الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمة الله
مرسل: الأربعاء ديسمبر 04, 2013 6:47 pm
الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمة الله
حياتـــه :
1– نشأتـــــه:
ولد الملك فيصل في الرياض سنة 1324هـ الموافق 1906م، وكانت ولادته بعد خمس سنوات من استعادة والده على الرياض على أثر انتصار عبدالعزيز بن سعود في معركة روضة مهنا،(1) ضد خصمه عبدالعزيز بن رشيد والتي انتهت بمقتل ابن رشيد وتشتت قواته ، واستعادة ابن سعود القصيم ، وخروج قوات ابن رشيد والدولة العثمانية منها، وتعد معركة روضة مهنا من المعارك الحاسمة في تاريخ المملكة لأنها كانت البداية لسقوط آل رشيد ورحيل العثمانيين من بلاد نجد.(2)
وقد تربى في كنف جده لأمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، لأن أمه ماتت وهو طفل رضيع وتولى تعليمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن ودرسه شيئاً يسيراً من الفقه والتاريخ (3) ، ولم تقتصر تربية فيصل وتعليمه على ذلك فقط، وإنما فرضت عليه حياة الصحراء الصعبة وظروفها الطارئة وصراعاتها المتعددة، أن يتعلم ركوب الخيل والرماية والفروسية واستعمال السلاح، حيث يذكر "ديجوري" أن جده لامه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف كان يتولى تعليم فيصل كيفية ركوب الخيل واستعمال السيف.(4)
ولكن مدرسة الفيصل الحقيقية وجامعته التي تلقى فيها مبادئ الحكم وأخلاق الزعامة هي مدرسة أبيه ، يقول ديجوري : " السياسة وحتى التصرف مع الناس والعشائر أخذهما فيصل عن أبيه، وأخذ عنه أيضاً الصبر والكتمان وضبط الأعصاب، وعزة النفس، وهي خصال عربية ".(5)
ومما لاشك فيه أن الملك عبدالعزيز كان يعد ابنه فيصل إعدادا يؤهله ليكون حاكماً على البلاد عندما يأتي دوره فيما بعد، وقد حرص على ذلك أشد الحرص ولا ريب أن ذلك قد ساعد في تكوين شخصية فيصل وإبراز مواهبه، فيذكر مجيد خدوري أنه ذات يوم ســــأل الملك فيصل، لمن يدين بتدريبه على فن الحكم؟ فأجابه دون تردد : "لوالدي" ، وأضاف " أنا لم أحظ بتربية رسمية في المدرسة ولكن نشأت في ظل والدي وتوجيهه المباشر".(6)
2– تدريبه على الحرب:
كان عبدالعزيز قد قام بتدريب ابنه على الحروب منذ صغره، حيث اصطحبه معه في غزوة ياطب(7) سنة 1336هـ وعمره آنذاك حوالي ثلاثة عشر عاماً، وتعد أول غزوة ضد ابن رشيد توجه في عقر داره، وقد اكتشف في ولده فيصل مواهب حربية كبيرة، ومن ثم أسند إليه مهمة جديدة، فعندما قرر الملك عبدالعزيز الزحف على حائل عام 1339هـ، لجأ إلى توزيع قواته بين أخيه وولديه سعود وفيصل، حيث تذكر بعض المصادر أن الجيش الذي كان بقيادة فيصل اكتسح كل من واجهه من عشائر ابن رشيد وأبادهم، واستولى على كثير من القرى التابعة لحائل ، وواصل زحفه إلى قرب مدينة حائل.(8)
وعندما حدثت فتنة في عسير، قادها حسن بن عائض ضد الحكم السعودي، وذلك بالتنسيق مع الشريف حسين عام 1339هـ، عهد عبدالعزيز إلى ابنه فيصل قيادة حملة كبيرة قوامها ستة آلاف مقاتل من نجد، ولما وصلت إلى بلاد قحطان وشهران وغيرهم من القبائل المحيطة،(9) والتي تدين حكم آل عائض، أنضم إليها حوالي أربعة آلاف مقاتل، وقد سار الفيصل بهذه القوة الكبيرة في شهر ذي القعدة عام 1340هـ، نحو أبها فتمكن من إلحاق الهزيمة بقوات ابن عائض ، مما دعا الأخير إلى التراجع إلى الوراء واللجوء إلى معقله في حرملة،(10) وكان الفيصل قد تمكن من دخول أبها عاصمة عسير في شهر صفر 1341هـ، وتجنباً لإراقة الدماء وجه الفيصل الدعوة إلى ابن عائض بالاستسلام والدخول في الطاعة،(11) لكنه أبى فما كان من الفيصل إلا أن هاجم حرملة، وبعد تحقيق النصر وتثبيت سلطة الدولة عاد الفيصل إلى الرياض حيث استقبل استقبالاً كبيراً ، وخرج والده لملاقاته خارج الرياض ، واصطحابه في موكب لدخول العاصمة الرياض، وذلك في 21 جمادى الثانية سنة 1341هـ ، وقد أطلق عليه لقب بطل أبها.(12)
وعندما طال حصار عبدالعزيز لمدينة جدة أرسل إلى ابنه فيصل بالقدوم إلى الحجاز على رأس قوة من نجد والمشاركة في الهجوم على المدينة ؛ فوصلت قوات الأمير فيصل وأحكمت الحصار عليها ، ولم يمض اكثر من خمسة وعشرين يوماً على وصول قواته حتى أدرك الملك على بن الحسين عدم جدوى المقاومة فقرر الاستسلام والرحيل من الحجاز في شهر جمادى الأولى عام 1344هـ.(13)
وعندما أعلن الحسن الإدريسي الثورة ضد الحكم السعودي في سنة 1351هـ منتهكاً بذلك معاهدة مكة سنة 1345هـ، والتي بموجبها وضعت إمارته تحت الحماية السعودية، واستغلال أمام اليمن هذه الفرصة فأقدم على الاستيلاء على بعض أجزاء المنطقة، حيث استولت قواته على نجران وأراض من تهامة(14) ، ولم يشأ عبدالعزيز استخدام القوة في بداية الأمر بل سعى إلى حل سلمي ، غير أن إمام اليمن لم يرفض ولم يقبل (15) ، فأدرك عبدالعزيز هدف الإمام من ذلك ولذا بعد أن استنفذ كل السبل لجأ إلى استعمال القوة المسلحة ؛ فأنفذ إلى اليمن في أواخر عام 1352هـ ثلاث حملات عسكرية: الأولى بقيادة فيصل بن عبدالعزيز وتهدف إلى دفع القوات اليمنية إلى داخل أراضيها، والثانية برئاسة سعود وترمي لاستعادة نجران، والثالثة وأسند قيادتها إلى الأمير خالد بن محمد وغايتها احتلال صعدة (16) ، وكانت القوة التي يقودها الأمير فيصل تتألف من جنود نظاميين وغير نظاميين مجهزة بالمدافع والأسلحة الحديثة، وعند وصوله إلى (جازان) لم يمكث إلا بضعة أيام، ثم زحف صوب ميدى المحصنة والمزودة بخط لاسلكي ولكي يمنع فيصل العرشي قائد المدينة من الاتصال بقيادته العليا، أمر بقطع الخط فكانت النتيجة أن هرب العرشي تاركا البلد وحاميتها تحت رحمة الأمير فيصل (17) ، ولم تجد القوات اليمنية مفراً من الاستسلام وذلك في 16 محرم 1353هـ، وفي اليوم التالي قدم أهالي اللحية وقبائل وادي مور الطاعة والولاء للأمير فيصل 1353هـ/1934م، ثم تقدمت قوات الأمير فيصل باتجاه الحديدة مما جعل قوات الإمام تخلي المدينة، وهكذا دخلت قوات فيصل الحديدة في 21 محرم دون قتال، ثم أخذت قواته تتقدم نحو باجل والحسينية وبيت الفقيه والزيدية وغيرها حيث قدمت تلك المدن وكافة القبائل القاطنة في جنوب الحديدة ولاءها للحكم السعودي(18) ، ولولا تدخل زعماء العالم العربي والإسلامي لوقف الحرب والدخول في مفاوضات لإقرار السلام بين البلدين لوصلت القوات السعودية تقدمها داخل اليمن نفسه، واستجابة لمناشدة أولئك الزعماء وكبار العلماء أمر الملك عبدالعزيز ابنه فيصل بالتوقف.
3– تدريبه على السياسة:
أ– زياراته الأولى:
عندما انتهت الحرب العالمية الأولى 1914–1918م بانتصار بريطانيا وحلفائها على دول الوسط (الدولة العثمانية – ألمانيا – والمجر) وجهت بريطانيا الدعوة للملك عبدالعزيز لزيارة بريطانيا، وقد قبل دعوة الملك جورج الخامس ملك بريطانيا واختار ابنه فيصل ليمثله وهو ابن الثالثة عشر عاماً (19) ، واختيار فيصل يعتبر دليلاً على تقدير والده لمقدرته وانه يرى أن فيه من الصفات ما يؤهله لذلك، وقد أعلن أن الهدف من البعثة آنذاك هو تقديم تهاني والده على انتصار بريطانيا في الحرب (20) ، لكنه لعله قد بحث خلال الزيارة بعض الأمور التي تهم البلدين وفي مقدمتها مستقبل العلاقات السعودية البريطانية، وكذلك مسألة الحدود بين نجد والحجاز، لأن بريطانيا كانت تسعى إلى تقوية نفوذها في الجزيرة العربية ، ولن يتأتى ذلك إلا بانتهاء مشاكل الحدود بين الشريف حسين بن على وعبدالعزيز بن سعود (21) ، لكن "بول" يقول بأن أحد أهداف زيارة الأمير فيصل الدبلوماسية لبريطانيا في سنة 1919م كان لإقناع بريطانيا بزيادة دعمها لوالده بدلاً من الشريف حسين.(22)
وقد استقبل الملك جورج الخامـــــس ملك بريطانيا في الثلاثــــين من أكتوبر سنة 1919م الأمير فيصل والوفد المرافق له في قصر بكنغهام ، وفي أثناء هذا الاستقبال قدم الأمير فيصل للملك سيفا مزينا ومرصعا باللؤلؤ، وقد زار خلال هذه الزيارة مجلسي العموم واللوردات وجامعة كامبردج، وبعض مصانع الأسلحة والسيارات،(23) ثم بعدئذ توجه إلى باريس تلبية لدعوة من الحكومة الفرنسية ، حيث تفقد في فرنسا وبلجيكا ميادين القتال وما خلفته الحرب من دمار وخراب ، وشاهد آثارها في الخنادق والمعدات، وقد دامت رحلته إلى أوربا ستة شهور.(24)
وبالرغم من أن زيارة أوربا كانت ناجحة بكل المقاييس إلا أنها كانت صعبة كثيراً، باعتبارها الزيارة الأولى التي يقوم بها خارج الجزيرة العربية وهو في هذه السن المبكرة، فقد قابل شخصيات تفوقه سنا وتجربة وخاصة في الميدان السياسي، وبالإضافة إلى هذا فلاشك أن ما شاهده وما سمعه قد أفاده كثيراً وساعد في تثقيفه ورفع مهاراته السياسية والدبلوماسية ، حيث يقول قدري قلعجي:"ويمكن القول بكل ثقة أن رحلة فيصل بن عبدالعزيز في أول مهمة سياسية يقوم بها لديار الغرب– التي استمرت ستة أشهر– كانت رحلة ناجحة، إذ استشرف فيها الفتى اليافع حقائق السياسة الدولية، والاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة هناك، كما كانت تجربة بالغة الأهمية في حياته السياسية المقبلة، زادت من حصيلة خبراته كرجل دولة وقائد مسيرة ".(25)
ب– الزيارة الثانية إلى أوربا 1345هـ/1926م
بعد أن تم له توحيد الحجاز مع بقية أجزاء البلاد– والمناداة به ملكاً على الحجاز وسلطاناً على نجد وملحقاتها– أراد أن يوطد علاقاته بدول أوربا الغربية، والتي اعترفت به ملكاً على الحجاز وهى بريطانيا والاتحاد السوفيتي وفرنسا وهولندا، ولذا قرر عبدالعزيز إرسال ابنه فيصل لأنه لم يعد مجرد أمير فقد أصبح نائباً للملك في الحجاز على رأس وفد سعودي يقدم الشكر للملك والحكومات الأوربية (26) ، وقد استقبل استقبالا كبيراً وجديدا، يقول الكاتب الألماني فوك ميكوش: "كانت لزيارة الأمير فيصل للندن مظاهر تختلف عن زيارته الأولى في سنة 1919م عندما قوبل بقليل من الاهتمام كمجرد أمير من أمراء الصحراء، فقد استقبل هذه المرة بحفاوة بالغة ، ورمت المدفعية تحية الملوك بإحدى وعشرين طلقة باعتباره مندوباً عن والده الملك ، وجرى له استقبال رسمي حافل ووجد في كل مكان أبوابا مشرعة وآذانا صاغية ، كما رحبت به الأوساط الاجتماعية الزائرة ، واستقبله الملك جورج ومنحه وسام.(27)
وقد اجتمع فيصل خلال إقامته في لندن بعدد كبير من رجالات السياسة ، وزار بعض المؤسسات التعليمية والجامعات، وفي هولندا استقبلته ملكتها، وفي فرنسا استقبله رئيس الجمهورية– وكان يومئذ مسيو دومرغ– في قصر الإليزيه استقبالا حارا. وقد شكر الحكومة الفرنسية لاعترافها بالملك عبدالعزيز ملكاً على الحجاز ونجد وملحقاتها. ، لقد كان لهذه الزيارة الأثر الحسن ، وأسهمت في زيادة سمعة الأمير فيصل والدولة السعودية التي يمثلها ونجاح في تطوير علاقاتها مع البلدان الأوربية.(28)
جـ– زيارته الثالثة إلى أوربا:
في عام 1351هـ/1932م أوفد الملك عبدالعزيز الأمير فيصل على رأس وفد لزيارة عواصم الدول، التي أقامت تمثيلاً دبلوماسيا مع المملكة لتعزيز علاقات بلاده مع تلك الدول ولحفز بقية دول العالم على الاعتراف بدولته، فقام الوفد بزيارة كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا وألمانيا وبولندا وإيطاليا وسويسرا والاتحاد السوفيتي، لتقوية روابط الود والصداقة مع تلك البلدان ودراسة أوضاع المسلمين (29) ، كما زار كل من تركيا وإيران البلدين الإسلاميين لتعزيز وشائح الأخوة الإسلامية، وتوقف في كل من الكويت والعراق، ولاشك أن زيارته للعراق كان الهدف منها تحسين الروابط الأخوية مع المملكة السعودية، وتخفيف حالة التوتر بين البلدين.(30)
ويعلق قدري قلعجي على هذه الزيارة الثالثة إلى أوربا بالقول: " ويمكن أن رحلته قد حققت نجاحاً كبيراً في تعزيز مكانة الدولة الفتية على صعيد العلاقات الدولية، وأقامتها على أسس التفاهم الودي والتعامل على قدم المساواة، كما أكدت حرصه على تحقيق السياسة التي رسمها لبلاده في الانفتاح على العالم الخارجي لكسب معركة الحضارة والتقدم العلمي، دون التخلي عن المبادئ الأصلية في منطلقها الأساسي بالحفاظ على التراث العربي والقيم الروحية ".(31) وقد استغرقت رحلته تلك ثلاثة شهور.
