الدهاء في السياسة
مرسل: الأربعاء ديسمبر 04, 2013 7:29 pm
الدهاء: جودة الرأي التي تمكن السياسي من أن يدير نظامًا، أو يكشف عن وجه قضية بأسلوب لطيف، فغير الداهية ينبذ إلى الباطل على سواء؛ فتكون الحرب بينهما سجالًا، والداهية ينصب له المكيدة، فيقع كما يقع الأسد في الزبية العميقة، ومن لم يكن داهية لا يمشي إلى الغرض إلاَّ على خط مستقيم، فإذا اعترضته عقبة كؤود وقف في حيرة أو رجع على عَقِبه يائسًا، والداهية يسير في خطٍّ منحنٍ أو منكسرٍ ولا يبالي بطول المسافة في جانب الثقة بإدراك الغاية المطلوبة.
يقوم الدهاء على فطرة الذكاء التي هي سرعة تصور المعاني الغامضة، وسهولة نفوذ الفكر إلى المقاصد الخفية. والإفراط فيه الذي يعد عيبًا في صاحب السياسة إنما هو اختطاف صورة الأمر أو النتيجة من غير تثبيت في مأخذها، أو إحاطة بكنهها؛ إذ الشأن فيمن تضرب أشعة فكره في المعاني البعيدة أول ما يلتفت إليها لا يطيل البحث عن أسرارها أو يستوفي النظر إلى آثارها. فمن لم ينظر في الشؤون العامة بفكر ثاقب، ضاع من بين يديه كثيرٌ من المصالح، ووقع في شراك الخداع والمخاتلة، وكم من أمة قضى عليها بَلَهُ زعمائها أن تعيش في هاوية الذل ونكد الحياة. وإنما استقام ظهر الخلافة لعهد عمر بن الخطاب؛ لأنه كان -مع سلامة ضميره وصفاء سريرته- نافذَ البصيرة في السياسة، بعيدَ النظر في عواقبها. قال المغيرة بن شعبة: "كان عمر أفضل من أن يَخْدَع، وأعْقَل من أن يُخدَع".
السياسة فنون شتى، والبراعة في كلِّ فنٍّ تكون على حسب الأخذ بمبادئه، والدربةِ في مسالكه، فهذا خبير بسياسةِ الحرب، وبصيرتُه في السياسة المدنية عشواء، وآخر يدير القضايا، ويجري النظاماتِ بين الأمة في أحكم نسق، فإذا خَرَجْتَ به؛ ليخوض في صلة أمة بأخرى ضاقت عليه مسالك الرأي، وتلجلج لسانه في لُكْنَة، وربما جنح إلى السِلم والحربُ أشرف عاقبة، أو أَذَّن بحرب والصلحُ أقرب وسيلة إلى سعادة الأمة؛ فلا بُدَّ للدهاء في فنٍّ سياسي من الوقوف على شيء من سننه، إمَّا بتقلب الإنسان في الوقائع بنفسه ومشاهدته لها عن رؤية عين، وهي التجارب الملوَّح إليها بقول أبي تمام:
من لم يُقَد فيطير في خيشومه *** رهجُ الخميس فلن يقود خميسا
أو بتلقيها على طريق النقل، كدراسة فن التاريخ، أو الكتب المؤلفة في ذلك الفن من السياسة خاصة. ولا يملك مزية الدهاء في السياسة، إلا من كان في استطاعته كتمُ تأثراته النفسية من غضب وسرور، ومودَّة وبغضاء، ولهذا يقول الأدباء: إنَّ أحكم بيت قالته العرب:
ولَرُبَّما ابتَسَم الكريمُ من الأذى *** وفُـؤَادُه مِنْ حَـرِّه يَتَأَوَّهُ
فأناة الرئيس ورصانته هي المنبع الذي تُسقى منه الأمةُ حريةَ الفكر، والسُّلَّم الذي تعرج منه إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة. تسمح الحكومات الحرة للكتاب والخطباء أن يكشفوا عما في ضمائرهم ويجهروا بآرائهم، وتسيرُ معهم على مبدأ أنَّ الناس أحرار في آرائهم وعواطفهم؛ فلا يسألون عنها، أو يؤاخذون بها متى كانت مباينة لمقاصد الرئيس، أو معارضة لمذهبه في السياسة، إلاَّ إذا وضعوا أيديهم في إجرائها، واندفعوا إلى العمل على نفاذها.
