ماركوس شيشرون
مرسل: الأربعاء ديسمبر 04, 2013 6:49 am
ماركوس توليوس شيشرون ، الكاتب الروماني وخطيب روما المميز، ولد سنة 106 قبل الميلاد، صاحب إنتاج ضخم يعتبر نموذجا مرجعيا للتعبير اللاتيني الكلاسيكي وصلنا لحسن الحظ جانب كبير منه، لقد أثارت شخصية شيشرون الكثير من الجدل والتقويمات المتضاربة وخاصة في الجانب السياسي من حياته، فهو تارة مثقف مضيع في وسط سيء، وتارة أخرى ثري إيطالي صاعد في روما، وثالثة انتهازي متقلب و"أداة طيعة في يد الملكية" و"متملق لبومبي ثم سيزار" بحسب ثيودور مومسين وجيروم كاركوبينو، ولكنه أيضا بحسب بيير كريمال الجسر الذي عبره وصلنا جانب من الفلسفة اليونانية.
شيشرون تم إعلانه “وثني صالح” من قِبل الكنيسة الكاثوليكية المبكرة، ولذلك اعتبر العديد من أعماله يستحق الحفاظ عليه. وقد اقتبس القديس أغسطين وغيره من أعماله “في الجمهورية” و “في القوانين،” وبسبب ذلك فنحن قادرين اليوم على إعادة تجميع معظم أعماله من الشظايا الباقية. وقد صاغ شيشرون مفهوم مجرد مبكر للحقوق ، مبني على القانون والأعراف القديمة.
كان شيشرون يفخر بخطبه ويدرك أن هذه الخطب تهيئ السبيل إلى الأدب الروماني، ولذلك أحس بوقع انتقادات المدرسة الأتيكية، فلم يعه إلا أن يدافع عن نفسه، فكتب عدة رسائل طويلة في فن الخطابة، وقد لخص في بعضها تاريخ البلاغة الرومانية في حوار واضح بارع وضع فيه القواعد التي يجب اتباعها في تأليف الخطب وفي الإيقاع والإلقاء. ولم يسلم في هذه الرسائل بأن أسلوبه "أسيوي"، وقال إنه قد حذا فيه حذو دمستين واتهم "الأتيكيين" بأن خطبهم الفاترة الخالية من العواطف تنيم السامعين أو تجعلهم يفرون منهم.
وتوضح السبع والخمسون التي وصلت إلينا من خطب شيشرون جميع الحيل التي يلجأ إليها من خطب الخطباء الناجحون. فهي توفي على الغاية في عرض ناحية واحدة من نواحي الموضوع الذي يتحدث عنه الخطيب عرضاً يفيض حرارة وحماسة؛ وفي إدخال السرور على المستمعين بالفكاهات والنوادر؛ وفي إثارة كبريائهم وأهوائهم، وعواطفهم، ووطنيتهم، وتقواهم؛ وفي عرض أخطاء المعارض له أو أخطاء مولاه سواء كانت صحيحة أو مما يرويها الناس عنه، وسواء كانت تمس الشؤون العامة أو تمسه هو نفسه؛ ويحذقه في تحويل انتباه السامعين من النقط التي في غير صالحه، وغمرهم بفيض من الأسئلة الخطابية يضعها بحيث تكون الإجابة عنها صعبة أو مؤذية، ثم يكيل التهم في جمل تكون عباراتها قوية قوة السياط، وتيارها الجارف يغمر المستمعين؛ ولا تدعى هذه الخطب أنها عادلة منصفة بل إن فيها من التجريح أكثر مما فيها من التصريح، وهي خلاصات يستغل من يلقيها حرية القذف التي كانت محرمة في المسارح، ولكنها مباحة في السوق العامة وفي ساحات القضاء. ولا يتردد شيشرون في أن يصف ضحاياه بألفاظ مثل الخنزير والوباء والجزار والقذارة ويقول لبيزو إن العذارى يقتلن أنفسهن ليتقين شر عُهره، وكانت هذه ال مثالب تسر المستمعين والمحلفين ولم يكن أحد من الناس يأخذها مأخذ الجد. ولم يأنف شيشرون نفسه من أن يكتب إلى بيزو رسائل تفيض وداً وصداقة بعد بضع سنين من هجومه الوحشي عليه في. وجدير بنا فوق هذا أن نقر بأن في خطب شيشرون من الأنانية والبلاغة الخطابية أكثر مما فيها من الإخلاص الخلقي أو الحكمة الفلسفية، بل إن فيها من الأنانية والبلاغة أكثر مما فيها من الفطنة أو التعمق القانوني، ولكنها بلاغة ليست كمثلها بلاغة قط. إن خطب ديموستين نفسه لم يكن فيها هذا التصوير الواضح، الحيوي، وهذه الفكاهة الغزيرة، وهذا القذف اللاذع لبني الإنسان؛ ومما لا جدال فيه أنا لا نجد أحداً قبل شيشرون أو بعده قد أكسب اللغة اللاتينية ما أكسبها هو من سحر وسلامة فاتنة، وقوة عاطفية وجمال. لقد كانت خطبه أسمى ما وصل إليه النثر اللاتيني؛ وقد كتب إليه قيصر الكريم وهو يهدي إليه كتابه "في التشبيه" يقول: "لقد كشفت كل كنوز الخطابة، وكنت أنت أول من استخدمها، وبذلك كانت لك اليد الطولي على جميع الرومان، وكنت مفخرة وطنك؛ لقد نلت نصراً دونه نصر أعظم القواد، لأن الذهن البشري أنبل من توسيع رقعة الإمبراطورية الرومانية".
وتكشف خطب شيشرون عن أخلاقه السياسية، أما رسائله فتكشف عن إنسانيته، وتجعل المرء يعفو عن جميع عيوبه السياسية. لقد أملى هذه الخطب كلها إلا قلة منها على أمين سره، ولم يراجعها بنفسه، ولم يكن يفكر وهو يكتب معظمها أنها ستنشر على الملأ، ومن أجل هذا فإن الناس لم تعرض عليهم نفسية إنسان وسريرته كاملتين، كما عرضت عليهم نفسية شيشرون وسريرته. وفي ذلك يقول نيبوس "لا حاجة لمن يقرأ هذه الرسائل بقراءة تاريخ تلك الأيام"، ذلك أن في وسع قارئها أن يطلع على أهم الفصول الحيوية من المسرحية الثورية من داخلها، والستائر كلها مرفوعة عنها. وأسلوبها في الغالب صريح قديم، خال من الفن والتكلف، ملئ بالملح والفكاهات، ولغتها مزيج جذاب من الرقة الأدبية، وسلاسة اللغة الدارجة. وهي أكثر ما بقي من آثار شيشرون بل من النثر اللاتيني كله طرافة ومتعة؛ ومن الطبيعي أن نجد في هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل (وهي تشمل 864 رسالة تسعون منها كتبت لشيشرون) بعض المتناقضات وغير قليل من الشواهد الدالة على عدم الإخلاص. وليس فيها كلها أثر واحد للتقي والإيمان اللذين يطالعاننا كثيراً في مقالات شيشرون أو في تلك الخطب التي يجعل الآلهة فيها ملجأه الأخير، ويتبين لنا من هذه الرسائل أن رأيه الخاص في كثير من الناس، وخاصة في قيصر، لا يتفق على الدوام مع ما يصفهم به جهرة ، وفيها يظهر غروره الشديد الذي لا يكاد يصدقه العقل ألطف وأحب إلى النفس مما يظهر في خطبه، حيث يبدو لنا وكأنه يحمل معه تمثالاً أينما ذهب. وهو يقر مبتسماً بأن "تقديري لنفسي وثنائي عليها أعظم الأشياء قدراً عندي. ويؤكد لنا في سذاجة ساحرة أنه "إذا كان في الناس من لا يتصف بالغرور فهو أنا ومما يلهو به القارئ ما يجده فيها من رسائل كثيرة عن المال، ومن أقوال كثيرة عن بيوته المتعددة. فقد كان له فضلاً عن بيوته ذات الحدائق في أربينوم وأستوري وبتيولي وبمبي كان له فضلاً عن هذه البيوت ضيعة في فورميا تبلغ قيمتها 250.000 سترس، وأخرى في تسكولوم تساوي 500.000، وقصر على تل بلاتين كلفته 3.500.000 ألا إن هذه المتع وأسباب الترف لتبدو شنيعة مشينة إذا ما أتصف بها الفيلسوف.