وفي سنة 1358هـ/ 1939م تولى الأمير فيصل رئاسة الوفد السعودي الذي اشترك مع عدد من الدول العربية وهي مصر والعراق واليمن، وذلك في مؤتمر خاص بالقضية الفلسطينية لمواجهة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد أوضح معارضة المملكة للهجرة اليهودية، وتؤكد على حق الشعب الفلسطيني غير المنازع في وطنه.(32)
د– زيارته إلى أمريكا
في عام 1943م قام الأمير فيصل بن عبدالعزيز وأخوه خالد بزيارة للولايات المتحدة الأمريكية تلبية للدعوة التي وجهت إلى أبيهما من الرئيس روزفلت يرافقهما وفد كبير من كبار الشخصيات السعودية (33) ، وقد جرت بين الرئيس روزفلت والأمير فيصل محادثات ودية بشأن توطيد العلاقات الثنائية بين البلدين، كما تطرقت إلى مناقشة القضية الفلسطينية، وخلال وجوده في أمريكا التقى الفيصل بعدد من كبار القادة والساسة الأمريكيين ، واطلع ومرافقيه على الحياة الأمريكية في مظاهرها المختلفة من ذلك المعامل، والمخابز، والجامعات، والمزارع ومصافي البترول والطيران والبحرية، كما زار مجلس الشيوخ الأمريكي.(34)
ومنها توجه إلى لندن تلبية للدعوة التي تلقاها من حكومتها وكانت آنذاك تتعرض للغارات الجوية الألمانية العنيفة والشديدة، حيث أجرى محادثات مع ملك بريطانيا ورئيس الوزراء ونستون تشرشل تناولت عدد من القضايا العربية ، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وبالذات الهجرة اليهودية إلى فلسطين،(35) ثم سافر إلى الجزائر تلبية لدعوة ديجول زعيم فرنسا الحرة (36) .
وفي عام 1365هـ/1945م قرر الحلفاء تأسيس " هيئة الأمم المتحدة " لتأكيدهم على حق الشعوب في الحرية والاستقلال ، وحل المنازعات الدولية بالطرق السلمية ، وقد دعيت المملكة العربية السعودية إلى ذلك الاجتماع التأسيسي والذي عقد في سان فرانسسكو 25 إبريل سنة 1945م، وقد مثل المملكة الأمير فيصل نائب الملك في الحجاز ووزير خارجيته ومعه وفدّ منهم أخوه الأمير فهد (خادم الحرمين الشريفين)، والذي ألقى خطاباً أكد فيه على أن مبادئ السلم والعدالة والحق هي المبادئ التي تتمسك بها المملكة لأنها نابعة من الدين الحنيف الذي تعتبره دستورا لها، ومما قاله: "إن هذا الميثاق لا يدل على الكمال، كما كانت تتوقع الأمم الفقيرة التي كانت تأمل أن يحقق المثل العليا، على أنه كان خطوة كبيرة إليها، وسنعمل كلنا للمحافظة عليه، وسيكون الأساس المتين الذي يبنى عليه صرح السلام العالمي ".(37)
4– تدريبه على الحكم :
اكتشف الملك عبدالعزيز في ابنه الفيصل، الذكاء، والفطنة، ورجاحة العقل، ورصانة الرأي، ومن هنا فقد عهد إليه ببعض الأمور المهمة كقيادة بعض الحملات العسكرية المهمة ، والقيام بمهام سياسية خارجية إلى أوربا ، والتفاوض أحياناً بالنيابة عن والده، وقد أثبت مقدرة وكفاءة منقطعة النظير، ولذا فبعد أن تم دخول الحجاز تحت الحكم السعودي، رأى – رحمه الله – أن يقوم بتنظيم شؤون الحجاز والاعتناء بها وإعطائها نوعاً خاصاً من الحكم (38) ، واختار ابنه فيصل نائباً له في الحجاز يمارس الحكم ويتحمل مسؤولياته فيقول فوميكوش : نصب نجله الأمير فيصل نائب الملك في مكة، وأوكل إليه تقاليد الحجاز يحكمه بما اشتهر به من ذكاء، وتمرس بالحياة الحديثة، وسعة في الصدر"(39) ، ولوضع منهاج يسير عليه الأمير فيصل شكل مجلس الوكلاء يتألف من عدد من أهل الرأي ، وأسند رئاسته إلى ابنه فيصل فكانت ثمرة ذلك المجلس إعداد " التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية"، والتي وافق عليها الملك عبدالعزيز، كما أنشأ مجلس لوضع المشاريع والأنظمة الإدارية والمالية سمي "مجلس الشورى" أسند رئاسته أيضاً للنائب العام" (40) ، فأصبح يطلق عليه النائب العام ، وأطلق على السلطة التي يتــــولى أمرها "النيابة العامة"، والتي حددت التعليمات الأساسية وظائفها وأهدافها(41):" النيابة العامة هي المرجع العمومي لجميع الدوائر الحكومية وأقسام إدارتها، وكل واحد من مديري الدوائر ورؤسائها يكون مسؤولا أمامها عن حسن جريان الأمور الداخلية في دائرة وظيفته (وهي النيابة) مسؤولة أمام صاحب الجلالة، والتي يرجع إليها جميع الدوائر الحكومية وأقسام إدارتها، سواء في الأمور الشرعية أم الداخلية أم المالية أم التعليمية، وكان ذلك أول عمل عام كبير يتولاه ويمارسه، ولاشك إن مهمته بصفته نائب الملك في الحجاز هي السهر على راحة المواطنين، ورعاية شؤون الحرم المكي، والمحافظة على سلامة الحجاج ، وتأمين احتياجاتهم اليومية طوال وجودهم في الأراضي المقدسة، ثم السهر على حالتهم الصحية لتجنب الأوبئة، ثم استقبال رؤساء الوفود – الذين هم في الغالب وزراء أو رؤساء دولة – القادمين من كل أقطار العالم الإسلامي.
وبالإضافة إلى ذلك فقد عامل شعب الحجاز معاملة حسنة ، كما نجح في استئصال شأفة الفوضى التي كانت سائدة في الحجاز ، فوضع حداً للاعتداءات التي كانت تقوم بها بعض القبائل وبخاصة على قوافل الحجاج وابتزاز أموالهم وزهق أرواحهم.(42)
وقد أولى اهتمامه أولا بالتعليم حيث أنشأ مديرية التعليم، وثانيا العناية بالأمور الصحية كتوفير المعالجة للأهلين وإنشاء المستشفيات، وجلب الأطباء من الخارج، ومما قاله في خطبة ألقاها في المجلس الصحي العالي: " الصحة سر القوة، وهي طلب كل نفس، ولا هناء للعيش إلا بها.. وأننا نحمد الله تعالى على أن الصحة في الحجاز تخطو خطوات طيبة في سبيل التقدم ".(43)
والأمر الثالث الذي وجه اهتمامه به توفير الماء ، وذلك بشراء عدد من الماكينات الحديثة لرفع المياه من الآبار لاستخدامها في الزراعة والشرب، وهكذا كانت مكة أول مدينة زودت بالمياه بواسطة الأنابيب، والأمر الآخر الذي اعتنى به هو إنشاؤه لجنة لدراسة المشاريع العمرانية تستعين في عملها بالخبراء العرب والأجانب.(44)
وأخيراً أنشأ لجنة للتفتيش والإصلاح من مهامها استقبال شكاوى أفراد الشعب فيقول في بلاغ أعلنه للناس : " ليكن معلوما لدى الجمهور أن من له قضية في إحدى الدوائر عليه أن يطلب إنهاء قضيته من قبل المأمور المختص فإن لم يتم عمله حسب النظام أو تهاون في إنجازه فعلى المشتكي أن يرفع الأمر إلى رئيس ذلك المأمور ، فإن لم ينصفه هذا راجع النائب العام ثم .. الملك".(45)
فكل الأمور التي ترده يحيلها إما إلى المحاكم الشرعية للحكم فيها بما أنزل الله، أو إلى المجالس والهيئات الإدارية لتقرر ما ترى فيه المصلحة العامة.
ومن ناحية أخرى فقد كان حريصا على الاتصال بزعماء البلاد، ويقوم بين الفينة والفينة بزيارة الأحياء أو الانتقال من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى قرية أخرى، ليتعرف على كثب عن حاجاتهم ورغباتهم ويتلمس قضاياهم.
ويقول محمد شفيق مصطفى : " وقد أصاب في ذلك (أي بتعيين فيصل نائب له) كل الإصابة، إذ أظهر هذا الأمير الصغير السن حنكة الشيوخ ولباقة الحكماء، فجمع القلوب حوله، حتى أن ممثلي الدول الأجنبية الذين خالطوه بحكم مهامه الرسمية شهدوا له بحدة الذكاء، وبعد النظر، ورقة الجانب ".(46)
وقد عهد إليه والده بمفاوضة بريطانيا في عقد معاهدة جدة، والتي استطاع خلال تلك المفاوضات أن ينتزع اعتراف بريطانيا باستقلال المملكة ، حيث جاء في المادة الأولى من اتفاقية جدة والتي حدثت في 18 ذي القعدة 1345هـ/ 20 مايو 1927م : " يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالاستقلال التام المطلق لحضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها ".(47)
وعندمـــا قرر الملك عبدالعزيز تحويل مديرية الخارجية إلى وزارة في 28 رجب 1349هـ/ ديسمبر 1930م، أسندها إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل علاوة على احتفاظه بالنيابة العامة ، وقد جاء تعيينه بسبب ما أتثبته من براعة دبلوماسية أثارت الانتباه إلى حد بعيد، وهكذا بصفته وزيرا للخارجية فان عليه أن يستقبل سفراء ورجال السلك الدبلوماسي وأن يصغي إلى ما يبوحون به من الأسرار ، وأن يعمل على توطيد علاقات المملكة مع بلدانهم ، وخاصة مع الدول العربية الشقيقة والإسلامية والصديقة على أسس من التعاون والاخوة في المجالين العربي والإسلامي ، والمعاملة بالمثل في المجال الدولي، فأثمرت جهوده عن عقد عدة معاهدات في مجالات مختلفة.
ولقد احتفظ بمنصب وزير الخارجية طوال حياته، ومن ثم فأنه كان حريصاً على أن يدير النشاط الدبلوماسي بنفسه، ويقوم بتمثيل المملكة إلى اجتماعات الجامعة العربية والأمم المتحدة، وغيرها من الاجتماعات عربية كانت أم دولية ، علاوة على استقبال شخصيات كل سفراء وموفدي الدول الأجنبية في مكة وفي جدة، كما كان باستمرار على اتصال بمثلى بلاده في الخارج، وبالإضافة فإن زياراته الخارجية كانت تصب في مصلحة القضايا المحلية والعربية مثل قضية فلسطين ، ففي زيارته لموسكو 1932م قابل ستالين وعدد من القادة السوفيت ، وناقش معهم القضية الفلسطينية والهجرة اليهودية إلى فلسطين ، والخطر الذي يهدد السلام العالمي من جراء الحركة الصهيونية ، كما مثل بلاده في مؤتمر المائـــدة المستديرة الذي عقد في لندن لمناقشة القضية الفلسطينية سنة 1939م ، وقد وجه الأمير فيصل كلمة ذكر فيها الوعود البريطانية التي أعطيت للعرب من قبل ، وطالب الحكومة البريطانية بوقف الهجرة اليهودية ، وإيجاد حل عادل وسريع للقضية ، لأن استمرار الحكومة البريطانية في موقفها المؤيد لإسرائيل سيؤدي إلى قيام العرب بأعمال انتقامية ضد المصالح البريطانية في البلاد العربية والإسلامية.(48)
وفي اجتماع هيئة الأمم المتحدة سنة 1947م – لمناقشة القضية الفلسطينية والنظر في قرار التقسيم والذي أيدته الولايات المتحدة الأمريكية– انتقد الأمير فيصل سياسة الولايات المتحدة في دعمها للصهاينة ، وأوضح أن المملكة العربية السعودية ترفض قرار التقسيم ، وأنها ستدافع عن حقوق العرب وحقوق الشعب الفلسطيني بالطريقة التي تراها مناسبة ، ومما قاله :" إذا كان هناك من يقول بأن يقبل العرب بقرارات الأمم المتحدة، فعلينا أن نعترف بدولة الصهاينة، لأن الأمم المتحدة معترفة بها، فعلينا أن نقبل تقسيم فلسطين، الذي نصت عليه قرارات الأمم المتحدة .. وهذا مالا يمكن أن نقبل به أو نرضى عنه، وإذ أجمع العرب في بلاد أخرى على أن يرضوا بوجود (إسرائيل) وتقسيم فلسطين فلن ندخل معهم في هذا الاتفاق".(49) وقد ظل طوال حياته يسعى بكل جهد لخدمة القضية الفلسطينية واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني.
بالإضافة إلى ما تقدم رأس وفد المملكة في مؤتمرات دول عدم الانحياز في باندونغ سنة 1955م ، 1961م، القاهرة م1964 لخدمة القضايا العربية ، وتوطيد السلم العالمي ، ومنع الحرب.
شخصيته :
لاشك أن نشأته الدينية في بيت جده لامه(الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ) الذي كان من كبار علماء نجد، والذي تولى الإشراف على تربيته وتلقينه القراءة والكتابة وعلمه الفقه والتشريع والتاريخ ، وإلى جانب ذلك درسه سيرة الخلفاء الراشدين، كما ختم القرآن الكريم على يد الشيخ محمد بن مصيبيح، فكان لهذه التربية أثر كبير في حياته ، وغرست فيه روح التدين، مما بعث في نفسه إحساساً بالعزة بغير كبرياء، والثقة بدون غرور، يمضي في طريقه منتصب القامة رغم عظم ما ألقى على عاتقه من تبعات، يتخذ دائماً من حقائق التاريخ الموضوعية التي تتناسب مع النظر والحس والعقل والوجدان، والتي تنسجم مع الواقع والمنطق والضمير مرجعاً لموضوعاته، فتبدو النتائج منسجمة مع المقدمات.
