- الأربعاء ديسمبر 04, 2013 8:27 pm
#67803
ظاهرة سياسية على درجة كبيرة من الأهمية، تطورت في أوروبا بعد الثورة البلشفية، في فترة ما بين الحربين العالميتين. سيطرة الأنظمة الفاشية على السلطة في إيطاليا وألمانيا، واحتلال هتلر لأوروبا، جرّا على الشعوب الويلات والدمار الشامل، وقضيا على الحركة العمالية، ومارسا ابشع صور القمع والاحتلال.
ويطرح السؤال: ما مدى واقعية هذه الظاهرة في أيامنا؟
على خلفية الفوضى الاجتماعية والأزمة الاقتصادية التي تمر بها أوروبا اليوم، بدأ اليمين المتطرف يزيد قوته، وبدأت بالنمو الأحزاب الفاشية الجديدة كالفطر بعد المطر. معظم الحكومات الأوروبية مؤتلفة مع أحزاب اليمين الجديد التي تبني نفسها على القومية العمياء وكراهية الأجانب. ولكن، خلافاً للماضي، ليست هناك قوة، كالاتحاد السوفييتي، قادرة على الوقوف في طريق اليمين الجديد، وليست هناك حركة عمالية منظمة يمكنها مواجهة الظاهرة، فكراًَ وفعلاً. من هنا، فإن مناقشة هذه الظاهرة تكتسب أهمية كبرى.
الفاشية ظاهرة عالمية
الفاشية هي نظام دكتاتوري يعتمد على القومية العمياء المتطرفة، ويؤمن بالحروب والاحتلال كقيمة أساسية، وبالقضاء على كل من يهدد سلطة وتفوق الأمة السائدة وامتيازاتها.
الخلفية لنمو الفاشية الكلاسيكية كانت أفول أوروبا الرأسمالية، ونتائج الحرب العالمية الأولى التي تناطحت فيها الدول الكبرى للحصول على حصة اكبر من السوق العالمية المتقلصة. من جهة أخرى، ساد هناك خوف من الاتحاد السوفييتي ومن الحركة العمالية المنظمة التي حظيت بشعبية متزايدة بعد الحرب.
كيف حدث أن سقطت الأنظمة البرجوازية الديمقراطية في أوروبا، وهي التي نشأت على تراث الثورة الفرنسية، ولم تصمد أمام الزحف الفاشي؟
التفسير الوحيد، الذي لا يعتمد على التحليل النفسي أو الميتافيزيقي، هو التفسير الماركسي الذي يرى في الفاشية ابناً شرعيا للرأسمالية.
الأممية الشيوعية حددت أن الفاشية هي ظاهرة طبقية، في عام 1935: ” الفاشية ليست طريقة حكم قائمة فوق الطبقتين، البرجوازية والعاملة، كما وصفتها الاشتراكية الديمقراطية.. الفاشية هي قوة الرأسمال المالي ذاته“.. (قرارات المؤتمر السابع للأممية الشيوعية،1935).
طالما أن النظام البرجوازي قادر على ضمان أرباحه، وقادر في نفس الوقت على إدارة نظام ديمقراطي يمنح حقوقا معينة للعمال، فإنه يفضل الديمقراطية على الدكتاتورية. أما إذا تفاقمت الأزمة الاقتصادية، فإن التناقضات بين الطبقات تحتد مما يقود إلى مواجهة حتمية. ولا يعود بالإمكان التوفيق بين الطموح البرجوازي للربح وبين مصلحة العمال في الحفاظ على حقوقهم. في وضع الأزمة، يطغى طموح البرجوازية للربح على حبها للديمقراطية. في هذه اللحظة تصبح الفاشية جاهزة للسيطرة على مؤسسات الحكم.
كي يتحقق هذا السيناريو مطلوب توفر ثلاثة شروط:
الأول: دخول رجال المال والصناعة، القضاة، والجنرالات لمرحلة من اليأس والقلق إزاء اختلال النظام القائم، مما يدفعهم للتنازل عن أساليب الحكم “الاعتيادية“، وتسليمه لنظام عنيف يمكنه فرض النظام بكل ثمن.
الشرط الثاني: وجود فاشيين قادرين على إثبات قدرتهم على تشكيل أداة ناجعة بما فيه الكفاية لحماية مصالح رأس المال. ويسيطر الفاشيون على الشارع من خلال منظمات نصف عسكرية مؤلفة من عصابات إرهابية مسلحة. وتقود هذه العصابات وتؤطر جماهير البرجوازيين الصغار الذين افتقروا والعمال غير المنظمين. وكما قال غابلس، وزير الإعلام النازي: “من يسيطر على الشارع يسيطر على الجماهير، ومن يسيطر على الجماهير يسيطر على الدولة“.
أما الشرط الثالث فيتعلق بوجود طبقة عاملة ضعيفة ومنقسمة، بسبب البطالة المرتفعة والسياسة الخاطئة لقيادتها.
الفاشية الإيطالية
تأسست الحركة الفاشية في إيطاليا في آذار (مارس) 1919بمبادرة بنيتو موسوليني . الاسم الذي اختارته هذه الحركة لنفسها تحول إلى اسم الظاهرة ككل: فاشية. الكتائب الفاشية، التي سميت “القمصان السوداء“، كانت مؤلفة بالأساس من جنود مسرّحين وعناصر إجرامية، كان دورها زرع الإرهاب في صفوف العمال والقضاء على المعارضين السياسيين.
ومن سخرية الحدث أنه حتى عام 1914، تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان موسوليني قائداً مهما في الحزب الاشتراكي الإيطالي ومحرر الصحيفة الناطقة بلسانه، “افانتي“. وقد طُرد من الحزب بسبب مواقفه القومية المتطرفة ودعمه لمشاركة إيطاليا في الحرب العالمية الأولى.
إيطاليا كانت بالنسبة له “أمة عمالية” تعرضت للقمع من قبل دول أخرى، لذا فمن حقها الدفاع عن نفسها واحتلال مناطق إضافية تساعدها في انعاش اقتصادها.
البرنامج الفاشي الذي وضع عام 1919 تضمن دعما وحماسا للحرب الإمبريالية، وطالب بإقصاء الليبراليين عن الحكم الذين لم يمنحوا إيطاليا حصة كبيرة بما فيه الكفاية من غنيمة الحرب العالمية. في الانتخابات التي أجريت في نفس العام لم يحصد الفاشيون ولو مقعدا واحدا، وبدا وكأن موسوليني اقترب من نهايته.
في عام 1920 قام أنطونيو جرامشي الذي استقال هو أيضا من الحزب الاشتراكي، بتأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي. بعد مضي عام، وليس بالصدفة، حاز موسوليني في المعركة الانتخابية على 35 مقعدا. وقد نجح موسوليني بشق طريقه لسدة الحكم، مدعوما بعدد متزايد من الحكام ورجال الشرطة، الذين رأوا في الفاشيين القوة الوحيدة التي يمكنها وقف النفوذ المتنامي للشيوعية.
المعارك الضارية في الشوارع والمواجهات المستمرة التي بادرت إليها الكتائب الفاشية، أدت بالحكومة البرجوازية الليبرالية لإعلان حالة الطوارئ. في تشرين أول (أكتوبر) 1922 نظم موسوليني مسيرة مكونة من 25 ألفاً من مؤيدي “القمصان السوداء” الذين توجهوا إلى روما مطالبين بحل الحكومة. بعد يومين، في 30 تشرين أول (أكتوبر) 1922، عيّن الملك فيكتور عمانوئيل، موسوليني رئيسا للحكومة.