ولكن هل في الناس من مثالب تسر المستمعين والمحلفين ولم يكن أحد من الناس يأخذها مأخذ الجد. ولم يأنف شيشرون نفسه من أن يكتب إلى بيزو رسائل تفيض وداً وصداقة بعد بضع سنين من هجومه الوحشي عليه في. وجدير بنا فوق هذا أن نقر بأن في خطب شيشرون من الأنانية والبلاغة الخطابية أكثر مما فيها من الإخلاص الخلقي أو الحكمة الفلسفية، بل إن فيها من الأنانية والبلاغة أكثر مما فيها من الفطنة أو التعمق القانوني، ولكنها بلاغة ليست كمثلها بلاغة قط. إن خطب ديموستين نفسه لم يكن فيها هذا التصوير الواضح، الحيوي، وهذه الفكاهة الغزيرة، وهذا القذف اللاذع لبني الإنسان؛ ومما لا جدال فيه أنا لا نجد أحداً قبل شيشرون أو بعده قد أكسب اللغة اللاتينية ما أكسبها هو من سحر وسلامة فاتنة، وقوة عاطفية وجمال. لقد كانت خطبه أسمى ما وصل إليه النثر اللاتيني؛ وقد كتب إليه قيصر الكريم وهو يهدي إليه كتابه "في التشبيه" يقول: "لقد كشفت كل كنوز الخطابة، وكنت أنت أول من استخدمها، وبذلك كانت لك اليد الطولي على جميع الرومان، وكنت مفخرة وطنك؛ لقد نلت نصراً دونه نصر أعظم القواد، لأن الذهن البشري أنبل من توسيع رقعة الإمبراطورية الرومانية".
وتكشف خطب شيشرون عن أخلاقه السياسية، أما رسائله فتكشف عن إنسانيته، وتجعل المرء يعفو عن جميع عيوبه السياسية. لقد أملى هذه الخطب كلها إلا قلة منها على أمين سره، ولم يراجعها بنفسه، ولم يكن يفكر وهو يكتب معظمها أنها ستنشر على الملأ، ومن أجل هذا فإن الناس لم تعرض عليهم نفسية إنسان وسريرته كاملتين، كما عرضت عليهم نفسية شيشرون وسريرته. وفي ذلك يقول نيبوس "لا حاجة لمن يقرأ هذه الرسائل بقراءة تاريخ تلك الأيام"، ذلك أن في وسع قارئها أن يطلع على أهم الفصول الحيوية من المسرحية الثورية من داخلها، والستائر كلها مرفوعة عنها. وأسلوبها في الغالب صريح قديم، خال من الفن والتكلف، ملئ بالملح والفكاهات، ولغتها مزيج جذاب من الرقة الأدبية، وسلاسة اللغة الدارجة. وهي أكثر ما بقي من آثار شيشرون بل من النثر اللاتيني كله طرافة ومتعة؛ ومن الطبيعي أن نجد في هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل (وهي تشمل 864 رسالة تسعون منها كتبت لشيشرون) بعض المتناقضات وغير قليل من الشواهد الدالة على عدم الإخلاص. وليس فيها كلها أثر واحد للتقي والإيمان اللذين يطالعاننا كثيراً في مقالات شيشرون أو في تلك الخطب التي يجعل الآلهة فيها ملجأه الأخير، ويتبين لنا من هذه الرسائل أن رأيه الخاص في كثير من الناس، وخاصة في قيصر، لا يتفق على الدوام مع ما يصفهم به جهرة ، وفيها يظهر غروره الشديد الذي لا يكاد يصدقه العقل ألطف وأحب إلى النفس مما يظهر في خطبه، حيث يبدو لنا وكأنه يحمل معه تمثالاً أينما ذهب. وهو يقر مبتسماً بأن "تقديري لنفسي وثنائي عليها أعظم الأشياء قدراً عندي. ويؤكد لنا في سذاجة ساحرة أنه "إذا كان في الناس من لا يتصف بالغرور فهو أنا ومما يلهو به القارئ ما يجده فيها من رسائل كثيرة عن المال، ومن أقوال كثيرة عن بيوته المتعددة. فقد كان له فضلاً عن بيوته ذات الحدائق في أربينوم وأستوري وبتيولي وبمبي كان له فضلاً عن هذه البيوت ضيعة في فورميا تبلغ قيمتها 250.000 سترس، وأخرى في تسكولوم تساوي 500.000، وقصر على تل بلاتين كلفته 3.500.000 ألا إن هذه المتع وأسباب الترف لتبدو شنيعة مشينة إذا ما أتصف بها الفيلسوف
ولكن هل في الناس من بلغت فضائله تبقى معها سمعته إذا ما نشرت رسائله الخاصة؟ والحق أن الإنسان إذا أمعن في قراءة هذه الرسائل يكاد يحب هذا الرجل. إنه في واقع الأمر لم يكن له من الأغلاط، ولعله لم يكن له من الغرور، اكثر مما لنا، ولكنه أخطأ إذ خلد هذه الأغلاط وهذا الغرور في نثر أوفى على الكمال. وخير ما نستطيع أن نصفه به أن كان عاملاً مجداً، وأباً رحيماً، وصديقاً وفياً؛ وفي وسعنا أن نراه في بيته مولعاً بكتبه وبأبنائه، يحاول أن يحب زوجه ترنتيا الغضوب المصابة بالرثية والتي لم تكن تقل عنه ثروة أو فصاحة. ولقد أوتى هو وزوجه من الثروة ما يبعد عنهما السعادة، وكانت متاعبهما ومنازعاتهما تنشأ على الدوام من حساباتهما الضخمة، وظلت هذه المنازعات تزداد حتى طلقها بسبب تشاحن على المال نشأ بينهما. ولم يلبث بعد أن طلقها أن تزوج بيليا وقد اسفلت نظره إليها أنها ذات ثروة طائلة وليست كبيرة السن، فلما أن أظهرت بغضها لابنته تليا طلقها هي الأخرى. وكان يحب تليا أشد الحب، فلما ماتت حزن عليها حزناً كاد يذهب بعقله، وأراد أن يشيد لها معبداً كمعابد الآلهة. ومن ألطف رسائل شيشرون التي كتبها إلى تيرو كبير أمناء سره والتي كتبها عنه. وكان تيرو يكتب ما يمليه عليه مختزلاً، ويشرف له على أمواله بقدرة وأمانة كافأه عليهما شيشرون بتحريره من الرق. وأكثر الخطابات عدداً هي التي كتبها إلى أتكس الذي كان يستثمر لشيشرون أمواله المدخرة والذي أنجاه من عدة ورطات مالية، ونشر له مؤلفاته، وأسدى إليه من النصح السديد ما لم يعمل به. وقد كتب شيشرون إلى أتكس، وكان غائباً في بلاد اليونان عن حكمة وفطنة حين بلغت الثورة عنفوانها، خطاباً يعد مضرب المثل في الوفاء وعذوبة اللفظ قال فيه:
لست اشعر بحاجة أشد من حاجتي إلى من أستطيع أن أفضي إليه بكل ما يتصل بي، ومن يحبني، ومن أثق بحزمه وحصافة رأيه، ومن أستطيع أن أتحدث إليه بلا ملق ولا رياء ولا تحفظ. إن أخي الذي يفيض صراحة وحناناً غائب عني... وأنت يا من أنجيتني من متاعبي وأسباب قلقي برأيك السديد، ويا من كنت رفيقي في الشؤون العامة وموضع ثقتي في جميع شؤوني الخاصة. وشريكي في جميع أقوالي وأفكاري- أين أنت…
وبينما كانت بلاد الرومان تمر بتلك الأيام العصيبة حين عبر قيصر الروبكون وهزم بمبي، ونصب نفسه حاكماً بأمره، اعتزل شيشرون الحياة العامة إلى حين وأخذ ينشد الراحة من عنائها في قراءة الفلسفة والكتابة فيها. وقد كتب إلى أتكس في ذلك الوقت يقول له: "تذكر ما وعدتني به فلا تعط كتبك لإنسان ما بل احتفظ بها لي. إني أحبها أعظم الحب، وتشمئز نفسي أشد الاشمئزاز من كل ما عداها. وقد عمل وقتئذ بما كان ينصح به غيره، وأصدر في فترة لا تزيد إلا قليلاً على سنتين ما يكاد يكون مكتبة في الفلسفة .ذلك أن ضعف العقيدة الدينية لدى الطبقات العليا قد خلف وراءه فراغاً أخلاقياً لاح معه أن رومه تتردى في مهاوي الانحلال الخلقي والاجتماعي. وكان شيشرون يأمل أن تحل الفلسفة محل الدين متهدي هذه الطبقات إلى الحياة الطبية، وتحفزها لأن تحيا هذه الحياة، ولم يكن يعتزم أن يضيف إلى النظم الفلسفية السابقة نظاماً جديداً، بل كان كل ما يهدف له هو تلخيص تعاليم حكماء اليونان وتقديمها للرومان لتكون آخر ما يهديه لهم في حياته وقد بلغ من أمانته العلمية أن أقر في غير خفاء أنه يستمد فلسفته
ما أتصف بها الفيلسوف.
