محاسن السياسة الجنائية الإسلامية
مرسل: الأربعاء ديسمبر 04, 2013 7:21 pm
الحمد لله الذي رفع لنا في كل ثغر عَلَماً، وأجرى لنا في جوار كل بحر ما يضاهيه كرماً، وجعل في هذه الأمة من المسلمين إلى اليوم من يزيد الناس عِلماً ويمحو من الظلمات ظلماً، أما بعد:
قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، وقال عز وجل: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:21].
وقال: {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ . وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:48-50]، وقال: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20].
لقد عاشت بلادنا العربية منذ دخول الإسلام فيها في ظل الخلافة الإسلامية أكثر من ألف عام، وظل أهلها طوال هذه القرون يحتكمون إلى شرع الله تعالى المتمثل في الكتاب والسُّنة، والأحكام التي استُمدَّت منهما باستعمال أصول الفقه وضوابطه وقواعده الكلية التي وضعها الفقهاء المسلمون، مستلهمين الحلول من سوابقهم وسوابق سلفهم والأشباه والنظائر إذا لم يجدوا في كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم بُغيتهم، وقد اجتهدوا في ذلك أيما اجتهاد، وصنفوا في أصول التقاضي والأحكام والدعاوى ما عجزت سائر الأمم عن الإتيان بمثله، بل سبقوا إلى تأصيل النظريات القانونية التي يُفاخر القانونيون المعاصرون بتأصيلها وذِكْرِها في كتبهم.
وفي الجملة كانت الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس والأوحد للأحكام في بلادنا حتى نهاية القرن الماضي حين تزايد النفوذ الأجنبي الذي استهدف إقصاء الشريعة وإفساد المسلمين، فخلال سنوات من هذا النفوذ أُنشئت المحاكم المختلطة ووضعت لها القوانين التي استمدت بصفة أساسية من قوانين الدول الاستعمارية؛ فالإنكليز فرضوا القوانين الإنكليزية في الهند والسودان، والفرنسيون فرضوا قوانينهم في الجزائر والمغرب وتونس ومصر (منذ احتلالهم لها قبل الإنكليز)، والإيطاليون فرضوا قوانينهم في ليبيا (بعد احتلالهم لها سنة 1911م)، وكان ذلك بدايةً لاستمداد مجموعات كاملة من القوانين الأساسية (كقانون المرافعات، والقانون المدني، وقانون العقوبات، وقانون التجارة) من مصدر أجنبي غير شرعي لا يتصل بانتماء البلاد الإسلامي ولا بخصائصها الثقافية والاجتماعية التي حددت ذاتية أمتنا وهويتها الإسلامية بشكل واضح، وكان ينبغي أن تنعكس على الشريعة التي تحكمها وتسود فيها.
لقد أثبت الواقع بما لا يدع مجالاً للشك أن تطبيق القوانين الوضعية كان ولا زال هو أهم أسباب انتشار الجريمة وازدياد معدَّلاتها وتنوُّعها على نحو لم يكن في أسلافنا، وأن تلك القوانين لم تؤدِّ دورَها في الوفاء بمتطلبات المتقاضين وحلِّ خصوماتهم وفض نزاعاتهم؛ فلا هي زجراً حققت، ولا قضايا أنجزت، ولا حقوقاً لأصحابها سلمت؛ بل أدت الثغرات التي تملأ عباءتها إلى اللدد في الخصومات، والمماطلة في الإجراءات، وكثرة الاستئنافات، والامتناع عن أداء الحقوق والواجبات، وزيادة البغي والعدوان، وإثارة الفوضى والهمجية، وبثِّ روح الانتقام والثأر لدى المتخاصمين.
وفي هذا المقام تبرز محاسن الشريعة التي هي من وضع الخالق عز وجل الذي هو أعلم بأحوال عباده وأدرى بما فيه صلاحهم وما إليه عاقبة أمرهم، والتي تفردت عن التقنينات الوضعية بسمات وخصائص تجعلها أجدر بالاتباع وأَوْلى بالتطبيق؛ إذ لا تتحكم في سنها الآراء ولا تعبث في وجهتها الأهواء.