الفاشية الإيطالية في ذلك التاريخ لم تكن قد أحكمت سيطرتها التامة على إيطاليا. في الانتخابات التي أجريت في نيسان (إبريل) 1924، صوّت ثلث الناخبين الإيطاليين للأحزاب المعارضة للفاشية، رغم الإرهاب الذي زرعته “القمصان السوداء“. خلال ثلاث سنوات، أي حتى عام 1926، استمر قمع الحكومة لمؤسسات الحكم المنتخبة وقُتل القادة الذين عارضوا الفاشيين. في نيسان (إبريل) 1926 حُرّمت الإضرابات، سُنّت قوانين عمل جديدة وأُلغي الأول من أيار (مايو).
السياسة الخارجية التي اتبعها النظام الفاشي تجنبت خيار السلام، واعتبرته ظاهرة متعفنة. وبالمقابل، دعمت فكرة إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية القديمة، وطمحت لتوسيع مناطق نفوذ إيطاليا. حتى بداية الحرب العالمية الثانية، وإقامة محور برلين - روما - طوكيو، كانت إيطاليا قد احتلت أثيوبيا عام 1935، وحاربت مع نظام فرانكو الفاشي في إسبانيا بين الأعوام (1936م – 1939م)، واحتلت ألبانيا في نيسان (إبريل) 1939.
في أيلول 1939، عندما هاجم هتلر بولندا، معلناً بداية الحرب العالمية، انضمت إليهم إيطاليا وأعلنت الحرب على فرنسا وبريطانيا. وشارك الجيش الإيطالي في احتلال اليونان، يوغوسلافيا، روسيا وكورسيكا. وفي نهاية الحرب، عندما دخل الأنصار الإيطاليين إلى شمال إيطاليا، القي القبض على موسوليني. وفي نيسان (إبريل) 1945 أُعدم وعلقت جثته على عامود كهربائي في ساحة مدينة روما.
النازية في ألمانيا
الانتصار على الفاشية في إيطاليا كان، بلا شك، مقدمة لسيطرة النازيين على ألمانيا. الحزب الفاشي الألماني تأسس في ميونيخ في الخامس من كانون ثان (يناير 1919)، بعد أربعة أيام من تأسيس الحزب الشيوعي الألماني، واطلق على نفسه اسم “حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني“، واختصاره: الحزب النازي.
مؤسس الحزب، أدولف هتلر، كان ابنا لموظف حكومي صغير في النمسا. وقد فشل مرتين في محاولاته القبول إلى أكاديمية الفنون في فيينا. شارك هتلر في الحرب العالمية الأولى كجندي، وكسب رزقه من عمله في الدهان. وكان الفنان المحبط ناقما بشدة وصب كرهه على الأجانب، ولكنه بنفس الوقت كان مصابا بداء الغرور والعظمة. نجح في أن يجمع حوله جنودا مسرّحين، عاطلين عن العمل، برجوازيون صغار افتقروا وعناصر إجرامية. وكان هؤلاء متفقين في طموحاتهم التوسعية وقوميتهم العمياء.
في عام 1923 حاول هتلر وأعوانه إحداث انقلاب، غير أن المحاولة فشلت. بعد إلقاء القبض عليه حكم بالسجن لخمس سنوات، ثم أُطلق سراحه بعد مدة قصيرة. في السجن ألّف الجزء الأول من كتابه “كفاحي“، الذي تحول لبرنامج الحركة النازية. فشل الانقلاب دفع هتلر للجوء إلى الوسائل القانونية في سبيل الوصول إلى الحكم، فسعى لبناء حزب جماهيري وكسب تأييد الجيش وأوساط في البرجوازية. من جهة أخرى، أسس وحدات نصف عسكرية (اس. اس. واس. إيه.) لتزرع الإرهاب ضد معارضيه السياسيين. وقد نشطت هذه الوحدات إلى جانب تنظيمات جماهيرية أخرى أسسها هتلر لتأطير الشبيبة والنساء وسواهم.
مع نشوء الأزمة الاقتصادية عام 1929 عمل الإعلام النازي بقيادة غابلس بشكل مكثّف بهدف التحريض ضد الاشتراكيين والشيوعيين، واعداً العاطلين عن العمل الذين بلغ عددهم سبعة ملايين، بإحداث أماكن عمل؛ وواعداً البرجوازية الصغيرة المفتقرة والناقمة وشريحة المفكرين، بالصفقات التجارية وبوظائف اليهود؛ أما المزارعون فوعدهم بأسعار مستقرة لمنتوجاتهم، والصناعيون الكبار بتكثيف تسليح الجيش.
في كتاب “من أوصل هتلر للحكم” يكتب المؤرخ الصهيوني المعارض للماركسية، م. لنسكي: “رجال الصناعة والبنوك قدّموا لهتلر دعما ماليا كبيرا، ومكّنوا بذلك الحزب النازي من تنظيم حملته الإعلامية المسمومة ضد الجمهورية. دون هذا الدعم ما كان الحزب النازي ليحقق انتصاره الساحق في الانتخابات. وقد رأت الاحتكارات الكبرى ان الحركة النازية ستشكل وزنا مضادا للنقابات، وكانت قلقة تحديدا بسبب ضعف القوة الشرائية في الداخل. وقد وعدها هتلر بالتسلح والاستعداد للحرب“.
مع هذا، فلا يجب أن نرى في الأزمة الاقتصادية العامل الوحيد الذي أدى لصعود الفاشية في ألمانيا. فالأزمة كانت في كل العالم، والبطالة والفقر سادا دولا عديدة. أن السبب الذي مكّن هذا الحزب الرجعي والمجنون من الوصول للحكم في ألمانيا، كان ضعف الحركة العمالية. الحزب الأساسي الأقوى، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي دعم الحكومة الألمانية في الحرب العالمية الأولى، تخلى عن الاشتراكية وفضل عليها سياسة التعاون الطبقي. أما الشيوعيون ففقدوا الكثير من قوتهم في النقابات، بسبب الفصل الجماعي من أماكن العمل. كما انهم تبنوا موقفا خاطئا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي وصفوه ب“الاشتراكي النازي“.
في عام 1923 كان للنازيين اكثر من مليون عضو، واحتكموا على قوة عسكرية ضمت 400 ألف عنصر، وحازوا على دعم مطلق من “نادي النبلاء” الذي شمل أصحاب الرساميل الكبيرة الذين طمحوا إلى تغيير الدستور وخلق “نظام جديد“ يضع حدا لعدم الاستقرار في السوق الألمانية. ولم يقبل هتلر بأقل من منصب رئاسة الحكومة، وبعد سلسلة من الأحابيل والمؤامرات ، وبضغط من اليمين، لم يبق أمام الرئيس هيندنبرغ إلا أن ينزل عند إصراره ويعيّنه رئيسا للحكومة في 30 كانون أول ( ديسمبر) 1933. وسرعان ما غيّرت ألمانيا وجهها، وتحولت إلى( الرايخ ) مملكة الألماني النازي. في نيسان (إبريل) 1933 أُضرمت النار في مبنى (الرايخستاغ) البرلمان، فاستغلت الحكومة الحادث كمبرر لشن حملة اعتقالات لزعامات الأحزاب العمالية، وأخرجت الحزب الشيوعي عن القانون.