ولكن هل في الناس من بلغت فضائله تبقى معها سمعته إذا ما نشرت رسائله الخاصة؟ والحق أن الإنسان إذا أمعن في قراءة هذه الرسائل يكاد يحب هذا الرجل. إنه في واقع الأمر لم يكن له من الأغلاط، ولعله لم يكن له من الغرور، اكثر مما لنا، ولكنه أخطأ إذ خلد هذه الأغلاط وهذا الغرور في نثر أوفى على الكمال. وخير ما نستطيع أن نصفه به أن كان عاملاً مجداً، وأباً رحيماً، وصديقاً وفياً؛ وفي وسعنا أن نراه في بيته مولعاً بكتبه وبأبنائه، يحاول أن يحب زوجه ترنتيا الغضوب المصابة بالرثية والتي لم تكن تقل عنه ثروة أو فصاحة. ولقد أوتى هو وزوجه من الثروة ما يبعد عنهما السعادة، وكانت متاعبهما ومنازعاتهما تنشأ على الدوام من حساباتهما الضخمة، وظلت هذه المنازعات تزداد حتى طلقها بسبب تشاحن على المال نشأ بينهما. ولم يلبث بعد أن طلقها أن تزوج بيليا وقد اسفلت نظره إليها أنها ذات ثروة طائلة وليست كبيرة السن، فلما أن أظهرت بغضها لابنته تليا طلقها هي الأخرى. وكان يحب تليا أشد الحب، فلما ماتت حزن عليها حزناً كاد يذهب بعقله، وأراد أن يشيد لها معبداً كمعابد الآلهة. ومن ألطف رسائل شيشرون التي كتبها إلى تيرو كبير أمناء سره والتي كتبها عنه. وكان تيرو يكتب ما يمليه عليه مختزلاً، ويشرف له على أمواله بقدرة وأمانة كافأه عليهما شيشرون بتحريره من الرق. وأكثر الخطابات عدداً هي التي كتبها إلى أتكس الذي كان يستثمر لشيشرون أمواله المدخرة والذي أنجاه من عدة ورطات مالية، ونشر له مؤلفاته، وأسدى إليه من النصح السديد ما لم يعمل به. وقد كتب شيشرون إلى أتكس، وكان غائباً في بلاد اليونان عن حكمة وفطنة حين بلغت الثورة عنفوانها، خطاباً يعد مضرب المثل في الوفاء وعذوبة اللفظ قال فيه:
لست اشعر بحاجة أشد من حاجتي إلى من أستطيع أن أفضي إليه بكل ما يتصل بي، ومن يحبني، ومن أثق بحزمه وحصافة رأيه، ومن أستطيع أن أتحدث إليه بلا ملق ولا رياء ولا تحفظ. إن أخي الذي يفيض صراحة وحناناً غائب عني... وأنت يا من أنجيتني من متاعبي وأسباب قلقي برأيك السديد، ويا من كنت رفيقي في الشؤون العامة وموضع ثقتي في جميع شؤوني الخاصة. وشريكي في جميع أقوالي وأفكاري- أين أنت…
وبينما كانت بلاد الرومان تمر بتلك الأيام العصيبة حين عبر قيصر الروبكون وهزم بمبي، ونصب نفسه حاكماً بأمره، اعتزل شيشرون الحياة العامة إلى حين وأخذ ينشد الراحة من عنائها في قراءة الفلسفة والكتابة فيها. وقد كتب إلى أتكس في ذلك الوقت يقول له: "تذكر ما وعدتني به فلا تعط كتبك لإنسان ما بل احتفظ بها لي. إني أحبها أعظم الحب، وتشمئز نفسي أشد الاشمئزاز من كل ما عداها. وقد عمل وقتئذ بما كان ينصح به غيره، وأصدر في فترة لا تزيد إلا قليلاً على سنتين ما يكاد يكون مكتبة في الفلسفة .ذلك أن ضعف العقيدة الدينية لدى الطبقات العليا قد خلف وراءه فراغاً أخلاقياً لاح معه أن رومه تتردى في مهاوي الانحلال الخلقي والاجتماعي. وكان شيشرون يأمل أن تحل الفلسفة محل الدين متهدي هذه الطبقات إلى الحياة الطبية، وتحفزها لأن تحيا هذه الحياة، ولم يكن يعتزم أن يضيف إلى النظم الفلسفية السابقة نظاماً جديداً، بل كان كل ما يهدف له هو تلخيص تعاليم حكماء اليونان وتقديمها للرومان لتكون آخر ما يهديه لهم في حياته وقد بلغ من أمانته العلمية أن أقر في غير خفاء أنه يستمد فلسفته من رسائل بانتيوس وبوسيدونيوس وغيرهما من فلاسفة اليونان المحدثين، وأن عمله لا يزيد على تكييف رسائلهما تكييفاً جديداً؛ بل إنه في بعض الأحيان لا يفعل أكثر من ترجمة هذه الرسائل. ولكنه قد حول نثر هؤلاء الفلاسفة الجاف الممل إلى لغة لاتينية سهلة، واضحة، جذابة، وجمل بحوثه بالحوار. وكان ينتقل فيها تنقلاً سريعاً من بيداء المنطق وما وراء الطبيعة الجدباء، إلى المشاكل الحية، مشاكل السلوك وحكم البلاد. وقد اضطر كما اضطر لكريشيوس إلى ابتكار مصطلحات فلسفية جديدة، ونجح في هذا نجاحاً جعله صاحب الفضل على اللغة والفلسفة كلتيهما. والحق أن الحكمة لم يزنها من أيام أفلاطون هو الذي استمد منه شيشرون معظم أفكاره؛ ذلك بأنه لم يكن يحب تحكم الأبيقوريين الذين "يتحدثون عن الأمور الإلهية حديث الواثقين، حتى ليخيل إليك أنهم قد جاءوا لساعتهم من مجتمع للآلهة". وكذلك لم يكن يعجبه تحكم الرواقين الذين يلوون الحجج عن قصد وتعمد حتى ليخيل إليك أن الآلهة أنفسها إنما وجدت لمنفعة الآدميين وتلك نظرية لم ير شيشرون نفسه في بعض أطواره أنها بعيدة عن حكم العقل. وكانت النقطة التي بدأ منها فلسفته هي بعينها بداية فلسفة الأقديمية الجديدة أي التشكك الهين الذي لا يعترف بأن شيئاً ما مؤكداً كل التأكيد، والذي يرى في الاحتمالات الراجحة ما يكفي مطالب الحياة البشرية؛ وفي ذلك يقول في بعض كتاباته: "إن فلسفتي في معظم الحالات هي فلسفة الشك ولعلكم تأذنون لي ألا أعرف ما لا أعرفه . ويقول في موضع آخر إن الذين يريدون أن يعرفوا رأيي الشخصي يظهرون قدراً من التشوف لا يقره العقل ولكن ما أوتي من قدرة فائقة على التعبير سرعان ما كان يتغلب على حيائه: فيهزأ بالتضحيات الدينية، والهاتفين والعرافين. ويخصص رسالة بأكملها لإنكار القدرة على التنبؤ بالغيب، ويتساءل في معرض استنكار الاعتقاد بالتنجيم، وهو الاعتقاد الذي كان واسع الانتشار في تلك الأيام، هل كان من قتلوا في واقعة كاني قد ولدوا في مطلع نجم واحد . بل إنه ليشك في أن العلم بالمستقبل خير لمن يعلمه، وذلك لأن المستقبل نفسه قد يكون كريهاً كغيره من الحقائق الكثيرة التي يدفعنا حمقنا إلى الجري وراءها. ويظن شيشرون أن في مقدوره أن يقضي على العقائد القديمة كلها قضاء مبرماً بالسخرية منها والاستهزاء بها. فيقول مثلاً: "إذا سميت الحب سيريز وسميت الخمر باخوس كانت هذه التسمية استعارة من الاستعارات المألوفة، ولكن هل تظن أن أحداً من الناس قد بلغ به الجنون إلى الحد الذي يعتقد معه أن ما يأكله إله بحق . على أن شكه في الإلحاد لم يكن يقل عن شكه في أية عقيدة تحكمية أخرى. فهو يرفض العقيدة الذرية التي كان يقول بها دمقريطس ولكريشيوس، ويقول إن من أبعد الأشياء أن تنظم الذرات نفسها بلا هاد يهديها ولو ظلت تفعل كذلك أبد الدهر، ثم ينشأ من هذا التنظيم عالمنا الذي نعيش فيه. وشأنها في ذلك شأن الحروف الهجائية فإن من أبعد الأشياء كذلك أن تتجمع هذه الحروف من تلقاء نفسها فينشأ من تجمعها "حوليات إنيوس" ويقول إن جهلنا بالآلهة ليس بالدليل القاطع على عدم وجودها، بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا فيقول إن إجماع الناس على وجودها يكفي في حد ذاته لترجيح وجود قوة مدبرة. ويستخلص من هذا أن الدين نظام لابد منه للأخلاق الشخصية والنظام العام، وأنه نظام لا يمكن أن يهاجمه إنسان عاقل ؛ ولذلك فإنه ظل يقوم بواجبات العراف الرسمي في الوقت الذي كان يكتب فيه ضد
التنبؤ والعرافة. ولم يكن يعد هذا نفاقاً بمعناه الصحيح، ولعله كان يسميه سياسة وحسن التصرف. ذلك أن الأخلاق الرومانية، والمجتمع الروماني، ونظام احكم فيه، كانت كلها وثيقة الارتباط بالدين القديم، وأنه إذا أريد لها البقاء وجب ألا يترك هذا الدين كي يموت. (وكان الأباطرة يبررون اضطهاد المسيحيين بمثل هذه الحجج). ولما توفيت تليا التي كان يحبها أعظم الحب، اشتدت به نزعة الأمل في الخلود. وكان قبل ذلك بعدة سنين كثيرة قد استعار من فيثاغورس وأفلاطون وإيكسودس في "حلم سبيو" الذي اختتم به "جمهورية" أسطورة معقدة بليغة عن حياة بعد الموت، ينعم فيها الموتى العظماء الصالحين بالنعيم الأبدي. أما في رسائله الخاصة- وحتى في رسائله التي يواسي فيها الثاكلين من أصدقائه- فإنه لا يذكر قط شيئاً عن الحياة الآخرة.