والحق أننا مهما حاولنا إبراز محاسن الشريعة في شأن مكافحة الجريمة وردع الجناة فلن نوفيها حقها، ولن نستوعب إلا قدراً يسيراً جداً من إيجابياتها ومحاسنها، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، والذي يفرضه علينا واجب الوقت هو تعريف المسلمين بمحاسن شريعتهم وتبيين علوِّ كعبها على التقنينات الوضعية، بل على أرقى تلك التقنينات، وفي ما يلي بعض محاسن السياسة الجنائية والعقابية الإسلامية:
أولاً: التشريع الإسلامي يحمي القيم الأخلاقية والإنسانية بنصوص أكثر فعالية من التشريعات الوضعية: فليس هناك دائرة منفصلة للتشريع عن دائرة الأخلاق، وهذه إحدى سمات التشريع الإسلامي فحسب؛ إذ توجَّه العقوبات في الشريعة الإسلامية قِبل كل ما يمس الأخلاق الفاضلة دون أن يتوقف ذلك على رضا المجني عليه أو تخلُّف ضرر ما عن الجريمة؛ لأن غرض حماية الأخلاق يعلو على غرض حماية المجني عليه في حد ذاته، باعتبار أن الغرض الأول يتعلق بالمصالح المشتركة والنظام العام للمجتمع، والتراضي بين الجاني والمجني عليه لا يجعل الفاسد صالحاً ولا يُحل ما حرم الله؛ لذا فالشريعة تعاقب على شرب الخمر والردة والفُحش والزنا والفجور والشذوذ بغض النظر عن رضا طرفي الجريمة، ولا سلطان للحاكم في العفو عن هذه الجرائم، لأن التساهل في شأنها يؤدي إلى تحلل الأخلاق، وفساد المجتمع واختلال أمنه ونظامه.
ثانياً: التشريع الإسلامي سبق التشريعات الوضعية في الأخذ بـ (مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات) الشهير في القوانين الجنائية والعقابية، والذي يقتضي أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص؛ إذ يميز التشريع الإسلامي بوضوح بين الجرائم التي قدَّر الله عز وجل لها عقوبات لا يجوز العدول عنها إلى غيرها مثل عقوبات الحدود، وبين الجرائم الأخرى التي فوض ولي الأمر في تحديد أركانها والعقوبات المقرَّرَة لها؛ وهي الجرائم التعزيرية.
والأصل الذي أخذ به التشريع الإسلامي: أنه ما عدا جرائم الحدود -وهي الردة والزنا والحرابة والسرقة والقذف وشرب الخمر- هي جرائم تعزيرية، هذا فضلاً عن أن جرائم القصاص قد حدد الشرع عقوباتها مثل جرائم الحدود ولكن على أساس عام وتساوٍ وتماثلٍ في العقوبة مع الجريمة.
وهذا المبدأ يجد أساسه في قول الله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، وقوله: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131]، وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59]، ويقول: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ . ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:208-209]، فكل عقوبة أوقعها الله عز وجل بكل أمة سبقها إنذار بالعقوبة عند المخالفة وهو ذاته جوهر (مبدأ الشرعية).
ثالثاً: تنقسم الجرائم بحسب الحق المعتدَى عليه في التشريع الإسلامي إلى جرائم يتعلق العقاب عليها بالاعتداء على حق من حقوق الله تعالى وجرائم يقع الاعتداء فيها على حق من حقوق العباد، وهو ما تنفرد به السياسة العقابية الإسلامية، وأهمية هذا التقسيم هي أن ما يُعَدُّ من حقوق الله تعالى هو في حقيقة الأمر من دعائم النظام الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع باعتبار أنها حقوق عامة، ويظهر أثر تلك التفرقة في أحكام التشريع في جواز العفو عن العقوبة أو تغييرها أو في قبول تنازل المجني عليه عن حقه.
رابعاً: المسؤولية الشخصية في الجريمة مبدأ مقرَّر في الشرع الإسلامي، وهي مسؤولية محددة بشروط وضوابط تجد أساسها في قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
خامساً: تتميز (نظرية الإثبات) في الشريعة الإسلامية بجمعها بين قاعدتي (الإثبات المطلق) و(الإثبات المقيد)، والإثبات المطلق مقتضاه: أن القاضي حُرّ في تكوين عقيدته في أي بينة يراها كافية للإدانة أو البراءة، كما في جرائم التعازير بصفة عامة؛ فكل أمر يترجح عند القاضي أنه دليل من شأنه إثبات الحق هو طريق من طرق الحكم، ومنها: الإقرار، والشهادة، واليمين إذا عجز المدعي عن البينة، والنكول عن اليمين، والقسامة، والعرف، والقرائن.