في أيار (مايو) تم تفكيك النقابات المستقلة، وأسست مكانها نقابات نازية، كما منعت الأحزاب، ما عدا الحزب النازي. وفي تشرين ثان (نوفمبر) 1933 حظي النازيون بـ 92% من أصوات الناخبين. ومن جملة ما فعلوا: إقامة معسكرات جُمّع فيها معارضو النظام واليهود؛ وسّعوا مجال نشاط الشرطة السرية، الجستابو، خلقوا أماكن عمل، وسّعوا الصناعة العسكرية، قضوا على البطالة واشرفوا على تحديد الأسعار. وقام الإعلام النازي بتحديد قِيَم المجتمع، وإدخالها إلى أجهزة التعليم والثقافة، وبهذه الطريقة سيطروا على حياة المجتمع من الفرد للمجموع.
وقد استحدث هتلر في الفاشية عنصرا لم يكن موجودا فيها من قبل، ألا وهو “نظرية العنصر“. فالفاشية الإيطالية لم تر في الإيطاليين عنصرا راقيا، وإنما رأت في إيطاليا أمة راقية. أما النازيون فرأوا في العنصر الآري، وفي الألمان تحديدا، العنصر الأرقى الذي عليه أن يشن الحروب المستمرة ضد العناصر الأخرى الأدنى منه. اليهود حسب هذه النظرية، يظهرون في آخر سلم العناصر، ولذا فلا بد من إبادتهم لانهم يفسدون العنصر الآري النقي. وقد اتهم اليهود بأمور متضاربة، فمن جهة اتهموا بالتواطؤ مع البلاشفة بهدف تدمير ألمانيا من الداخل، ومن جهة أخرى صُوّروا على انهم رأسماليون يمتصون دماء العمال الألمان. نظرية العنصر استخدمت كوسيلة ناجعة لتجنيد البرجوازية الصغيرة، العاطلين عن العمل، الشبيبة، النساء والعناصر الأضعف في المجتمع، إلى صفوف النازية.
ديميتروف وموقف الأممية الشيوعية
انتصار هتلر في ألمانيا هز كالزلزال الحركة الشيوعية في تلك الفترة. في عام 1935 عقد المؤتمر السابع للأممية الشيوعية، وفيه حدد الزعيم الشيوعي البلغاري غيورغي ديمتروف في خطابه الشهير موقف الشيوعية من الفاشية. موقف ديمتروف تحول فيما بعد إلى الموقف الكلاسيكي الماركسي من ظاهرة الفاشية. حسب وصف ديميتروف الفاشية هي: “دكتاتورية إرهابية تقودها العناصر الأكثر رجعية والأكثر قومية والأكثر استعمارية في النظام الرأسمالي“.
في وجه الخطر الفاشي دعا ديميتروف لا قامة جبهة عمالية موحدة ضد الفاشية، ووجّه انتقادا حادا لموقف الشيوعيين في ألمانيا الذين وصفوا الاشتراكية الديمقراطية بانها “فاشية اجتماعية“. حسب ديميتروف الفاشية هي هجوم همجي من قبل رأس المال على الطبقة العاملة. وأضاف ديميتروف في خطابه: “نقول لملايين العمال الذين يسألون: هل يمكننا التصدي للفاشية ودحرها؟ نعم، من الممكن التصدي لهذه الظاهرة لكن ذلك مرهون أولا بالعمل الفعال النضالي للطبقة العاملة وبوجود حزب ثوري قوي. الحزب الثوري يجب أن يكون مسلحا بسياسة صائبة تجاه الطبقة العاملة وتجاه الفلاحين، وإزاء جماهير الطبقات الوسطى في المدن أيضا” . المساهمة الرئيسية لديميتروف في خطابه كانت في طرح نقاط ضعف الفاشية: “الفاشية تعاني من تناقضات داخلية نابعة من طبيعتها التي تشكل انعكاسا للرأسمالية المحتضرة. على المدى البعيد تؤدي الفاشية إلى تفكك الرأسمالية“. حسب ديميتروف سيدخل النظام الفاشي في تناقض حاد مع قاعدته الجماهيرية، لأنه يدّعي انه يمثل كل شرائح المجتمع.
رغم كل ذلك من الخطأ التفكير بان الفاشية بعد انتصارها ستنهار بشكل تلقائي. فقط العمل الثوري الذي تقوده الطبقة العاملة من شأنه استغلال التناقضات الكامنة لا محالة في معسكر البرجوازية، بهدف زعزعة النظام الدكتاتوري الفاشي وإسقاطه.
في النقد الذاتي لسياسة الأحزاب الشيوعية تجاه الفاشية، قال ديميتروف انه لم يكن هناك اهتمام كاف بتربية الشبيبة، وبالتالي قامت الفاشية باستغلال ضعف الشباب للتغلغل في صفوفهم.
الحركة الشيوعية استهترت بخطر الفاشيين لأنها قدّرت انهم لن يتمكنوا من السيطرة على الحكم في الدول الديمقراطية البرجوازية الكلاسيكية.
الحرب الأهلية في إسبانيا
الدروس التي تم استخلاصها من انتصار الفاشية في ألمانيا طُبّقت في الحرب الأهلية في إسبانيا التي وقعت في السنوات 1936 – 1939. في تلك الفترة كانت الفاشية قد سيطرت في ألمانيا وإيطاليا دون قتال، أما في إسبانيا فقد استمر القتال لتحقيق نفس الهدف، ثلاث سنوات. فقد تجند للدفاع عن الجمهورية الإسبانية ضد جيش الجنرال فرانكو، زعيم الفاشية، 50 ألف متطوع من كل أنحاء العالم مدفوعين لتحقيق الشعار “الفاشية لن تمر“.
الدولة الوحيدة التي مدت انصار الجمهورية بالسلاح والأغذية والأدوية، كانت الاتحاد السوفييتي. في المقابل حارب 40 ألف جندي ألماني و 150ألف جندي إيطالي 140ألف جندي من المرتزقة المغاربة و20ألف جندي برتغالي إلى جانب الفاشيين. الولايات المتحدة أرسلت إلى الزعيم الفاشي فرانكو مئات آلاف الأطنان من الوقود خلال الحرب الأهلية.
الفظائع التي اقترفتها الطائرات الألمانية في المدينة الإسبانية غرنيكا، خُلّدت في اللوحة المعروفة للرسام بيكاسو، والتي تحولت إلى رمز للمعركة ضد الفاشية الهمجية. في نهاية الحرب الأهلية هُزمت الجمهورية، واعتبر ما حدث في إسبانيا امتحانا هاما لقوة ألمانيا الفاشية: لامبالاة الغرب تجاه الجرائم الفاشية في إسبانيا اعتبرت بالنسبة لهتلر ضوءً اخضر للتحرك، وفتحت أمامه الطريق للحرب العالمية الثانية.
الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية
سقطت أوروبا بيد الفاشية كالثمرة الناضجة. حكومة المحافظين في بريطانيا خشيت من الشيوعية اكثر من خوفها من طموحات التوسع الألمانية. سياسة السلم تجاه هتلر التي تبناها رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين، تكللت باتفاق ميونيخ عام 1938. في هذا الاتفاق منحت بريطانيا لهتلر الحق باحتلال تشيكوسلوفاكيا، في محاولة فاشلة لتحييد عداء هتلر لها. نتيجة لذلك، بقي الاتحاد السوفييتي معرضا لمخططات الحرب الألمانية.