وإذ كان على علم بما يسري في أيامه من نزعة التشكك فإن الأسس التي أقام عليها بحوثه في الأخلاق والسياسة كانت أسساً دنيوية محضة، لا تعتمد قط على تأييد غير القوى الطبيعية. فهو يبدأ بالتساؤل عن الطريق الموصل إلى السعادة. ثم يوافق الرواقيين في شيء من التردد على أن الفضيلة وحدها لا تكفي للوصول إليها. ومن أجل هذا تراه يبحث عن طريق الفضيلة، ويفلح بفضل جمال أسلوبه في أن يجعل الواجب محبباً ممتعاً إلى حين، وفي ذلك يقول: "الناس جميعاً أخوة، وخليق بنا أن نعد العالم كله مدينة مشتركة للآلهة والبشر على السواء . ثم يواصل حديثه قائلاً إن أسمى المبادئ الخلقية هي الولاء لهذا الكل، ولاء يكون الحافز له هو الضمير الحي. وأول ما يجب على الإنسان لنفسه وللمجتمع، أن يقيم حياته على أساس اقتصادي سليم، وعليه بعدئذ أن يؤدي واجباته بوصفه مواطناً في بلده. والسياسة الحكيمة أعظم شرفاً من أعمق البحوث الفلسفية.
وهو يرى أن الملكية المطلقة خير أنواع الحكومات إذا كان الملك صالحاً، وأكثرها شراً وفساداً إذا كان الملك فاسداً- وتلك حقيقة سرعان ما تأيدت في رومه نفسها. وعنده أن الحكومات الأرستقراطية تصلح إذا كان الحاكمون فيها هم أحسن الناس حقاً. ولكن شيشرون، وهو من أفراد الطبقة الوسطى، لا يسلم تسليماً مطلقاً بأن الأسر القديمة المحافظة على أرستقراطيتها خير الأسر. والحكم الديمقراطي في رأيه يصلح إذا كان الشعب فاضلاً، وهذا في ظنه لا يكون أبداً. هذا إلى أن هذا الحكم يفسده الافتراض الكاذب بأن الناس متساوون. ولذلك كان خير الحكومات هي التي تقوم على دستور يجمع بين هذه الأنواع كلها كحكومة رومه قبل عهد ابني جراكس، فقد جمعت بين سلطة الجمعيات الديمقراطية، وسلطة مجلس الشيوخ الأرستقراطية، وسلطة القنصلين التي لا تكاد تقل عن سلطة الملوك في السنة التي يتوليان فيها منصبهما, والملكية إذا لم تكن لها ضوابط وموازين تصبح حكومة استبدادية، كما أن هذه الظروف نفسها تجعل الأرستقراطية ألجركية، وتجعل الديمقراطية حكم الغوغاء وتستحيل إلى فوضى وطغيان. وقد كتب بعد خمس سنين من تولى قيصر منصب القنصلية، وكأنه فيما كتب كان يصّوب السهم إلى صدر قيصر:
يقول أفلاطون إن الحكام المستبدين ينبتون من مغالاة الناس في التحلل من القيود تحللاً يسميه حرية، كما ينبت النبات من الجذور... وإن هذه الحرية تهوى بالأمة آخر الأمر إلى درك الاستعباد.. إن كل شيء يزيد على حده ينقلب إلى ضده.. وذلك لأن العامة التي ليس لها حاكم يسيطر عليها تختار من بينها في العادة زعيماً يقودها.. وهو إنسان جرئ لا ضمير له.. يسعى لنيل رضاء الناس بما يعطيهم من أموال غيرهم. ولما كان هذا الرجل يخشى أشد الخشية أن يظل فرداً كغيره من الأفراد فإنهم يخلعون عليه حماية المنصب العام، ويجددون له هذه الحماية على الدوام، فيحيط نفسه بحرس مسلح، وينتهي به الأمر إلى أن يصبح طاغية يستبد بالشعب الذي حباه القوة والسلطان
ولكن قيصراً رغم هذا نال بغيته، ورأى شيشرون أن خير ما يفعله هو أن يكظم غيظه ويرفه عن نفسه بالقول المعاد في القانون، والصداقة، والمجد، والشيخوخة، وبأن "القوانين تلتزم الصمت في أيام الحرب" على حد قوله هو نفسه. على أنه كان في وسعه على الأقل أن يستسلم للتفكير في فلسفة القانون، وقد عرفه كما عرفه الرواقيون بأنه "التفكير الصحيح المتفق مع الطبيعة أي أن القانون يعمل لجعل الصلات التي تنشأ من دوافع الناس الاجتماعية صلات منظمة مستقرة. وفي ذلك يقول إن "الطبيعة قد غرست في نفوسنا الميل إلى حب الناس" (المجتمع)، "وهذا هو أصل القانون" ويرى شيشرون أن الصداقة يجب ألا تقوم على المنافع المتبادلة بل على المصالح المشتركة التي تدعمها، وتحدوها الفضيلة والعدالة، وأن قانون الصداقة هو "ألا يطلب الإنسان إلى صديقه أن يعمل أشياء غير شريفة، وألا يعملها هو إذا طلب إليه عملها، وعنده أن الحياة الشريفة هي خير ضمان للشيخوخة السارة، وأن الاستهتار والإسراف في أيام الصبا يتركان الشيخوخة جسماً والعقل منهوكا قبل الأوان. أما الحياة التي تقضي على خير وجه فقد يبقى الجسم والعقل فيها سليمين حتى يبلغ المرء مائة من السنين، ولنضرب لذلك ماسينسا. والانكباب على الدرس قد يجعل الإنسان "يغفل عن اقتراب الشيخوخة منه خفية والشيخوخة أمجادها كما للشباب أمجاده- ففيها الحكمة المتسامية، وفيها حب الأطفال آباءهم وإجلالهم إياهم، وفيها تهدأ حمى الرغبات والمطامح. وقد تخشى الشيخوخة الموت ولكن ذلك لا يحدث إذا كان العقل قد كونته الفلسفة، فأدرك أن وراء القبر، في أحسن الأحوال، حياة جديدة أسعد من الحياة وفي أسوئها من عنائها.
وفي وسعنا أن نحكم على مقالات شيشرون في الفلسفة بأنها كلها ضئيلة الأثر، وأنها كآرائه في الحكم والسياسة تستمسك فوق ما يجب بالسنن القديمة والتقاليد المرعية. وسبب ذلك أنه وإن أوتي تشوف العالم فقد أوتي معه حذر أبناء الطبقة الوسطى وضعف عزيمتهم، ولذلك ظل في فلسفته نفسها سياسياً يكره أن يسيء إلى شخص واحد من الناس، خشية أن يفقد بذلك صوته يوم الانتخاب. وكان ديدنه أن يجمع آراء غيره ويجيد الموازنة بين ما لها وما عليها، فإذا انتهى من هذه الموازنة خرج السامع بعدها من نفس الباب الذي دخل منه، لا يدري أي الكفتين ترجح على الأخرى. ولولا ما امتازت به هذه الكتب الصغيرة من أسلوب سهل جميل لعفي عليها الزمان، ولما بقي لها ذكر الآن. فما أجمل لاتينية شيشرون وما أسهل قراءتها، وما أسلس لغتها وأوضحها! لقد كان إذا قص حادثة أسبغ عليها من الحيوية التي تسري في خطبه فتسترعي الأسماع وتسحر الألباب. وإذا وصف شخصاً أظهر في هذا الوصف من البراعة ما يجعل القا، وإذا انطلق في الخطابة أفاض على السامع جُملاً متزنة، جميلة اللفظ، قوية العبارة، مما أخذه عن إيزوقراطيس ، وجعل السوق العامة تدوي بالتصفيق والاستحسان.
إن آراء شيشرون هي آراء الطبقات العليا، أما أسلوبه فقد أراد به أ يصل إلى قلوب الشعب؛ ومن أجل هذا تراه يبذل جهده لكي يكون هذا الأسلوب واضحاً لا غموض فيه، وأن تكون الحقائق التي يوردها مما يهز مشاعر السامعين هزاً، وهو يمزج المعنويات بالنوادر والفكاهات.
وملاك القول أن شيشرون قد خلق اللغة اللاتينية خلقاً جديداً، فوسع نطاق مفرداتها، وصاغ منها أداة مرنة للتعبير عن الفلسفة، وجعلها صالحة لاستيعاب الآداب والعلوم في أوربا الغربية سبعة عشر قرناً من الزمان. وإن الأجيال التي جاءت بعده لتذكره على أنه مؤلف أكثر منه رجل سياسة. ولما أن نسي الناس ما قام به وهو قنصل من أعمال مجيدة، أو كادوا ينسونها، على الرغم مما فيها من ذكريات طيبة، ظلوا يمجدون فتوحه في عالم الأدب والفصاحة. وإذ كان من عادة الناس أن يمجدوا الصورة كما يمجدون المادة، وأن يعظموا الفن كما يعظمون العلم والسلطان، دون سائر الرومان، من الشهرة ما لم ينل أكثر منه إلا قيصر وحده. ولم يغفر هو لرومه هذا الاستثناء الوحيد.
