معايير الاختيار في الولايات
مرسل: الأربعاء ديسمبر 04, 2013 7:35 pm
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ترك لنا علماؤنا تراثًا جليلاً من الكتب والأبحاث التي عالجت مسائل السياسة الشرعية والإمامة، والولايات العامة والخاصة بما يغني عن التخبُّط في هذا الباب، ويجعل لنا المرجعيَّة التامة الوافية المستمدة مِن الكتاب والسُّنة وفهم السلف لهما، وأفعالهم طبقًا لذلك دون حيد أو زيف أو زيغ عن سبيل المؤمنين.
فقد ضَبَطَ العلماء هذه الأبواب أيَّما ضبط، ونقَّحوها أيما تنقيح، مما جعلها تناسب متطلباتنا في أسس الاختيار في كل ولاية خاصة وعامة، وكان ممن عالج هذه القضية -قضية الولايات والإمارات والاختيار لها، ومعايير هذا الاختيار- شيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله تعالى، فأفدْنَا منه هذه الإفادات، وجعلناها في نقاط، تيسيرًا لقراءتها، والانتفاع بها.
ونبدأ في المطلوب:
1- يجب على وليِّ الأمر أن يولِّي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح مَن يجده لذلك العمل، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار مِن الأمراء، والقضاة، وغيرهم... إلخ.
2- وعلى كل واحد مِن هؤلاء أن يستنِيب، ويستعمل أصلح مَن يجده، وينتهي ذلك إلى أئمَّة الصلاة والمؤذنين، حتى يشمل ذلك كل الولايات عامَّها وخاصها.
3- الحاصل أنه يجب على كل مَن ولِيَ شيئًا مِن أمرِ المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلحَ مَن يقدر عليه، ولا يُقدِّمَ الرجلَ لكونه طلب الولاية أو سبق إلى ذلك، بل ذلك سببٌ للمنع، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن قومًا دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ» (متفق عليه)، وقال لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» (متفق عليه).
فكل سائلِ للإمارةِ حريصٌ عليها، طالبٌ لها، مخذول غير مُوفَّق، ومعنى الحديث: تركت للإمارة وأعبائها بغير عون مِن الله، وهذا إذا لم تحصل له الإعانة من الله قطعًا سيؤدِّي للعجز عن القيام بأعبائها أو إلى الخيانة فيها، هذا هو الأصل مع اعتبار تفصيل أهل العلم في مسألة طلب الولاية.
4- فإنْ عدَلَ عن الأحقِّ الأصلحِ إلى غيرِه لأجلِ قَرابَة بينهما، أو صداقة، أو موافقة في مذهب، أو طريقة، أو لرشوة مال، أو منفعة، أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما، أو غير ذلك، فقد خان اللهَ ورسولَهُ والمؤمنينَ، ودخلَ فيما نهى عنه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
5- إذا عُرف هذا... فليس عليه أن يستعمل إلا أصلحَ الموجود، وقد لا يكون في موجوده مَن هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه.
6- إذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار من أئمة العدل المقسطين.
7- وإن اختلَّت بعض الأمور بسبب مِن غيره إذا لم يمكن إلا ذلك فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ويقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، فمن أدَّى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى، لكن إن كان منه عجز أو خيانة عوقب على ذلك.
8- فينبغي أن يعرف الأصلح في كلِّ منصب، فإن الولاية لها ركنان: "القوة، والأمانة".
9- والقوة في كل ولاية بحسبها، فمثلاً: القوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، والخبرة بالحروب والمخادعة فيها، والقدرة على أنواع القتال، ومعرفه طرقه وأسلحته، وأما القوة في الحكم: فترجع إلى العلم بالعدل الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، والقدرة على تنفيذ الأحكام.
10- فالقوَّة في الولايات تجمع قوة المرء في نفسه وقوته على غيره، فقوَّتُه على نفسِه: بالحلم والصبر. وقوته على غيره: فالشجاعة في نفسه والخبرة، وسائر أسباب القوى من الرجال والأموال، فبالقوة الأولى يصير من المهاجرين الذين هجروا ما نهى الله عنه، ومن المجاهدين الذين جاهدوا نفوسهم في الله، وهو جهاد العدو الباطن من الشيطان والهوى، وبالقوة الثانية: يصير من المهاجرين المجاهدين في سبيل الله الذين جاهدوا أعداءه، ونصروا الله ورسوله، وبهم يقومُ الدِّين، وكثيرًا ما يحصلُ للرَّجل إحدَى القوَّتين دون الأخرى، فيختلَّ أمره بحسب ذلك.
11- أما الأمانة: فترجع إلى خشية الله تعالى وترك خشية الناس، وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلاً، قال الله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [المائدة: 44].
12- اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، فالواجب في كلِّ ولايةٍ الأصلحُ بحسبها، فإذا عيَّن رجلان أحدُهما أعظمُ أمانَةً والآخر أعظَمُ قوَّة قُدِّم أنفعُهما لتلكَ الولاية، وأقلُّهما ضررًا فيها، فيقدِّم مثلاً في إمارة الحروب: الرَّجل القويّ الشُّجاع وإن كان فيه فجور على الرَّجل الضَّعيف العاجز، كما سئل الإمام أحمد رحمه الله: عن الرَّجلين يكونَان أميرين في الغزو، وأحدهما قويٌّ فاجرٌ، والآخرُ صالح ضعيفٌ، مع أيِّهِما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القويُّ فقوَّتُه للمُسلِمينَ، وفُجُورِهِ على نَفْسِهِ، وأمَّا الصَّالح الضَّعيف فصلاحُه لنفسه وضُعفه على المسلمين، فيُغزى مع القويِّ الفاجرِ، وقَد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ» (متفق عليه)، وروي: «إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لا خَلاقَ لَهُمْ» (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، وإنْ لم يكن فاجرًا كان أولَى بإمارةِ الحربِ ممَّن هو أصلح منه في الدِّين إذا لم يسُد مسده.
وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين، مثل: حفِظ الأموالُ ونحوها، فأما استخراجها وحفظها، فلا بدَّ فيه من قوَّة وأمانة، فيُولَّى عليها قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته. وكذلك في إمارة الحرب: إذا أمرَ الأميرُ بمشاورة أهل العلم والدين جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد، فلا بد مِن ترجيح الأصلح، أو تعدُّد المَولَى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام.
13- يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد منه من أمور الولايات والإمارات، ونحوها...
14- والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وإنما يتمُّ معرفة ذلك بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود، فإذا عُرفت المقاصد والوسائل تم الأمر.
15- فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخَلْقِ -الذيِ متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا- وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قَسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين. فمن لم يعتدِ أصلح له دينه ودنياه، فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان مِن أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله، فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله العليا.
16- فإذا كان هذا هو المقصود، فإنه يَتَوسَّل إليه بالأقرب فالأقرب، وينظر إلى الرجلين، أيُّهما كان أقرب إلى المقصود وَلِيَ، فإذا كانت الولايَة مثلاً: إمامةُ صلاة فقط، قدم من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ» (رواه مسلم) فإذا تكافأ رجلان: وخفي أصلحهما، أقرع بينهما، كما أقرع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بين الناس يوم القادسية لما تشاجروا على الأذان، متابعة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا» (متفق عليه).
فإذا كان التقديمُ بأمر الله إذا ظهر، وبفعله -وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر- كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها.
فقد ترك لنا علماؤنا تراثًا جليلاً من الكتب والأبحاث التي عالجت مسائل السياسة الشرعية والإمامة، والولايات العامة والخاصة بما يغني عن التخبُّط في هذا الباب، ويجعل لنا المرجعيَّة التامة الوافية المستمدة مِن الكتاب والسُّنة وفهم السلف لهما، وأفعالهم طبقًا لذلك دون حيد أو زيف أو زيغ عن سبيل المؤمنين.
فقد ضَبَطَ العلماء هذه الأبواب أيَّما ضبط، ونقَّحوها أيما تنقيح، مما جعلها تناسب متطلباتنا في أسس الاختيار في كل ولاية خاصة وعامة، وكان ممن عالج هذه القضية -قضية الولايات والإمارات والاختيار لها، ومعايير هذا الاختيار- شيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله تعالى، فأفدْنَا منه هذه الإفادات، وجعلناها في نقاط، تيسيرًا لقراءتها، والانتفاع بها.
ونبدأ في المطلوب:
1- يجب على وليِّ الأمر أن يولِّي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح مَن يجده لذلك العمل، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار مِن الأمراء، والقضاة، وغيرهم... إلخ.
2- وعلى كل واحد مِن هؤلاء أن يستنِيب، ويستعمل أصلح مَن يجده، وينتهي ذلك إلى أئمَّة الصلاة والمؤذنين، حتى يشمل ذلك كل الولايات عامَّها وخاصها.
3- الحاصل أنه يجب على كل مَن ولِيَ شيئًا مِن أمرِ المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلحَ مَن يقدر عليه، ولا يُقدِّمَ الرجلَ لكونه طلب الولاية أو سبق إلى ذلك، بل ذلك سببٌ للمنع، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن قومًا دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ» (متفق عليه)، وقال لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» (متفق عليه).
فكل سائلِ للإمارةِ حريصٌ عليها، طالبٌ لها، مخذول غير مُوفَّق، ومعنى الحديث: تركت للإمارة وأعبائها بغير عون مِن الله، وهذا إذا لم تحصل له الإعانة من الله قطعًا سيؤدِّي للعجز عن القيام بأعبائها أو إلى الخيانة فيها، هذا هو الأصل مع اعتبار تفصيل أهل العلم في مسألة طلب الولاية.