تعدُّ الحرية البالغة هذا الحد في حسنات بعض الحكومات الحاضرة، وقد أدار عليها أمراء الإسلام رحى سياستهم منذ ألف وثلاثمائة سنة؛ فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول: "والله، لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي". يتلقى الأمراء نقد سياستهم وآرائهم بصدر رحب، وكثير منهم من إذا أنس في الأمة تهيبًا كره أن ينقلب ذلك التهيب رهبةً تجرهم إلى إيثار الخَلق على الحق، ويدعوهم إلى ما دعا إليه عمر بن الخطاب في قوله: "أيما رجل عتب علينا في خلق فليؤذِنِّي"؛ (أي فليعلمني). وكان المأمون يقول لأهل ناديه إذا جارَوه في كلام: "هلاَّ سألتموني لماذا؟ فإنَّ العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة".
يطلق الأمراء العادلون للآراء أعنَّتها؛ لتعرض عليهم في أي صبغة شاءت، ويثقون في هذا التسامح بأن أمامها أفكارًا مستقلة، وعقولًا راجحة، فتقبل منها ما كان حقيقة ناصعة، وترد الزائف على عقبه خائبًا. يدور على الألسنة قول ابن خلدون في مقدمة تاريخه: "إنَّ العرب أبعد الأمم عن سياسة الـمُلْك". يلهج بهذه المقالة بعض الأعجمين رامزين إلى أنَّ العرب لا يليق بهم أن يعيشوا كما يعيش الرجل الرشيد، يتصرف في بيته، ويدير مصلحته بنفسه، وتبسط طائفة أخرى النكير على هذا الفيلسوف قائلة: كيف يصف الأمة التي شادت تلك الدولة الكبرى بالبعد عن مذاهب السياسة؟
والذي ينظر في الفصل المعقود لهذه المقالة من (المقدمة) يجد ابن خلدون يتكلم على الأمة العربية الطبيعية، حيث ذكر أنَّ العلة في بعدهم عن إجادة السياسة اعتيادهم على البداوة، ونفورهم من سلطة القوانين، واحتياج رئيسهم إلى الإحسان إليهم وعدم مراغمتهم، والسياسة تقتضي أن يكون السائس وازعًا بالقهر. ثم صرَّح ابن خلدون في هذا الفصل نفسه، بأنَّ هذه الأمة بعد ما طلع عليها الإسلام، وفتح أبصارها في مناهج السياسة العادلة سارت فيها باستقامة، فعظم ملكها، وقوي سلطانها. ويوافق ما قاله ابن خلدون من أنَّ العربي بعد مطلع الإسلام غير العربي في عصر الجاهلية أن سعد بن أبي وقاص أرسل نفرًا منهم المغيرة بن زرارة إلى يزدجرد فدارت بينه وبينهم محاورة أفصح لهم في آخرها عن تعجبه من ظهورهم في هذا المظهر العظيم، بعد أن كانوا بمكانة من الجهل، فقال له المغيرة: إن ما وصفت به العرب من الجهل هو حق، إلا أنه قد كان ذلك قبل الإسلام. وبعد أن انصرفوا قال لقائده رستم: ما كنت أرى أنَّ في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جوابًا منهم.
ركبتُ مرة القطار من بَرْلِين إلى إحدى قراها القريبة منها، وكان في رفقتي أستاذان من المستشرقين، فأخذا يتحاوران باللسان الألماني، ولم أكن أفقه من هذا اللسان يومئذ شيئًا، ثم أقبل عليَّ أحدهم وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون أن العرب لا يعرفون السياسة؟ فقلت له: إنما يصف ابن خلدون العرب في حال جاهليتهم، وقبل أن يهتدوا بهدي الإسلام ويستنيروا بحكمته، فانقطع، وعاد إلى محاورة صاحبه. ومن نظر إلى العربي في حال جاهليته، رآه مطبوعًا على خصلتين يُطوِّح به الغلو فيهما إلى ما ليس وراءه غاية: إحداهما: اندفاعه للانتقام ممن هَضَمَ له حقًّا، أو مسَّ جانبه بأذى. وحُسْنُ السياسة يقتضي التأني، والإغضاء عن كثير من الهفوات. ثانيتهما: إطلاقه لأيدي شيعته وعشيرته، وغضُّ الطرف عنهم إذا أخذهم الاعتزاز بجاهه، واضطهدوا حق ضعيف لا ينتمي إليه. والسياسة تنافي الإفراطَ في معاضدة الأشياع والأحلاف، ولا تستقيم مع الانتصار وهم مبطلون.