لقد كان رجلاً يجمع بين قوة العقل وشجاعة الضمير، أعاد إلى الإسلام سيرته الأولى، باقتفائه أثر الخلفاء الراشدين، ولقد كانت قدراته في الحصول على ما يريد أمراً لا يحد، وكانت إصابته للهدف لا تخطئ ولم يكن الانفعال مما يغلب عليه ، وإنما كان يواجه الأمور بوازع من إيمانه بالله وبوجدانه الإسلامي وأصالته العربية، وبتقاليده العريقة ، وبالإضافة إلى هذا فقد أعطاه أعظم مقومات شخصيته الأصيلة ترعرعه في كنف والده فيقول : " إن المغفور له والدي عبدالعزيز هو مدرستي ومنارتي التي استهدي بها، إنني احفظ كثيراً من تجاربه المرشدة، إن مدرستي الحقيقية هي شخصية المغفور له والدي عبدالعزيز ، الذي ترعرعت ونشأت في ظله، وتمرست من الحياة بتدريبه، فكان هو المدرسة التي استقيت منها دروسي وخبرتي ".(50)
فكان يحضر مجالس والده، يصغي إلى أحاديث كبار الزوار، ويستمع إلى رواياتهم الأخبار له، ويشاهد عن كثب كيف يناقشهم والده في ذلك، وطريقة التعامل معهم ومن الطبيعي أن تكون للملاحظات التي يسمعها عن الناس والشؤون العامة ما فتح ذهنه وعينيه، وعجل في نضوجه وهو ما يزل حدثا لم يطر شارباه، وكان فوق ذلك كله وبفضل مرافقته لرجل عظيم أن تطبع بطباع الرجال العظام، كالتحلي بالصبر ورباطة الجأش، والمقدرة على سياسة الرجال وقيادتهم، وتتميز شخصيته– رحمه الله – بالأناة والروية واستشارة أصحاب الرأي والخبرة يقول العجلاني: " إن الفيصل في ذكائه الوقاد، وحدسه الصادق، ونظرته النفاذة، يحيط بدقائق الأمور لأول وهلة ، ولكنه لا يحب أن يعلن للناس رأيه، ويدعوهم إلى العمل، قبل أن يعرض رأيه على نفسه مرة، وعلى أصحاب الخبرة والمعرفة مرة، يصدر دائما عن دراسة عميقة وإحاطة شاملة، وهو إلى ذلك يتحرى السلامة ويكره المغامرة، وقد يستعين بالوقت أحيانا على حل المعضلات، فالأناة ليست أسلوباً في التفكير، ولكنها أسلوب في العمل والتقرير والتدبير".(51)
وبالإضافة إلى ذلك فكان رحمه الله يتمتع بقوة الأعصاب، ظهر ذلك جليا في أزمة أحداث اليمن وما رافقها من أعمال استفزازية عدوانية، قامت بها قوات الجمهورية العربية المتحدة، إذ استخدمت الطيران في ضرب كل من أبها وخميس مشيط وجازان، من أجل ترويع الأهالي وزعزعة الحكم وإرباك القيادة الرسمية، ولكن الأمير فيصل آنذاك لم يعبأ بل ظل رابط الجأش، وبدلا من ذلك أخذ يطوف أنحاء البلاد لتهدئة الرأي العام وإطلاع السكان على حقيقة الوضع ، وتعبئتهم لمواجهة العدوان ، وفضح خطط العدو وأهدافه، وأوضح لشعبه بأن مساندة حكومة المملكة العربية السعودية للملكين اليمنيين جاءت رداً على قيام قوات الجمهورية العربية المتحدة بإرسال قواتها إلى اليمن لدعم الثورة وتدخلها المباشر في شؤونه، وبالتالي التهديدات التي أطلقها المسؤولون فيها برغبتهم في تحطيم كيان المملكة العربية السعودية، ومن ثم طالب بسحب قواتها من اليمن، وأن يعطى الشعب اليمني الحرية في تقرير مصيره ، واختيار نظام الحكم الذي يرغب فيه(52) ، ولما لم يستجب إلى طلبه، أضطر إلى تقديم الدعم والمساعدة للإمام البدر ورجاله مما ترتب عليه توازن القوى، وقد دفع ذلك عبدالناصر إلى قبول الحل السلمي، ولعل تعليق صحيفة لادورنيراور التي تصدر في بروكسل يصور لنا شخصية الملك فيصل أحسن تصوير حيث تقول : " إن جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز محارب من الطراز الأول الممتاز، يعرف كيف يقهر خصمه، ويتفوق عليه، ويفوت عليه غرضه، كما يعرف كيف يحدد الهدف، ويحكم أبعاده، ثم يصوب إليه الضربة التي لا تخطئ أبداً، وإن جلالته لا يحمل السلاح، ولا يخوض المعركة إلا بعد أن يكون قد استنفد فرص العمل السلمي، والأسلوب الدبلوماسي، واضطر عدوه كارها أن يبدأ هو بالعدوان، وهنا يوجه إليه جلالته الضربات السريعة القاضية ".(53)
كما تتضح شخصيته – رحمه الله – من واقع أعماله كدعوته إلى التضامن الإسلامي، وسلوك الطريق إليها، تلك الدعوة التي طرق بها أبواب القارات، ووصل بها إلى كل صلــــب من قلوب الألف مليون مسلم في بقاع العالم وأصقاعه، فقد أدرك – رحمه الله – بأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وأن تجمع شعوبها تحت راية عقيدتهم الإسلامية فيه خير لهم جميعاً، وفيه صلاح لأمورهم، وفيه حل لمشاكلهم، وفيه وقاية لهم جميعا من المذاهب الهدامة مثل الشيوعية والاشتراكية، والأفكار الراديكالية والتطرف القومي الزائد عن الحد، وفيه قوة لهم لمواجهة تلك الأمور ، والوقوف صفا صفا للدفاع عن دينهم ومقدساتهم ، وفي مقدمة ذلك بيت المقدس، قبلة المسلمين الأولى، ومن هنا فكان ينظر إلى التضامن الإسلامي– إضافة إلى ذلك– كوسيلة لشحذ همم المسلمين وتوحيد جهودهم لمساندة النضال العربي ضد العدو الإسرائيلي.
ولاشك أن دعوته قد حققت أهدافها، من تعاون الدول الإسلامية وتوحيد جهودها وتعزيز مركزها ككتلة سياسية في منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، كما نجحت في قيام منظمات دولية إسلامية كبيرة مثل رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهكذا استطاع بذلك أن يفشل مخططات الأنظمة الراديكالية التي كانت تهدف إلى عزل المملكة واتهامها بالرجعية، وتمكن بدبلوماسيته الهادئة من أن يقنع العالم الإسلامي بأن القضية الفلسطينية هي قضية إسلامية بالدرجة الأولى، وأن التخلص من نير الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية ليست مسؤولية عربية فحسب بل مسؤولية إسلامية أيضا، وبذلك أعطى ثقلاُ ووزناً وحجماً وكثافة في كفة العرب ضد خصومهم، وأمكن لجلالته جلب النصر في حرب رمضان المجيد 1393هـ وجذبه بأقل مجهود وفي أقصر وقت، وذلك من خلال مباشرته بعلمه وكذلك الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الذي أظهره في مساندة الرئيس أنور السادات في حربه مع إسرائيل واستخدام سلاح البترول للضغط على الدول التي تساند إسرائيل وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية تقول جريدة ذي فننج ستار : " إن مما تتميز به شخصية جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز دبلوماسيته الهادئة التي لا تعكرها أحداث العالم، وذكاءه الفطري الخارق النفاذ، وقدرته السياسة الفذة، التي لم ير التاريخ لها مثيلاً في صفحاته ومروياته، عبر السنين والآماد، وطي الحدود والأبعاد، والتي تجمع في مهارة عجيبة بين النار والماء، وكان العالم إلى عهد قريب جداً – لا يعرف عن جلالة الملك فيصل أبرز من هذا الجانب في حياته وشخصيته، إلى أن كانت تلك المعركة التي يعيشها العرب الآن، في لقائهم مع عدوهم الإسرائيلي، وإذا جلالة الملك فيصل يفصح عن شخصيته الحقيقية، في تنظيم المعارك، وقيادة الحروب، وتعاطى هذا الأسلوب الشجاع الناري، حين لم ينفع مع خصمه أسلوب الحكمة والنصيحة فيقدر أبعاد المعركة، ويرسم استراتيجيتها ويقيس حجمها، ويحسب جميع احتياجاتها، ويعي شتى متطلباتها، ويتلاءم مع مقتضياتها، ويحشد فيها كل الأسلحة الرئيسة والمعاونة، ويحفظ لها خط الرجعة في جميع الأنساق والأعماق، ولأول مرة يجرد جلالته سلاحاً جديداً، ما تعرضته الحروب قبلا، ولا تعامل به المحاربون في ماضي التاريخ وحاضره، ذلك هو (سلاح البترول) الذي صنع العجائب والغرائب، والذي أدخله جلالته ضمن أسلحة المعركة، فكان له الفضل الأكبر في تحقيق النصر، وتقريب ساعته، وتأكيد الظفر، وشده بقوة إلى الصف العربي المقاتل في تلك المعركة الحاسمة التي انتهت بهذه النتائج الباهرة والتي أذهلت العالم، وغيرت كثيراً من الموازين الدولية، واضطرت المراجعين العسكريين والسياسيين إلى أن يصححوا الكثير من معلوماتهم ومعارفهم عن جلالة الملك فيصل وشخصيته في وجهيها السياسي والعسكري ".(54)
منهجه في الحكم والإدارة
أولاً: في عهد أخيه الملك سعود :
بعد وفاة الملك عبدالعزيز – رحمه الله – في الثاني من ربيع الأول سنة 1373هـ/ الموافق 9 سبتمبر 1953م، بويع الأمير سعود بن عبدالعزيز ملكاً على البلاد خلفاً لوالده، كما بويع الأمير فيصل بولاية العهد، وتبعاً لذلك ولتمرسه على شؤون الحكم والإدارة وأمور السياسة، عين نائب لرئيس مجلس الوزراء، كما احتفظ بمركزه السابق كوزير للخارجية، ثم عهد إليـــه الملك سعود في السادس عشر من ذي الحجــة سنة 1373هـ برئاسة مجلس الوزراء، ومما جاء في الخطاب الملكي: " لما عهدنا فيكم من كفاءة وإخلاص، ولثقتنا الغالية، عيناكم رئيساً لمجلس وزرائنا، وذلك لكي يحصل الانسجام في سير الأعمال، وليفسح لنشاطكم ومواهبكم مجال العمل في مصلحة شعبنا"(55) .
وفي عام 1377هـ/ 1958م ولي الأمير فيصل رئاسة مجلس الوزراء حيث خوّل صلاحيات مطلقة في الأمور الإدارية والمالية والخارجية وصدر بذلك المرسوم التالي " بسم الله الرحمن الرحيم : بعد الاطلاع على نظام مجلس الوزراء، وبالنسبة للإجراءات التي تتخذها حكومتنا الفتية منذ الآن – فصاعداً، وتحقيقا لرغبتنا في دعم الإدارة الحكومية، وتحديد المسؤوليات على ضوء الخبرات التي مرت بها حكومتنا منذ إنشائها، فقد أصدرنا بعون الله تعالى نحن سعود بن عبدالعزيز آل سعود المرسوم التالي :
أولاً: يمنح رئيس وزرائنا المسؤولية التامة للإشراف على تنفيذ جميع السلطات الإدارية فيما يتعلق بالشؤون الداخلية والخارجية والشؤون المالية.
ثانياً: يعاد النظر في نظام مجلس الوزراء بغية إدخال التعديلات الضرورية على النظام الحالي لهذا المجلس.
ثالثا : كلفنا رئيس وزرائنا تحقيق هذه الرغبات 1377هـ/1958م.(56)
ونظراً لظروف الملك الصحية التي أجبرته على مغادرة البلاد لتلقي العلاج في أوروبا، فمنذ سنة 1381هـ بدأت صحة الملك تتدهور ، مما اضطره بعدئذ إلى السفر مرات عديدة إلى الخارج بقصد العلاج ، تولى الأمير فيصل تصريف أمور الدولة بالنيابة عن الملك ، إلا أنه في سنة 1383هـ أسند إلى الأمير فيصل منصب رئاسة مجلس الوزراء ووزير الخارجية، مع إطلاق يده في اختيار من يريد من المساعدين ، وأن يتولى جميع المسؤوليات والصلاحيات التنظيمية والتنفيذية والإدارية والقضائية والعسكرية (57).
على أن فلسفة الملك فيصل في الحكم تنبع من حقيقة تطور المجتمع فيقول: " لما كان من الواجب أن يكون نظام الحكم في أي دولة صورة صادقة لحقيقة التطور الذي وصل إليه مجتمعها، فقد حرصت الحكومة على تطور المجتمع السعودي، عملياً وثقافياً واجتماعياً حتى تصل إلى المستوى الذي تعكس معه صورته في شكل نظام راق للحكم يمثل الأهداف العظيمة الخالدة التي جاءت بها شريعتنا الغراء، ولقد حدثت من آن لآن عدة تطورات فعلية لشكل الحكم السعودي، كانت تمثل المجتمع لدينا، وتحاول في الوقت نفسه، أن تأخذه لمستوى أرقى مما هو عليه" (58)
ويفهم من هذا : أن الحكومة سوف تعكف على بناء مجتمع يقوم على أسس إسلامية عادلة، تستنير في خطوطها بما جاء به القرآن وما ورد في سنة رسوله e ، حيث يقول :" وإنني كمسلم أرى في شريعتنا الإسلامية ما يحقق كل خير من الناحية الاجتماعية، أو من الناحية الاقتصادية، أو من الناحية الثقافية، أو من الناحية الصحية، لأن الله سبحانه وتعالى هو خالق البشر ومكون الكون، فلا يمكن أن يستسن لهذا الكون شريعة ويأمر باتباعها ويكون فيها ما يختلف مع مصلحة هذا الكون ومصلحة البشر " (59).
ومن هنا فينبغي أن يكون نظام الحكم في المملكة صورة صادقة لحقيقة التطور والذي وصل له مجتمع المملكة، وأن يمثل الأهداف النبيلة والعظيمة الخالدة التي جاءت بها الشريعة الغراء، وأن يواكب تطور المجتمع، وبناء عليه فإن على الحاكم أن يحكم بما أنزل الله وأن يكون خادماً للشرع، وأن يقيم الحاكم أسس الحكم على دعائم الأخوة والعدالة، فيقول فيصل في هذا الصدد :" ليس فينا أحد أشرف من أحد، وليس فينا أحد أكرم من أحد، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، فإذا رجعنا لأنفسنا فلننظر ماذا نقدم للناس وماذا نعمل لهم؟، وكيف نعامل الآخرين؟، فهل نحن نعاملهم بالمبادئ التي نص عليها كتاب الله وسنة رسوله " (60)
وفيما يلي تفصيل للبيان الوزاري بمناسبة توليه رئاسة مجلس الوزراء :
" تعتقد حكومة صاحب الجلالة أن الوقت قد حان لإصدار نظام أساسي للحكم، مستمد من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة خلفائه الراشدين، وحيث توضع في وضوح كامل المبادئ الأساسية للحكم ، وعلاقة الحاكم بالمحكوم ، وتنظيم سلطات الدولة المختلفة وعلاقة كل فئة بالأخرى، وينص على الحقوق الأساسية للمواطن، ومنها حقه في حرية التعبير عن رأيه في حدود العقيدة الإسلامية والنظام العام".(61)
ولقد شرعت الوزارة السابقة في تطوير مجلس الشورى ليقوم بدوره كسلطة تنظيمية للبلاد ، وستكون هذه الدراسة – مع ما سيطرأ عليها من إضافات وتعديلات – جزءاً من النظام الأساسي للحكم الذي لن يتأخر صدوره إن شاء الله، والذي سيأتي صورة صادقة للمستوى الكريم الذي وصلت إليه أمتنا ، ونموذجا رائعاً لنظام الحكم الإسلامي المستمد من نصوص الشريعة وروحها.
ومما يساعد على بلوغ هذا الهدف السامي أن قواعد شريعتنا السمحة لينة متطورة صالحة لمواجهة كل الظروف ، وقابلة للتطبيق في كل مكان وزمان حسب متطلبات ذلك الزمان والمكان" .
وكان قد أعلن فيصل في بيانه الوزاري عندما كان يتحدث عن إصلاح النظام الداخلي عام 1382هـ : " لم تكتف حكومة صاحب الجلالة في التفكير فقط في نظام أساسي يضع قواعد الحكم المركزي فحسب، بل إنها قامت بدراسات مختلفة لوضع نظام للمقاطعات، يوضح طريقة الحكم المحلي لمناطق المملكة المختلفة، ولقد تبلورت شتى الدراسات التي تمت لمشروع نظام المقاطعات لدرجة لن يطول معها ظهوره إلى حيز الوجود، وسيكون عند صدوره عاملاً فعالاً في دفع عجلة التطور الإداري والسياسي والاجتماعي لمملكتنا الفتية " (62)
وقد أدى هذا إلى تأسيس اللجنة العليا للإصلاح الإداري، التي تم الإقرار على إنشائها من قبل مجلس الوزراء في 4 رجب عام 1383هـ، بغية اتخاذ كافة الإجراءات التي تحقق الإصلاح الإداري، بعد استقدام لجنة من الخبراء والفنيين لدراسة الجهازين الإداري والمالي في المملكة، وعرض المقترحات العلمية والعملية للنهوض بالجهاز الإداري.(63)
وكان قد تم في عام 1380هـ إنشاء معهد الإدارة ومن أهدافه:
1 – رفع كفاية موظفي الدولة
2 – تطوير التنظيم الإداري وتقويم المشورة الإدارية لأجهزة الدولة المختلفة.(64)
وفي عام 1383هـ أقر مجلس الوزراء نظام الحكم المحلي أو ما يعرف باسم نظام المقاطعات(65) ، وبموجب هذا النظام يصبح حكام المقاطعات موظفين ملحقين بوزارة الداخلية، وقسمت المقاطعات إلى محافظات يرأسها محافظ ، وقسمت المنطقة إلى مراكز يديرها رؤساء مراكز، وأقر نظام الحكم المحلي إنشاء مجالس المقاطعات، ومن أهدافها ووظيفتها تحقيق عدالة الحكم المحلي والعدالة الاجتماعية، ودفع التطور الاجتماعي والاقتصادي لكل مقاطعة إلى الأمام وتأدية الخدمات الاجتماعية، وتطوير المجالات الثقافية والعمل على محو الأمية، وتشجيع الجمعيات التعاونية، ودعم الهيئات الاجتماعية والخيرية ، وأقر مجلس الوزراء أن على كل وزارة دراسة مقترحات المجالس وتنفيذها ما أمكن ذلك، ويعين المحافظ من قبل مجلس الوزراء.