عشية الغزو الألماني لبولندا، اجرى الاتحاد السوفييتي مفاوضات مع بريطانيا وفرنسا في محاولة لمنع نشوب الحرب، ولكن المفاوضات فشلت بسبب رفض دول الغرب خوض حرب ضد ألمانيا النازية ورفضها السماح للقوات السوفييتية بالمرور من الأراضي البولندية لمواجهة هتلر. كانت هذه خلفية الاتفاق الذي وقعه ستالين مع هتلر في الفترة الأولى من الحرب، والمعروف باتفاق ريبنتروب مولوتوف ( الأول كان وزير الخارجية الألماني والثاني وزير الخارجية السوفييتي). عدا بريطانيا وبعض الدول المحايدة، احتل النازيون أوروبا كلها. هولندا سقطت خلال خمسة أيام، واستسلمت فرنسا بعد أسبوعين. الحركات الفاشية التي كانت قائمة في هذه الدول، وتمتعت بحق النشاط القانوني، لعبت دورا مهما في مساعدة القوات النازية على السيطرة على الأمور، وفرض نظام القمع والإرهاب والقضاء على المعارضين، وتشكيل أنظمة عميلة، مثل نظام فيشي في فرنسا ونظام انتونسكو في رومانيا وهورتي في المجر وكويزليغ في النرويج. القوة التي أوقفت تقدم الزحف النازي كانت الجيش الأحمر السوفييتي وحده. حكومات الغرب رفضت فتح الجبهة الثانية رغم مطالب السوفييت الملحّة. خلال ثلاث سنوات حارب السوفييت بمفردهم في مواجهة الوحش النازي المدعوم من كل حلفاء ألمانيا آنذاك. المساعدة التي قدمتها أمريكا للاتحاد السوفييتي في هذه الحرب، كانت رمزية وهزيلة: مقابل 624 طن من الوقود التي قدمتها أمريكا لقوات فرانكو الفاشية في عام واحد، أرسلت أمريكا للسوفييت خلال الحرب كلها 70 ألف طن. زد على ذلك، أن الولايات المتحدة دخلت الحرب فقط بعد الهجوم الياباني على مينائها بيرل هاربور. خوف أمريكا من تقدم الجيش الأحمر هو الذي دفعها لدخول أوروبا لمنع انتشار الفكر الماركسي.
العصر الشيوعي ودولة الرفاه
بعد الحرب العالمية الثانية توصلت دول الغرب الصناعية لاستخلاص مفاده ان الطريقة الأفضل لضمان ولاء الطبقة العاملة، هي منح الامتيازات المادية وتوفير الخدمات الحكومية للمواطنين. النمو الاقتصادي السريع الذي اعقب الحرب العالمية، وانتهاء عصر الاستعمار المباشر، مهّدا لبروز أنظمة اشتراكية ديمقراطية تبنت نموذج “دولة الرفاه“. في هذه الحقبة بدأ الفكر السياسي الشائع يصف الفاشية بانها انحراف عن النظام البرجوازي الصائب، أو خطأ تاريخي.
اليوم يتبين من جديد أن الحقيقة ليست كذلك، وان الموقف الشيوعي من الفاشية كان صحيحا. المزيد من المتابعين للنظام الرأسمالي وطبيعته العدوانية، يتساءلون ما اذا كانت دولة الرفاه مرحلة توقف أو استراحة دخلتها الطموحات البرجوازية تحت تهديد النظام الشيوعي وخوفا من انتشار نفوذه.
منذ مطلع الثمانينات، ومع بروز علامات الأزمة الاقتصادية برزت قوة اليمين في بريطانيا (تاتشير) وألمانيا (كوهل) والولايات المتحدة (ريغان). اليوم يسيطر على أغلبية دول الاتحاد الأوروبي حكومات يمينية، وفي بعض الدول تشارك أحزاب فاشية أو يمينية متطرفة في الائتلافات الحكومية.
في الانتخابات الأخيرة بفرنسا حظيت الجبهة الوطنية الفاشية بقيادة جان ماري لوبين بنسبة 11.23% من الأصوات في الجولة الأولى. زعيم التحالف الوطني الإيطالي جانفرانكو فيني الذي يدعو لانتهاج سياسة عدائية صارمة تجاه المهاجرين والعمال الأجانب، تعين نائبا لرئيس الوزراء في حكومة برلوسكوني. برلوسكوني ليس الدكتاتور الفاشي الإيطالي موسوليني، لكنه وافق على إشراك فيني وحزبه الذي يؤيد بشكل علني موسوليني، ويشارك في ائتلافه امبرتو بوسي زعيم العصبة الشمالية الفاشية.
في أوروبا كلها يتم اليوم سن قوانين هجرة شديدة تمنح للسلطات صلاحيات لطرد المهاجرين، وذلك بتأثير الأحزاب اليمينية المتطرفة. الأمانة العامة للاتحاد الأوروبي التي تتخذ من بروكسل مقرا لها، اقترحت في ايار الماضي تشكيل قوة شرطة أوروبية متعددة القوميات، للحفاظ على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي من الهجرة غير القانونية. بهذه الطريقة تتغلغل الفاشية للقارة الأوروبية من جديد.
المزايا الأساسية في الفاشية القديمة موجودة في الحركات اليمينية المتطرفة الحالية. وتتمحور أوجه الاختلاف في أن وقود الفاشية اليوم هو كراهية الأجنبي أو الغريب، بينما كان في العشرينات والثلاثينات، معاداة الشيوعية والماركسية. الكراهية لسكان المستعمرات تحولت اليوم إلى معاملة عنصرية بحق اللاجئين من المستعمرات الذين اجبروا على الرحيل إلى أوروبا بحثا عن عمل. هذه هي الجذور الاستعمارية للفاشية الجديدة.
هناك ادعاء بان المقارنة بين الفاشية القديمة والجديدة غير واردة، لان الفاشية ظهرت في مطلع القرن العشرين كرد فعل على الحرب العالمية الأولى وعلى الثورة البلشفية. لكن علينا أن نذكر أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يلغ التناقض الطبقي. الفجوات المخيفة بين الدول الصناعية المتطورة وبين العالم الثالث الفقير تهدد استقرار وامن العالم. الصراعات الداخلية بين الدول الكبرى الرأسمالية نفسها ستتعمق، نتيجة سعي كل واحدة منها على السيطرة على أجزاء اكبر من السوق الآخذة بالانكماش. ليس من المستبعد أن تكتسي الأنظمة الغربية نفسها نتيجة هذه الصراعات أنماطاً فاشية.
ما يزيد القلق من إمكانية تحقق هذا التصور، هي اللامبالاة التي تتسم بها المجتمعات الغربية إزاء ظهور اليمين المتطرف الجديد. بعد 55 عاما من الكارثة الكبيرة التي أصيبت بها الحضارة الأوروبية التي غرقت في حمام الدماء نتيجة النظام الفاشي، تبرز من جديد نفس الأصوات ونفس الشعارات. ولكن، يبدو ان البرجوازية لم تتعلم شيئا من عبر الماضي.
الطبقة العاملة التي تبحث عن قيادة جديدة في المعركة المصيرية مع الفاشية، لا يمكنها ان تجد ضالّتها في الأحزاب اليسارية التقليدية التي فقدت البوصلة. كما تعجز مؤسسات المجتمع المدني عن توفير الجواب الصائب لخطر الفاشية، بسبب فقدانها مقومات النضال والبرنامج. الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية كانت القوة الوحيدة التي هزمت الفاشية في الأربعينات. وحدها الحركة التي تعتمد على هذه التجربة، وتتبنى الاستعداد الثوري لطرح البديل للنظام الرأسمالي، هي القادرة على التصدي لهذه الظاهرة الوحشية التي تنمو من جديد على تربة النظام الرأسمالي.