أما قاعدة الإثبات المقيد فمقتضاها أن الشرع ألزم القاضي بالتقيد بأدلة معيَّنة في بعض الجرائم لا يجوز له أن يقضي على خلافها إذا استوفت شرائطها، ولا يجوز له العدول إلى غيرها، وهذا كما في حد الزنا.
أما التقنين الوضعي فالقاعدة العامة في الإثبات الجنائي فيه: أن القاضي يتمتع بحرية كاملة في تكوين عقيدته دون قيود عليه في الاقتناع بأي دليل يُعرض عليه في الدعوى، اللهم إلا بشأن جريمة شريك الزوجة الزانية؛ حيث حدد طرق إثبات جريمته على سبيل الحصر، وهو استثناء غريب لا علة حقيقية له في الواقع، بخلاف الشريعة الإسلامية التي على الرغم من اعتمادها في منهج الإثبات الجنائي على التيسير على القضاة للوصول لما يروونه الحق في أحكامهم بتنويع الدليل، إلا أنها أوردت قيوداً على القضاة بخصوص إثبات بعض الجرائم بالنظر لخطورتها وأهميتها وشدة تأثيرها.
سادساً: تكفل الشريعة الإسلامية تطبيق (مبدأ إقليمية القانون) الذي تُنادي به الأنظمة القانونية الوضعية؛ وهو يعني: أن تطبق أحكام الشريعة على المواطنين المقيمين في إقليم الدولة الإسلامية؛ سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمَنين.
ويتسع (مبدأ الإقليمية) بشأن الجرائم الحدية ليشمل ما يرتكبه المسلم من جرائم في أي بلد إذا ثبتت عليه بالأدلة الشرعية، وهو ما يكفُل إلزام المواطنين بالسلوك القويم في الخارج وَفْقاً لما يمليه عليهم دينهم وأخلاقهم.
بل ومن خصائص (مبدأ الإقليمية) في الشريعة: أنه لا ينتقص من سيادة الدولة أو حقوق شعبها؛ حيث لا يُتقيد به إذا قامت المصلحة المؤكدة على ضرورة ملاحقة مرتكب أي جريمة من الجرائم الخطيرة حتى ولو ارتكب جريمته خارج إقليم الدولة؛ سواء لمساسها بكيان البلاد أو مصالحها الجوهرية، وهنا تبرز مرونة التشريع الإسلامي وأفضليته على القوانين الوضعية الجامدة التي تصطدم في كثير من الأحيان بالمصالح الجوهرية للبلاد، وتمس بكيانها وسيادتها، وتخل بالأمن العام للمواطنين.
إن تطبيق الحدود في الجملة على غير المسلمين يجد علته -كما سبق القول- في أنها من دعائم النظام العام في المجتمع الإسلامي التي تهدف إلى الارتقاء بالمجتمع بكل مواطنيه ورعايتهم جميعاً باعتبارهم يتعايشون في مجتمع واحد.
سابعاً: (مبدأ عدم رجعية القانون) في الشريعة له خصائص تميزه عن غيره؛ حيث يعني في التشريعات الوضعية: أن النصوص القانونية لا تسري إلا من وقت سنها، ولا تطبق إلا على الوقائع التالية على ذلك. أما في الشريعة فهذا المبدأ محدود بالجرائم التعزيرية التي يرى ولي الأمر فرضها إصلاحاً للناس والمجتمع، ولا يشمل الجرائم الحدية.
ثامناً: لا تقف أغراض العقوبة في التشريع الإسلامي عند حد الردع الخاص للجاني المتمثل في زجره وتقويمه، والردع العام للغير المتمثل في زجر أي فرد من المجتمع تسوِّل له نفسه اقتراف جرمه، بل تتعدَّى هذين الغرضين من حيث كونها كفارة للمُعاقَب وطهرة تُزيل عنه المؤاخذة بذنب الجرم الذي ارتكبه، وهو ما تنفرد به الشريعة دون غيرها من التقنينات الوضعية؛ إذ لا سبيل لهذه التقنينات إلى إيجاد عقوبات بديلة للعقوبات الشرعية يمكنها أن تؤدي الغرض المشار إليه؛ وما ذاك إلا لأن العقوبات الشرعية شريعة الله تبارك وتعالى وأما القوانين الوضعية فهي من وضع البشر.