وقد قاومت الشريعة الإسلامية هاتين الطبيعتين، وجاهدت فيهما حقَّ جهادها، حتى أعدَّت لسياسة العالم أساتذة مثل عمر بن الخطاب الذي كان لا يراعي في إقامة الحقِّ، وكبح الباطل أشدَّ الناس به صلة، وأمسَّهم به رحمًا. ومثل معاوية بن أبي سفيان؛ فإنه كان يُرمى بالمطاعن، ويرشق بسهام الإنكار، فيُسرُّها في نفسه، ولا تبدو عليه سورة الغيظ، الذي يتخبط كثيرًا من المستبدين. ومن دهاء عمر بن عبد العزيز أنه كان يرى في كثير من الأمور مصالح للرعية، ولكن كان يسلك في إجرائها طريقة التمهل والتدريج؛ حَذَرَ أن يثقل عليهم عبؤها، فيطرحوها عن ظهورهم، ويقعوا في عاقبة سيئة. قال ابنه عبد الملك: ما لك لا تُنَفِّذ الأمور؟، فقال: لا تعجل يا بني؛ فإنني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملة؛ فيدفعوه، وتكونَ فتنة. فلا يخرج السياسي عن مجرى الاستقامة حيث يرى في سيرة الأمة عوجًا يتعذر عليه تقويمه بالقوة؛ فيحجم عن مكافحته، ولكن يبذل حكمته في علاج ذلك المبدأ السقيم، حتى يأخذ صحته ولو بعد أمد طويل.
وقد بدأت السياسة في عهد معاوية لا تبالي أن تمرَّ إلى الحقِّ، ولو على جسر من الباطل، كما قال زياد في بعض خطبه: "قد علمنا أنَّا لا نصل إلى الحقِّ إلَّا أن نخوض في الباطل خوضًا". ويقول ابن خلدون: "إن العلماء من بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها". وذكر في توجيه هذه المقالة، أنهم معتادون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية، والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج، وما يلحقها من الأحوال، ويتبعها من الآثار. وتحقيق هذا أنَّ العلم في نفسه لا يعوق صاحبه أن يدرك الغاية القصوى في السياسة، وإنما العلة التي تَقْعُدَ بالعالم عن البراعة في تدبير الشؤون العامة إنما هي انكبابه وعكوفه على القواعد، وما يتفرع عنها من الأحكام دون أن يضيف إليها الاطلاع على أحوال أهل العصر، ويفحص عما تقتضيه مصالحهم، وتستدعيه حاجتهم، ويغوص على الوقائع؛ فيتفقه في نشأتها، وما تصير إليه عاقبتها.
فما قاله ابن خلدون إنما ينطبق على حال العلماء الذين أنفقوا أوقاتهم في القضايا النظرية، ولم يضربوا بسهم في معرفة أسباب العمران وطبائع الاجتماع، وهذه الحالة هي الغالبة على أمرهم في عصر ابن خلدون، وما تقدمه بزمن طويل، ولا سِيَّما بعد أن وقفوا دون مرتبة الاجتهاد، وتهاونوا بالشطر الأهم من وظيفتهم وهو الدعوة إلى الإصلاح أينما كانوا. وأما الذين يُقَدِّرون وظيفتهم حقَّ قدرها، ويقومون بما قلَّدهم الله من مراقبة سير الأمة وإرشادها إلى وسائل الفلاح عن فكرة سليمة، وألمعية مهذبة، فإنهم يسبقون بلا ريب إلى الغاية السامية في السياسة القيِّمة، ولا يكون العلم عثرة تهوي بهم في البله والجهل بتدبير شؤون الاجتماع، كما يدعي الذين يسمعون أو يسردون مقالة ابن خلدون على غير تدبر وروية. وكان الوزير التونسي خير الدين باشا يعقد مجالس من علماء جامع الزيتونة، ويلقي على وجه الشورى ما يهمه من المسائل العامة، فيتناوبونها بالبحث والنظر، حتى إذا نطق أحدهم برأي يصيب به المفصل من القضية اهتَزَّ ذلك الوزير ارتياحًا، وضرب يمناه على يسراه قائلًا: لا تتقدم أمة إلا بعلمائها.