كما ركز بيان مجلس الوزراء عام1382هـ/ 1962م على تنظيم القضـــاء واستقلالـــه(66)، ومن ثم إنشاء وزارة العدل والعمل على تطوير المحاكم المختلفة، فيقول: "تحرص حكومة صاحب الجلالة على أن يكون للقضاء حرمته ومكانته، فهو مناط القسط ، ورمز العدالة، وكلما ارتفع شأنه وعظمت حرمته كلما حققنا بذلك هدفاً أساسياً من أركان ديننا الإسلامي الحنيف، وقد عقدنا العزم على مضاعفة الجهود نحو هذه الغاية، وإصدار نظام لاستقلال القضاء، يمسك بزمامه مجلس أعلى للقضاء، وقررنا إنشاء وزارة للعدل تشرف عل الشؤون الإدارية للقضاء، ويلحق بها نيابة عامة للدولة ترعى مصالح المواطنين وتذود عن حقوقهم ، وتقوم على التعاون مع المحاكم المختلفة للدولة مقام الحارس الأمين الذي يدافع عن المظلومين ويضرب على أيدي الظالمين ".
وتم إنشاء ديوان المظالم وهدفه النظر في القضايا والخلافات التي تقوم ما بين دوائر الحكومة والمواطنين ، وهو يرتبط برئاسة مجلس الوزراء، كما تم إنشاء لجان قضائية وكذلك تقرر تأسيس مجلس للإفتاء يضم عشرين عضواً من خيرة الفقهاء والعلماء ، وستكون مهمته استشارية حيال جميع القضايا التي تعرض عليه من الدولة أو أفراد المسلمين ومن أسئلة واستشارات وقد جاء في البيان :
"ولما كانت نصوص الكتاب والسنة محددة ومتناهية بينما وقائع الأزمنة وما يستجد للناس في شؤون دنياهم أمور متطورة غير متناهية ونظراً لأن دولتنا الفتية تقيم حكمها – والحمد لله على أساس الكتاب والسنة نصاً وروحاً – فقد أصبح لزاماً علينا أن نمنح الفتيا عناية أكبر ، وأن يكون لفقهائنا وعلمائنا – حملة مشاعل الهدى – دور إيجابي فعَّال في بحث ما يستجد من مشاكل الأمة بغية الوصول إلى حلول مستمدة من شريعة الله ومحققة لمصالح المسلمين " (67)
وكذلك ستواصل الدولة واجبها تجاه نشر الدعوة الإسلامية وتثبيت دعائمها.
كما نص على إصلاح وضع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتتمكن من أداء مهامها بيسر وسهولة ، وذلك بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
بالإضافة إلى النهوض بالمستوى الاجتماعي وذلك بإصدار نظام الضمان الاجتماعي ، ليجعل الدولة مسؤولة مسؤولية كاملة عن معيشة كل شيخ وعاجز ويتيم وامرأة ممن لا مورد أو عائل لهم شرعاً، وأن تسعى الدولة في إيجاد نظام لطائفة العمال يحميهم من البطالة.
وقد لاحظ البيان أن النظام الاقتصادي والتجاري يفتقر إلى التنظيم ولذلك فإن الدولة عاقدة العزم على إصدار مجموعة كبيرة من الأنظمة تساعد على تقدم النشاط وسرعة الحركة ، واجتذاب رؤوس الأموال.
وأخيراً أشار إلى وضع برامج إصلاحية للطرق لربط جميع أطراف المملكة ومدنها ببعضها البعض، وإعداد دراسات لمصادر المياه وتوفيرها للزراعة والشرب، وتبنى الحكومة تشييد السدود اللازمة لحفظ مياه الامطار، وحماية الصناعات وتوفير المبالغ اللازمة لقيامها، وإنشاء بنك صناعي، وآخر زراعي، وإنشاء المؤسسة العامة للبترول والمعادن للكشف واستثمار الثروات المعدنية في البلاد.
ثانياً: بعد توليه الحكم :
تمت مبايعة الفيصل بالملك في يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1384هـ، وعلى أثر ذلك أصدر بياناً إلى الشعب جاء فيه: " لسنا في حاجة إلى تكرار سياستنا الإصلاحية الداخلية التي سبق أن أعلنا عنها ، والتي نسير سيراً حسناً في تنفيذها في حدود إمكانياتنا وبكل طاقتنا، ولكننا نؤكد لكم أننا وقد منحنا الله نعمة الاستقرار سنضاعف الجهد في تحقيق أهدافنا الإصلاحية في جميع مجالاتها السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، وسنبذل جهدنا في تدعيم الأساس الديني الذي تقوم عليه هذه الدولة التي شرعها الله وجعل فيها بيته ومسجد نبيه، ووضعها بذلك في مركز سياسي خاص منذ فجر الإسلام وانطلاق مشعل الهداية وركب العروبة من أرضنا الطاهرة ".(68)
والنهج الذي سار عليه الملك فيصل؛ رفضه مبدأ الفردية في الحكم أو العبادة الذاتية للحكم، عملاً بقوله تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } وشعار الرسول e حيث يقول: " كلكم راع، وكل راع مسؤول عن رعيته ".
والحقيقة أنه لا يستبد برأيه، ولا يتشبث بأفكاره، وإنما يناقش بالكلمة المخلصة السواء، ويجادل بالتي أحسن، وليست مجالسه اليومية المثالية، للنظر في شكاوى المواطنين وحسب بل هي مجالس للحوار الحر الذي لا يستهدف إلا المصلحة العليا والغاية المثلى.
وقد اتبع الملك فيصل خطا والده وأخيه في الحكم حيث تبنى سياسة الباب المفتوح لأن الحاكم هو ابن الشعب البار والأخ الكبير لأبناء وطنه ، أي الأب الرحيم للسواد الأعظم من شعبه ، والناس سواء في الحقوق والواجبات حيث يقول: " ليس عندنا ولله الحمد فرق بين رئيس ومرؤوس، والرجل في الشارع وأكبر رأس في البلاد أمام الحق سواء " ويقول : " لست إلا فرداً من أفرادكم، لا أقول هذا مجاملة لكم ولكنه الحقيقة، وإذا كنت قد وفقت في بعض الأعمال– كما تذكرون– فمرد ذلك إلى ثقتكم ومعونتكم ودفعكم لي إلى الأمام في كل خطوة أخطوها ".(69)
ومن هنا نهج الفيصل في سيرته تشجيعه لشعبه الجرأة في قول كلمة الحق ولو كانت في راعي الأمة، فإذا رأى الشعب في الحكم انعواجا وانحرافا عن الصراط فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيقول: " أقسم بالله إن أبرك ساعة عندي هي الساعة التي يأتيني فيها أحد الناس ويقول: أنت مخطئ ومقصر... ليس من الأمانة في شئ أن تروا فيّ قصوراً ولا تصارحوني به، أنا منكم، إن قصرت فعليكم، وإن أحسنت فلكم (70) ، كما أن ديمقراطية الحكم السعودي تتجلى بصورة واضحة عندما يأت المواطن سواء كان كبيراً أم صغيراً مجلس الملك، يناقشه أو يعرض عليه شكواه بكل ثقة وبساطة لا يخشى إلا الله (71) وهذا بلا شك يؤكد ظاهرة سقوط الحواجز بين الراعي والرعية، والحاكم وشعبه، وبالتالي تقوية العلاقة الحميمة بين الحاكم والمحكوم.
ويعلق قدري قلعجي على هذا فيقول: " وجدير بالملاحظة أن الملك– الذي شرع أبوابــــه أمام كل طارق، آناء الليل وأطراف النهار– كان القدوة المثلى لكل الأمراء والموظفين في المملكة، فلكل منهم مجلسه العام يستقبل فيه الزائرين ويتلقى شكاوى المواطنــــين، وهذا ما جعل العدالة تأخذ مجراها الطبيعي، بالتنفيذ لا بالقول، وبالمحبة لا بالإكــــراه، وباللين لا بالعنف، درجاً في رحاب الديمقراطية السليمة التي شرعها الإسلام للمسلمين عامة، وأقامها على قاعدة : كلكم مسؤول، وكل راع مسؤول عن رعيتـــه ".(72)
ومن ناحية أخرى فقد كانت حياته مكرسة لحل مشكلات الدولة وتصريف شؤونها، والسهر على المصلحة العامة، ويبدأ برنامجه اليومي بعد صلاة الفجر مباشرة حيث يذهب إلى مكتبه الخاص لدراسة شؤون الدولة وتصريفها، وعند الضحى يتوجه إلى مكتبه في قصر الحكم لتدارس القضايا المهمة مع المسؤولين ، ومقابلة بعض الزوار وللاستماع إلى بعض الشكاوي ، ويظل كذلك حتى صلاة الظهر وفي الفترة الواقعة بين صلاة العصر والمغرب يتابع شؤون الدولة ، وفي المساء يعود إلى مكتبه في قصر الحكم لدراسة ما يعرض عليه المواطنون من شكاوي وتصريف بعض الأمور الأخرى.
أما أسلوبه في الإدارة فيعود لخبرته الواسعة وتجربته العميقة إبان منصبه كنائب الملك في الحجاز ووزير للخارجية ووليا للعهد ، وبحكم توليه رئاسة مجلس الوزراء فترات كثيرة مما ساعده على تطوير نظام المجلس بما يتفق وطموحاته من رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية والمالية والإشراف على تنفيذها، فقد نصت المادة الرابعة من نظام مجلس الوزراء المعدل سنة 1384هـ على التالي: "رئيس مجلس الوزراء هو الذي يوجه السياسة العامة للدولة، ويكفل التوجيه والتنسيق والتعاون بين مختلف الوزارات، ويضمن الاضطراد والوحدة في أعمال مجلس الوزراء، ويتلقى التوجيهات السامية من جلالة الملك للعمل بموجبها، وهو الذي يوقع قرارات المجلس ، ويأمر بتبليغها إلى الجهات المختلفة ، وله الإشراف على مجلس الوزراء والمصالح العامة، وهو الذي يراقب تنفيذ الأنظمة والقرارات التي يصدرها مجلس الوزراء(73) ، أما مجلس الوزراء فيرسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية، والسلطات التشريعية والتنفيذية والإدارية " حيث نصت المادة 18 من نظام الوزراء على ما يلي : " يرسم مجلس الوزراء السياسة الداخلية والخارجية والمالية والاقتصادية والتعليمية والدفاعية وجميع الشؤون العامة للدولة، ويشرف على تنفيذها، ويملك السلطة التنظيمية والسلطة التنفيذية والسلطة الادارية، وهو المرجع الأعلى للشؤون المالية ولجميع الشؤون المرتبطة في سائر وزارات الدولة الأخرى، وهو الذي يقرر ما يلزم اتخاذه من إجراءات في ذلك، ولا تعتبر المعاهدات والاتفاقيات الدولية نافذة إلا بعد موافقته، وقرارات مجلس الوزراء نهائية، إلا ما يحتاج منها لاستصدار أمر أو مرسوم ملكي طبقاً لأحكام هذا النظام".
ومن جهة أخرى فقد أشارت المادة 26 إلى السلطة الإدارية لمجلس الوزراء بأنه هو السلطة المباشرة لإدارة البلاد، وله الهيمنة التامة على كافة قضايا الإدارة، وتدار المناطق المختلفة في أنحاء المملكة بموجب أنظمة تسن لذلك.
ومن ناحية أخرى فقد منح النظام الوزير صلاحيات كبرى، فقد جاء في المادة الثامنة من النظام يعتبر الوزير هو الرئيس المباشر والمرجع النهائي لشؤون وزارته، كما أن للوزير– بموجب المادة 22 – الحق في أن يقترح على المجلس نظام يدخل ضمن أعمال وزارته لغرض إقراره.(74)
وتبعا لمقتضيات العصر فقد أدخل أسلوب التخطيط لمعرفة حاجيات المجتمع، ووضع الخطط التنموية للنهوض، فأقر في بداية الأمر، إنشاء مجلس أعلى للتخطيط يكون اختصاصاته تتمحور في تخطيط ورسم سياسة التنمية في جميع مناحي الحياة، ويشكل من: رئيس مجلس الوزراء رئيسا، وعضوية كل من وزراء المالية، والمواصلات، والاقتصاد الوطني، والبترول والثروة المعدنية، والزراعة. ثم في سنة 1384هـ/1964م صدر مرسوم بإنشاء هيئة فنية للتخطيط بدلا من ذلك، وقد حددت مهمتها بوضع خطة للتنمية وتشرف على تنفيذها، والتي تمكنت في العام التالي من تقديم تقرير ضمنته تحليل عن الوضع الاقتصادي العام في الدولة وإنجازات كل وزارة ومصلحة، بمعنى وضع استراتيجية تراعى الموازنة بين الدخل العام ومستوى رفاهية المواطنين، ومن ثم فقد استطاعت إعداد أول خطة للتنمية بالتعاون مع كافة المصالح والمؤسسات والوزارات واضعة في الاعتبار الإمكانيات البشرية المحلية التي يمكن أن تساهم في إنجازها.
وفي عام 1390هـ/1970م أقر مجلس الوزراء أول خطة للتنمية في المملكة تعالج النقص في التعليم والصحة والخدمات المختلفة والاستثمارات الاقتصادية والصناعية وغيرها.(75)
ومما جاء في أهداف الخطة مع الحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية ورفع مستوى المعيشة، ودعم الأمن الوطني ما يلي :
1- زيادة معدل الإنتاج المحلي الإجمالي.
2- تطوير الموارد البشرية للمشاركة في عملية التنمية.
3- تنويع مصادر الدخل الوطني، وتخفيض الاعتماد على البترول عن طريق زيادة مساهمة القطاعات الإنتاجية الأخرى في الإنتاج المحلي الإجمالي.
مما تقدم يظهر لنا جلياً منهجه في الحكم والإدارة من خلال نظام الحكم الذي أقره مجلس الوزراء وأتينا على تفصيله في الصفحات السابقة، وكذلك ما تطرقنا إليه فيما يخص منهجه في الإدارة، سواء في ممارسته اليومية أو ما أحدثه من أجهزة وأنظمة مكنت البلاد– بفضل سياسته الحكيمة – من مواكبة حركة التقدم والتطور، التي يشهدها العالم، ويتمثل ذلك في وضع أول خطة خمسية للتنمية في المملكة، من أهدافها بالإضافة إلى الأهداف التي أشرنا إليها من قبل ما يلي :
1- إجراء عدد من الإصلاحات الإدارية والتنظيمية مثل: توصيف وظائف ورواتب العاملين في الدولة.
2- إنشاء صندوق للاستثمار العام وتدعيم موارده المالية ليتمكن من تمويل استثمارات المشروعات الإنتاجية ذات الطابع التجاري.
3- تحسين إدارة الإحصاء مما يمكنها من تعداد السكان، لوضع استراتيجية للنهوض بجميع المناطق.
4- فتح مراكز للتدريب المهني لسد حاجات البلاد من الأيدي العاملة المدربة.
5- التوسع في برامج التعليم للبنين والبنات على جميع المستويات.
6- رفع مستوى الخدمات الصحية بإقامة المستشفيات والمراكز المتخصصة.
7- توسيع نطاق الخدمات الاجتماعية.
8- تحسين خدمات مرافق الكهرباء وتعميمها على جميع أجزاء المملكة.
9- تنمية موارد المياه وإنشاء شبكات للتوزيع في مدن المملكة، التوسع في تحلية مياه البحر، تنفيذ المجاري، وإقامة محطات التنقية في أنحاء البلاد، تصريف مياه الأمطار، وإنشاء السدود.
10- تنفيذ مشروعات سفلتة الشوارع وإقامة الأرصفة والإنارة وغيرها.
11- تنفيذ برامج قطاع النقل والمواصلات.