تاسعاً: تكفُل العقوبات الشرعية تحقيق العدل بين الجاني والمجني عليه، لا سيما في جرائم القصاص؛ حيث تقوم على أساس (الجزاء من جنس العمل)، ولا شك أن ذلك يؤدي إلى شفاء صدر المجني عليه، وشعوره بحصوله على حقه كاملاً، فيمنعه ذلك من الثأر والانتقام، بخلاف العقوبات الوضعية التي تبخس حق المجني عليه في القصاص من الجاني، وهو ما يخلق في حد ذاته دافعاً جديداً للإجرام؛ هو الثأر والانتقام المتولد عن الضغينة التي يحملها الجاني للمجني عليه.
عاشراً: التشريع الجنائي الإسلامي يأخذ بمبدأ تفريد العقاب فيفرق في العقوبة من حيث النوع والقدر بحسب جسامة الجرم المرتكَب وخطورة المجرم، وهو ما يكفُل للعقوبة تحقيق أغراضها العامة (الردع العام) والخاصة (الزجر والتقويم).
ففي أغلب التشريعات الوضعية عقوبة السجن أو الحبس هي العقوبة العامة التي تُظِل معظم المجرمين، وهي في حد ذاتها لم تحقق الردع العام أو الخاص في أرقى دول العالم وأشدها تحضُّراً، بل معدل ارتكاب الجريمة في هذه الدول في ازدياد مستمر حسب ما تثبته الإحصائيات الرسمية فيها، بخلاف الشريعة الإسلامية التي تُطبق إلى جانب السجن أو الحبس عقوبات أخرى أكثر ردعاً كالرجم للزاني المحصن، والقطع في حدَّي (السرقة والحرابة)، والجلد في حدود الزنا والقذف وشرب الخمر[1].
فهذه الجرائم لما كانت المفسدة فيها عظيمة ثابتة لا تتبدل مهما اختلف الزمان والمكان، استلزم ذلك أن تكون العقوبات عليها مؤلمة لتحقِّق الزجر والردع والتأديب للشريرين والمفسدين.
ولما كانت المفسدة في هذه الجرائم متنوعة بحسب الحق المعتدى عليه من كليات الدين الخمسة (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، فقد استلزم ذلك أيضاً أن تكون العقوبة متنوعة ومناسبة لكل جرم. يقول العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فلما تفاوتت مراتب الجنايات، لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية (جنساً ووصفاً وقدراً) لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مَشْعَب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولَّى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره (نوعاً وقدراً)، ورتَّب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة، ويليق بها من النكال" (إعلام الموقعين: [2/115]).
هذه بعض ملامح السياسة الجنائية والعقابية في الشريعة الإسلامية، وهي غيض من فيض، وقطرة من سيح وقليل من كثير؛ وإلا فإن محاسن الشريعة في هذا المجال تتسع له المجلدات لا هذه الصفحات.
لقد بات الرجوع إلى التشريع الإسلامي ضرورة قصوى حتى لا تكون ثمة فجوة بين طبيعة واقع المسلمين الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم؛ فلا ريب أن القانون ينبغي أن يعكس بصدق أحوال المجتمع المادية والفكرية وأن يحقق متطلباته وآماله.
وإذا كانت التشريعات الوضعية قد أصَّلت لمناهجها وَفْقاً للقواعد والنظريات التي درج شُرَّاح القوانين على إدراجها في القسم العام منها، فإن الفقه الإسلامي أيضاً قد سبق إلى كثيرٍ من هذه النظريات والقواعد على أساس أحكام القرآن الكريم أو السُّنة المطهرة أو الاجتهاد الفقهي؛ سواء من حيث نطاق التشريع وتطبيقه من حيث الزمان والمكان، وكذلك أركان الجرائم، وإثباتها وشروط المسؤولية الجنائية، والاشتراك في الجريمة، وأسباب الإباحة وتنفيذ العقوبات، وأسباب وَقْفِها، بما يُعد في الحقيقة سبقاً علمياً لعلماء المسلمين منذ قرون في مجال التشريعين (الجنائي والعقابي)، والحقُ أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة فهومهم المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
هذا والحمد لله، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
_____
[1]- (تُعد عقوبة الجلد بصفة خاصة من أكثر العقوبات ردعاً للمجرمين، وهي ذات حدين فيمكن أن يُعاقب بها كل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته ويتفق مع شخصيته في آن واحد، وتمتاز هذه العقوبة أيضاً بأنها تنفذ في الحال فلا تُثقل كاهل الدولة ولا تعطل المحكوم عليه عن عمله، ولا تُعرِّض المحكوم عليه لخطر السجن ومخالطة الأشرار، ولا تمس آثارها سوى المحكوم عليه ممن يعولهم أو يلتزم نحوهم بالتزام شرعي؛ ولهذا كانت أكثر العقوبات التي استخدمها الولاة والقضاة قديماً في ردع المجرمين في جرائم التعازير).
قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، وقال عز وجل: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:21].
وقال: {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ . وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:48-50]، وقال: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20].
لقد عاشت بلادنا العربية منذ دخول الإسلام فيها في ظل الخلافة الإسلامية أكثر من ألف عام، وظل أهلها طوال هذه القرون يحتكمون إلى شرع الله تعالى المتمثل في الكتاب والسُّنة، والأحكام التي استُمدَّت منهما باستعمال أصول الفقه وضوابطه وقواعده الكلية التي وضعها الفقهاء المسلمون، مستلهمين الحلول من سوابقهم وسوابق سلفهم والأشباه والنظائر إذا لم يجدوا في كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم بُغيتهم، وقد اجتهدوا في ذلك أيما اجتهاد، وصنفوا في أصول التقاضي والأحكام والدعاوى ما عجزت سائر الأمم عن الإتيان بمثله، بل سبقوا إلى تأصيل النظريات القانونية التي يُفاخر القانونيون المعاصرون بتأصيلها وذِكْرِها في كتبهم.
وفي الجملة كانت الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس والأوحد للأحكام في بلادنا حتى نهاية القرن الماضي حين تزايد النفوذ الأجنبي الذي استهدف إقصاء الشريعة وإفساد المسلمين، فخلال سنوات من هذا النفوذ أُنشئت المحاكم المختلطة ووضعت لها القوانين التي استمدت بصفة أساسية من قوانين الدول الاستعمارية؛ فالإنكليز فرضوا القوانين الإنكليزية في الهند والسودان، والفرنسيون فرضوا قوانينهم في الجزائر والمغرب وتونس ومصر (منذ احتلالهم لها قبل الإنكليز)، والإيطاليون فرضوا قوانينهم في ليبيا (بعد احتلالهم لها سنة 1911م)، وكان ذلك بدايةً لاستمداد مجموعات كاملة من القوانين الأساسية (كقانون المرافعات، والقانون المدني، وقانون العقوبات، وقانون التجارة) من مصدر أجنبي غير شرعي لا يتصل بانتماء البلاد الإسلامي ولا بخصائصها الثقافية والاجتماعية التي حددت ذاتية أمتنا وهويتها الإسلامية بشكل واضح، وكان ينبغي أن تنعكس على الشريعة التي تحكمها وتسود فيها.
لقد أثبت الواقع بما لا يدع مجالاً للشك أن تطبيق القوانين الوضعية كان ولا زال هو أهم أسباب انتشار الجريمة وازدياد معدَّلاتها وتنوُّعها على نحو لم يكن في أسلافنا، وأن تلك القوانين لم تؤدِّ دورَها في الوفاء بمتطلبات المتقاضين وحلِّ خصوماتهم وفض نزاعاتهم؛ فلا هي زجراً حققت، ولا قضايا أنجزت، ولا حقوقاً لأصحابها سلمت؛ بل أدت الثغرات التي تملأ عباءتها إلى اللدد في الخصومات، والمماطلة في الإجراءات، وكثرة الاستئنافات، والامتناع عن أداء الحقوق والواجبات، وزيادة البغي والعدوان، وإثارة الفوضى والهمجية، وبثِّ روح الانتقام والثأر لدى المتخاصمين.
وفي هذا المقام تبرز محاسن الشريعة التي هي من وضع الخالق عز وجل الذي هو أعلم بأحوال عباده وأدرى بما فيه صلاحهم وما إليه عاقبة أمرهم، والتي تفردت عن التقنينات الوضعية بسمات وخصائص تجعلها أجدر بالاتباع وأَوْلى بالتطبيق؛ إذ لا تتحكم في سنها الآراء ولا تعبث في وجهتها الأهواء.