يقوم الدهاء على فطرة الذكاء التي هي سرعة تصور المعاني الغامضة، وسهولة نفوذ الفكر إلى المقاصد الخفية. والإفراط فيه الذي يعد عيبًا في صاحب السياسة إنما هو اختطاف صورة الأمر أو النتيجة من غير تثبيت في مأخذها، أو إحاطة بكنهها؛ إذ الشأن فيمن تضرب أشعة فكره في المعاني البعيدة أول ما يلتفت إليها لا يطيل البحث عن أسرارها أو يستوفي النظر إلى آثارها. فمن لم ينظر في الشؤون العامة بفكر ثاقب، ضاع من بين يديه كثيرٌ من المصالح، ووقع في شراك الخداع والمخاتلة، وكم من أمة قضى عليها بَلَهُ زعمائها أن تعيش في هاوية الذل ونكد الحياة. وإنما استقام ظهر الخلافة لعهد عمر بن الخطاب؛ لأنه كان -مع سلامة ضميره وصفاء سريرته- نافذَ البصيرة في السياسة، بعيدَ النظر في عواقبها. قال المغيرة بن شعبة: "كان عمر أفضل من أن يَخْدَع، وأعْقَل من أن يُخدَع".
السياسة فنون شتى، والبراعة في كلِّ فنٍّ تكون على حسب الأخذ بمبادئه، والدربةِ في مسالكه، فهذا خبير بسياسةِ الحرب، وبصيرتُه في السياسة المدنية عشواء، وآخر يدير القضايا، ويجري النظاماتِ بين الأمة في أحكم نسق، فإذا خَرَجْتَ به؛ ليخوض في صلة أمة بأخرى ضاقت عليه مسالك الرأي، وتلجلج لسانه في لُكْنَة، وربما جنح إلى السِلم والحربُ أشرف عاقبة، أو أَذَّن بحرب والصلحُ أقرب وسيلة إلى سعادة الأمة؛ فلا بُدَّ للدهاء في فنٍّ سياسي من الوقوف على شيء من سننه، إمَّا بتقلب الإنسان في الوقائع بنفسه ومشاهدته لها عن رؤية عين، وهي التجارب الملوَّح إليها بقول أبي تمام:
من لم يُقَد فيطير في خيشومه *** رهجُ الخميس فلن يقود خميسا
أو بتلقيها على طريق النقل، كدراسة فن التاريخ، أو الكتب المؤلفة في ذلك الفن من السياسة خاصة. ولا يملك مزية الدهاء في السياسة، إلا من كان في استطاعته كتمُ تأثراته النفسية من غضب وسرور، ومودَّة وبغضاء، ولهذا يقول الأدباء: إنَّ أحكم بيت قالته العرب:
ولَرُبَّما ابتَسَم الكريمُ من الأذى *** وفُـؤَادُه مِنْ حَـرِّه يَتَأَوَّهُ
فأناة الرئيس ورصانته هي المنبع الذي تُسقى منه الأمةُ حريةَ الفكر، والسُّلَّم الذي تعرج منه إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة. تسمح الحكومات الحرة للكتاب والخطباء أن يكشفوا عما في ضمائرهم ويجهروا بآرائهم، وتسيرُ معهم على مبدأ أنَّ الناس أحرار في آرائهم وعواطفهم؛ فلا يسألون عنها، أو يؤاخذون بها متى كانت مباينة لمقاصد الرئيس، أو معارضة لمذهبه في السياسة، إلاَّ إذا وضعوا أيديهم في إجرائها، واندفعوا إلى العمل على نفاذها.