شيشرون تم إعلانه “وثني صالح” من قِبل الكنيسة الكاثوليكية المبكرة، ولذلك اعتبر العديد من أعماله يستحق الحفاظ عليه. وقد اقتبس القديس أغسطين وغيره من أعماله “في الجمهورية” و “في القوانين،” وبسبب ذلك فنحن قادرين اليوم على إعادة تجميع معظم أعماله من الشظايا الباقية. وقد صاغ شيشرون مفهوم مجرد مبكر للحقوق ، مبني على القانون والأعراف القديمة.
كان شيشرون يفخر بخطبه ويدرك أن هذه الخطب تهيئ السبيل إلى الأدب الروماني، ولذلك أحس بوقع انتقادات المدرسة الأتيكية، فلم يعه إلا أن يدافع عن نفسه، فكتب عدة رسائل طويلة في فن الخطابة، وقد لخص في بعضها تاريخ البلاغة الرومانية في حوار واضح بارع وضع فيه القواعد التي يجب اتباعها في تأليف الخطب وفي الإيقاع والإلقاء. ولم يسلم في هذه الرسائل بأن أسلوبه "أسيوي"، وقال إنه قد حذا فيه حذو دمستين واتهم "الأتيكيين" بأن خطبهم الفاترة الخالية من العواطف تنيم السامعين أو تجعلهم يفرون منهم.
وتوضح السبع والخمسون التي وصلت إلينا من خطب شيشرون جميع الحيل التي يلجأ إليها من خطب الخطباء الناجحون. فهي توفي على الغاية في عرض ناحية واحدة من نواحي الموضوع الذي يتحدث عنه الخطيب عرضاً يفيض حرارة وحماسة؛ وفي إدخال السرور على المستمعين بالفكاهات والنوادر؛ وفي إثارة كبريائهم وأهوائهم، وعواطفهم، ووطنيتهم، وتقواهم؛ وفي عرض أخطاء المعارض له أو أخطاء مولاه سواء كانت صحيحة أو مما يرويها الناس عنه، وسواء كانت تمس الشؤون العامة أو تمسه هو نفسه؛ ويحذقه في تحويل انتباه السامعين من النقط التي في غير صالحه، وغمرهم بفيض من الأسئلة الخطابية يضعها بحيث تكون الإجابة عنها صعبة أو مؤذية، ثم يكيل التهم في جمل تكون عباراتها قوية قوة السياط، وتيارها الجارف يغمر المستمعين؛ ولا تدعى هذه الخطب أنها عادلة منصفة بل إن فيها من التجريح أكثر مما فيها من التصريح، وهي خلاصات يستغل من يلقيها حرية القذف التي كانت محرمة في المسارح، ولكنها مباحة في السوق العامة وفي ساحات القضاء. ولا يتردد شيشرون في أن يصف ضحاياه بألفاظ مثل الخنزير والوباء والجزار والقذارة ويقول لبيزو إن العذارى يقتلن أنفسهن ليتقين شر عُهره، وكانت هذه ال مثالب تسر المستمعين والمحلفين ولم يكن أحد من الناس يأخذها مأخذ الجد. ولم يأنف شيشرون نفسه من أن يكتب إلى بيزو رسائل تفيض وداً وصداقة بعد بضع سنين من هجومه الوحشي عليه في. وجدير بنا فوق هذا أن نقر بأن في خطب شيشرون من الأنانية والبلاغة الخطابية أكثر مما فيها من الإخلاص الخلقي أو الحكمة الفلسفية، بل إن فيها من الأنانية والبلاغة أكثر مما فيها من الفطنة أو التعمق القانوني، ولكنها بلاغة ليست كمثلها بلاغة قط. إن خطب ديموستين نفسه لم يكن فيها هذا التصوير الواضح، الحيوي، وهذه الفكاهة الغزيرة، وهذا القذف اللاذع لبني الإنسان؛ ومما لا جدال فيه أنا لا نجد أحداً قبل شيشرون أو بعده قد أكسب اللغة اللاتينية ما أكسبها هو من سحر وسلامة فاتنة، وقوة عاطفية وجمال. لقد كانت خطبه أسمى ما وصل إليه النثر اللاتيني؛ وقد كتب إليه قيصر الكريم وهو يهدي إليه كتابه "في التشبيه" يقول: "لقد كشفت كل كنوز الخطابة، وكنت أنت أول من استخدمها، وبذلك كانت لك اليد الطولي على جميع الرومان، وكنت مفخرة وطنك؛ لقد نلت نصراً دونه نصر أعظم القواد، لأن الذهن البشري أنبل من توسيع رقعة الإمبراطورية الرومانية".
وتكشف خطب شيشرون عن أخلاقه السياسية، أما رسائله فتكشف عن إنسانيته، وتجعل المرء يعفو عن جميع عيوبه السياسية. لقد أملى هذه الخطب كلها إلا قلة منها على أمين سره، ولم يراجعها بنفسه، ولم يكن يفكر وهو يكتب معظمها أنها ستنشر على الملأ، ومن أجل هذا فإن الناس لم تعرض عليهم نفسية إنسان وسريرته كاملتين، كما عرضت عليهم نفسية شيشرون وسريرته. وفي ذلك يقول نيبوس "لا حاجة لمن يقرأ هذه الرسائل بقراءة تاريخ تلك الأيام"، ذلك أن في وسع قارئها أن يطلع على أهم الفصول الحيوية من المسرحية الثورية من داخلها، والستائر كلها مرفوعة عنها. وأسلوبها في الغالب صريح قديم، خال من الفن والتكلف، ملئ بالملح والفكاهات، ولغتها مزيج جذاب من الرقة الأدبية، وسلاسة اللغة الدارجة. وهي أكثر ما بقي من آثار شيشرون بل من النثر اللاتيني كله طرافة ومتعة؛ ومن الطبيعي أن نجد في هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل (وهي تشمل 864 رسالة تسعون منها كتبت لشيشرون) بعض المتناقضات وغير قليل من الشواهد الدالة على عدم الإخلاص. وليس فيها كلها أثر واحد للتقي والإيمان اللذين يطالعاننا كثيراً في مقالات شيشرون أو في تلك الخطب التي يجعل الآلهة فيها ملجأه الأخير، ويتبين لنا من هذه الرسائل أن رأيه الخاص في كثير من الناس، وخاصة في قيصر، لا يتفق على الدوام مع ما يصفهم به جهرة ، وفيها يظهر غروره الشديد الذي لا يكاد يصدقه العقل ألطف وأحب إلى النفس مما يظهر في خطبه، حيث يبدو لنا وكأنه يحمل معه تمثالاً أينما ذهب. وهو يقر مبتسماً بأن "تقديري لنفسي وثنائي عليها أعظم الأشياء قدراً عندي. ويؤكد لنا في سذاجة ساحرة أنه "إذا كان في الناس من لا يتصف بالغرور فهو أنا ومما يلهو به القارئ ما يجده فيها من رسائل كثيرة عن المال، ومن أقوال كثيرة عن بيوته المتعددة. فقد كان له فضلاً عن بيوته ذات الحدائق في أربينوم وأستوري وبتيولي وبمبي كان له فضلاً عن هذه البيوت ضيعة في فورميا تبلغ قيمتها 250.000 سترس، وأخرى في تسكولوم تساوي 500.000، وقصر على تل بلاتين كلفته 3.500.000 ألا إن هذه المتع وأسباب الترف لتبدو شنيعة مشينة إذا ما أتصف بها الفيلسوف.
ولكن هل في الناس من مثالب تسر المستمعين والمحلفين ولم يكن أحد من الناس يأخذها مأخذ الجد. ولم يأنف شيشرون نفسه من أن يكتب إلى بيزو رسائل تفيض وداً وصداقة بعد بضع سنين من هجومه الوحشي عليه في. وجدير بنا فوق هذا أن نقر بأن في خطب شيشرون من الأنانية والبلاغة الخطابية أكثر مما فيها من الإخلاص الخلقي أو الحكمة الفلسفية، بل إن فيها من الأنانية والبلاغة أكثر مما فيها من الفطنة أو التعمق القانوني، ولكنها بلاغة ليست كمثلها بلاغة قط. إن خطب ديموستين نفسه لم يكن فيها هذا التصوير الواضح، الحيوي، وهذه الفكاهة الغزيرة، وهذا القذف اللاذع لبني الإنسان؛ ومما لا جدال فيه أنا لا نجد أحداً قبل شيشرون أو بعده قد أكسب اللغة اللاتينية ما أكسبها هو من سحر وسلامة فاتنة، وقوة عاطفية وجمال. لقد كانت خطبه أسمى ما وصل إليه النثر اللاتيني؛ وقد كتب إليه قيصر الكريم وهو يهدي إليه كتابه "في التشبيه" يقول: "لقد كشفت كل كنوز الخطابة، وكنت أنت أول من استخدمها، وبذلك كانت لك اليد الطولي على جميع الرومان، وكنت مفخرة وطنك؛ لقد نلت نصراً دونه نصر أعظم القواد، لأن الذهن البشري أنبل من توسيع رقعة الإمبراطورية الرومانية".