والحق أننا مهما حاولنا إبراز محاسن الشريعة في شأن مكافحة الجريمة وردع الجناة فلن نوفيها حقها، ولن نستوعب إلا قدراً يسيراً جداً من إيجابياتها ومحاسنها، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، والذي يفرضه علينا واجب الوقت هو تعريف المسلمين بمحاسن شريعتهم وتبيين علوِّ كعبها على التقنينات الوضعية، بل على أرقى تلك التقنينات، وفي ما يلي بعض محاسن السياسة الجنائية والعقابية الإسلامية:
أولاً: التشريع الإسلامي يحمي القيم الأخلاقية والإنسانية بنصوص أكثر فعالية من التشريعات الوضعية: فليس هناك دائرة منفصلة للتشريع عن دائرة الأخلاق، وهذه إحدى سمات التشريع الإسلامي فحسب؛ إذ توجَّه العقوبات في الشريعة الإسلامية قِبل كل ما يمس الأخلاق الفاضلة دون أن يتوقف ذلك على رضا المجني عليه أو تخلُّف ضرر ما عن الجريمة؛ لأن غرض حماية الأخلاق يعلو على غرض حماية المجني عليه في حد ذاته، باعتبار أن الغرض الأول يتعلق بالمصالح المشتركة والنظام العام للمجتمع، والتراضي بين الجاني والمجني عليه لا يجعل الفاسد صالحاً ولا يُحل ما حرم الله؛ لذا فالشريعة تعاقب على شرب الخمر والردة والفُحش والزنا والفجور والشذوذ بغض النظر عن رضا طرفي الجريمة، ولا سلطان للحاكم في العفو عن هذه الجرائم، لأن التساهل في شأنها يؤدي إلى تحلل الأخلاق، وفساد المجتمع واختلال أمنه ونظامه.
ثانياً: التشريع الإسلامي سبق التشريعات الوضعية في الأخذ بـ (مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات) الشهير في القوانين الجنائية والعقابية، والذي يقتضي أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص؛ إذ يميز التشريع الإسلامي بوضوح بين الجرائم التي قدَّر الله عز وجل لها عقوبات لا يجوز العدول عنها إلى غيرها مثل عقوبات الحدود، وبين الجرائم الأخرى التي فوض ولي الأمر في تحديد أركانها والعقوبات المقرَّرَة لها؛ وهي الجرائم التعزيرية.
والأصل الذي أخذ به التشريع الإسلامي: أنه ما عدا جرائم الحدود -وهي الردة والزنا والحرابة والسرقة والقذف وشرب الخمر- هي جرائم تعزيرية، هذا فضلاً عن أن جرائم القصاص قد حدد الشرع عقوباتها مثل جرائم الحدود ولكن على أساس عام وتساوٍ وتماثلٍ في العقوبة مع الجريمة.
وهذا المبدأ يجد أساسه في قول الله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، وقوله: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131]، وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59]، ويقول: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ . ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:208-209]، فكل عقوبة أوقعها الله عز وجل بكل أمة سبقها إنذار بالعقوبة عند المخالفة وهو ذاته جوهر (مبدأ الشرعية).
ثالثاً: تنقسم الجرائم بحسب الحق المعتدَى عليه في التشريع الإسلامي إلى جرائم يتعلق العقاب عليها بالاعتداء على حق من حقوق الله تعالى وجرائم يقع الاعتداء فيها على حق من حقوق العباد، وهو ما تنفرد به السياسة العقابية الإسلامية، وأهمية هذا التقسيم هي أن ما يُعَدُّ من حقوق الله تعالى هو في حقيقة الأمر من دعائم النظام الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع باعتبار أنها حقوق عامة، ويظهر أثر تلك التفرقة في أحكام التشريع في جواز العفو عن العقوبة أو تغييرها أو في قبول تنازل المجني عليه عن حقه.
رابعاً: المسؤولية الشخصية في الجريمة مبدأ مقرَّر في الشرع الإسلامي، وهي مسؤولية محددة بشروط وضوابط تجد أساسها في قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
خامساً: تتميز (نظرية الإثبات) في الشريعة الإسلامية بجمعها بين قاعدتي (الإثبات المطلق) و(الإثبات المقيد)، والإثبات المطلق مقتضاه: أن القاضي حُرّ في تكوين عقيدته في أي بينة يراها كافية للإدانة أو البراءة، كما في جرائم التعازير بصفة عامة؛ فكل أمر يترجح عند القاضي أنه دليل من شأنه إثبات الحق هو طريق من طرق الحكم، ومنها: الإقرار، والشهادة، واليمين إذا عجز المدعي عن البينة، والنكول عن اليمين، والقسامة، والعرف، والقرائن.
أما قاعدة الإثبات المقيد فمقتضاها أن الشرع ألزم القاضي بالتقيد بأدلة معيَّنة في بعض الجرائم لا يجوز له أن يقضي على خلافها إذا استوفت شرائطها، ولا يجوز له العدول إلى غيرها، وهذا كما في حد الزنا.
