مفهوم الأمن في نظرية العلاقات الدولية
مرسل: الأربعاء ديسمبر 04, 2013 9:14 pm
أدت نهاية الحرب الباردة، وبشكل ملحوظ، إلى نشوء نظام عالمي جديد، فخلال الحرب الباردة برزت القوتان العظميان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وأثرتا في مسار العلاقات الدولية لأزيد عن أربعين عاما. وقد كان الهدف الاستراتيجي لكليهما حماية أقاليمها من أي تهديد نووي، إلا أن نهاية الحرب الباردة أجبرتهما على إدخال تغييرات في تصوراتهما الأمنية والاستراتيجية.
نهاية الحرب الباردة، بالنسبة لـ "فرانسيس فوكوياما"، كانت بمثابة انتصار للديمقراطية والرأسمالية، وهي بذلك تعبر عن نهاية التاريخ. بمعنى أن التاريخ دخل مرحلته النهائية كنتيجة لانتصار الولايات المتحدة وحلفائها وسقوط الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية الأخرى. وطالما أن الأمن العالمي على المحك، فإنه كان على العالم أن يتعامل مع وضع شبيه ببداية التاريخ. وباختصار، فقد تتوجب على باحثي العلاقات الدولية أن يعيدوا النظر في تصوراتهم النظرية حول الأمن. ما حدى بـ "ستيفن وولت" إلى وسم هذه المرحلة بمرحلة "النهضة للدراسات الأمنية"، في إشارة منه إلى ما تمثله من تطور في حقل العلاقات الدولية. ومن خلال النقاشات التي أثيرت حول مفهوم الأمن، يمكن الخلوص إلى أن المقاربة النقدية يمكنها التعامل مع أي تهديد في العلاقات الدولية.
وسوف يتم عرض بعض محاور التصور النقدي للأمن، ولكن سيتم في المقام الأول استعراض التصور الواقعي الذي هيمن على هذا الحقل المعرفي، ليتبع بتصور الأمن الجماعي ونظرية السلام الديمقراطي، وأخيرا سيتم تحديد مقتضيات الأمن النقدي في الوقت الحالي.
الواقعية في العلاقات الدولية
سيتم استعراض التصور الواقعي وفحص نظرته للأمن في العلاقات الدولية. الواقعية هي الطريقة التي يتم وفقها النظر إلى العلاقات الدولية كعلاقات قوة. ويتعين علينا الرجوع إلى اليونان القديمة والصين إذا أردنا تتبع جذور هذه النظرية. إذ أسسّ" توسيديدس" للواقعية ولعلاقات القوة التي تقوم عليها عبر تأريخه للحرب التي دارت رحاها بين أثينا وإسبرطا، والتي عرفت بـ"الحرب البيلونيزية"، وقد قال في هذا الصدد أن: "إرساء معايير العدالة يعتمد على نوع القوة التي تسندها، وفي الواقع، فإن القوي يفعل ما تمكنه قوته من فعله، أما الضعيف فليس عليه سوى تقبل ما لا يستطيع رفضه". وبدوره أسدى "سان تسو"، الاستراتيجي الصيني الذي عاش في زمن "مو تي"، النصح للحاكم وكيفية صيانة بقائه، واستعمال القوة لتعزيز مصالحه خلال زمن الحرب، وهذا لأول مرة في التاريخ. وبعدها بقرون، في إيطاليا عصر النهضة، كتب الفيلسوف الإيطالي "نيكولا ميكيافيلي" حول القوة وصيانة الدول لوجودها وهذا في معرض استشاراته للأمير الذي كان يعيش وضعا مماثلا لوضع الصين القديمة زمن سان تسو، وفي كتابه "الأمير" نصح ميكيافيلي الحاكم بجعل القوة والحالة الأمنية فوق كل اعتبار، ونحن اليوم نستعمل مصطلح الميكيافيلية لوسم استخدامات القوة بشكل مفرط بهدف التحكم في الأمور. وفي عام 1700، أوجد الفيلسوف السياسي الإنجليزي "توماس هوبز" تصور "حالة الفطرة" و"الليفياتان" وأظهر أن الحروب والنزاعات بين الدول شيء لا يمكن تجنبه. ويعني "الليفياتان" ما نحتاجه لـ "إقرار النظام وإنهاء الفوضى المميزة لحالة الفطرة"، ويمكن أن يلعب هذا الدور "حاكم أعلى" أو "سلطة الدولة"، ويرتئي هوبز أن الإنسان الذي يعيش "حالة الفطرة"، إنما يعيش وضعا يقاتل فيه الكل بعضهم بعضا.