تعدُّ الحرية البالغة هذا الحد في حسنات بعض الحكومات الحاضرة، وقد أدار عليها أمراء الإسلام رحى سياستهم منذ ألف وثلاثمائة سنة؛ فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول: "والله، لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي". يتلقى الأمراء نقد سياستهم وآرائهم بصدر رحب، وكثير منهم من إذا أنس في الأمة تهيبًا كره أن ينقلب ذلك التهيب رهبةً تجرهم إلى إيثار الخَلق على الحق، ويدعوهم إلى ما دعا إليه عمر بن الخطاب في قوله: "أيما رجل عتب علينا في خلق فليؤذِنِّي"؛ (أي فليعلمني). وكان المأمون يقول لأهل ناديه إذا جارَوه في كلام: "هلاَّ سألتموني لماذا؟ فإنَّ العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة".
يطلق الأمراء العادلون للآراء أعنَّتها؛ لتعرض عليهم في أي صبغة شاءت، ويثقون في هذا التسامح بأن أمامها أفكارًا مستقلة، وعقولًا راجحة، فتقبل منها ما كان حقيقة ناصعة، وترد الزائف على عقبه خائبًا. يدور على الألسنة قول ابن خلدون في مقدمة تاريخه: "إنَّ العرب أبعد الأمم عن سياسة الـمُلْك". يلهج بهذه المقالة بعض الأعجمين رامزين إلى أنَّ العرب لا يليق بهم أن يعيشوا كما يعيش الرجل الرشيد، يتصرف في بيته، ويدير مصلحته بنفسه، وتبسط طائفة أخرى النكير على هذا الفيلسوف قائلة: كيف يصف الأمة التي شادت تلك الدولة الكبرى بالبعد عن مذاهب السياسة؟
والذي ينظر في الفصل المعقود لهذه المقالة من (المقدمة) يجد ابن خلدون يتكلم على الأمة العربية الطبيعية، حيث ذكر أنَّ العلة في بعدهم عن إجادة السياسة اعتيادهم على البداوة، ونفورهم من سلطة القوانين، واحتياج رئيسهم إلى الإحسان إليهم وعدم مراغمتهم، والسياسة تقتضي أن يكون السائس وازعًا بالقهر. ثم صرَّح ابن خلدون في هذا الفصل نفسه، بأنَّ هذه الأمة بعد ما طلع عليها الإسلام، وفتح أبصارها في مناهج السياسة العادلة سارت فيها باستقامة، فعظم ملكها، وقوي سلطانها. ويوافق ما قاله ابن خلدون من أنَّ العربي بعد مطلع الإسلام غير العربي في عصر الجاهلية أن سعد بن أبي وقاص أرسل نفرًا منهم المغيرة بن زرارة إلى يزدجرد فدارت بينه وبينهم محاورة أفصح لهم في آخرها عن تعجبه من ظهورهم في هذا المظهر العظيم، بعد أن كانوا بمكانة من الجهل، فقال له المغيرة: إن ما وصفت به العرب من الجهل هو حق، إلا أنه قد كان ذلك قبل الإسلام. وبعد أن انصرفوا قال لقائده رستم: ما كنت أرى أنَّ في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جوابًا منهم.
ركبتُ مرة القطار من بَرْلِين إلى إحدى قراها القريبة منها، وكان في رفقتي أستاذان من المستشرقين، فأخذا يتحاوران باللسان الألماني، ولم أكن أفقه من هذا اللسان يومئذ شيئًا، ثم أقبل عليَّ أحدهم وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون أن العرب لا يعرفون السياسة؟ فقلت له: إنما يصف ابن خلدون العرب في حال جاهليتهم، وقبل أن يهتدوا بهدي الإسلام ويستنيروا بحكمته، فانقطع، وعاد إلى محاورة صاحبه. ومن نظر إلى العربي في حال جاهليته، رآه مطبوعًا على خصلتين يُطوِّح به الغلو فيهما إلى ما ليس وراءه غاية: إحداهما: اندفاعه للانتقام ممن هَضَمَ له حقًّا، أو مسَّ جانبه بأذى. وحُسْنُ السياسة يقتضي التأني، والإغضاء عن كثير من الهفوات. ثانيتهما: إطلاقه لأيدي شيعته وعشيرته، وغضُّ الطرف عنهم إذا أخذهم الاعتزاز بجاهه، واضطهدوا حق ضعيف لا ينتمي إليه. والسياسة تنافي الإفراطَ في معاضدة الأشياع والأحلاف، ولا تستقيم مع الانتصار وهم مبطلون.