أما التقنين الوضعي فالقاعدة العامة في الإثبات الجنائي فيه: أن القاضي يتمتع بحرية كاملة في تكوين عقيدته دون قيود عليه في الاقتناع بأي دليل يُعرض عليه في الدعوى، اللهم إلا بشأن جريمة شريك الزوجة الزانية؛ حيث حدد طرق إثبات جريمته على سبيل الحصر، وهو استثناء غريب لا علة حقيقية له في الواقع، بخلاف الشريعة الإسلامية التي على الرغم من اعتمادها في منهج الإثبات الجنائي على التيسير على القضاة للوصول لما يروونه الحق في أحكامهم بتنويع الدليل، إلا أنها أوردت قيوداً على القضاة بخصوص إثبات بعض الجرائم بالنظر لخطورتها وأهميتها وشدة تأثيرها.
سادساً: تكفل الشريعة الإسلامية تطبيق (مبدأ إقليمية القانون) الذي تُنادي به الأنظمة القانونية الوضعية؛ وهو يعني: أن تطبق أحكام الشريعة على المواطنين المقيمين في إقليم الدولة الإسلامية؛ سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمَنين.
ويتسع (مبدأ الإقليمية) بشأن الجرائم الحدية ليشمل ما يرتكبه المسلم من جرائم في أي بلد إذا ثبتت عليه بالأدلة الشرعية، وهو ما يكفُل إلزام المواطنين بالسلوك القويم في الخارج وَفْقاً لما يمليه عليهم دينهم وأخلاقهم.
بل ومن خصائص (مبدأ الإقليمية) في الشريعة: أنه لا ينتقص من سيادة الدولة أو حقوق شعبها؛ حيث لا يُتقيد به إذا قامت المصلحة المؤكدة على ضرورة ملاحقة مرتكب أي جريمة من الجرائم الخطيرة حتى ولو ارتكب جريمته خارج إقليم الدولة؛ سواء لمساسها بكيان البلاد أو مصالحها الجوهرية، وهنا تبرز مرونة التشريع الإسلامي وأفضليته على القوانين الوضعية الجامدة التي تصطدم في كثير من الأحيان بالمصالح الجوهرية للبلاد، وتمس بكيانها وسيادتها، وتخل بالأمن العام للمواطنين.
إن تطبيق الحدود في الجملة على غير المسلمين يجد علته -كما سبق القول- في أنها من دعائم النظام العام في المجتمع الإسلامي التي تهدف إلى الارتقاء بالمجتمع بكل مواطنيه ورعايتهم جميعاً باعتبارهم يتعايشون في مجتمع واحد.
سابعاً: (مبدأ عدم رجعية القانون) في الشريعة له خصائص تميزه عن غيره؛ حيث يعني في التشريعات الوضعية: أن النصوص القانونية لا تسري إلا من وقت سنها، ولا تطبق إلا على الوقائع التالية على ذلك. أما في الشريعة فهذا المبدأ محدود بالجرائم التعزيرية التي يرى ولي الأمر فرضها إصلاحاً للناس والمجتمع، ولا يشمل الجرائم الحدية.
ثامناً: لا تقف أغراض العقوبة في التشريع الإسلامي عند حد الردع الخاص للجاني المتمثل في زجره وتقويمه، والردع العام للغير المتمثل في زجر أي فرد من المجتمع تسوِّل له نفسه اقتراف جرمه، بل تتعدَّى هذين الغرضين من حيث كونها كفارة للمُعاقَب وطهرة تُزيل عنه المؤاخذة بذنب الجرم الذي ارتكبه، وهو ما تنفرد به الشريعة دون غيرها من التقنينات الوضعية؛ إذ لا سبيل لهذه التقنينات إلى إيجاد عقوبات بديلة للعقوبات الشرعية يمكنها أن تؤدي الغرض المشار إليه؛ وما ذاك إلا لأن العقوبات الشرعية شريعة الله تبارك وتعالى وأما القوانين الوضعية فهي من وضع البشر.
تاسعاً: تكفُل العقوبات الشرعية تحقيق العدل بين الجاني والمجني عليه، لا سيما في جرائم القصاص؛ حيث تقوم على أساس (الجزاء من جنس العمل)، ولا شك أن ذلك يؤدي إلى شفاء صدر المجني عليه، وشعوره بحصوله على حقه كاملاً، فيمنعه ذلك من الثأر والانتقام، بخلاف العقوبات الوضعية التي تبخس حق المجني عليه في القصاص من الجاني، وهو ما يخلق في حد ذاته دافعاً جديداً للإجرام؛ هو الثأر والانتقام المتولد عن الضغينة التي يحملها الجاني للمجني عليه.