ويطرح السؤال: ما مدى واقعية هذه الظاهرة في أيامنا؟
على خلفية الفوضى الاجتماعية والأزمة الاقتصادية التي تمر بها أوروبا اليوم، بدأ اليمين المتطرف يزيد قوته، وبدأت بالنمو الأحزاب الفاشية الجديدة كالفطر بعد المطر. معظم الحكومات الأوروبية مؤتلفة مع أحزاب اليمين الجديد التي تبني نفسها على القومية العمياء وكراهية الأجانب. ولكن، خلافاً للماضي، ليست هناك قوة، كالاتحاد السوفييتي، قادرة على الوقوف في طريق اليمين الجديد، وليست هناك حركة عمالية منظمة يمكنها مواجهة الظاهرة، فكراًَ وفعلاً. من هنا، فإن مناقشة هذه الظاهرة تكتسب أهمية كبرى.
الفاشية ظاهرة عالمية
الفاشية هي نظام دكتاتوري يعتمد على القومية العمياء المتطرفة، ويؤمن بالحروب والاحتلال كقيمة أساسية، وبالقضاء على كل من يهدد سلطة وتفوق الأمة السائدة وامتيازاتها.
الخلفية لنمو الفاشية الكلاسيكية كانت أفول أوروبا الرأسمالية، ونتائج الحرب العالمية الأولى التي تناطحت فيها الدول الكبرى للحصول على حصة اكبر من السوق العالمية المتقلصة. من جهة أخرى، ساد هناك خوف من الاتحاد السوفييتي ومن الحركة العمالية المنظمة التي حظيت بشعبية متزايدة بعد الحرب.
كيف حدث أن سقطت الأنظمة البرجوازية الديمقراطية في أوروبا، وهي التي نشأت على تراث الثورة الفرنسية، ولم تصمد أمام الزحف الفاشي؟
التفسير الوحيد، الذي لا يعتمد على التحليل النفسي أو الميتافيزيقي، هو التفسير الماركسي الذي يرى في الفاشية ابناً شرعيا للرأسمالية.
الأممية الشيوعية حددت أن الفاشية هي ظاهرة طبقية، في عام 1935: ” الفاشية ليست طريقة حكم قائمة فوق الطبقتين، البرجوازية والعاملة، كما وصفتها الاشتراكية الديمقراطية.. الفاشية هي قوة الرأسمال المالي ذاته“.. (قرارات المؤتمر السابع للأممية الشيوعية،1935).
طالما أن النظام البرجوازي قادر على ضمان أرباحه، وقادر في نفس الوقت على إدارة نظام ديمقراطي يمنح حقوقا معينة للعمال، فإنه يفضل الديمقراطية على الدكتاتورية. أما إذا تفاقمت الأزمة الاقتصادية، فإن التناقضات بين الطبقات تحتد مما يقود إلى مواجهة حتمية. ولا يعود بالإمكان التوفيق بين الطموح البرجوازي للربح وبين مصلحة العمال في الحفاظ على حقوقهم. في وضع الأزمة، يطغى طموح البرجوازية للربح على حبها للديمقراطية. في هذه اللحظة تصبح الفاشية جاهزة للسيطرة على مؤسسات الحكم.
كي يتحقق هذا السيناريو مطلوب توفر ثلاثة شروط:
الأول: دخول رجال المال والصناعة، القضاة، والجنرالات لمرحلة من اليأس والقلق إزاء اختلال النظام القائم، مما يدفعهم للتنازل عن أساليب الحكم “الاعتيادية“، وتسليمه لنظام عنيف يمكنه فرض النظام بكل ثمن.
الشرط الثاني: وجود فاشيين قادرين على إثبات قدرتهم على تشكيل أداة ناجعة بما فيه الكفاية لحماية مصالح رأس المال. ويسيطر الفاشيون على الشارع من خلال منظمات نصف عسكرية مؤلفة من عصابات إرهابية مسلحة. وتقود هذه العصابات وتؤطر جماهير البرجوازيين الصغار الذين افتقروا والعمال غير المنظمين. وكما قال غابلس، وزير الإعلام النازي: “من يسيطر على الشارع يسيطر على الجماهير، ومن يسيطر على الجماهير يسيطر على الدولة“.
أما الشرط الثالث فيتعلق بوجود طبقة عاملة ضعيفة ومنقسمة، بسبب البطالة المرتفعة والسياسة الخاطئة لقيادتها.
الفاشية الإيطالية
تأسست الحركة الفاشية في إيطاليا في آذار (مارس) 1919بمبادرة بنيتو موسوليني . الاسم الذي اختارته هذه الحركة لنفسها تحول إلى اسم الظاهرة ككل: فاشية. الكتائب الفاشية، التي سميت “القمصان السوداء“، كانت مؤلفة بالأساس من جنود مسرّحين وعناصر إجرامية، كان دورها زرع الإرهاب في صفوف العمال والقضاء على المعارضين السياسيين.
ومن سخرية الحدث أنه حتى عام 1914، تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان موسوليني قائداً مهما في الحزب الاشتراكي الإيطالي ومحرر الصحيفة الناطقة بلسانه، “افانتي“. وقد طُرد من الحزب بسبب مواقفه القومية المتطرفة ودعمه لمشاركة إيطاليا في الحرب العالمية الأولى.
إيطاليا كانت بالنسبة له “أمة عمالية” تعرضت للقمع من قبل دول أخرى، لذا فمن حقها الدفاع عن نفسها واحتلال مناطق إضافية تساعدها في انعاش اقتصادها.
البرنامج الفاشي الذي وضع عام 1919 تضمن دعما وحماسا للحرب الإمبريالية، وطالب بإقصاء الليبراليين عن الحكم الذين لم يمنحوا إيطاليا حصة كبيرة بما فيه الكفاية من غنيمة الحرب العالمية. في الانتخابات التي أجريت في نفس العام لم يحصد الفاشيون ولو مقعدا واحدا، وبدا وكأن موسوليني اقترب من نهايته.
في عام 1920 قام أنطونيو جرامشي الذي استقال هو أيضا من الحزب الاشتراكي، بتأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي. بعد مضي عام، وليس بالصدفة، حاز موسوليني في المعركة الانتخابية على 35 مقعدا. وقد نجح موسوليني بشق طريقه لسدة الحكم، مدعوما بعدد متزايد من الحكام ورجال الشرطة، الذين رأوا في الفاشيين القوة الوحيدة التي يمكنها وقف النفوذ المتنامي للشيوعية.
المعارك الضارية في الشوارع والمواجهات المستمرة التي بادرت إليها الكتائب الفاشية، أدت بالحكومة البرجوازية الليبرالية لإعلان حالة الطوارئ. في تشرين أول (أكتوبر) 1922 نظم موسوليني مسيرة مكونة من 25 ألفاً من مؤيدي “القمصان السوداء” الذين توجهوا إلى روما مطالبين بحل الحكومة. بعد يومين، في 30 تشرين أول (أكتوبر) 1922، عيّن الملك فيكتور عمانوئيل، موسوليني رئيسا للحكومة.