وتكشف خطب شيشرون عن أخلاقه السياسية، أما رسائله فتكشف عن إنسانيته، وتجعل المرء يعفو عن جميع عيوبه السياسية. لقد أملى هذه الخطب كلها إلا قلة منها على أمين سره، ولم يراجعها بنفسه، ولم يكن يفكر وهو يكتب معظمها أنها ستنشر على الملأ، ومن أجل هذا فإن الناس لم تعرض عليهم نفسية إنسان وسريرته كاملتين، كما عرضت عليهم نفسية شيشرون وسريرته. وفي ذلك يقول نيبوس "لا حاجة لمن يقرأ هذه الرسائل بقراءة تاريخ تلك الأيام"، ذلك أن في وسع قارئها أن يطلع على أهم الفصول الحيوية من المسرحية الثورية من داخلها، والستائر كلها مرفوعة عنها. وأسلوبها في الغالب صريح قديم، خال من الفن والتكلف، ملئ بالملح والفكاهات، ولغتها مزيج جذاب من الرقة الأدبية، وسلاسة اللغة الدارجة. وهي أكثر ما بقي من آثار شيشرون بل من النثر اللاتيني كله طرافة ومتعة؛ ومن الطبيعي أن نجد في هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل (وهي تشمل 864 رسالة تسعون منها كتبت لشيشرون) بعض المتناقضات وغير قليل من الشواهد الدالة على عدم الإخلاص. وليس فيها كلها أثر واحد للتقي والإيمان اللذين يطالعاننا كثيراً في مقالات شيشرون أو في تلك الخطب التي يجعل الآلهة فيها ملجأه الأخير، ويتبين لنا من هذه الرسائل أن رأيه الخاص في كثير من الناس، وخاصة في قيصر، لا يتفق على الدوام مع ما يصفهم به جهرة ، وفيها يظهر غروره الشديد الذي لا يكاد يصدقه العقل ألطف وأحب إلى النفس مما يظهر في خطبه، حيث يبدو لنا وكأنه يحمل معه تمثالاً أينما ذهب. وهو يقر مبتسماً بأن "تقديري لنفسي وثنائي عليها أعظم الأشياء قدراً عندي. ويؤكد لنا في سذاجة ساحرة أنه "إذا كان في الناس من لا يتصف بالغرور فهو أنا ومما يلهو به القارئ ما يجده فيها من رسائل كثيرة عن المال، ومن أقوال كثيرة عن بيوته المتعددة. فقد كان له فضلاً عن بيوته ذات الحدائق في أربينوم وأستوري وبتيولي وبمبي كان له فضلاً عن هذه البيوت ضيعة في فورميا تبلغ قيمتها 250.000 سترس، وأخرى في تسكولوم تساوي 500.000، وقصر على تل بلاتين كلفته 3.500.000 ألا إن هذه المتع وأسباب الترف لتبدو شنيعة مشينة إذا ما أتصف بها الفيلسوف
ولكن هل في الناس من بلغت فضائله تبقى معها سمعته إذا ما نشرت رسائله الخاصة؟ والحق أن الإنسان إذا أمعن في قراءة هذه الرسائل يكاد يحب هذا الرجل. إنه في واقع الأمر لم يكن له من الأغلاط، ولعله لم يكن له من الغرور، اكثر مما لنا، ولكنه أخطأ إذ خلد هذه الأغلاط وهذا الغرور في نثر أوفى على الكمال. وخير ما نستطيع أن نصفه به أن كان عاملاً مجداً، وأباً رحيماً، وصديقاً وفياً؛ وفي وسعنا أن نراه في بيته مولعاً بكتبه وبأبنائه، يحاول أن يحب زوجه ترنتيا الغضوب المصابة بالرثية والتي لم تكن تقل عنه ثروة أو فصاحة. ولقد أوتى هو وزوجه من الثروة ما يبعد عنهما السعادة، وكانت متاعبهما ومنازعاتهما تنشأ على الدوام من حساباتهما الضخمة، وظلت هذه المنازعات تزداد حتى طلقها بسبب تشاحن على المال نشأ بينهما. ولم يلبث بعد أن طلقها أن تزوج بيليا وقد اسفلت نظره إليها أنها ذات ثروة طائلة وليست كبيرة السن، فلما أن أظهرت بغضها لابنته تليا طلقها هي الأخرى. وكان يحب تليا أشد الحب، فلما ماتت حزن عليها حزناً كاد يذهب بعقله، وأراد أن يشيد لها معبداً كمعابد الآلهة. ومن ألطف رسائل شيشرون التي كتبها إلى تيرو كبير أمناء سره والتي كتبها عنه. وكان تيرو يكتب ما يمليه عليه مختزلاً، ويشرف له على أمواله بقدرة وأمانة كافأه عليهما شيشرون بتحريره من الرق. وأكثر الخطابات عدداً هي التي كتبها إلى أتكس الذي كان يستثمر لشيشرون أمواله المدخرة والذي أنجاه من عدة ورطات مالية، ونشر له مؤلفاته، وأسدى إليه من النصح السديد ما لم يعمل به. وقد كتب شيشرون إلى أتكس، وكان غائباً في بلاد اليونان عن حكمة وفطنة حين بلغت الثورة عنفوانها، خطاباً يعد مضرب المثل في الوفاء وعذوبة اللفظ قال فيه:
لست اشعر بحاجة أشد من حاجتي إلى من أستطيع أن أفضي إليه بكل ما يتصل بي، ومن يحبني، ومن أثق بحزمه وحصافة رأيه، ومن أستطيع أن أتحدث إليه بلا ملق ولا رياء ولا تحفظ. إن أخي الذي يفيض صراحة وحناناً غائب عني... وأنت يا من أنجيتني من متاعبي وأسباب قلقي برأيك السديد، ويا من كنت رفيقي في الشؤون العامة وموضع ثقتي في جميع شؤوني الخاصة. وشريكي في جميع أقوالي وأفكاري- أين أنت…
وبينما كانت بلاد الرومان تمر بتلك الأيام العصيبة حين عبر قيصر الروبكون وهزم بمبي، ونصب نفسه حاكماً بأمره، اعتزل شيشرون الحياة العامة إلى حين وأخذ ينشد الراحة من عنائها في قراءة الفلسفة والكتابة فيها. وقد كتب إلى أتكس في ذلك الوقت يقول له: "تذكر ما وعدتني به فلا تعط كتبك لإنسان ما بل احتفظ بها لي. إني أحبها أعظم الحب، وتشمئز نفسي أشد الاشمئزاز من كل ما عداها. وقد عمل وقتئذ بما كان ينصح به غيره، وأصدر في فترة لا تزيد إلا قليلاً على سنتين ما يكاد يكون مكتبة في الفلسفة .ذلك أن ضعف العقيدة الدينية لدى الطبقات العليا قد خلف وراءه فراغاً أخلاقياً لاح معه أن رومه تتردى في مهاوي الانحلال الخلقي والاجتماعي. وكان شيشرون يأمل أن تحل الفلسفة محل الدين متهدي هذه الطبقات إلى الحياة الطبية، وتحفزها لأن تحيا هذه الحياة، ولم يكن يعتزم أن يضيف إلى النظم الفلسفية السابقة نظاماً جديداً، بل كان كل ما يهدف له هو تلخيص تعاليم حكماء اليونان وتقديمها للرومان لتكون آخر ما يهديه لهم في حياته وقد بلغ من أمانته العلمية أن أقر في غير خفاء أنه يستمد فلسفته
ما أتصف بها الفيلسوف.
