العشرة القادمة هي إخراج مايتي مليون صيني من خط الفقر. أما خطتنا لبناء القاعدة المادية للإشتراكية فستحتاج منا إلى خمسين عاماً. إذ أننا سنعمل خلال هذا الزمن لتوفير الشروط التي تجعل التقدم المحقق في كل مجالاته يصب في خدمة رفاهية الشعب الصيني". وأردف قائلاً بوضوح، جواباً عن سؤال محرج وجهته إليه بخصوص الحريات العامة: "إن الطريق الذي سلكه غورباتشوف في الإتحاد السوفياتي باسم الديمقراطية، سيقود حتماً، إذا ما نحن سلكناه، إلى تفتيت الصين، هذا البلد الكبير في مساحته وفي عدد سكانه، والمتعدد في قومياته، وفي مناطقه المختلفة شروطها وتقاليدها". وترك لي أن أستنتج الباقي، مما كان شديد الوضوح بالنسبة إليَّ.
إن كل ما تقدم من ملاحظات على الكتاب، وما أشرت إليه من تجربتي في زيارتي للصين، يقودني إلى القول بأن ما هو أساسي في الشيوعية، بالنسبة إليَّ، ليس التمسك بالإسم، ولا في كثرة الحديث عن الأفكار الشيوعية. بل أن ما هو أهم من ذلك، بالتأكيد وبالتحديد، هو الوفاء للقيم المتصلة بالشيوعية وبمثلها وبمبادئها، بواقعية وبثبات، والبحث الدائم عن الإرتقاء، عبر المراحل المختلفة، نحو تحقيق الهدف من التقدم، الذي تسعى إليه، الهدف المتمثل أساساً بتحقيق السعادة للبشر، وتأمين الحرية لهم، وتوفير الشروط التي تجعلهم يتمتعون بكل ما ينجز من تقدم علمي، ومن خيرات مادية.
ولعلي لا أظلم مؤلفي الكتاب إذا ما تصورت، مجرد التصور، أن إصدار كتابهما، في هذا الوقت بالذات، ربما يكون بإيحاء من القيادة الصينية الحالية، وبدعم غير مباشر منها، في ما يشبه الدور الذي لعبه خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، حين قرر نهجاً جديداً مغايراً لنهج ستالين، ووضع تقريراً سرياً سرّبه إلى وسائل الإعلام الأجنبية، يدين فيه بحزم وبالوقائع سياسة ستالين، ويكشف جرائمه بالكثير من التفاصيل، لكي يعطي لعهده في بناء الدولة السوفياتية صورة مختلفة عما ساد، محلياً وعالمياً، من أفكار وممارسات أساءت إلى الدولة السوفياتية، وإلى الشيوعية، على وجه الخصوص، كمشروع إنساني لمستقبل البشرية.