الفاشية الإيطالية في ذلك التاريخ لم تكن قد أحكمت سيطرتها التامة على إيطاليا. في الانتخابات التي أجريت في نيسان (إبريل) 1924، صوّت ثلث الناخبين الإيطاليين للأحزاب المعارضة للفاشية، رغم الإرهاب الذي زرعته “القمصان السوداء“. خلال ثلاث سنوات، أي حتى عام 1926، استمر قمع الحكومة لمؤسسات الحكم المنتخبة وقُتل القادة الذين عارضوا الفاشيين. في نيسان (إبريل) 1926 حُرّمت الإضرابات، سُنّت قوانين عمل جديدة وأُلغي الأول من أيار (مايو).
السياسة الخارجية التي اتبعها النظام الفاشي تجنبت خيار السلام، واعتبرته ظاهرة متعفنة. وبالمقابل، دعمت فكرة إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية القديمة، وطمحت لتوسيع مناطق نفوذ إيطاليا. حتى بداية الحرب العالمية الثانية، وإقامة محور برلين - روما - طوكيو، كانت إيطاليا قد احتلت أثيوبيا عام 1935، وحاربت مع نظام فرانكو الفاشي في إسبانيا بين الأعوام (1936م – 1939م)، واحتلت ألبانيا في نيسان (إبريل) 1939.
في أيلول 1939، عندما هاجم هتلر بولندا، معلناً بداية الحرب العالمية، انضمت إليهم إيطاليا وأعلنت الحرب على فرنسا وبريطانيا. وشارك الجيش الإيطالي في احتلال اليونان، يوغوسلافيا، روسيا وكورسيكا. وفي نهاية الحرب، عندما دخل الأنصار الإيطاليين إلى شمال إيطاليا، القي القبض على موسوليني. وفي نيسان (إبريل) 1945 أُعدم وعلقت جثته على عامود كهربائي في ساحة مدينة روما.
النازية في ألمانيا
الانتصار على الفاشية في إيطاليا كان، بلا شك، مقدمة لسيطرة النازيين على ألمانيا. الحزب الفاشي الألماني تأسس في ميونيخ في الخامس من كانون ثان (يناير 1919)، بعد أربعة أيام من تأسيس الحزب الشيوعي الألماني، واطلق على نفسه اسم “حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني“، واختصاره: الحزب النازي.
مؤسس الحزب، أدولف هتلر، كان ابنا لموظف حكومي صغير في النمسا. وقد فشل مرتين في محاولاته القبول إلى أكاديمية الفنون في فيينا. شارك هتلر في الحرب العالمية الأولى كجندي، وكسب رزقه من عمله في الدهان. وكان الفنان المحبط ناقما بشدة وصب كرهه على الأجانب، ولكنه بنفس الوقت كان مصابا بداء الغرور والعظمة. نجح في أن يجمع حوله جنودا مسرّحين، عاطلين عن العمل، برجوازيون صغار افتقروا وعناصر إجرامية. وكان هؤلاء متفقين في طموحاتهم التوسعية وقوميتهم العمياء.
في عام 1923 حاول هتلر وأعوانه إحداث انقلاب، غير أن المحاولة فشلت. بعد إلقاء القبض عليه حكم بالسجن لخمس سنوات، ثم أُطلق سراحه بعد مدة قصيرة. في السجن ألّف الجزء الأول من كتابه “كفاحي“، الذي تحول لبرنامج الحركة النازية. فشل الانقلاب دفع هتلر للجوء إلى الوسائل القانونية في سبيل الوصول إلى الحكم، فسعى لبناء حزب جماهيري وكسب تأييد الجيش وأوساط في البرجوازية. من جهة أخرى، أسس وحدات نصف عسكرية (اس. اس. واس. إيه.) لتزرع الإرهاب ضد معارضيه السياسيين. وقد نشطت هذه الوحدات إلى جانب تنظيمات جماهيرية أخرى أسسها هتلر لتأطير الشبيبة والنساء وسواهم.
مع نشوء الأزمة الاقتصادية عام 1929 عمل الإعلام النازي بقيادة غابلس بشكل مكثّف بهدف التحريض ضد الاشتراكيين والشيوعيين، واعداً العاطلين عن العمل الذين بلغ عددهم سبعة ملايين، بإحداث أماكن عمل؛ وواعداً البرجوازية الصغيرة المفتقرة والناقمة وشريحة المفكرين، بالصفقات التجارية وبوظائف اليهود؛ أما المزارعون فوعدهم بأسعار مستقرة لمنتوجاتهم، والصناعيون الكبار بتكثيف تسليح الجيش.
في كتاب “من أوصل هتلر للحكم” يكتب المؤرخ الصهيوني المعارض للماركسية، م. لنسكي: “رجال الصناعة والبنوك قدّموا لهتلر دعما ماليا كبيرا، ومكّنوا بذلك الحزب النازي من تنظيم حملته الإعلامية المسمومة ضد الجمهورية. دون هذا الدعم ما كان الحزب النازي ليحقق انتصاره الساحق في الانتخابات. وقد رأت الاحتكارات الكبرى ان الحركة النازية ستشكل وزنا مضادا للنقابات، وكانت قلقة تحديدا بسبب ضعف القوة الشرائية في الداخل. وقد وعدها هتلر بالتسلح والاستعداد للحرب“.
مع هذا، فلا يجب أن نرى في الأزمة الاقتصادية العامل الوحيد الذي أدى لصعود الفاشية في ألمانيا. فالأزمة كانت في كل العالم، والبطالة والفقر سادا دولا عديدة. أن السبب الذي مكّن هذا الحزب الرجعي والمجنون من الوصول للحكم في ألمانيا، كان ضعف الحركة العمالية. الحزب الأساسي الأقوى، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي دعم الحكومة الألمانية في الحرب العالمية الأولى، تخلى عن الاشتراكية وفضل عليها سياسة التعاون الطبقي. أما الشيوعيون ففقدوا الكثير من قوتهم في النقابات، بسبب الفصل الجماعي من أماكن العمل. كما انهم تبنوا موقفا خاطئا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي وصفوه ب“الاشتراكي النازي“.
في عام 1923 كان للنازيين اكثر من مليون عضو، واحتكموا على قوة عسكرية ضمت 400 ألف عنصر، وحازوا على دعم مطلق من “نادي النبلاء” الذي شمل أصحاب الرساميل الكبيرة الذين طمحوا إلى تغيير الدستور وخلق “نظام جديد“ يضع حدا لعدم الاستقرار في السوق الألمانية. ولم يقبل هتلر بأقل من منصب رئاسة الحكومة، وبعد سلسلة من الأحابيل والمؤامرات ، وبضغط من اليمين، لم يبق أمام الرئيس هيندنبرغ إلا أن ينزل عند إصراره ويعيّنه رئيسا للحكومة في 30 كانون أول ( ديسمبر) 1933. وسرعان ما غيّرت ألمانيا وجهها، وتحولت إلى( الرايخ ) مملكة الألماني النازي. في نيسان (إبريل) 1933 أُضرمت النار في مبنى (الرايخستاغ) البرلمان، فاستغلت الحكومة الحادث كمبرر لشن حملة اعتقالات لزعامات الأحزاب العمالية، وأخرجت الحزب الشيوعي عن القانون.