12- إقامة مشاريع صناعية كبيرة .. وغير ذلك.
حياتـــه :
1– نشأتـــــه:
ولد الملك فيصل في الرياض سنة 1324هـ الموافق 1906م، وكانت ولادته بعد خمس سنوات من استعادة والده على الرياض على أثر انتصار عبدالعزيز بن سعود في معركة روضة مهنا،(1) ضد خصمه عبدالعزيز بن رشيد والتي انتهت بمقتل ابن رشيد وتشتت قواته ، واستعادة ابن سعود القصيم ، وخروج قوات ابن رشيد والدولة العثمانية منها، وتعد معركة روضة مهنا من المعارك الحاسمة في تاريخ المملكة لأنها كانت البداية لسقوط آل رشيد ورحيل العثمانيين من بلاد نجد.(2)
وقد تربى في كنف جده لأمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، لأن أمه ماتت وهو طفل رضيع وتولى تعليمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن ودرسه شيئاً يسيراً من الفقه والتاريخ (3) ، ولم تقتصر تربية فيصل وتعليمه على ذلك فقط، وإنما فرضت عليه حياة الصحراء الصعبة وظروفها الطارئة وصراعاتها المتعددة، أن يتعلم ركوب الخيل والرماية والفروسية واستعمال السلاح، حيث يذكر "ديجوري" أن جده لامه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف كان يتولى تعليم فيصل كيفية ركوب الخيل واستعمال السيف.(4)
ولكن مدرسة الفيصل الحقيقية وجامعته التي تلقى فيها مبادئ الحكم وأخلاق الزعامة هي مدرسة أبيه ، يقول ديجوري : " السياسة وحتى التصرف مع الناس والعشائر أخذهما فيصل عن أبيه، وأخذ عنه أيضاً الصبر والكتمان وضبط الأعصاب، وعزة النفس، وهي خصال عربية ".(5)
ومما لاشك فيه أن الملك عبدالعزيز كان يعد ابنه فيصل إعدادا يؤهله ليكون حاكماً على البلاد عندما يأتي دوره فيما بعد، وقد حرص على ذلك أشد الحرص ولا ريب أن ذلك قد ساعد في تكوين شخصية فيصل وإبراز مواهبه، فيذكر مجيد خدوري أنه ذات يوم ســــأل الملك فيصل، لمن يدين بتدريبه على فن الحكم؟ فأجابه دون تردد : "لوالدي" ، وأضاف " أنا لم أحظ بتربية رسمية في المدرسة ولكن نشأت في ظل والدي وتوجيهه المباشر".(6)
2– تدريبه على الحرب:
كان عبدالعزيز قد قام بتدريب ابنه على الحروب منذ صغره، حيث اصطحبه معه في غزوة ياطب(7) سنة 1336هـ وعمره آنذاك حوالي ثلاثة عشر عاماً، وتعد أول غزوة ضد ابن رشيد توجه في عقر داره، وقد اكتشف في ولده فيصل مواهب حربية كبيرة، ومن ثم أسند إليه مهمة جديدة، فعندما قرر الملك عبدالعزيز الزحف على حائل عام 1339هـ، لجأ إلى توزيع قواته بين أخيه وولديه سعود وفيصل، حيث تذكر بعض المصادر أن الجيش الذي كان بقيادة فيصل اكتسح كل من واجهه من عشائر ابن رشيد وأبادهم، واستولى على كثير من القرى التابعة لحائل ، وواصل زحفه إلى قرب مدينة حائل.(8)
وعندما حدثت فتنة في عسير، قادها حسن بن عائض ضد الحكم السعودي، وذلك بالتنسيق مع الشريف حسين عام 1339هـ، عهد عبدالعزيز إلى ابنه فيصل قيادة حملة كبيرة قوامها ستة آلاف مقاتل من نجد، ولما وصلت إلى بلاد قحطان وشهران وغيرهم من القبائل المحيطة،(9) والتي تدين حكم آل عائض، أنضم إليها حوالي أربعة آلاف مقاتل، وقد سار الفيصل بهذه القوة الكبيرة في شهر ذي القعدة عام 1340هـ، نحو أبها فتمكن من إلحاق الهزيمة بقوات ابن عائض ، مما دعا الأخير إلى التراجع إلى الوراء واللجوء إلى معقله في حرملة،(10) وكان الفيصل قد تمكن من دخول أبها عاصمة عسير في شهر صفر 1341هـ، وتجنباً لإراقة الدماء وجه الفيصل الدعوة إلى ابن عائض بالاستسلام والدخول في الطاعة،(11) لكنه أبى فما كان من الفيصل إلا أن هاجم حرملة، وبعد تحقيق النصر وتثبيت سلطة الدولة عاد الفيصل إلى الرياض حيث استقبل استقبالاً كبيراً ، وخرج والده لملاقاته خارج الرياض ، واصطحابه في موكب لدخول العاصمة الرياض، وذلك في 21 جمادى الثانية سنة 1341هـ ، وقد أطلق عليه لقب بطل أبها.(12)
وعندما طال حصار عبدالعزيز لمدينة جدة أرسل إلى ابنه فيصل بالقدوم إلى الحجاز على رأس قوة من نجد والمشاركة في الهجوم على المدينة ؛ فوصلت قوات الأمير فيصل وأحكمت الحصار عليها ، ولم يمض اكثر من خمسة وعشرين يوماً على وصول قواته حتى أدرك الملك على بن الحسين عدم جدوى المقاومة فقرر الاستسلام والرحيل من الحجاز في شهر جمادى الأولى عام 1344هـ.(13)
وعندما أعلن الحسن الإدريسي الثورة ضد الحكم السعودي في سنة 1351هـ منتهكاً بذلك معاهدة مكة سنة 1345هـ، والتي بموجبها وضعت إمارته تحت الحماية السعودية، واستغلال أمام اليمن هذه الفرصة فأقدم على الاستيلاء على بعض أجزاء المنطقة، حيث استولت قواته على نجران وأراض من تهامة(14) ، ولم يشأ عبدالعزيز استخدام القوة في بداية الأمر بل سعى إلى حل سلمي ، غير أن إمام اليمن لم يرفض ولم يقبل (15) ، فأدرك عبدالعزيز هدف الإمام من ذلك ولذا بعد أن استنفذ كل السبل لجأ إلى استعمال القوة المسلحة ؛ فأنفذ إلى اليمن في أواخر عام 1352هـ ثلاث حملات عسكرية: الأولى بقيادة فيصل بن عبدالعزيز وتهدف إلى دفع القوات اليمنية إلى داخل أراضيها، والثانية برئاسة سعود وترمي لاستعادة نجران، والثالثة وأسند قيادتها إلى الأمير خالد بن محمد وغايتها احتلال صعدة (16) ، وكانت القوة التي يقودها الأمير فيصل تتألف من جنود نظاميين وغير نظاميين مجهزة بالمدافع والأسلحة الحديثة، وعند وصوله إلى (جازان) لم يمكث إلا بضعة أيام، ثم زحف صوب ميدى المحصنة والمزودة بخط لاسلكي ولكي يمنع فيصل العرشي قائد المدينة من الاتصال بقيادته العليا، أمر بقطع الخط فكانت النتيجة أن هرب العرشي تاركا البلد وحاميتها تحت رحمة الأمير فيصل (17) ، ولم تجد القوات اليمنية مفراً من الاستسلام وذلك في 16 محرم 1353هـ، وفي اليوم التالي قدم أهالي اللحية وقبائل وادي مور الطاعة والولاء للأمير فيصل 1353هـ/1934م، ثم تقدمت قوات الأمير فيصل باتجاه الحديدة مما جعل قوات الإمام تخلي المدينة، وهكذا دخلت قوات فيصل الحديدة في 21 محرم دون قتال، ثم أخذت قواته تتقدم نحو باجل والحسينية وبيت الفقيه والزيدية وغيرها حيث قدمت تلك المدن وكافة القبائل القاطنة في جنوب الحديدة ولاءها للحكم السعودي(18) ، ولولا تدخل زعماء العالم العربي والإسلامي لوقف الحرب والدخول في مفاوضات لإقرار السلام بين البلدين لوصلت القوات السعودية تقدمها داخل اليمن نفسه، واستجابة لمناشدة أولئك الزعماء وكبار العلماء أمر الملك عبدالعزيز ابنه فيصل بالتوقف.
3– تدريبه على السياسة:
أ– زياراته الأولى:
عندما انتهت الحرب العالمية الأولى 1914–1918م بانتصار بريطانيا وحلفائها على دول الوسط (الدولة العثمانية – ألمانيا – والمجر) وجهت بريطانيا الدعوة للملك عبدالعزيز لزيارة بريطانيا، وقد قبل دعوة الملك جورج الخامس ملك بريطانيا واختار ابنه فيصل ليمثله وهو ابن الثالثة عشر عاماً (19) ، واختيار فيصل يعتبر دليلاً على تقدير والده لمقدرته وانه يرى أن فيه من الصفات ما يؤهله لذلك، وقد أعلن أن الهدف من البعثة آنذاك هو تقديم تهاني والده على انتصار بريطانيا في الحرب (20) ، لكنه لعله قد بحث خلال الزيارة بعض الأمور التي تهم البلدين وفي مقدمتها مستقبل العلاقات السعودية البريطانية، وكذلك مسألة الحدود بين نجد والحجاز، لأن بريطانيا كانت تسعى إلى تقوية نفوذها في الجزيرة العربية ، ولن يتأتى ذلك إلا بانتهاء مشاكل الحدود بين الشريف حسين بن على وعبدالعزيز بن سعود (21) ، لكن "بول" يقول بأن أحد أهداف زيارة الأمير فيصل الدبلوماسية لبريطانيا في سنة 1919م كان لإقناع بريطانيا بزيادة دعمها لوالده بدلاً من الشريف حسين.(22)
وقد استقبل الملك جورج الخامـــــس ملك بريطانيا في الثلاثــــين من أكتوبر سنة 1919م الأمير فيصل والوفد المرافق له في قصر بكنغهام ، وفي أثناء هذا الاستقبال قدم الأمير فيصل للملك سيفا مزينا ومرصعا باللؤلؤ، وقد زار خلال هذه الزيارة مجلسي العموم واللوردات وجامعة كامبردج، وبعض مصانع الأسلحة والسيارات،(23) ثم بعدئذ توجه إلى باريس تلبية لدعوة من الحكومة الفرنسية ، حيث تفقد في فرنسا وبلجيكا ميادين القتال وما خلفته الحرب من دمار وخراب ، وشاهد آثارها في الخنادق والمعدات، وقد دامت رحلته إلى أوربا ستة شهور.(24)
وبالرغم من أن زيارة أوربا كانت ناجحة بكل المقاييس إلا أنها كانت صعبة كثيراً، باعتبارها الزيارة الأولى التي يقوم بها خارج الجزيرة العربية وهو في هذه السن المبكرة، فقد قابل شخصيات تفوقه سنا وتجربة وخاصة في الميدان السياسي، وبالإضافة إلى هذا فلاشك أن ما شاهده وما سمعه قد أفاده كثيراً وساعد في تثقيفه ورفع مهاراته السياسية والدبلوماسية ، حيث يقول قدري قلعجي:"ويمكن القول بكل ثقة أن رحلة فيصل بن عبدالعزيز في أول مهمة سياسية يقوم بها لديار الغرب– التي استمرت ستة أشهر– كانت رحلة ناجحة، إذ استشرف فيها الفتى اليافع حقائق السياسة الدولية، والاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة هناك، كما كانت تجربة بالغة الأهمية في حياته السياسية المقبلة، زادت من حصيلة خبراته كرجل دولة وقائد مسيرة ".(25)
ب– الزيارة الثانية إلى أوربا 1345هـ/1926م
بعد أن تم له توحيد الحجاز مع بقية أجزاء البلاد– والمناداة به ملكاً على الحجاز وسلطاناً على نجد وملحقاتها– أراد أن يوطد علاقاته بدول أوربا الغربية، والتي اعترفت به ملكاً على الحجاز وهى بريطانيا والاتحاد السوفيتي وفرنسا وهولندا، ولذا قرر عبدالعزيز إرسال ابنه فيصل لأنه لم يعد مجرد أمير فقد أصبح نائباً للملك في الحجاز على رأس وفد سعودي يقدم الشكر للملك والحكومات الأوربية (26) ، وقد استقبل استقبالا كبيراً وجديدا، يقول الكاتب الألماني فوك ميكوش: "كانت لزيارة الأمير فيصل للندن مظاهر تختلف عن زيارته الأولى في سنة 1919م عندما قوبل بقليل من الاهتمام كمجرد أمير من أمراء الصحراء، فقد استقبل هذه المرة بحفاوة بالغة ، ورمت المدفعية تحية الملوك بإحدى وعشرين طلقة باعتباره مندوباً عن والده الملك ، وجرى له استقبال رسمي حافل ووجد في كل مكان أبوابا مشرعة وآذانا صاغية ، كما رحبت به الأوساط الاجتماعية الزائرة ، واستقبله الملك جورج ومنحه وسام.(27)
وقد اجتمع فيصل خلال إقامته في لندن بعدد كبير من رجالات السياسة ، وزار بعض المؤسسات التعليمية والجامعات، وفي هولندا استقبلته ملكتها، وفي فرنسا استقبله رئيس الجمهورية– وكان يومئذ مسيو دومرغ– في قصر الإليزيه استقبالا حارا. وقد شكر الحكومة الفرنسية لاعترافها بالملك عبدالعزيز ملكاً على الحجاز ونجد وملحقاتها. ، لقد كان لهذه الزيارة الأثر الحسن ، وأسهمت في زيادة سمعة الأمير فيصل والدولة السعودية التي يمثلها ونجاح في تطوير علاقاتها مع البلدان الأوربية.(28)
جـ– زيارته الثالثة إلى أوربا:
في عام 1351هـ/1932م أوفد الملك عبدالعزيز الأمير فيصل على رأس وفد لزيارة عواصم الدول، التي أقامت تمثيلاً دبلوماسيا مع المملكة لتعزيز علاقات بلاده مع تلك الدول ولحفز بقية دول العالم على الاعتراف بدولته، فقام الوفد بزيارة كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا وألمانيا وبولندا وإيطاليا وسويسرا والاتحاد السوفيتي، لتقوية روابط الود والصداقة مع تلك البلدان ودراسة أوضاع المسلمين (29) ، كما زار كل من تركيا وإيران البلدين الإسلاميين لتعزيز وشائح الأخوة الإسلامية، وتوقف في كل من الكويت والعراق، ولاشك أن زيارته للعراق كان الهدف منها تحسين الروابط الأخوية مع المملكة السعودية، وتخفيف حالة التوتر بين البلدين.(30)
ويعلق قدري قلعجي على هذه الزيارة الثالثة إلى أوربا بالقول: " ويمكن أن رحلته قد حققت نجاحاً كبيراً في تعزيز مكانة الدولة الفتية على صعيد العلاقات الدولية، وأقامتها على أسس التفاهم الودي والتعامل على قدم المساواة، كما أكدت حرصه على تحقيق السياسة التي رسمها لبلاده في الانفتاح على العالم الخارجي لكسب معركة الحضارة والتقدم العلمي، دون التخلي عن المبادئ الأصلية في منطلقها الأساسي بالحفاظ على التراث العربي والقيم الروحية ".(31) وقد استغرقت رحلته تلك ثلاثة شهور.