وقد قاومت الشريعة الإسلامية هاتين الطبيعتين، وجاهدت فيهما حقَّ جهادها، حتى أعدَّت لسياسة العالم أساتذة مثل عمر بن الخطاب الذي كان لا يراعي في إقامة الحقِّ، وكبح الباطل أشدَّ الناس به صلة، وأمسَّهم به رحمًا. ومثل معاوية بن أبي سفيان؛ فإنه كان يُرمى بالمطاعن، ويرشق بسهام الإنكار، فيُسرُّها في نفسه، ولا تبدو عليه سورة الغيظ، الذي يتخبط كثيرًا من المستبدين. ومن دهاء عمر بن عبد العزيز أنه كان يرى في كثير من الأمور مصالح للرعية، ولكن كان يسلك في إجرائها طريقة التمهل والتدريج؛ حَذَرَ أن يثقل عليهم عبؤها، فيطرحوها عن ظهورهم، ويقعوا في عاقبة سيئة. قال ابنه عبد الملك: ما لك لا تُنَفِّذ الأمور؟، فقال: لا تعجل يا بني؛ فإنني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملة؛ فيدفعوه، وتكونَ فتنة. فلا يخرج السياسي عن مجرى الاستقامة حيث يرى في سيرة الأمة عوجًا يتعذر عليه تقويمه بالقوة؛ فيحجم عن مكافحته، ولكن يبذل حكمته في علاج ذلك المبدأ السقيم، حتى يأخذ صحته ولو بعد أمد طويل.
وقد بدأت السياسة في عهد معاوية لا تبالي أن تمرَّ إلى الحقِّ، ولو على جسر من الباطل، كما قال زياد في بعض خطبه: "قد علمنا أنَّا لا نصل إلى الحقِّ إلَّا أن نخوض في الباطل خوضًا". ويقول ابن خلدون: "إن العلماء من بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها". وذكر في توجيه هذه المقالة، أنهم معتادون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية، والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج، وما يلحقها من الأحوال، ويتبعها من الآثار. وتحقيق هذا أنَّ العلم في نفسه لا يعوق صاحبه أن يدرك الغاية القصوى في السياسة، وإنما العلة التي تَقْعُدَ بالعالم عن البراعة في تدبير الشؤون العامة إنما هي انكبابه وعكوفه على القواعد، وما يتفرع عنها من الأحكام دون أن يضيف إليها الاطلاع على أحوال أهل العصر، ويفحص عما تقتضيه مصالحهم، وتستدعيه حاجتهم، ويغوص على الوقائع؛ فيتفقه في نشأتها، وما تصير إليه عاقبتها.
فما قاله ابن خلدون إنما ينطبق على حال العلماء الذين أنفقوا أوقاتهم في القضايا النظرية، ولم يضربوا بسهم في معرفة أسباب العمران وطبائع الاجتماع، وهذه الحالة هي الغالبة على أمرهم في عصر ابن خلدون، وما تقدمه بزمن طويل، ولا سِيَّما بعد أن وقفوا دون مرتبة الاجتهاد، وتهاونوا بالشطر الأهم من وظيفتهم وهو الدعوة إلى الإصلاح أينما كانوا. وأما الذين يُقَدِّرون وظيفتهم حقَّ قدرها، ويقومون بما قلَّدهم الله من مراقبة سير الأمة وإرشادها إلى وسائل الفلاح عن فكرة سليمة، وألمعية مهذبة، فإنهم يسبقون بلا ريب إلى الغاية السامية في السياسة القيِّمة، ولا يكون العلم عثرة تهوي بهم في البله والجهل بتدبير شؤون الاجتماع، كما يدعي الذين يسمعون أو يسردون مقالة ابن خلدون على غير تدبر وروية. وكان الوزير التونسي خير الدين باشا يعقد مجالس من علماء جامع الزيتونة، ويلقي على وجه الشورى ما يهمه من المسائل العامة، فيتناوبونها بالبحث والنظر، حتى إذا نطق أحدهم برأي يصيب به المفصل من القضية اهتَزَّ ذلك الوزير ارتياحًا، وضرب يمناه على يسراه قائلًا: لا تتقدم أمة إلا بعلمائها.