في أيار (مايو) تم تفكيك النقابات المستقلة، وأسست مكانها نقابات نازية، كما منعت الأحزاب، ما عدا الحزب النازي. وفي تشرين ثان (نوفمبر) 1933 حظي النازيون بـ 92% من أصوات الناخبين. ومن جملة ما فعلوا: إقامة معسكرات جُمّع فيها معارضو النظام واليهود؛ وسّعوا مجال نشاط الشرطة السرية، الجستابو، خلقوا أماكن عمل، وسّعوا الصناعة العسكرية، قضوا على البطالة واشرفوا على تحديد الأسعار. وقام الإعلام النازي بتحديد قِيَم المجتمع، وإدخالها إلى أجهزة التعليم والثقافة، وبهذه الطريقة سيطروا على حياة المجتمع من الفرد للمجموع.
وقد استحدث هتلر في الفاشية عنصرا لم يكن موجودا فيها من قبل، ألا وهو “نظرية العنصر“. فالفاشية الإيطالية لم تر في الإيطاليين عنصرا راقيا، وإنما رأت في إيطاليا أمة راقية. أما النازيون فرأوا في العنصر الآري، وفي الألمان تحديدا، العنصر الأرقى الذي عليه أن يشن الحروب المستمرة ضد العناصر الأخرى الأدنى منه. اليهود حسب هذه النظرية، يظهرون في آخر سلم العناصر، ولذا فلا بد من إبادتهم لانهم يفسدون العنصر الآري النقي. وقد اتهم اليهود بأمور متضاربة، فمن جهة اتهموا بالتواطؤ مع البلاشفة بهدف تدمير ألمانيا من الداخل، ومن جهة أخرى صُوّروا على انهم رأسماليون يمتصون دماء العمال الألمان. نظرية العنصر استخدمت كوسيلة ناجعة لتجنيد البرجوازية الصغيرة، العاطلين عن العمل، الشبيبة، النساء والعناصر الأضعف في المجتمع، إلى صفوف النازية.
ديميتروف وموقف الأممية الشيوعية
انتصار هتلر في ألمانيا هز كالزلزال الحركة الشيوعية في تلك الفترة. في عام 1935 عقد المؤتمر السابع للأممية الشيوعية، وفيه حدد الزعيم الشيوعي البلغاري غيورغي ديمتروف في خطابه الشهير موقف الشيوعية من الفاشية. موقف ديمتروف تحول فيما بعد إلى الموقف الكلاسيكي الماركسي من ظاهرة الفاشية. حسب وصف ديميتروف الفاشية هي: “دكتاتورية إرهابية تقودها العناصر الأكثر رجعية والأكثر قومية والأكثر استعمارية في النظام الرأسمالي“.
في وجه الخطر الفاشي دعا ديميتروف لا قامة جبهة عمالية موحدة ضد الفاشية، ووجّه انتقادا حادا لموقف الشيوعيين في ألمانيا الذين وصفوا الاشتراكية الديمقراطية بانها “فاشية اجتماعية“. حسب ديميتروف الفاشية هي هجوم همجي من قبل رأس المال على الطبقة العاملة. وأضاف ديميتروف في خطابه: “نقول لملايين العمال الذين يسألون: هل يمكننا التصدي للفاشية ودحرها؟ نعم، من الممكن التصدي لهذه الظاهرة لكن ذلك مرهون أولا بالعمل الفعال النضالي للطبقة العاملة وبوجود حزب ثوري قوي. الحزب الثوري يجب أن يكون مسلحا بسياسة صائبة تجاه الطبقة العاملة وتجاه الفلاحين، وإزاء جماهير الطبقات الوسطى في المدن أيضا” . المساهمة الرئيسية لديميتروف في خطابه كانت في طرح نقاط ضعف الفاشية: “الفاشية تعاني من تناقضات داخلية نابعة من طبيعتها التي تشكل انعكاسا للرأسمالية المحتضرة. على المدى البعيد تؤدي الفاشية إلى تفكك الرأسمالية“. حسب ديميتروف سيدخل النظام الفاشي في تناقض حاد مع قاعدته الجماهيرية، لأنه يدّعي انه يمثل كل شرائح المجتمع.
رغم كل ذلك من الخطأ التفكير بان الفاشية بعد انتصارها ستنهار بشكل تلقائي. فقط العمل الثوري الذي تقوده الطبقة العاملة من شأنه استغلال التناقضات الكامنة لا محالة في معسكر البرجوازية، بهدف زعزعة النظام الدكتاتوري الفاشي وإسقاطه.
في النقد الذاتي لسياسة الأحزاب الشيوعية تجاه الفاشية، قال ديميتروف انه لم يكن هناك اهتمام كاف بتربية الشبيبة، وبالتالي قامت الفاشية باستغلال ضعف الشباب للتغلغل في صفوفهم.
الحركة الشيوعية استهترت بخطر الفاشيين لأنها قدّرت انهم لن يتمكنوا من السيطرة على الحكم في الدول الديمقراطية البرجوازية الكلاسيكية.
الحرب الأهلية في إسبانيا
الدروس التي تم استخلاصها من انتصار الفاشية في ألمانيا طُبّقت في الحرب الأهلية في إسبانيا التي وقعت في السنوات 1936 – 1939. في تلك الفترة كانت الفاشية قد سيطرت في ألمانيا وإيطاليا دون قتال، أما في إسبانيا فقد استمر القتال لتحقيق نفس الهدف، ثلاث سنوات. فقد تجند للدفاع عن الجمهورية الإسبانية ضد جيش الجنرال فرانكو، زعيم الفاشية، 50 ألف متطوع من كل أنحاء العالم مدفوعين لتحقيق الشعار “الفاشية لن تمر“.
الدولة الوحيدة التي مدت انصار الجمهورية بالسلاح والأغذية والأدوية، كانت الاتحاد السوفييتي. في المقابل حارب 40 ألف جندي ألماني و 150ألف جندي إيطالي 140ألف جندي من المرتزقة المغاربة و20ألف جندي برتغالي إلى جانب الفاشيين. الولايات المتحدة أرسلت إلى الزعيم الفاشي فرانكو مئات آلاف الأطنان من الوقود خلال الحرب الأهلية.
الفظائع التي اقترفتها الطائرات الألمانية في المدينة الإسبانية غرنيكا، خُلّدت في اللوحة المعروفة للرسام بيكاسو، والتي تحولت إلى رمز للمعركة ضد الفاشية الهمجية. في نهاية الحرب الأهلية هُزمت الجمهورية، واعتبر ما حدث في إسبانيا امتحانا هاما لقوة ألمانيا الفاشية: لامبالاة الغرب تجاه الجرائم الفاشية في إسبانيا اعتبرت بالنسبة لهتلر ضوءً اخضر للتحرك، وفتحت أمامه الطريق للحرب العالمية الثانية.
الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية
سقطت أوروبا بيد الفاشية كالثمرة الناضجة. حكومة المحافظين في بريطانيا خشيت من الشيوعية اكثر من خوفها من طموحات التوسع الألمانية. سياسة السلم تجاه هتلر التي تبناها رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين، تكللت باتفاق ميونيخ عام 1938. في هذا الاتفاق منحت بريطانيا لهتلر الحق باحتلال تشيكوسلوفاكيا، في محاولة فاشلة لتحييد عداء هتلر لها. نتيجة لذلك، بقي الاتحاد السوفييتي معرضا لمخططات الحرب الألمانية.