وفي سنة 1358هـ/ 1939م تولى الأمير فيصل رئاسة الوفد السعودي الذي اشترك مع عدد من الدول العربية وهي مصر والعراق واليمن، وذلك في مؤتمر خاص بالقضية الفلسطينية لمواجهة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد أوضح معارضة المملكة للهجرة اليهودية، وتؤكد على حق الشعب الفلسطيني غير المنازع في وطنه.(32)
د– زيارته إلى أمريكا
في عام 1943م قام الأمير فيصل بن عبدالعزيز وأخوه خالد بزيارة للولايات المتحدة الأمريكية تلبية للدعوة التي وجهت إلى أبيهما من الرئيس روزفلت يرافقهما وفد كبير من كبار الشخصيات السعودية (33) ، وقد جرت بين الرئيس روزفلت والأمير فيصل محادثات ودية بشأن توطيد العلاقات الثنائية بين البلدين، كما تطرقت إلى مناقشة القضية الفلسطينية، وخلال وجوده في أمريكا التقى الفيصل بعدد من كبار القادة والساسة الأمريكيين ، واطلع ومرافقيه على الحياة الأمريكية في مظاهرها المختلفة من ذلك المعامل، والمخابز، والجامعات، والمزارع ومصافي البترول والطيران والبحرية، كما زار مجلس الشيوخ الأمريكي.(34)
ومنها توجه إلى لندن تلبية للدعوة التي تلقاها من حكومتها وكانت آنذاك تتعرض للغارات الجوية الألمانية العنيفة والشديدة، حيث أجرى محادثات مع ملك بريطانيا ورئيس الوزراء ونستون تشرشل تناولت عدد من القضايا العربية ، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وبالذات الهجرة اليهودية إلى فلسطين،(35) ثم سافر إلى الجزائر تلبية لدعوة ديجول زعيم فرنسا الحرة (36) .
وفي عام 1365هـ/1945م قرر الحلفاء تأسيس " هيئة الأمم المتحدة " لتأكيدهم على حق الشعوب في الحرية والاستقلال ، وحل المنازعات الدولية بالطرق السلمية ، وقد دعيت المملكة العربية السعودية إلى ذلك الاجتماع التأسيسي والذي عقد في سان فرانسسكو 25 إبريل سنة 1945م، وقد مثل المملكة الأمير فيصل نائب الملك في الحجاز ووزير خارجيته ومعه وفدّ منهم أخوه الأمير فهد (خادم الحرمين الشريفين)، والذي ألقى خطاباً أكد فيه على أن مبادئ السلم والعدالة والحق هي المبادئ التي تتمسك بها المملكة لأنها نابعة من الدين الحنيف الذي تعتبره دستورا لها، ومما قاله: "إن هذا الميثاق لا يدل على الكمال، كما كانت تتوقع الأمم الفقيرة التي كانت تأمل أن يحقق المثل العليا، على أنه كان خطوة كبيرة إليها، وسنعمل كلنا للمحافظة عليه، وسيكون الأساس المتين الذي يبنى عليه صرح السلام العالمي ".(37)
4– تدريبه على الحكم :
اكتشف الملك عبدالعزيز في ابنه الفيصل، الذكاء، والفطنة، ورجاحة العقل، ورصانة الرأي، ومن هنا فقد عهد إليه ببعض الأمور المهمة كقيادة بعض الحملات العسكرية المهمة ، والقيام بمهام سياسية خارجية إلى أوربا ، والتفاوض أحياناً بالنيابة عن والده، وقد أثبت مقدرة وكفاءة منقطعة النظير، ولذا فبعد أن تم دخول الحجاز تحت الحكم السعودي، رأى – رحمه الله – أن يقوم بتنظيم شؤون الحجاز والاعتناء بها وإعطائها نوعاً خاصاً من الحكم (38) ، واختار ابنه فيصل نائباً له في الحجاز يمارس الحكم ويتحمل مسؤولياته فيقول فوميكوش : نصب نجله الأمير فيصل نائب الملك في مكة، وأوكل إليه تقاليد الحجاز يحكمه بما اشتهر به من ذكاء، وتمرس بالحياة الحديثة، وسعة في الصدر"(39) ، ولوضع منهاج يسير عليه الأمير فيصل شكل مجلس الوكلاء يتألف من عدد من أهل الرأي ، وأسند رئاسته إلى ابنه فيصل فكانت ثمرة ذلك المجلس إعداد " التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية"، والتي وافق عليها الملك عبدالعزيز، كما أنشأ مجلس لوضع المشاريع والأنظمة الإدارية والمالية سمي "مجلس الشورى" أسند رئاسته أيضاً للنائب العام" (40) ، فأصبح يطلق عليه النائب العام ، وأطلق على السلطة التي يتــــولى أمرها "النيابة العامة"، والتي حددت التعليمات الأساسية وظائفها وأهدافها(41):" النيابة العامة هي المرجع العمومي لجميع الدوائر الحكومية وأقسام إدارتها، وكل واحد من مديري الدوائر ورؤسائها يكون مسؤولا أمامها عن حسن جريان الأمور الداخلية في دائرة وظيفته (وهي النيابة) مسؤولة أمام صاحب الجلالة، والتي يرجع إليها جميع الدوائر الحكومية وأقسام إدارتها، سواء في الأمور الشرعية أم الداخلية أم المالية أم التعليمية، وكان ذلك أول عمل عام كبير يتولاه ويمارسه، ولاشك إن مهمته بصفته نائب الملك في الحجاز هي السهر على راحة المواطنين، ورعاية شؤون الحرم المكي، والمحافظة على سلامة الحجاج ، وتأمين احتياجاتهم اليومية طوال وجودهم في الأراضي المقدسة، ثم السهر على حالتهم الصحية لتجنب الأوبئة، ثم استقبال رؤساء الوفود – الذين هم في الغالب وزراء أو رؤساء دولة – القادمين من كل أقطار العالم الإسلامي.
وبالإضافة إلى ذلك فقد عامل شعب الحجاز معاملة حسنة ، كما نجح في استئصال شأفة الفوضى التي كانت سائدة في الحجاز ، فوضع حداً للاعتداءات التي كانت تقوم بها بعض القبائل وبخاصة على قوافل الحجاج وابتزاز أموالهم وزهق أرواحهم.(42)
وقد أولى اهتمامه أولا بالتعليم حيث أنشأ مديرية التعليم، وثانيا العناية بالأمور الصحية كتوفير المعالجة للأهلين وإنشاء المستشفيات، وجلب الأطباء من الخارج، ومما قاله في خطبة ألقاها في المجلس الصحي العالي: " الصحة سر القوة، وهي طلب كل نفس، ولا هناء للعيش إلا بها.. وأننا نحمد الله تعالى على أن الصحة في الحجاز تخطو خطوات طيبة في سبيل التقدم ".(43)
والأمر الثالث الذي وجه اهتمامه به توفير الماء ، وذلك بشراء عدد من الماكينات الحديثة لرفع المياه من الآبار لاستخدامها في الزراعة والشرب، وهكذا كانت مكة أول مدينة زودت بالمياه بواسطة الأنابيب، والأمر الآخر الذي اعتنى به هو إنشاؤه لجنة لدراسة المشاريع العمرانية تستعين في عملها بالخبراء العرب والأجانب.(44)
وأخيراً أنشأ لجنة للتفتيش والإصلاح من مهامها استقبال شكاوى أفراد الشعب فيقول في بلاغ أعلنه للناس : " ليكن معلوما لدى الجمهور أن من له قضية في إحدى الدوائر عليه أن يطلب إنهاء قضيته من قبل المأمور المختص فإن لم يتم عمله حسب النظام أو تهاون في إنجازه فعلى المشتكي أن يرفع الأمر إلى رئيس ذلك المأمور ، فإن لم ينصفه هذا راجع النائب العام ثم .. الملك".(45)
فكل الأمور التي ترده يحيلها إما إلى المحاكم الشرعية للحكم فيها بما أنزل الله، أو إلى المجالس والهيئات الإدارية لتقرر ما ترى فيه المصلحة العامة.
ومن ناحية أخرى فقد كان حريصا على الاتصال بزعماء البلاد، ويقوم بين الفينة والفينة بزيارة الأحياء أو الانتقال من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى قرية أخرى، ليتعرف على كثب عن حاجاتهم ورغباتهم ويتلمس قضاياهم.
ويقول محمد شفيق مصطفى : " وقد أصاب في ذلك (أي بتعيين فيصل نائب له) كل الإصابة، إذ أظهر هذا الأمير الصغير السن حنكة الشيوخ ولباقة الحكماء، فجمع القلوب حوله، حتى أن ممثلي الدول الأجنبية الذين خالطوه بحكم مهامه الرسمية شهدوا له بحدة الذكاء، وبعد النظر، ورقة الجانب ".(46)
وقد عهد إليه والده بمفاوضة بريطانيا في عقد معاهدة جدة، والتي استطاع خلال تلك المفاوضات أن ينتزع اعتراف بريطانيا باستقلال المملكة ، حيث جاء في المادة الأولى من اتفاقية جدة والتي حدثت في 18 ذي القعدة 1345هـ/ 20 مايو 1927م : " يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالاستقلال التام المطلق لحضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها ".(47)
وعندمـــا قرر الملك عبدالعزيز تحويل مديرية الخارجية إلى وزارة في 28 رجب 1349هـ/ ديسمبر 1930م، أسندها إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل علاوة على احتفاظه بالنيابة العامة ، وقد جاء تعيينه بسبب ما أتثبته من براعة دبلوماسية أثارت الانتباه إلى حد بعيد، وهكذا بصفته وزيرا للخارجية فان عليه أن يستقبل سفراء ورجال السلك الدبلوماسي وأن يصغي إلى ما يبوحون به من الأسرار ، وأن يعمل على توطيد علاقات المملكة مع بلدانهم ، وخاصة مع الدول العربية الشقيقة والإسلامية والصديقة على أسس من التعاون والاخوة في المجالين العربي والإسلامي ، والمعاملة بالمثل في المجال الدولي، فأثمرت جهوده عن عقد عدة معاهدات في مجالات مختلفة.
ولقد احتفظ بمنصب وزير الخارجية طوال حياته، ومن ثم فأنه كان حريصاً على أن يدير النشاط الدبلوماسي بنفسه، ويقوم بتمثيل المملكة إلى اجتماعات الجامعة العربية والأمم المتحدة، وغيرها من الاجتماعات عربية كانت أم دولية ، علاوة على استقبال شخصيات كل سفراء وموفدي الدول الأجنبية في مكة وفي جدة، كما كان باستمرار على اتصال بمثلى بلاده في الخارج، وبالإضافة فإن زياراته الخارجية كانت تصب في مصلحة القضايا المحلية والعربية مثل قضية فلسطين ، ففي زيارته لموسكو 1932م قابل ستالين وعدد من القادة السوفيت ، وناقش معهم القضية الفلسطينية والهجرة اليهودية إلى فلسطين ، والخطر الذي يهدد السلام العالمي من جراء الحركة الصهيونية ، كما مثل بلاده في مؤتمر المائـــدة المستديرة الذي عقد في لندن لمناقشة القضية الفلسطينية سنة 1939م ، وقد وجه الأمير فيصل كلمة ذكر فيها الوعود البريطانية التي أعطيت للعرب من قبل ، وطالب الحكومة البريطانية بوقف الهجرة اليهودية ، وإيجاد حل عادل وسريع للقضية ، لأن استمرار الحكومة البريطانية في موقفها المؤيد لإسرائيل سيؤدي إلى قيام العرب بأعمال انتقامية ضد المصالح البريطانية في البلاد العربية والإسلامية.(48)
وفي اجتماع هيئة الأمم المتحدة سنة 1947م – لمناقشة القضية الفلسطينية والنظر في قرار التقسيم والذي أيدته الولايات المتحدة الأمريكية– انتقد الأمير فيصل سياسة الولايات المتحدة في دعمها للصهاينة ، وأوضح أن المملكة العربية السعودية ترفض قرار التقسيم ، وأنها ستدافع عن حقوق العرب وحقوق الشعب الفلسطيني بالطريقة التي تراها مناسبة ، ومما قاله :" إذا كان هناك من يقول بأن يقبل العرب بقرارات الأمم المتحدة، فعلينا أن نعترف بدولة الصهاينة، لأن الأمم المتحدة معترفة بها، فعلينا أن نقبل تقسيم فلسطين، الذي نصت عليه قرارات الأمم المتحدة .. وهذا مالا يمكن أن نقبل به أو نرضى عنه، وإذ أجمع العرب في بلاد أخرى على أن يرضوا بوجود (إسرائيل) وتقسيم فلسطين فلن ندخل معهم في هذا الاتفاق".(49) وقد ظل طوال حياته يسعى بكل جهد لخدمة القضية الفلسطينية واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني.
بالإضافة إلى ما تقدم رأس وفد المملكة في مؤتمرات دول عدم الانحياز في باندونغ سنة 1955م ، 1961م، القاهرة م1964 لخدمة القضايا العربية ، وتوطيد السلم العالمي ، ومنع الحرب.
شخصيته :
لاشك أن نشأته الدينية في بيت جده لامه(الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ) الذي كان من كبار علماء نجد، والذي تولى الإشراف على تربيته وتلقينه القراءة والكتابة وعلمه الفقه والتشريع والتاريخ ، وإلى جانب ذلك درسه سيرة الخلفاء الراشدين، كما ختم القرآن الكريم على يد الشيخ محمد بن مصيبيح، فكان لهذه التربية أثر كبير في حياته ، وغرست فيه روح التدين، مما بعث في نفسه إحساساً بالعزة بغير كبرياء، والثقة بدون غرور، يمضي في طريقه منتصب القامة رغم عظم ما ألقى على عاتقه من تبعات، يتخذ دائماً من حقائق التاريخ الموضوعية التي تتناسب مع النظر والحس والعقل والوجدان، والتي تنسجم مع الواقع والمنطق والضمير مرجعاً لموضوعاته، فتبدو النتائج منسجمة مع المقدمات.