4- فإنْ عدَلَ عن الأحقِّ الأصلحِ إلى غيرِه لأجلِ قَرابَة بينهما، أو صداقة، أو موافقة في مذهب، أو طريقة، أو لرشوة مال، أو منفعة، أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما، أو غير ذلك، فقد خان اللهَ ورسولَهُ والمؤمنينَ، ودخلَ فيما نهى عنه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
5- إذا عُرف هذا... فليس عليه أن يستعمل إلا أصلحَ الموجود، وقد لا يكون في موجوده مَن هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه.
6- إذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار من أئمة العدل المقسطين.
7- وإن اختلَّت بعض الأمور بسبب مِن غيره إذا لم يمكن إلا ذلك فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ويقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، فمن أدَّى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى، لكن إن كان منه عجز أو خيانة عوقب على ذلك.
8- فينبغي أن يعرف الأصلح في كلِّ منصب، فإن الولاية لها ركنان: "القوة، والأمانة".
9- والقوة في كل ولاية بحسبها، فمثلاً: القوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، والخبرة بالحروب والمخادعة فيها، والقدرة على أنواع القتال، ومعرفه طرقه وأسلحته، وأما القوة في الحكم: فترجع إلى العلم بالعدل الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، والقدرة على تنفيذ الأحكام.
10- فالقوَّة في الولايات تجمع قوة المرء في نفسه وقوته على غيره، فقوَّتُه على نفسِه: بالحلم والصبر. وقوته على غيره: فالشجاعة في نفسه والخبرة، وسائر أسباب القوى من الرجال والأموال، فبالقوة الأولى يصير من المهاجرين الذين هجروا ما نهى الله عنه، ومن المجاهدين الذين جاهدوا نفوسهم في الله، وهو جهاد العدو الباطن من الشيطان والهوى، وبالقوة الثانية: يصير من المهاجرين المجاهدين في سبيل الله الذين جاهدوا أعداءه، ونصروا الله ورسوله، وبهم يقومُ الدِّين، وكثيرًا ما يحصلُ للرَّجل إحدَى القوَّتين دون الأخرى، فيختلَّ أمره بحسب ذلك.
11- أما الأمانة: فترجع إلى خشية الله تعالى وترك خشية الناس، وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلاً، قال الله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [المائدة: 44].
12- اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، فالواجب في كلِّ ولايةٍ الأصلحُ بحسبها، فإذا عيَّن رجلان أحدُهما أعظمُ أمانَةً والآخر أعظَمُ قوَّة قُدِّم أنفعُهما لتلكَ الولاية، وأقلُّهما ضررًا فيها، فيقدِّم مثلاً في إمارة الحروب: الرَّجل القويّ الشُّجاع وإن كان فيه فجور على الرَّجل الضَّعيف العاجز، كما سئل الإمام أحمد رحمه الله: عن الرَّجلين يكونَان أميرين في الغزو، وأحدهما قويٌّ فاجرٌ، والآخرُ صالح ضعيفٌ، مع أيِّهِما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القويُّ فقوَّتُه للمُسلِمينَ، وفُجُورِهِ على نَفْسِهِ، وأمَّا الصَّالح الضَّعيف فصلاحُه لنفسه وضُعفه على المسلمين، فيُغزى مع القويِّ الفاجرِ، وقَد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ» (متفق عليه)، وروي: «إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لا خَلاقَ لَهُمْ» (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، وإنْ لم يكن فاجرًا كان أولَى بإمارةِ الحربِ ممَّن هو أصلح منه في الدِّين إذا لم يسُد مسده.
وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين، مثل: حفِظ الأموالُ ونحوها، فأما استخراجها وحفظها، فلا بدَّ فيه من قوَّة وأمانة، فيُولَّى عليها قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته. وكذلك في إمارة الحرب: إذا أمرَ الأميرُ بمشاورة أهل العلم والدين جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد، فلا بد مِن ترجيح الأصلح، أو تعدُّد المَولَى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام.
13- يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد منه من أمور الولايات والإمارات، ونحوها...
14- والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وإنما يتمُّ معرفة ذلك بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود، فإذا عُرفت المقاصد والوسائل تم الأمر.
15- فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخَلْقِ -الذيِ متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا- وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قَسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين. فمن لم يعتدِ أصلح له دينه ودنياه، فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان مِن أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله، فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله العليا.
16- فإذا كان هذا هو المقصود، فإنه يَتَوسَّل إليه بالأقرب فالأقرب، وينظر إلى الرجلين، أيُّهما كان أقرب إلى المقصود وَلِيَ، فإذا كانت الولايَة مثلاً: إمامةُ صلاة فقط، قدم من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ» (رواه مسلم) فإذا تكافأ رجلان: وخفي أصلحهما، أقرع بينهما، كما أقرع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بين الناس يوم القادسية لما تشاجروا على الأذان، متابعة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا» (متفق عليه).
فإذا كان التقديمُ بأمر الله إذا ظهر، وبفعله -وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر- كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها.