القوي الأمين
مرسل: الأربعاء ديسمبر 04, 2013 7:48 pm
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا بد مِن أداء الأمانة إلى أهلها، وإيداع كل ولاية من ولايات المسلمين في يد مَن يحفظها ويقوم بحقها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
لذا ينبغي التنبيه على عدة أمور:
- القوي الأمين... نادر:
(ال) تفيد الاستغراق -كمال الصفة-، ولا يجمع كمال القوة وكمال الأمانة إلا المعصومون، كأنبياء الله ورسله صلى الله عليهم وسلم أجمعين كيوسف عليه السلام: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]، {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وموسى عليه السلام: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وغيرهما مِن الأنبياء؛ لاسيما بدر تمامهم محمد صلى الله عليه وسلم.
سددوا وقاربوا:
إذا غاب الأصلح اخترنا أصلح الموجود، وإذا انعدم الكمال كانت المفاضلة بين رجلين -أو أكثر- كلاهما قوي أمين، فإما أن يكون أحدهما أقوى وأئمن في ذات الوقت، أو أن يفضل كل منهما الآخر في إحدى الصفتين فيجب الترجيح بينهما، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
الأمانة:
هي الديانة التي تورث في قلب مَن بيده الاختيار أن صاحبها سيحفظ ما اؤتمن عليه ويقوم بحقه، بيد أنا لم نؤمر بالشق عما في قلوب الناس، فمن أظهر لنا حسنًا؛ أحسنا به الظن، ومَن أظهر لنا سوءًا؛ أسأنا به الظن، فلنا الظاهر ونكل للباري السرائر.
القوة قوتان:
القوة الأولى على النفس: مِن الحلم والصبر، وضبط النفس وعدم تأثر اتخاذ القرار بالانفعالات والطبيعة الشخصية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (متفق عليه)، وقال عليه الصلاة والسلام: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» (متفق عليه).
وفي حرب الردة كان صاحب القرار فيها هو الصديق مع حلمه وأناته ورحمته: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي: أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ: عُمَرُ» (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وكان مِن أشد المعارضين له في البداية الفاروق عمر رضي الله عنه مع شدته وقوته، فكلاهما اجتهد في رؤية المصلحة وتطبيق الشرع على الواقع بتجرد عن انفعالاته وطبيعة شخصيته.
القوة الثانية على الغير: بكفاءته ومهارته التي تستلزمها كل ولاية، وليس في ذلك ضابط عام، بل كل ولاية بحسبها، فولاية القضاء غير ولاية الحرب، غير ولاية الأموال... غير الولاية العامة لأمر المسلمين.
إذا علمت الغاية سهل الاختيار:
مقصود الولاية: "إقامة الدين"، وليس مجرد السماح بإقامته، بل أخذ الناس على ذلك بالموعظة والتعليم والتيسير، والتدرج المنضبط بالشرع، وتهيئة النظام العام للإعانة على ذلك، فالدين متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا.
و"سياسة الدنيا بالدين" وإصلاح دنياهم التي لا يتمكن الناس من إقامة دينهم إلا بها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: "إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة!".
خارج المنافسة:
يخرج عن دائرة الاختيار مَن انعدمت عنده إحدى الصفتين فلا يُولَّى مثلاً كافر -وإن كان كفؤًا-؛ لأنه لا دين له ولا أمانة، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]، وكذلك لا يُولى جاهل القضاء -وإن كان أمينًا-؛ لانعدام القوة.
الأقوى أم الأئمن:
في كل ولاية بحسبها، فيقدم الأئمن في ولاية المال -وإن كان أقل كفاءة-، ويقدم الأكفأ في ولاية الحرب -وإن كان أقل أمانة-، كما قدم صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه على جيش فيه الصديق والفاروق رضي الله عنهما.
القيادة الجماعية:
إن تعذر ولم يتوافر واحد يفي بالأمر، فيمكن تقديم صاحب الكفاءة، ويُلزم بمشورة أهل الأمانة؛ لجبر النقص «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (متفق عليه)، كما كان نور الدين محمود، وصلاح الدين، وقطز، وغيرهم... كانوا رجّاعين دومًا لأهل العلم، فتم بولايتهم الخير العظيم للأمة، وحصل مقصود الولاية.
حكيم بطيء أم مقدام متهور:
س: لو كنا في معركة وعندنا قائدان بهذه الصفات فأيهما يقدم؟
ج: بحسب ظروف كل مناسبة، فإن كانت الخسائر المتوقعة عظيمة والضرر العائد على المسلمين مِن القرار بالغًا؛ قُدِّم الحكيم وتحملنا بطأه، وإن كان الأمر يستدعي مباغتة للعدو ونكاية سريعة؛ قدم المقدام، وتحملنا تهوره.