لقد كان رجلاً يجمع بين قوة العقل وشجاعة الضمير، أعاد إلى الإسلام سيرته الأولى، باقتفائه أثر الخلفاء الراشدين، ولقد كانت قدراته في الحصول على ما يريد أمراً لا يحد، وكانت إصابته للهدف لا تخطئ ولم يكن الانفعال مما يغلب عليه ، وإنما كان يواجه الأمور بوازع من إيمانه بالله وبوجدانه الإسلامي وأصالته العربية، وبتقاليده العريقة ، وبالإضافة إلى هذا فقد أعطاه أعظم مقومات شخصيته الأصيلة ترعرعه في كنف والده فيقول : " إن المغفور له والدي عبدالعزيز هو مدرستي ومنارتي التي استهدي بها، إنني احفظ كثيراً من تجاربه المرشدة، إن مدرستي الحقيقية هي شخصية المغفور له والدي عبدالعزيز ، الذي ترعرعت ونشأت في ظله، وتمرست من الحياة بتدريبه، فكان هو المدرسة التي استقيت منها دروسي وخبرتي ".(50)
فكان يحضر مجالس والده، يصغي إلى أحاديث كبار الزوار، ويستمع إلى رواياتهم الأخبار له، ويشاهد عن كثب كيف يناقشهم والده في ذلك، وطريقة التعامل معهم ومن الطبيعي أن تكون للملاحظات التي يسمعها عن الناس والشؤون العامة ما فتح ذهنه وعينيه، وعجل في نضوجه وهو ما يزل حدثا لم يطر شارباه، وكان فوق ذلك كله وبفضل مرافقته لرجل عظيم أن تطبع بطباع الرجال العظام، كالتحلي بالصبر ورباطة الجأش، والمقدرة على سياسة الرجال وقيادتهم، وتتميز شخصيته– رحمه الله – بالأناة والروية واستشارة أصحاب الرأي والخبرة يقول العجلاني: " إن الفيصل في ذكائه الوقاد، وحدسه الصادق، ونظرته النفاذة، يحيط بدقائق الأمور لأول وهلة ، ولكنه لا يحب أن يعلن للناس رأيه، ويدعوهم إلى العمل، قبل أن يعرض رأيه على نفسه مرة، وعلى أصحاب الخبرة والمعرفة مرة، يصدر دائما عن دراسة عميقة وإحاطة شاملة، وهو إلى ذلك يتحرى السلامة ويكره المغامرة، وقد يستعين بالوقت أحيانا على حل المعضلات، فالأناة ليست أسلوباً في التفكير، ولكنها أسلوب في العمل والتقرير والتدبير".(51)
وبالإضافة إلى ذلك فكان رحمه الله يتمتع بقوة الأعصاب، ظهر ذلك جليا في أزمة أحداث اليمن وما رافقها من أعمال استفزازية عدوانية، قامت بها قوات الجمهورية العربية المتحدة، إذ استخدمت الطيران في ضرب كل من أبها وخميس مشيط وجازان، من أجل ترويع الأهالي وزعزعة الحكم وإرباك القيادة الرسمية، ولكن الأمير فيصل آنذاك لم يعبأ بل ظل رابط الجأش، وبدلا من ذلك أخذ يطوف أنحاء البلاد لتهدئة الرأي العام وإطلاع السكان على حقيقة الوضع ، وتعبئتهم لمواجهة العدوان ، وفضح خطط العدو وأهدافه، وأوضح لشعبه بأن مساندة حكومة المملكة العربية السعودية للملكين اليمنيين جاءت رداً على قيام قوات الجمهورية العربية المتحدة بإرسال قواتها إلى اليمن لدعم الثورة وتدخلها المباشر في شؤونه، وبالتالي التهديدات التي أطلقها المسؤولون فيها برغبتهم في تحطيم كيان المملكة العربية السعودية، ومن ثم طالب بسحب قواتها من اليمن، وأن يعطى الشعب اليمني الحرية في تقرير مصيره ، واختيار نظام الحكم الذي يرغب فيه(52) ، ولما لم يستجب إلى طلبه، أضطر إلى تقديم الدعم والمساعدة للإمام البدر ورجاله مما ترتب عليه توازن القوى، وقد دفع ذلك عبدالناصر إلى قبول الحل السلمي، ولعل تعليق صحيفة لادورنيراور التي تصدر في بروكسل يصور لنا شخصية الملك فيصل أحسن تصوير حيث تقول : " إن جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز محارب من الطراز الأول الممتاز، يعرف كيف يقهر خصمه، ويتفوق عليه، ويفوت عليه غرضه، كما يعرف كيف يحدد الهدف، ويحكم أبعاده، ثم يصوب إليه الضربة التي لا تخطئ أبداً، وإن جلالته لا يحمل السلاح، ولا يخوض المعركة إلا بعد أن يكون قد استنفد فرص العمل السلمي، والأسلوب الدبلوماسي، واضطر عدوه كارها أن يبدأ هو بالعدوان، وهنا يوجه إليه جلالته الضربات السريعة القاضية ".(53)
كما تتضح شخصيته – رحمه الله – من واقع أعماله كدعوته إلى التضامن الإسلامي، وسلوك الطريق إليها، تلك الدعوة التي طرق بها أبواب القارات، ووصل بها إلى كل صلــــب من قلوب الألف مليون مسلم في بقاع العالم وأصقاعه، فقد أدرك – رحمه الله – بأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وأن تجمع شعوبها تحت راية عقيدتهم الإسلامية فيه خير لهم جميعاً، وفيه صلاح لأمورهم، وفيه حل لمشاكلهم، وفيه وقاية لهم جميعا من المذاهب الهدامة مثل الشيوعية والاشتراكية، والأفكار الراديكالية والتطرف القومي الزائد عن الحد، وفيه قوة لهم لمواجهة تلك الأمور ، والوقوف صفا صفا للدفاع عن دينهم ومقدساتهم ، وفي مقدمة ذلك بيت المقدس، قبلة المسلمين الأولى، ومن هنا فكان ينظر إلى التضامن الإسلامي– إضافة إلى ذلك– كوسيلة لشحذ همم المسلمين وتوحيد جهودهم لمساندة النضال العربي ضد العدو الإسرائيلي.
ولاشك أن دعوته قد حققت أهدافها، من تعاون الدول الإسلامية وتوحيد جهودها وتعزيز مركزها ككتلة سياسية في منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، كما نجحت في قيام منظمات دولية إسلامية كبيرة مثل رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهكذا استطاع بذلك أن يفشل مخططات الأنظمة الراديكالية التي كانت تهدف إلى عزل المملكة واتهامها بالرجعية، وتمكن بدبلوماسيته الهادئة من أن يقنع العالم الإسلامي بأن القضية الفلسطينية هي قضية إسلامية بالدرجة الأولى، وأن التخلص من نير الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية ليست مسؤولية عربية فحسب بل مسؤولية إسلامية أيضا، وبذلك أعطى ثقلاُ ووزناً وحجماً وكثافة في كفة العرب ضد خصومهم، وأمكن لجلالته جلب النصر في حرب رمضان المجيد 1393هـ وجذبه بأقل مجهود وفي أقصر وقت، وذلك من خلال مباشرته بعلمه وكذلك الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الذي أظهره في مساندة الرئيس أنور السادات في حربه مع إسرائيل واستخدام سلاح البترول للضغط على الدول التي تساند إسرائيل وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية تقول جريدة ذي فننج ستار : " إن مما تتميز به شخصية جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز دبلوماسيته الهادئة التي لا تعكرها أحداث العالم، وذكاءه الفطري الخارق النفاذ، وقدرته السياسة الفذة، التي لم ير التاريخ لها مثيلاً في صفحاته ومروياته، عبر السنين والآماد، وطي الحدود والأبعاد، والتي تجمع في مهارة عجيبة بين النار والماء، وكان العالم إلى عهد قريب جداً – لا يعرف عن جلالة الملك فيصل أبرز من هذا الجانب في حياته وشخصيته، إلى أن كانت تلك المعركة التي يعيشها العرب الآن، في لقائهم مع عدوهم الإسرائيلي، وإذا جلالة الملك فيصل يفصح عن شخصيته الحقيقية، في تنظيم المعارك، وقيادة الحروب، وتعاطى هذا الأسلوب الشجاع الناري، حين لم ينفع مع خصمه أسلوب الحكمة والنصيحة فيقدر أبعاد المعركة، ويرسم استراتيجيتها ويقيس حجمها، ويحسب جميع احتياجاتها، ويعي شتى متطلباتها، ويتلاءم مع مقتضياتها، ويحشد فيها كل الأسلحة الرئيسة والمعاونة، ويحفظ لها خط الرجعة في جميع الأنساق والأعماق، ولأول مرة يجرد جلالته سلاحاً جديداً، ما تعرضته الحروب قبلا، ولا تعامل به المحاربون في ماضي التاريخ وحاضره، ذلك هو (سلاح البترول) الذي صنع العجائب والغرائب، والذي أدخله جلالته ضمن أسلحة المعركة، فكان له الفضل الأكبر في تحقيق النصر، وتقريب ساعته، وتأكيد الظفر، وشده بقوة إلى الصف العربي المقاتل في تلك المعركة الحاسمة التي انتهت بهذه النتائج الباهرة والتي أذهلت العالم، وغيرت كثيراً من الموازين الدولية، واضطرت المراجعين العسكريين والسياسيين إلى أن يصححوا الكثير من معلوماتهم ومعارفهم عن جلالة الملك فيصل وشخصيته في وجهيها السياسي والعسكري ".(54)
منهجه في الحكم والإدارة
أولاً: في عهد أخيه الملك سعود :
بعد وفاة الملك عبدالعزيز – رحمه الله – في الثاني من ربيع الأول سنة 1373هـ/ الموافق 9 سبتمبر 1953م، بويع الأمير سعود بن عبدالعزيز ملكاً على البلاد خلفاً لوالده، كما بويع الأمير فيصل بولاية العهد، وتبعاً لذلك ولتمرسه على شؤون الحكم والإدارة وأمور السياسة، عين نائب لرئيس مجلس الوزراء، كما احتفظ بمركزه السابق كوزير للخارجية، ثم عهد إليـــه الملك سعود في السادس عشر من ذي الحجــة سنة 1373هـ برئاسة مجلس الوزراء، ومما جاء في الخطاب الملكي: " لما عهدنا فيكم من كفاءة وإخلاص، ولثقتنا الغالية، عيناكم رئيساً لمجلس وزرائنا، وذلك لكي يحصل الانسجام في سير الأعمال، وليفسح لنشاطكم ومواهبكم مجال العمل في مصلحة شعبنا"(55) .
وفي عام 1377هـ/ 1958م ولي الأمير فيصل رئاسة مجلس الوزراء حيث خوّل صلاحيات مطلقة في الأمور الإدارية والمالية والخارجية وصدر بذلك المرسوم التالي " بسم الله الرحمن الرحيم : بعد الاطلاع على نظام مجلس الوزراء، وبالنسبة للإجراءات التي تتخذها حكومتنا الفتية منذ الآن – فصاعداً، وتحقيقا لرغبتنا في دعم الإدارة الحكومية، وتحديد المسؤوليات على ضوء الخبرات التي مرت بها حكومتنا منذ إنشائها، فقد أصدرنا بعون الله تعالى نحن سعود بن عبدالعزيز آل سعود المرسوم التالي :
أولاً: يمنح رئيس وزرائنا المسؤولية التامة للإشراف على تنفيذ جميع السلطات الإدارية فيما يتعلق بالشؤون الداخلية والخارجية والشؤون المالية.
ثانياً: يعاد النظر في نظام مجلس الوزراء بغية إدخال التعديلات الضرورية على النظام الحالي لهذا المجلس.
ثالثا : كلفنا رئيس وزرائنا تحقيق هذه الرغبات 1377هـ/1958م.(56)
ونظراً لظروف الملك الصحية التي أجبرته على مغادرة البلاد لتلقي العلاج في أوروبا، فمنذ سنة 1381هـ بدأت صحة الملك تتدهور ، مما اضطره بعدئذ إلى السفر مرات عديدة إلى الخارج بقصد العلاج ، تولى الأمير فيصل تصريف أمور الدولة بالنيابة عن الملك ، إلا أنه في سنة 1383هـ أسند إلى الأمير فيصل منصب رئاسة مجلس الوزراء ووزير الخارجية، مع إطلاق يده في اختيار من يريد من المساعدين ، وأن يتولى جميع المسؤوليات والصلاحيات التنظيمية والتنفيذية والإدارية والقضائية والعسكرية (57).
على أن فلسفة الملك فيصل في الحكم تنبع من حقيقة تطور المجتمع فيقول: " لما كان من الواجب أن يكون نظام الحكم في أي دولة صورة صادقة لحقيقة التطور الذي وصل إليه مجتمعها، فقد حرصت الحكومة على تطور المجتمع السعودي، عملياً وثقافياً واجتماعياً حتى تصل إلى المستوى الذي تعكس معه صورته في شكل نظام راق للحكم يمثل الأهداف العظيمة الخالدة التي جاءت بها شريعتنا الغراء، ولقد حدثت من آن لآن عدة تطورات فعلية لشكل الحكم السعودي، كانت تمثل المجتمع لدينا، وتحاول في الوقت نفسه، أن تأخذه لمستوى أرقى مما هو عليه" (58)
ويفهم من هذا : أن الحكومة سوف تعكف على بناء مجتمع يقوم على أسس إسلامية عادلة، تستنير في خطوطها بما جاء به القرآن وما ورد في سنة رسوله e ، حيث يقول :" وإنني كمسلم أرى في شريعتنا الإسلامية ما يحقق كل خير من الناحية الاجتماعية، أو من الناحية الاقتصادية، أو من الناحية الثقافية، أو من الناحية الصحية، لأن الله سبحانه وتعالى هو خالق البشر ومكون الكون، فلا يمكن أن يستسن لهذا الكون شريعة ويأمر باتباعها ويكون فيها ما يختلف مع مصلحة هذا الكون ومصلحة البشر " (59).
ومن هنا فينبغي أن يكون نظام الحكم في المملكة صورة صادقة لحقيقة التطور والذي وصل له مجتمع المملكة، وأن يمثل الأهداف النبيلة والعظيمة الخالدة التي جاءت بها الشريعة الغراء، وأن يواكب تطور المجتمع، وبناء عليه فإن على الحاكم أن يحكم بما أنزل الله وأن يكون خادماً للشرع، وأن يقيم الحاكم أسس الحكم على دعائم الأخوة والعدالة، فيقول فيصل في هذا الصدد :" ليس فينا أحد أشرف من أحد، وليس فينا أحد أكرم من أحد، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، فإذا رجعنا لأنفسنا فلننظر ماذا نقدم للناس وماذا نعمل لهم؟، وكيف نعامل الآخرين؟، فهل نحن نعاملهم بالمبادئ التي نص عليها كتاب الله وسنة رسوله " (60)
وفيما يلي تفصيل للبيان الوزاري بمناسبة توليه رئاسة مجلس الوزراء :
" تعتقد حكومة صاحب الجلالة أن الوقت قد حان لإصدار نظام أساسي للحكم، مستمد من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة خلفائه الراشدين، وحيث توضع في وضوح كامل المبادئ الأساسية للحكم ، وعلاقة الحاكم بالمحكوم ، وتنظيم سلطات الدولة المختلفة وعلاقة كل فئة بالأخرى، وينص على الحقوق الأساسية للمواطن، ومنها حقه في حرية التعبير عن رأيه في حدود العقيدة الإسلامية والنظام العام".(61)
ولقد شرعت الوزارة السابقة في تطوير مجلس الشورى ليقوم بدوره كسلطة تنظيمية للبلاد ، وستكون هذه الدراسة – مع ما سيطرأ عليها من إضافات وتعديلات – جزءاً من النظام الأساسي للحكم الذي لن يتأخر صدوره إن شاء الله، والذي سيأتي صورة صادقة للمستوى الكريم الذي وصلت إليه أمتنا ، ونموذجا رائعاً لنظام الحكم الإسلامي المستمد من نصوص الشريعة وروحها.
ومما يساعد على بلوغ هذا الهدف السامي أن قواعد شريعتنا السمحة لينة متطورة صالحة لمواجهة كل الظروف ، وقابلة للتطبيق في كل مكان وزمان حسب متطلبات ذلك الزمان والمكان" .
وكان قد أعلن فيصل في بيانه الوزاري عندما كان يتحدث عن إصلاح النظام الداخلي عام 1382هـ : " لم تكتف حكومة صاحب الجلالة في التفكير فقط في نظام أساسي يضع قواعد الحكم المركزي فحسب، بل إنها قامت بدراسات مختلفة لوضع نظام للمقاطعات، يوضح طريقة الحكم المحلي لمناطق المملكة المختلفة، ولقد تبلورت شتى الدراسات التي تمت لمشروع نظام المقاطعات لدرجة لن يطول معها ظهوره إلى حيز الوجود، وسيكون عند صدوره عاملاً فعالاً في دفع عجلة التطور الإداري والسياسي والاجتماعي لمملكتنا الفتية " (62)
وقد أدى هذا إلى تأسيس اللجنة العليا للإصلاح الإداري، التي تم الإقرار على إنشائها من قبل مجلس الوزراء في 4 رجب عام 1383هـ، بغية اتخاذ كافة الإجراءات التي تحقق الإصلاح الإداري، بعد استقدام لجنة من الخبراء والفنيين لدراسة الجهازين الإداري والمالي في المملكة، وعرض المقترحات العلمية والعملية للنهوض بالجهاز الإداري.(63)
وكان قد تم في عام 1380هـ إنشاء معهد الإدارة ومن أهدافه:
1 – رفع كفاية موظفي الدولة
2 – تطوير التنظيم الإداري وتقويم المشورة الإدارية لأجهزة الدولة المختلفة.(64)
وفي عام 1383هـ أقر مجلس الوزراء نظام الحكم المحلي أو ما يعرف باسم نظام المقاطعات(65) ، وبموجب هذا النظام يصبح حكام المقاطعات موظفين ملحقين بوزارة الداخلية، وقسمت المقاطعات إلى محافظات يرأسها محافظ ، وقسمت المنطقة إلى مراكز يديرها رؤساء مراكز، وأقر نظام الحكم المحلي إنشاء مجالس المقاطعات، ومن أهدافها ووظيفتها تحقيق عدالة الحكم المحلي والعدالة الاجتماعية، ودفع التطور الاجتماعي والاقتصادي لكل مقاطعة إلى الأمام وتأدية الخدمات الاجتماعية، وتطوير المجالات الثقافية والعمل على محو الأمية، وتشجيع الجمعيات التعاونية، ودعم الهيئات الاجتماعية والخيرية ، وأقر مجلس الوزراء أن على كل وزارة دراسة مقترحات المجالس وتنفيذها ما أمكن ذلك، ويعين المحافظ من قبل مجلس الوزراء.
كما ركز بيان مجلس الوزراء عام1382هـ/ 1962م على تنظيم القضـــاء واستقلالـــه(66)، ومن ثم إنشاء وزارة العدل والعمل على تطوير المحاكم المختلفة، فيقول: "تحرص حكومة صاحب الجلالة على أن يكون للقضاء حرمته ومكانته، فهو مناط القسط ، ورمز العدالة، وكلما ارتفع شأنه وعظمت حرمته كلما حققنا بذلك هدفاً أساسياً من أركان ديننا الإسلامي الحنيف، وقد عقدنا العزم على مضاعفة الجهود نحو هذه الغاية، وإصدار نظام لاستقلال القضاء، يمسك بزمامه مجلس أعلى للقضاء، وقررنا إنشاء وزارة للعدل تشرف عل الشؤون الإدارية للقضاء، ويلحق بها نيابة عامة للدولة ترعى مصالح المواطنين وتذود عن حقوقهم ، وتقوم على التعاون مع المحاكم المختلفة للدولة مقام الحارس الأمين الذي يدافع عن المظلومين ويضرب على أيدي الظالمين ".
وتم إنشاء ديوان المظالم وهدفه النظر في القضايا والخلافات التي تقوم ما بين دوائر الحكومة والمواطنين ، وهو يرتبط برئاسة مجلس الوزراء، كما تم إنشاء لجان قضائية وكذلك تقرر تأسيس مجلس للإفتاء يضم عشرين عضواً من خيرة الفقهاء والعلماء ، وستكون مهمته استشارية حيال جميع القضايا التي تعرض عليه من الدولة أو أفراد المسلمين ومن أسئلة واستشارات وقد جاء في البيان :
"ولما كانت نصوص الكتاب والسنة محددة ومتناهية بينما وقائع الأزمنة وما يستجد للناس في شؤون دنياهم أمور متطورة غير متناهية ونظراً لأن دولتنا الفتية تقيم حكمها – والحمد لله على أساس الكتاب والسنة نصاً وروحاً – فقد أصبح لزاماً علينا أن نمنح الفتيا عناية أكبر ، وأن يكون لفقهائنا وعلمائنا – حملة مشاعل الهدى – دور إيجابي فعَّال في بحث ما يستجد من مشاكل الأمة بغية الوصول إلى حلول مستمدة من شريعة الله ومحققة لمصالح المسلمين " (67)
وكذلك ستواصل الدولة واجبها تجاه نشر الدعوة الإسلامية وتثبيت دعائمها.
كما نص على إصلاح وضع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتتمكن من أداء مهامها بيسر وسهولة ، وذلك بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
بالإضافة إلى النهوض بالمستوى الاجتماعي وذلك بإصدار نظام الضمان الاجتماعي ، ليجعل الدولة مسؤولة مسؤولية كاملة عن معيشة كل شيخ وعاجز ويتيم وامرأة ممن لا مورد أو عائل لهم شرعاً، وأن تسعى الدولة في إيجاد نظام لطائفة العمال يحميهم من البطالة.
وقد لاحظ البيان أن النظام الاقتصادي والتجاري يفتقر إلى التنظيم ولذلك فإن الدولة عاقدة العزم على إصدار مجموعة كبيرة من الأنظمة تساعد على تقدم النشاط وسرعة الحركة ، واجتذاب رؤوس الأموال.
وأخيراً أشار إلى وضع برامج إصلاحية للطرق لربط جميع أطراف المملكة ومدنها ببعضها البعض، وإعداد دراسات لمصادر المياه وتوفيرها للزراعة والشرب، وتبنى الحكومة تشييد السدود اللازمة لحفظ مياه الامطار، وحماية الصناعات وتوفير المبالغ اللازمة لقيامها، وإنشاء بنك صناعي، وآخر زراعي، وإنشاء المؤسسة العامة للبترول والمعادن للكشف واستثمار الثروات المعدنية في البلاد.
ثانياً: بعد توليه الحكم :
تمت مبايعة الفيصل بالملك في يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1384هـ، وعلى أثر ذلك أصدر بياناً إلى الشعب جاء فيه: " لسنا في حاجة إلى تكرار سياستنا الإصلاحية الداخلية التي سبق أن أعلنا عنها ، والتي نسير سيراً حسناً في تنفيذها في حدود إمكانياتنا وبكل طاقتنا، ولكننا نؤكد لكم أننا وقد منحنا الله نعمة الاستقرار سنضاعف الجهد في تحقيق أهدافنا الإصلاحية في جميع مجالاتها السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، وسنبذل جهدنا في تدعيم الأساس الديني الذي تقوم عليه هذه الدولة التي شرعها الله وجعل فيها بيته ومسجد نبيه، ووضعها بذلك في مركز سياسي خاص منذ فجر الإسلام وانطلاق مشعل الهداية وركب العروبة من أرضنا الطاهرة ".(68)
والنهج الذي سار عليه الملك فيصل؛ رفضه مبدأ الفردية في الحكم أو العبادة الذاتية للحكم، عملاً بقوله تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } وشعار الرسول e حيث يقول: " كلكم راع، وكل راع مسؤول عن رعيته ".
والحقيقة أنه لا يستبد برأيه، ولا يتشبث بأفكاره، وإنما يناقش بالكلمة المخلصة السواء، ويجادل بالتي أحسن، وليست مجالسه اليومية المثالية، للنظر في شكاوى المواطنين وحسب بل هي مجالس للحوار الحر الذي لا يستهدف إلا المصلحة العليا والغاية المثلى.
وقد اتبع الملك فيصل خطا والده وأخيه في الحكم حيث تبنى سياسة الباب المفتوح لأن الحاكم هو ابن الشعب البار والأخ الكبير لأبناء وطنه ، أي الأب الرحيم للسواد الأعظم من شعبه ، والناس سواء في الحقوق والواجبات حيث يقول: " ليس عندنا ولله الحمد فرق بين رئيس ومرؤوس، والرجل في الشارع وأكبر رأس في البلاد أمام الحق سواء " ويقول : " لست إلا فرداً من أفرادكم، لا أقول هذا مجاملة لكم ولكنه الحقيقة، وإذا كنت قد وفقت في بعض الأعمال– كما تذكرون– فمرد ذلك إلى ثقتكم ومعونتكم ودفعكم لي إلى الأمام في كل خطوة أخطوها ".(69)
ومن هنا نهج الفيصل في سيرته تشجيعه لشعبه الجرأة في قول كلمة الحق ولو كانت في راعي الأمة، فإذا رأى الشعب في الحكم انعواجا وانحرافا عن الصراط فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيقول: " أقسم بالله إن أبرك ساعة عندي هي الساعة التي يأتيني فيها أحد الناس ويقول: أنت مخطئ ومقصر... ليس من الأمانة في شئ أن تروا فيّ قصوراً ولا تصارحوني به، أنا منكم، إن قصرت فعليكم، وإن أحسنت فلكم (70) ، كما أن ديمقراطية الحكم السعودي تتجلى بصورة واضحة عندما يأت المواطن سواء كان كبيراً أم صغيراً مجلس الملك، يناقشه أو يعرض عليه شكواه بكل ثقة وبساطة لا يخشى إلا الله (71) وهذا بلا شك يؤكد ظاهرة سقوط الحواجز بين الراعي والرعية، والحاكم وشعبه، وبالتالي تقوية العلاقة الحميمة بين الحاكم والمحكوم.
ويعلق قدري قلعجي على هذا فيقول: " وجدير بالملاحظة أن الملك– الذي شرع أبوابــــه أمام كل طارق، آناء الليل وأطراف النهار– كان القدوة المثلى لكل الأمراء والموظفين في المملكة، فلكل منهم مجلسه العام يستقبل فيه الزائرين ويتلقى شكاوى المواطنــــين، وهذا ما جعل العدالة تأخذ مجراها الطبيعي، بالتنفيذ لا بالقول، وبالمحبة لا بالإكــــراه، وباللين لا بالعنف، درجاً في رحاب الديمقراطية السليمة التي شرعها الإسلام للمسلمين عامة، وأقامها على قاعدة : كلكم مسؤول، وكل راع مسؤول عن رعيتـــه ".(72)
ومن ناحية أخرى فقد كانت حياته مكرسة لحل مشكلات الدولة وتصريف شؤونها، والسهر على المصلحة العامة، ويبدأ برنامجه اليومي بعد صلاة الفجر مباشرة حيث يذهب إلى مكتبه الخاص لدراسة شؤون الدولة وتصريفها، وعند الضحى يتوجه إلى مكتبه في قصر الحكم لتدارس القضايا المهمة مع المسؤولين ، ومقابلة بعض الزوار وللاستماع إلى بعض الشكاوي ، ويظل كذلك حتى صلاة الظهر وفي الفترة الواقعة بين صلاة العصر والمغرب يتابع شؤون الدولة ، وفي المساء يعود إلى مكتبه في قصر الحكم لدراسة ما يعرض عليه المواطنون من شكاوي وتصريف بعض الأمور الأخرى.
أما أسلوبه في الإدارة فيعود لخبرته الواسعة وتجربته العميقة إبان منصبه كنائب الملك في الحجاز ووزير للخارجية ووليا للعهد ، وبحكم توليه رئاسة مجلس الوزراء فترات كثيرة مما ساعده على تطوير نظام المجلس بما يتفق وطموحاته من رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية والمالية والإشراف على تنفيذها، فقد نصت المادة الرابعة من نظام مجلس الوزراء المعدل سنة 1384هـ على التالي: "رئيس مجلس الوزراء هو الذي يوجه السياسة العامة للدولة، ويكفل التوجيه والتنسيق والتعاون بين مختلف الوزارات، ويضمن الاضطراد والوحدة في أعمال مجلس الوزراء، ويتلقى التوجيهات السامية من جلالة الملك للعمل بموجبها، وهو الذي يوقع قرارات المجلس ، ويأمر بتبليغها إلى الجهات المختلفة ، وله الإشراف على مجلس الوزراء والمصالح العامة، وهو الذي يراقب تنفيذ الأنظمة والقرارات التي يصدرها مجلس الوزراء(73) ، أما مجلس الوزراء فيرسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية، والسلطات التشريعية والتنفيذية والإدارية " حيث نصت المادة 18 من نظام الوزراء على ما يلي : " يرسم مجلس الوزراء السياسة الداخلية والخارجية والمالية والاقتصادية والتعليمية والدفاعية وجميع الشؤون العامة للدولة، ويشرف على تنفيذها، ويملك السلطة التنظيمية والسلطة التنفيذية والسلطة الادارية، وهو المرجع الأعلى للشؤون المالية ولجميع الشؤون المرتبطة في سائر وزارات الدولة الأخرى، وهو الذي يقرر ما يلزم اتخاذه من إجراءات في ذلك، ولا تعتبر المعاهدات والاتفاقيات الدولية نافذة إلا بعد موافقته، وقرارات مجلس الوزراء نهائية، إلا ما يحتاج منها لاستصدار أمر أو مرسوم ملكي طبقاً لأحكام هذا النظام".
ومن جهة أخرى فقد أشارت المادة 26 إلى السلطة الإدارية لمجلس الوزراء بأنه هو السلطة المباشرة لإدارة البلاد، وله الهيمنة التامة على كافة قضايا الإدارة، وتدار المناطق المختلفة في أنحاء المملكة بموجب أنظمة تسن لذلك.
ومن ناحية أخرى فقد منح النظام الوزير صلاحيات كبرى، فقد جاء في المادة الثامنة من النظام يعتبر الوزير هو الرئيس المباشر والمرجع النهائي لشؤون وزارته، كما أن للوزير– بموجب المادة 22 – الحق في أن يقترح على المجلس نظام يدخل ضمن أعمال وزارته لغرض إقراره.(74)
وتبعا لمقتضيات العصر فقد أدخل أسلوب التخطيط لمعرفة حاجيات المجتمع، ووضع الخطط التنموية للنهوض، فأقر في بداية الأمر، إنشاء مجلس أعلى للتخطيط يكون اختصاصاته تتمحور في تخطيط ورسم سياسة التنمية في جميع مناحي الحياة، ويشكل من: رئيس مجلس الوزراء رئيسا، وعضوية كل من وزراء المالية، والمواصلات، والاقتصاد الوطني، والبترول والثروة المعدنية، والزراعة. ثم في سنة 1384هـ/1964م صدر مرسوم بإنشاء هيئة فنية للتخطيط بدلا من ذلك، وقد حددت مهمتها بوضع خطة للتنمية وتشرف على تنفيذها، والتي تمكنت في العام التالي من تقديم تقرير ضمنته تحليل عن الوضع الاقتصادي العام في الدولة وإنجازات كل وزارة ومصلحة، بمعنى وضع استراتيجية تراعى الموازنة بين الدخل العام ومستوى رفاهية المواطنين، ومن ثم فقد استطاعت إعداد أول خطة للتنمية بالتعاون مع كافة المصالح والمؤسسات والوزارات واضعة في الاعتبار الإمكانيات البشرية المحلية التي يمكن أن تساهم في إنجازها.
وفي عام 1390هـ/1970م أقر مجلس الوزراء أول خطة للتنمية في المملكة تعالج النقص في التعليم والصحة والخدمات المختلفة والاستثمارات الاقتصادية والصناعية وغيرها.(75)
ومما جاء في أهداف الخطة مع الحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية ورفع مستوى المعيشة، ودعم الأمن الوطني ما يلي :
1- زيادة معدل الإنتاج المحلي الإجمالي.
2- تطوير الموارد البشرية للمشاركة في عملية التنمية.
3- تنويع مصادر الدخل الوطني، وتخفيض الاعتماد على البترول عن طريق زيادة مساهمة القطاعات الإنتاجية الأخرى في الإنتاج المحلي الإجمالي.
مما تقدم يظهر لنا جلياً منهجه في الحكم والإدارة من خلال نظام الحكم الذي أقره مجلس الوزراء وأتينا على تفصيله في الصفحات السابقة، وكذلك ما تطرقنا إليه فيما يخص منهجه في الإدارة، سواء في ممارسته اليومية أو ما أحدثه من أجهزة وأنظمة مكنت البلاد– بفضل سياسته الحكيمة – من مواكبة حركة التقدم والتطور، التي يشهدها العالم، ويتمثل ذلك في وضع أول خطة خمسية للتنمية في المملكة، من أهدافها بالإضافة إلى الأهداف التي أشرنا إليها من قبل ما يلي :
1- إجراء عدد من الإصلاحات الإدارية والتنظيمية مثل: توصيف وظائف ورواتب العاملين في الدولة.
2- إنشاء صندوق للاستثمار العام وتدعيم موارده المالية ليتمكن من تمويل استثمارات المشروعات الإنتاجية ذات الطابع التجاري.
3- تحسين إدارة الإحصاء مما يمكنها من تعداد السكان، لوضع استراتيجية للنهوض بجميع المناطق.
4- فتح مراكز للتدريب المهني لسد حاجات البلاد من الأيدي العاملة المدربة.
5- التوسع في برامج التعليم للبنين والبنات على جميع المستويات.
6- رفع مستوى الخدمات الصحية بإقامة المستشفيات والمراكز المتخصصة.
7- توسيع نطاق الخدمات الاجتماعية.
8- تحسين خدمات مرافق الكهرباء وتعميمها على جميع أجزاء المملكة.
9- تنمية موارد المياه وإنشاء شبكات للتوزيع في مدن المملكة، التوسع في تحلية مياه البحر، تنفيذ المجاري، وإقامة محطات التنقية في أنحاء البلاد، تصريف مياه الأمطار، وإنشاء السدود.
10- تنفيذ مشروعات سفلتة الشوارع وإقامة الأرصفة والإنارة وغيرها.
11- تنفيذ برامج قطاع النقل والمواصلات.
12- إقامة مشاريع صناعية كبيرة .. وغير ذلك.