عاشراً: التشريع الجنائي الإسلامي يأخذ بمبدأ تفريد العقاب فيفرق في العقوبة من حيث النوع والقدر بحسب جسامة الجرم المرتكَب وخطورة المجرم، وهو ما يكفُل للعقوبة تحقيق أغراضها العامة (الردع العام) والخاصة (الزجر والتقويم).
ففي أغلب التشريعات الوضعية عقوبة السجن أو الحبس هي العقوبة العامة التي تُظِل معظم المجرمين، وهي في حد ذاتها لم تحقق الردع العام أو الخاص في أرقى دول العالم وأشدها تحضُّراً، بل معدل ارتكاب الجريمة في هذه الدول في ازدياد مستمر حسب ما تثبته الإحصائيات الرسمية فيها، بخلاف الشريعة الإسلامية التي تُطبق إلى جانب السجن أو الحبس عقوبات أخرى أكثر ردعاً كالرجم للزاني المحصن، والقطع في حدَّي (السرقة والحرابة)، والجلد في حدود الزنا والقذف وشرب الخمر[1].
فهذه الجرائم لما كانت المفسدة فيها عظيمة ثابتة لا تتبدل مهما اختلف الزمان والمكان، استلزم ذلك أن تكون العقوبات عليها مؤلمة لتحقِّق الزجر والردع والتأديب للشريرين والمفسدين.
ولما كانت المفسدة في هذه الجرائم متنوعة بحسب الحق المعتدى عليه من كليات الدين الخمسة (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، فقد استلزم ذلك أيضاً أن تكون العقوبة متنوعة ومناسبة لكل جرم. يقول العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فلما تفاوتت مراتب الجنايات، لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية (جنساً ووصفاً وقدراً) لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مَشْعَب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولَّى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره (نوعاً وقدراً)، ورتَّب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة، ويليق بها من النكال" (إعلام الموقعين: [2/115]).
هذه بعض ملامح السياسة الجنائية والعقابية في الشريعة الإسلامية، وهي غيض من فيض، وقطرة من سيح وقليل من كثير؛ وإلا فإن محاسن الشريعة في هذا المجال تتسع له المجلدات لا هذه الصفحات.
لقد بات الرجوع إلى التشريع الإسلامي ضرورة قصوى حتى لا تكون ثمة فجوة بين طبيعة واقع المسلمين الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم؛ فلا ريب أن القانون ينبغي أن يعكس بصدق أحوال المجتمع المادية والفكرية وأن يحقق متطلباته وآماله.
وإذا كانت التشريعات الوضعية قد أصَّلت لمناهجها وَفْقاً للقواعد والنظريات التي درج شُرَّاح القوانين على إدراجها في القسم العام منها، فإن الفقه الإسلامي أيضاً قد سبق إلى كثيرٍ من هذه النظريات والقواعد على أساس أحكام القرآن الكريم أو السُّنة المطهرة أو الاجتهاد الفقهي؛ سواء من حيث نطاق التشريع وتطبيقه من حيث الزمان والمكان، وكذلك أركان الجرائم، وإثباتها وشروط المسؤولية الجنائية، والاشتراك في الجريمة، وأسباب الإباحة وتنفيذ العقوبات، وأسباب وَقْفِها، بما يُعد في الحقيقة سبقاً علمياً لعلماء المسلمين منذ قرون في مجال التشريعين (الجنائي والعقابي)، والحقُ أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة فهومهم المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
هذا والحمد لله، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
_____
[1]- (تُعد عقوبة الجلد بصفة خاصة من أكثر العقوبات ردعاً للمجرمين، وهي ذات حدين فيمكن أن يُعاقب بها كل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته ويتفق مع شخصيته في آن واحد، وتمتاز هذه العقوبة أيضاً بأنها تنفذ في الحال فلا تُثقل كاهل الدولة ولا تعطل المحكوم عليه عن عمله، ولا تُعرِّض المحكوم عليه لخطر السجن ومخالطة الأشرار، ولا تمس آثارها سوى المحكوم عليه ممن يعولهم أو يلتزم نحوهم بالتزام شرعي؛ ولهذا كانت أكثر العقوبات التي استخدمها الولاة والقضاة قديماً في ردع المجرمين في جرائم التعازير).