خالد... ورجل المرحلة:
قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه في إمارة الحرب، وتحت لوائه من العشرة المبشرين بالجنة، بل ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في سرية أرسلها بقيادته فقتل خالد متأولاً مَن قال صبأنا: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» (متفق عليه)، ثم بعد ذلك يوليه ثانية صلى الله عليه وسلم وعنده في الجيش من هو أئمن وأعلم منه رضي الله عنه؛ ذلك لأن معيار الكفاءة قدم هنا على الأمانة -وذلك عند غياب الأكفأ الأئمن في الوقت ذاته-، مع الأخذ في الاعتبار أن خالدًا كان متأولاً غير متعمد المعصية.
أمر جلل... واختيار صعب:
«مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ، إِلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم)، وكل منا لاسيما أهل العلم والدراية له نصيب مِن هذا الحديث، فكلنا على هذه الولاية واقف وصوته مؤثر في الاختيار، وإنها لأمانة لا بد أن تودع عند مَن يستطيع تحملها، ولو اختار أحدنا الأقل صلاحية فإنها خيانة لمن ورائه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
وقد اختلف الصديق والفاروق أفضل الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء في تقييم الأشخاص وتحديد الأصلح، إذ لما قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: "أَمِّرِ القَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ"، وقَالَ عُمَرُ: "بَلْ أَمِّرِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ... " (رواه البخاري).
وفي الفتنة التي ابتلي بها الصحابة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، بعض الصحابة رأى حقًا وبعضهم رأى خطأ، وبعضهم لم يرَ شيئًا، وكلهم مجتهد رضي الله عنهم أجمعين، فنسأل الله السداد والبصيرة.
مِن الكفاءة... عدم الطلب:
الكفء هو مَن يَقدر على تحمل أعباء الولاية والقيام بها، ومن بيَّن الوحي أنه لن يقدر على ذلك لحرمانه من عون الله -جل وعلا-، فهو أبعد الناس عن وصف الكفاءة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرَة رضي الله عنه: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ أُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» (متفق عليه).
إن ابني هذا سيد:
قطعًا الحسن بن علي رضي الله عنهما هو الأفضل أمانةً من معاوية رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أفضل كفاءة، فالصحابة ومَن تبقى مِن أهل الشورى الذين تركهم عمر رضي الله عنه هم الذين بايعوه على الخلافة؛ فهو الأكفأ والأئمن، ولكن لأن هناك مصلحة أعلى وهي حقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم؛ تنازل الحسن لمعاوية رضي الله عنهما، وفي كل خير؛ ولهذا كان سيدًا: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» (رواه البخاري).
المرجو المأمول... والواقع الممكن:
الكل يرجو ويأمل، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وقد يكون من حيثيات الواقع ما يمثل عقبات تمنع من اختيار مَن نتمناه، الذي لو خلا الأمر عن تلك الموانع؛ لكان هو المختار، وقد يضطر المرء لإتيان أقل المفسدتين لدفع أعظمهما، فبالأولى إتيان المفضول؛ لعدم التمكن من حصول الفاضل.
أي القضاة أنت؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، والحق هنا هو العلم بالأئمن والأكفأ، فإنه يحتاج علم بالشرع ودربة بالواقع، وإن كان الجاهل والمقلد ليس لهم تولي القضاء -والقضاء هو الحكم ولو بين اثنين وإن تضاءلت أهمية القضية-، فلا يقضي في هذا الأمر الجلل إلا أهله -أهل العلم المجتهدون، والناس في ذلك تبع لهم؛ لاسيما لو اجتمع أغلبهم على رأي فهو المقدم -إن شاء الله-، فإن لم يجتمعوا؛ فليتبع المقلد أوثق العلماء عنده متجردًا عن هواه في تحري الأوثق، فإنها شهادة، وستكتب شهادتهم ويسألون عنها.
فلنبقَ إخوانًا متحابين:
وأختم بقول الإمام الشافعي رحمه الله وقد اختلف مع بعض إخوانه فلقيه في الطريق فأخذ بيده، وقال: "أما يليق وإن اختلفنا أن نبقى إخوانًا". وقال: "ما ناظرت أحدًا إلا وأحببت أن يجري الحق على لسانه". وقال: "معي صواب يحتمل الخطأ، ومع خصمي خطأ يحتمل الصواب".