عشية الغزو الألماني لبولندا، اجرى الاتحاد السوفييتي مفاوضات مع بريطانيا وفرنسا في محاولة لمنع نشوب الحرب، ولكن المفاوضات فشلت بسبب رفض دول الغرب خوض حرب ضد ألمانيا النازية ورفضها السماح للقوات السوفييتية بالمرور من الأراضي البولندية لمواجهة هتلر. كانت هذه خلفية الاتفاق الذي وقعه ستالين مع هتلر في الفترة الأولى من الحرب، والمعروف باتفاق ريبنتروب مولوتوف ( الأول كان وزير الخارجية الألماني والثاني وزير الخارجية السوفييتي). عدا بريطانيا وبعض الدول المحايدة، احتل النازيون أوروبا كلها. هولندا سقطت خلال خمسة أيام، واستسلمت فرنسا بعد أسبوعين. الحركات الفاشية التي كانت قائمة في هذه الدول، وتمتعت بحق النشاط القانوني، لعبت دورا مهما في مساعدة القوات النازية على السيطرة على الأمور، وفرض نظام القمع والإرهاب والقضاء على المعارضين، وتشكيل أنظمة عميلة، مثل نظام فيشي في فرنسا ونظام انتونسكو في رومانيا وهورتي في المجر وكويزليغ في النرويج. القوة التي أوقفت تقدم الزحف النازي كانت الجيش الأحمر السوفييتي وحده. حكومات الغرب رفضت فتح الجبهة الثانية رغم مطالب السوفييت الملحّة. خلال ثلاث سنوات حارب السوفييت بمفردهم في مواجهة الوحش النازي المدعوم من كل حلفاء ألمانيا آنذاك. المساعدة التي قدمتها أمريكا للاتحاد السوفييتي في هذه الحرب، كانت رمزية وهزيلة: مقابل 624 طن من الوقود التي قدمتها أمريكا لقوات فرانكو الفاشية في عام واحد، أرسلت أمريكا للسوفييت خلال الحرب كلها 70 ألف طن. زد على ذلك، أن الولايات المتحدة دخلت الحرب فقط بعد الهجوم الياباني على مينائها بيرل هاربور. خوف أمريكا من تقدم الجيش الأحمر هو الذي دفعها لدخول أوروبا لمنع انتشار الفكر الماركسي.
العصر الشيوعي ودولة الرفاه
بعد الحرب العالمية الثانية توصلت دول الغرب الصناعية لاستخلاص مفاده ان الطريقة الأفضل لضمان ولاء الطبقة العاملة، هي منح الامتيازات المادية وتوفير الخدمات الحكومية للمواطنين. النمو الاقتصادي السريع الذي اعقب الحرب العالمية، وانتهاء عصر الاستعمار المباشر، مهّدا لبروز أنظمة اشتراكية ديمقراطية تبنت نموذج “دولة الرفاه“. في هذه الحقبة بدأ الفكر السياسي الشائع يصف الفاشية بانها انحراف عن النظام البرجوازي الصائب، أو خطأ تاريخي.
اليوم يتبين من جديد أن الحقيقة ليست كذلك، وان الموقف الشيوعي من الفاشية كان صحيحا. المزيد من المتابعين للنظام الرأسمالي وطبيعته العدوانية، يتساءلون ما اذا كانت دولة الرفاه مرحلة توقف أو استراحة دخلتها الطموحات البرجوازية تحت تهديد النظام الشيوعي وخوفا من انتشار نفوذه.
منذ مطلع الثمانينات، ومع بروز علامات الأزمة الاقتصادية برزت قوة اليمين في بريطانيا (تاتشير) وألمانيا (كوهل) والولايات المتحدة (ريغان). اليوم يسيطر على أغلبية دول الاتحاد الأوروبي حكومات يمينية، وفي بعض الدول تشارك أحزاب فاشية أو يمينية متطرفة في الائتلافات الحكومية.
في الانتخابات الأخيرة بفرنسا حظيت الجبهة الوطنية الفاشية بقيادة جان ماري لوبين بنسبة 11.23% من الأصوات في الجولة الأولى. زعيم التحالف الوطني الإيطالي جانفرانكو فيني الذي يدعو لانتهاج سياسة عدائية صارمة تجاه المهاجرين والعمال الأجانب، تعين نائبا لرئيس الوزراء في حكومة برلوسكوني. برلوسكوني ليس الدكتاتور الفاشي الإيطالي موسوليني، لكنه وافق على إشراك فيني وحزبه الذي يؤيد بشكل علني موسوليني، ويشارك في ائتلافه امبرتو بوسي زعيم العصبة الشمالية الفاشية.
في أوروبا كلها يتم اليوم سن قوانين هجرة شديدة تمنح للسلطات صلاحيات لطرد المهاجرين، وذلك بتأثير الأحزاب اليمينية المتطرفة. الأمانة العامة للاتحاد الأوروبي التي تتخذ من بروكسل مقرا لها، اقترحت في ايار الماضي تشكيل قوة شرطة أوروبية متعددة القوميات، للحفاظ على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي من الهجرة غير القانونية. بهذه الطريقة تتغلغل الفاشية للقارة الأوروبية من جديد.
المزايا الأساسية في الفاشية القديمة موجودة في الحركات اليمينية المتطرفة الحالية. وتتمحور أوجه الاختلاف في أن وقود الفاشية اليوم هو كراهية الأجنبي أو الغريب، بينما كان في العشرينات والثلاثينات، معاداة الشيوعية والماركسية. الكراهية لسكان المستعمرات تحولت اليوم إلى معاملة عنصرية بحق اللاجئين من المستعمرات الذين اجبروا على الرحيل إلى أوروبا بحثا عن عمل. هذه هي الجذور الاستعمارية للفاشية الجديدة.
هناك ادعاء بان المقارنة بين الفاشية القديمة والجديدة غير واردة، لان الفاشية ظهرت في مطلع القرن العشرين كرد فعل على الحرب العالمية الأولى وعلى الثورة البلشفية. لكن علينا أن نذكر أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يلغ التناقض الطبقي. الفجوات المخيفة بين الدول الصناعية المتطورة وبين العالم الثالث الفقير تهدد استقرار وامن العالم. الصراعات الداخلية بين الدول الكبرى الرأسمالية نفسها ستتعمق، نتيجة سعي كل واحدة منها على السيطرة على أجزاء اكبر من السوق الآخذة بالانكماش. ليس من المستبعد أن تكتسي الأنظمة الغربية نفسها نتيجة هذه الصراعات أنماطاً فاشية.
ما يزيد القلق من إمكانية تحقق هذا التصور، هي اللامبالاة التي تتسم بها المجتمعات الغربية إزاء ظهور اليمين المتطرف الجديد. بعد 55 عاما من الكارثة الكبيرة التي أصيبت بها الحضارة الأوروبية التي غرقت في حمام الدماء نتيجة النظام الفاشي، تبرز من جديد نفس الأصوات ونفس الشعارات. ولكن، يبدو ان البرجوازية لم تتعلم شيئا من عبر الماضي.
الطبقة العاملة التي تبحث عن قيادة جديدة في المعركة المصيرية مع الفاشية، لا يمكنها ان تجد ضالّتها في الأحزاب اليسارية التقليدية التي فقدت البوصلة. كما تعجز مؤسسات المجتمع المدني عن توفير الجواب الصائب لخطر الفاشية، بسبب فقدانها مقومات النضال والبرنامج. الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية كانت القوة الوحيدة التي هزمت الفاشية في الأربعينات. وحدها الحركة التي تعتمد على هذه التجربة، وتتبنى الاستعداد الثوري لطرح البديل للنظام الرأسمالي، هي القادرة على التصدي لهذه الظاهرة الوحشية التي تنمو من جديد على تربة النظام الرأسمالي.