ولكن هل في الناس من بلغت فضائله تبقى معها سمعته إذا ما نشرت رسائله الخاصة؟ والحق أن الإنسان إذا أمعن في قراءة هذه الرسائل يكاد يحب هذا الرجل. إنه في واقع الأمر لم يكن له من الأغلاط، ولعله لم يكن له من الغرور، اكثر مما لنا، ولكنه أخطأ إذ خلد هذه الأغلاط وهذا الغرور في نثر أوفى على الكمال. وخير ما نستطيع أن نصفه به أن كان عاملاً مجداً، وأباً رحيماً، وصديقاً وفياً؛ وفي وسعنا أن نراه في بيته مولعاً بكتبه وبأبنائه، يحاول أن يحب زوجه ترنتيا الغضوب المصابة بالرثية والتي لم تكن تقل عنه ثروة أو فصاحة. ولقد أوتى هو وزوجه من الثروة ما يبعد عنهما السعادة، وكانت متاعبهما ومنازعاتهما تنشأ على الدوام من حساباتهما الضخمة، وظلت هذه المنازعات تزداد حتى طلقها بسبب تشاحن على المال نشأ بينهما. ولم يلبث بعد أن طلقها أن تزوج بيليا وقد اسفلت نظره إليها أنها ذات ثروة طائلة وليست كبيرة السن، فلما أن أظهرت بغضها لابنته تليا طلقها هي الأخرى. وكان يحب تليا أشد الحب، فلما ماتت حزن عليها حزناً كاد يذهب بعقله، وأراد أن يشيد لها معبداً كمعابد الآلهة. ومن ألطف رسائل شيشرون التي كتبها إلى تيرو كبير أمناء سره والتي كتبها عنه. وكان تيرو يكتب ما يمليه عليه مختزلاً، ويشرف له على أمواله بقدرة وأمانة كافأه عليهما شيشرون بتحريره من الرق. وأكثر الخطابات عدداً هي التي كتبها إلى أتكس الذي كان يستثمر لشيشرون أمواله المدخرة والذي أنجاه من عدة ورطات مالية، ونشر له مؤلفاته، وأسدى إليه من النصح السديد ما لم يعمل به. وقد كتب شيشرون إلى أتكس، وكان غائباً في بلاد اليونان عن حكمة وفطنة حين بلغت الثورة عنفوانها، خطاباً يعد مضرب المثل في الوفاء وعذوبة اللفظ قال فيه:
لست اشعر بحاجة أشد من حاجتي إلى من أستطيع أن أفضي إليه بكل ما يتصل بي، ومن يحبني، ومن أثق بحزمه وحصافة رأيه، ومن أستطيع أن أتحدث إليه بلا ملق ولا رياء ولا تحفظ. إن أخي الذي يفيض صراحة وحناناً غائب عني... وأنت يا من أنجيتني من متاعبي وأسباب قلقي برأيك السديد، ويا من كنت رفيقي في الشؤون العامة وموضع ثقتي في جميع شؤوني الخاصة. وشريكي في جميع أقوالي وأفكاري- أين أنت…
وبينما كانت بلاد الرومان تمر بتلك الأيام العصيبة حين عبر قيصر الروبكون وهزم بمبي، ونصب نفسه حاكماً بأمره، اعتزل شيشرون الحياة العامة إلى حين وأخذ ينشد الراحة من عنائها في قراءة الفلسفة والكتابة فيها. وقد كتب إلى أتكس في ذلك الوقت يقول له: "تذكر ما وعدتني به فلا تعط كتبك لإنسان ما بل احتفظ بها لي. إني أحبها أعظم الحب، وتشمئز نفسي أشد الاشمئزاز من كل ما عداها. وقد عمل وقتئذ بما كان ينصح به غيره، وأصدر في فترة لا تزيد إلا قليلاً على سنتين ما يكاد يكون مكتبة في الفلسفة .ذلك أن ضعف العقيدة الدينية لدى الطبقات العليا قد خلف وراءه فراغاً أخلاقياً لاح معه أن رومه تتردى في مهاوي الانحلال الخلقي والاجتماعي. وكان شيشرون يأمل أن تحل الفلسفة محل الدين متهدي هذه الطبقات إلى الحياة الطبية، وتحفزها لأن تحيا هذه الحياة، ولم يكن يعتزم أن يضيف إلى النظم الفلسفية السابقة نظاماً جديداً، بل كان كل ما يهدف له هو تلخيص تعاليم حكماء اليونان وتقديمها للرومان لتكون آخر ما يهديه لهم في حياته وقد بلغ من أمانته العلمية أن أقر في غير خفاء أنه يستمد فلسفته من رسائل بانتيوس وبوسيدونيوس وغيرهما من فلاسفة اليونان المحدثين، وأن عمله لا يزيد على تكييف رسائلهما تكييفاً جديداً؛ بل إنه في بعض الأحيان لا يفعل أكثر من ترجمة هذه الرسائل. ولكنه قد حول نثر هؤلاء الفلاسفة الجاف الممل إلى لغة لاتينية سهلة، واضحة، جذابة، وجمل بحوثه بالحوار. وكان ينتقل فيها تنقلاً سريعاً من بيداء المنطق وما وراء الطبيعة الجدباء، إلى المشاكل الحية، مشاكل السلوك وحكم البلاد. وقد اضطر كما اضطر لكريشيوس إلى ابتكار مصطلحات فلسفية جديدة، ونجح في هذا نجاحاً جعله صاحب الفضل على اللغة والفلسفة كلتيهما. والحق أن الحكمة لم يزنها من أيام أفلاطون هو الذي استمد منه شيشرون معظم أفكاره؛ ذلك بأنه لم يكن يحب تحكم الأبيقوريين الذين "يتحدثون عن الأمور الإلهية حديث الواثقين، حتى ليخيل إليك أنهم قد جاءوا لساعتهم من مجتمع للآلهة". وكذلك لم يكن يعجبه تحكم الرواقين الذين يلوون الحجج عن قصد وتعمد حتى ليخيل إليك أن الآلهة أنفسها إنما وجدت لمنفعة الآدميين وتلك نظرية لم ير شيشرون نفسه في بعض أطواره أنها بعيدة عن حكم العقل. وكانت النقطة التي بدأ منها فلسفته هي بعينها بداية فلسفة الأقديمية الجديدة أي التشكك الهين الذي لا يعترف بأن شيئاً ما مؤكداً كل التأكيد، والذي يرى في الاحتمالات الراجحة ما يكفي مطالب الحياة البشرية؛ وفي ذلك يقول في بعض كتاباته: "إن فلسفتي في معظم الحالات هي فلسفة الشك ولعلكم تأذنون لي ألا أعرف ما لا أعرفه . ويقول في موضع آخر إن الذين يريدون أن يعرفوا رأيي الشخصي يظهرون قدراً من التشوف لا يقره العقل ولكن ما أوتي من قدرة فائقة على التعبير سرعان ما كان يتغلب على حيائه: فيهزأ بالتضحيات الدينية، والهاتفين والعرافين. ويخصص رسالة بأكملها لإنكار القدرة على التنبؤ بالغيب، ويتساءل في معرض استنكار الاعتقاد بالتنجيم، وهو الاعتقاد الذي كان واسع الانتشار في تلك الأيام، هل كان من قتلوا في واقعة كاني قد ولدوا في مطلع نجم واحد . بل إنه ليشك في أن العلم بالمستقبل خير لمن يعلمه، وذلك لأن المستقبل نفسه قد يكون كريهاً كغيره من الحقائق الكثيرة التي يدفعنا حمقنا إلى الجري وراءها. ويظن شيشرون أن في مقدوره أن يقضي على العقائد القديمة كلها قضاء مبرماً بالسخرية منها والاستهزاء بها. فيقول مثلاً: "إذا سميت الحب سيريز وسميت الخمر باخوس كانت هذه التسمية استعارة من الاستعارات المألوفة، ولكن هل تظن أن أحداً من الناس قد بلغ به الجنون إلى الحد الذي يعتقد معه أن ما يأكله إله بحق . على أن شكه في الإلحاد لم يكن يقل عن شكه في أية عقيدة تحكمية أخرى. فهو يرفض العقيدة الذرية التي كان يقول بها دمقريطس ولكريشيوس، ويقول إن من أبعد الأشياء أن تنظم الذرات نفسها بلا هاد يهديها ولو ظلت تفعل كذلك أبد الدهر، ثم ينشأ من هذا التنظيم عالمنا الذي نعيش فيه. وشأنها في ذلك شأن الحروف الهجائية فإن من أبعد الأشياء كذلك أن تتجمع هذه الحروف من تلقاء نفسها فينشأ من تجمعها "حوليات إنيوس" ويقول إن جهلنا بالآلهة ليس بالدليل القاطع على عدم وجودها، بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا فيقول إن إجماع الناس على وجودها يكفي في حد ذاته لترجيح وجود قوة مدبرة. ويستخلص من هذا أن الدين نظام لابد منه للأخلاق الشخصية والنظام العام، وأنه نظام لا يمكن أن يهاجمه إنسان عاقل ؛ ولذلك فإنه ظل يقوم بواجبات العراف الرسمي في الوقت الذي كان يكتب فيه ضد
التنبؤ والعرافة. ولم يكن يعد هذا نفاقاً بمعناه الصحيح، ولعله كان يسميه سياسة وحسن التصرف. ذلك أن الأخلاق الرومانية، والمجتمع الروماني، ونظام احكم فيه، كانت كلها وثيقة الارتباط بالدين القديم، وأنه إذا أريد لها البقاء وجب ألا يترك هذا الدين كي يموت. (وكان الأباطرة يبررون اضطهاد المسيحيين بمثل هذه الحجج). ولما توفيت تليا التي كان يحبها أعظم الحب، اشتدت به نزعة الأمل في الخلود. وكان قبل ذلك بعدة سنين كثيرة قد استعار من فيثاغورس وأفلاطون وإيكسودس في "حلم سبيو" الذي اختتم به "جمهورية" أسطورة معقدة بليغة عن حياة بعد الموت، ينعم فيها الموتى العظماء الصالحين بالنعيم الأبدي. أما في رسائله الخاصة- وحتى في رسائله التي يواسي فيها الثاكلين من أصدقائه- فإنه لا يذكر قط شيئاً عن الحياة الآخرة.
وإذ كان على علم بما يسري في أيامه من نزعة التشكك فإن الأسس التي أقام عليها بحوثه في الأخلاق والسياسة كانت أسساً دنيوية محضة، لا تعتمد قط على تأييد غير القوى الطبيعية. فهو يبدأ بالتساؤل عن الطريق الموصل إلى السعادة. ثم يوافق الرواقيين في شيء من التردد على أن الفضيلة وحدها لا تكفي للوصول إليها. ومن أجل هذا تراه يبحث عن طريق الفضيلة، ويفلح بفضل جمال أسلوبه في أن يجعل الواجب محبباً ممتعاً إلى حين، وفي ذلك يقول: "الناس جميعاً أخوة، وخليق بنا أن نعد العالم كله مدينة مشتركة للآلهة والبشر على السواء . ثم يواصل حديثه قائلاً إن أسمى المبادئ الخلقية هي الولاء لهذا الكل، ولاء يكون الحافز له هو الضمير الحي. وأول ما يجب على الإنسان لنفسه وللمجتمع، أن يقيم حياته على أساس اقتصادي سليم، وعليه بعدئذ أن يؤدي واجباته بوصفه مواطناً في بلده. والسياسة الحكيمة أعظم شرفاً من أعمق البحوث الفلسفية.
وهو يرى أن الملكية المطلقة خير أنواع الحكومات إذا كان الملك صالحاً، وأكثرها شراً وفساداً إذا كان الملك فاسداً- وتلك حقيقة سرعان ما تأيدت في رومه نفسها. وعنده أن الحكومات الأرستقراطية تصلح إذا كان الحاكمون فيها هم أحسن الناس حقاً. ولكن شيشرون، وهو من أفراد الطبقة الوسطى، لا يسلم تسليماً مطلقاً بأن الأسر القديمة المحافظة على أرستقراطيتها خير الأسر. والحكم الديمقراطي في رأيه يصلح إذا كان الشعب فاضلاً، وهذا في ظنه لا يكون أبداً. هذا إلى أن هذا الحكم يفسده الافتراض الكاذب بأن الناس متساوون. ولذلك كان خير الحكومات هي التي تقوم على دستور يجمع بين هذه الأنواع كلها كحكومة رومه قبل عهد ابني جراكس، فقد جمعت بين سلطة الجمعيات الديمقراطية، وسلطة مجلس الشيوخ الأرستقراطية، وسلطة القنصلين التي لا تكاد تقل عن سلطة الملوك في السنة التي يتوليان فيها منصبهما, والملكية إذا لم تكن لها ضوابط وموازين تصبح حكومة استبدادية، كما أن هذه الظروف نفسها تجعل الأرستقراطية ألجركية، وتجعل الديمقراطية حكم الغوغاء وتستحيل إلى فوضى وطغيان. وقد كتب بعد خمس سنين من تولى قيصر منصب القنصلية، وكأنه فيما كتب كان يصّوب السهم إلى صدر قيصر:
يقول أفلاطون إن الحكام المستبدين ينبتون من مغالاة الناس في التحلل من القيود تحللاً يسميه حرية، كما ينبت النبات من الجذور... وإن هذه الحرية تهوى بالأمة آخر الأمر إلى درك الاستعباد.. إن كل شيء يزيد على حده ينقلب إلى ضده.. وذلك لأن العامة التي ليس لها حاكم يسيطر عليها تختار من بينها في العادة زعيماً يقودها.. وهو إنسان جرئ لا ضمير له.. يسعى لنيل رضاء الناس بما يعطيهم من أموال غيرهم. ولما كان هذا الرجل يخشى أشد الخشية أن يظل فرداً كغيره من الأفراد فإنهم يخلعون عليه حماية المنصب العام، ويجددون له هذه الحماية على الدوام، فيحيط نفسه بحرس مسلح، وينتهي به الأمر إلى أن يصبح طاغية يستبد بالشعب الذي حباه القوة والسلطان
ولكن قيصراً رغم هذا نال بغيته، ورأى شيشرون أن خير ما يفعله هو أن يكظم غيظه ويرفه عن نفسه بالقول المعاد في القانون، والصداقة، والمجد، والشيخوخة، وبأن "القوانين تلتزم الصمت في أيام الحرب" على حد قوله هو نفسه. على أنه كان في وسعه على الأقل أن يستسلم للتفكير في فلسفة القانون، وقد عرفه كما عرفه الرواقيون بأنه "التفكير الصحيح المتفق مع الطبيعة أي أن القانون يعمل لجعل الصلات التي تنشأ من دوافع الناس الاجتماعية صلات منظمة مستقرة. وفي ذلك يقول إن "الطبيعة قد غرست في نفوسنا الميل إلى حب الناس" (المجتمع)، "وهذا هو أصل القانون" ويرى شيشرون أن الصداقة يجب ألا تقوم على المنافع المتبادلة بل على المصالح المشتركة التي تدعمها، وتحدوها الفضيلة والعدالة، وأن قانون الصداقة هو "ألا يطلب الإنسان إلى صديقه أن يعمل أشياء غير شريفة، وألا يعملها هو إذا طلب إليه عملها، وعنده أن الحياة الشريفة هي خير ضمان للشيخوخة السارة، وأن الاستهتار والإسراف في أيام الصبا يتركان الشيخوخة جسماً والعقل منهوكا قبل الأوان. أما الحياة التي تقضي على خير وجه فقد يبقى الجسم والعقل فيها سليمين حتى يبلغ المرء مائة من السنين، ولنضرب لذلك ماسينسا. والانكباب على الدرس قد يجعل الإنسان "يغفل عن اقتراب الشيخوخة منه خفية والشيخوخة أمجادها كما للشباب أمجاده- ففيها الحكمة المتسامية، وفيها حب الأطفال آباءهم وإجلالهم إياهم، وفيها تهدأ حمى الرغبات والمطامح. وقد تخشى الشيخوخة الموت ولكن ذلك لا يحدث إذا كان العقل قد كونته الفلسفة، فأدرك أن وراء القبر، في أحسن الأحوال، حياة جديدة أسعد من الحياة وفي أسوئها من عنائها.
وفي وسعنا أن نحكم على مقالات شيشرون في الفلسفة بأنها كلها ضئيلة الأثر، وأنها كآرائه في الحكم والسياسة تستمسك فوق ما يجب بالسنن القديمة والتقاليد المرعية. وسبب ذلك أنه وإن أوتي تشوف العالم فقد أوتي معه حذر أبناء الطبقة الوسطى وضعف عزيمتهم، ولذلك ظل في فلسفته نفسها سياسياً يكره أن يسيء إلى شخص واحد من الناس، خشية أن يفقد بذلك صوته يوم الانتخاب. وكان ديدنه أن يجمع آراء غيره ويجيد الموازنة بين ما لها وما عليها، فإذا انتهى من هذه الموازنة خرج السامع بعدها من نفس الباب الذي دخل منه، لا يدري أي الكفتين ترجح على الأخرى. ولولا ما امتازت به هذه الكتب الصغيرة من أسلوب سهل جميل لعفي عليها الزمان، ولما بقي لها ذكر الآن. فما أجمل لاتينية شيشرون وما أسهل قراءتها، وما أسلس لغتها وأوضحها! لقد كان إذا قص حادثة أسبغ عليها من الحيوية التي تسري في خطبه فتسترعي الأسماع وتسحر الألباب. وإذا وصف شخصاً أظهر في هذا الوصف من البراعة ما يجعل القا، وإذا انطلق في الخطابة أفاض على السامع جُملاً متزنة، جميلة اللفظ، قوية العبارة، مما أخذه عن إيزوقراطيس ، وجعل السوق العامة تدوي بالتصفيق والاستحسان.
إن آراء شيشرون هي آراء الطبقات العليا، أما أسلوبه فقد أراد به أ يصل إلى قلوب الشعب؛ ومن أجل هذا تراه يبذل جهده لكي يكون هذا الأسلوب واضحاً لا غموض فيه، وأن تكون الحقائق التي يوردها مما يهز مشاعر السامعين هزاً، وهو يمزج المعنويات بالنوادر والفكاهات.
وملاك القول أن شيشرون قد خلق اللغة اللاتينية خلقاً جديداً، فوسع نطاق مفرداتها، وصاغ منها أداة مرنة للتعبير عن الفلسفة، وجعلها صالحة لاستيعاب الآداب والعلوم في أوربا الغربية سبعة عشر قرناً من الزمان. وإن الأجيال التي جاءت بعده لتذكره على أنه مؤلف أكثر منه رجل سياسة. ولما أن نسي الناس ما قام به وهو قنصل من أعمال مجيدة، أو كادوا ينسونها، على الرغم مما فيها من ذكريات طيبة، ظلوا يمجدون فتوحه في عالم الأدب والفصاحة. وإذ كان من عادة الناس أن يمجدوا الصورة كما يمجدون المادة، وأن يعظموا الفن كما يعظمون العلم والسلطان، دون سائر الرومان، من الشهرة ما لم ينل أكثر منه إلا قيصر وحده. ولم يغفر هو لرومه هذا الاستثناء الوحيد.