اللهم ولي أمورنا خيارنا، ولا تولي أمورنا شرارنا، ودبر لنا فإننا لا نملك من الأمر شيئًا، اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شر نفوسنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فلا بد مِن أداء الأمانة إلى أهلها، وإيداع كل ولاية من ولايات المسلمين في يد مَن يحفظها ويقوم بحقها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
لذا ينبغي التنبيه على عدة أمور:
- القوي الأمين... نادر:
(ال) تفيد الاستغراق -كمال الصفة-، ولا يجمع كمال القوة وكمال الأمانة إلا المعصومون، كأنبياء الله ورسله صلى الله عليهم وسلم أجمعين كيوسف عليه السلام: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]، {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وموسى عليه السلام: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وغيرهما مِن الأنبياء؛ لاسيما بدر تمامهم محمد صلى الله عليه وسلم.
سددوا وقاربوا:
إذا غاب الأصلح اخترنا أصلح الموجود، وإذا انعدم الكمال كانت المفاضلة بين رجلين -أو أكثر- كلاهما قوي أمين، فإما أن يكون أحدهما أقوى وأئمن في ذات الوقت، أو أن يفضل كل منهما الآخر في إحدى الصفتين فيجب الترجيح بينهما، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
الأمانة:
هي الديانة التي تورث في قلب مَن بيده الاختيار أن صاحبها سيحفظ ما اؤتمن عليه ويقوم بحقه، بيد أنا لم نؤمر بالشق عما في قلوب الناس، فمن أظهر لنا حسنًا؛ أحسنا به الظن، ومَن أظهر لنا سوءًا؛ أسأنا به الظن، فلنا الظاهر ونكل للباري السرائر.
القوة قوتان:
القوة الأولى على النفس: مِن الحلم والصبر، وضبط النفس وعدم تأثر اتخاذ القرار بالانفعالات والطبيعة الشخصية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (متفق عليه)، وقال عليه الصلاة والسلام: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» (متفق عليه).
وفي حرب الردة كان صاحب القرار فيها هو الصديق مع حلمه وأناته ورحمته: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي: أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ: عُمَرُ» (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وكان مِن أشد المعارضين له في البداية الفاروق عمر رضي الله عنه مع شدته وقوته، فكلاهما اجتهد في رؤية المصلحة وتطبيق الشرع على الواقع بتجرد عن انفعالاته وطبيعة شخصيته.
القوة الثانية على الغير: بكفاءته ومهارته التي تستلزمها كل ولاية، وليس في ذلك ضابط عام، بل كل ولاية بحسبها، فولاية القضاء غير ولاية الحرب، غير ولاية الأموال... غير الولاية العامة لأمر المسلمين.
إذا علمت الغاية سهل الاختيار:
مقصود الولاية: "إقامة الدين"، وليس مجرد السماح بإقامته، بل أخذ الناس على ذلك بالموعظة والتعليم والتيسير، والتدرج المنضبط بالشرع، وتهيئة النظام العام للإعانة على ذلك، فالدين متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا.
و"سياسة الدنيا بالدين" وإصلاح دنياهم التي لا يتمكن الناس من إقامة دينهم إلا بها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: "إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة!".
خارج المنافسة:
يخرج عن دائرة الاختيار مَن انعدمت عنده إحدى الصفتين فلا يُولَّى مثلاً كافر -وإن كان كفؤًا-؛ لأنه لا دين له ولا أمانة، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]، وكذلك لا يُولى جاهل القضاء -وإن كان أمينًا-؛ لانعدام القوة.
الأقوى أم الأئمن:
في كل ولاية بحسبها، فيقدم الأئمن في ولاية المال -وإن كان أقل كفاءة-، ويقدم الأكفأ في ولاية الحرب -وإن كان أقل أمانة-، كما قدم صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه على جيش فيه الصديق والفاروق رضي الله عنهما.
القيادة الجماعية:
إن تعذر ولم يتوافر واحد يفي بالأمر، فيمكن تقديم صاحب الكفاءة، ويُلزم بمشورة أهل الأمانة؛ لجبر النقص «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (متفق عليه)، كما كان نور الدين محمود، وصلاح الدين، وقطز، وغيرهم... كانوا رجّاعين دومًا لأهل العلم، فتم بولايتهم الخير العظيم للأمة، وحصل مقصود الولاية.
حكيم بطيء أم مقدام متهور:
س: لو كنا في معركة وعندنا قائدان بهذه الصفات فأيهما يقدم؟
ج: بحسب ظروف كل مناسبة، فإن كانت الخسائر المتوقعة عظيمة والضرر العائد على المسلمين مِن القرار بالغًا؛ قُدِّم الحكيم وتحملنا بطأه، وإن كان الأمر يستدعي مباغتة للعدو ونكاية سريعة؛ قدم المقدام، وتحملنا تهوره.
خالد... ورجل المرحلة:
قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه في إمارة الحرب، وتحت لوائه من العشرة المبشرين بالجنة، بل ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في سرية أرسلها بقيادته فقتل خالد متأولاً مَن قال صبأنا: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» (متفق عليه)، ثم بعد ذلك يوليه ثانية صلى الله عليه وسلم وعنده في الجيش من هو أئمن وأعلم منه رضي الله عنه؛ ذلك لأن معيار الكفاءة قدم هنا على الأمانة -وذلك عند غياب الأكفأ الأئمن في الوقت ذاته-، مع الأخذ في الاعتبار أن خالدًا كان متأولاً غير متعمد المعصية.
أمر جلل... واختيار صعب:
«مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ، إِلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم)، وكل منا لاسيما أهل العلم والدراية له نصيب مِن هذا الحديث، فكلنا على هذه الولاية واقف وصوته مؤثر في الاختيار، وإنها لأمانة لا بد أن تودع عند مَن يستطيع تحملها، ولو اختار أحدنا الأقل صلاحية فإنها خيانة لمن ورائه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
وقد اختلف الصديق والفاروق أفضل الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء في تقييم الأشخاص وتحديد الأصلح، إذ لما قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: "أَمِّرِ القَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ"، وقَالَ عُمَرُ: "بَلْ أَمِّرِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ... " (رواه البخاري).
وفي الفتنة التي ابتلي بها الصحابة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، بعض الصحابة رأى حقًا وبعضهم رأى خطأ، وبعضهم لم يرَ شيئًا، وكلهم مجتهد رضي الله عنهم أجمعين، فنسأل الله السداد والبصيرة.
مِن الكفاءة... عدم الطلب:
الكفء هو مَن يَقدر على تحمل أعباء الولاية والقيام بها، ومن بيَّن الوحي أنه لن يقدر على ذلك لحرمانه من عون الله -جل وعلا-، فهو أبعد الناس عن وصف الكفاءة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرَة رضي الله عنه: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ أُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» (متفق عليه).
إن ابني هذا سيد:
قطعًا الحسن بن علي رضي الله عنهما هو الأفضل أمانةً من معاوية رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أفضل كفاءة، فالصحابة ومَن تبقى مِن أهل الشورى الذين تركهم عمر رضي الله عنه هم الذين بايعوه على الخلافة؛ فهو الأكفأ والأئمن، ولكن لأن هناك مصلحة أعلى وهي حقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم؛ تنازل الحسن لمعاوية رضي الله عنهما، وفي كل خير؛ ولهذا كان سيدًا: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» (رواه البخاري).
المرجو المأمول... والواقع الممكن:
الكل يرجو ويأمل، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وقد يكون من حيثيات الواقع ما يمثل عقبات تمنع من اختيار مَن نتمناه، الذي لو خلا الأمر عن تلك الموانع؛ لكان هو المختار، وقد يضطر المرء لإتيان أقل المفسدتين لدفع أعظمهما، فبالأولى إتيان المفضول؛ لعدم التمكن من حصول الفاضل.
أي القضاة أنت؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، والحق هنا هو العلم بالأئمن والأكفأ، فإنه يحتاج علم بالشرع ودربة بالواقع، وإن كان الجاهل والمقلد ليس لهم تولي القضاء -والقضاء هو الحكم ولو بين اثنين وإن تضاءلت أهمية القضية-، فلا يقضي في هذا الأمر الجلل إلا أهله -أهل العلم المجتهدون، والناس في ذلك تبع لهم؛ لاسيما لو اجتمع أغلبهم على رأي فهو المقدم -إن شاء الله-، فإن لم يجتمعوا؛ فليتبع المقلد أوثق العلماء عنده متجردًا عن هواه في تحري الأوثق، فإنها شهادة، وستكتب شهادتهم ويسألون عنها.
فلنبقَ إخوانًا متحابين:
وأختم بقول الإمام الشافعي رحمه الله وقد اختلف مع بعض إخوانه فلقيه في الطريق فأخذ بيده، وقال: "أما يليق وإن اختلفنا أن نبقى إخوانًا". وقال: "ما ناظرت أحدًا إلا وأحببت أن يجري الحق على لسانه". وقال: "معي صواب يحتمل الخطأ، ومع خصمي خطأ يحتمل الصواب".
اللهم ولي أمورنا خيارنا، ولا تولي أمورنا شرارنا، ودبر لنا فإننا لا نملك من الأمر شيئًا، اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شر نفوسنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.