هذه الرؤية أثرت في التصور الواقعي للعلاقات الدولية، وهذه الصورة حول الفرد تنطبق على العلاقات بين الدول، لأنه لا وجود لـ "الليفياتان" أو القوة الفوقية. وبهذا فإن النظام العالمي الذي تتفاعل فيه الدولة دون سلطة فوقية يمكن أن يصبح فوضويا تتصارع فيه الدول من أجل القوة وفق منطق "الكل ضد بعضهم البعض". إذن، وبحسب هوبز، فإن الدول، كفاعلين في العلاقات الدولية، تبدوا في حالة صراع دائم فيما بينها من أجل القوة. وهذا ما يجعل من الفاعلين من غير الدول كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، والمنظمات غير الحكومية وغيرها لا تعتبر فاعلين من المنظور الواقعي. ونسمي هذه الحالة بالافتراض دولاتي–التمركز (أي متمحور حول الدولة). إن دور الدولة في هذه الوضعية يتمثل في حماية نفسها من الدول الأخرى، وذلك مرادف للأمن "القومي"، الذي يتمحور حول امتلاك القوة الكفيلة بحماية مصالح دولة معينة من أعدائها. وهذا ما جعل من الواقعية صراعا حول القوة في العلاقات الدولية. إذ أن النزاعات الدولية، من وجهة النظر هذه، رافقت التاريخ البشري، فعندما تحاول الدول الصراع من أجل القوة لحماية نفسها ومصالحها المحددة بزيادة مستويات القوة لديها، فهي بحاجة في ذلك إلى قرارات عقلانية حول الأمن، والهدف من ذلك هو سعيها الدائم لتعزيز مصالحها، فالدول كفاعل في العلاقات الدول يجب أن تكون عقلانية، ويمكن اختصار كل ذلك في خمس نقاط:
1- استقيت الرؤى الواقعية من الكتابات القديمة لمفكرين مثل: سان تسو، ثوسيديديس، وهوبز.
2- الواقعية صراع من أجل القوة في العلاقات الدولية لأنه لا وجود لقوة فوقية.
3- تعتبر الدول، من المنظور الواقعي، أهم الفاعلين على الإطلاق.
4- تحتاج الدول للأمن (القومي) لحماية مصالحها الوطنية ويدخل ضمن هذا الإطار سعيها لاكتساب القوة.
5- الدول فواعل عقلانيون يسعون لتعظيم الفوائد وتقليص التكاليف المتلازمة مع سعيها لتحقيق أهدافها.
الأمن الجماعي والسلام الديمقراطي
الليبرالية هي من المنظورات التي تمتلك تصورا أمنيا مخالفا للواقعية. هذا الاتجاه يعتبر الأمن القومي والتحالفات نتاجا لتطبيق المنظور الواقعي. لكن الليبيراليين يمتلكون تصورا بديلا يتمثل في الأمن الجماعي وهو، وفقا لـ قولدستين، يتمثل في "تشكيل تحالف موسع يضم أغلب الفاعلين الأساسيين في النظام الدولي بقصد مواجهة أي فاعل آخر". وقد وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أسس هذا التصور قبل قرنين من الزمن، عندما اقترح إنشاء فديرالية تضم دول العالم، حيث تتكتل غالبية الدول الأعضاء لمعاقبة أية دولة تعتدي على دولة أخرى. وهذا يعني أن الدول الأعضاء في منظومة الأمن الجماعي ستتعاون مع بعضها البعض ضد أية دولة تسعى لتحقيق مصالح ضيقة. وهي الفكرة التي استند إليها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في تصوره لعالم يسوده السلام. وهو الذي قرر بعد نهاية الحرب العالمية الأولى إنشاء عصبة الأمم لتعزيز السلام في العالم في ظل الصور المروعة لضحايا الحرب. وقد صرح في جانفي 1918 بضرورة أن تقوم هذه العصبة على 14 ركيزة ستقود إلى نظام عالمي مستقر لما بعد الحرب، بما فيها ضمان حق الاستقلال للبلدان الصغيرة التي كانت ضحية لنظام توازن القوى، وإضافة إلى إنشاء منظمة دولية تسهر على إقرار الأمن كبديل لنظام توازن القوى.
لكن ولسوء الحظ، فقد أدت الفاشية في كل من ألمانيا واليابان إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الحين لم يتمكن نظام الأمن الجماعي من فرض نفسه تاركا المجال للأمن القومي والتحالفات التي ميزت العالم خلال فترة الحرب الباردة. على أن العديد من البلدان عملت في هذه الفترة على إنشاء منظمات للأمن الجماعي في مواجهة منظور الأمن القومي، وهذا ليس بهدف تعزيز أمنها العسكري فحسب بل الاقتصادي والثقافي أيضا، ومن بينها الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية وغيرها. بل إن الأمم المتحدة في حد ذاتها أنشأت في المقام الأول للعب دور منظمة أمن جماعي وذلك على الرغم من هيمنة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. ومما سبق فإن الأمن الجماعي يؤدي نظريا أربعة وظائف:
1- الرد على أي عدوان أو أية محاولة لفرض الهيمنة- ولا يتعلق الأمر فقط بالأفعال التي تستهدف بلدانا بعينها.
2- يتم إشراك كل الدول الأعضاء وليس ما يكفي من الأعضاء لصد المعتدي.
3- تنظيم رد عسكري – ولا يترك للدول منفردة تحديد ما تراه إجراءات مناسبة تخصها وحدها.
ورغم وجود الكثير من العقبات في وجه تجسيد الأمن الجماعي، إلا أن هذا التصور الكانطي لا يزال قائما، وقد ثارت العديد من النقاشات حول هذه المسألة، والتي تصاعدت حدتها مع "نظرية السلام الديمقراطي" و"المجموعة الأمنية التعددية"، فضلا عن "نظام العصور الوسطى الجديد" الذي أبرزته سياسات ما بعد الحرب الباردة. لكن ومهما اختلفت التسميات إلا أن هذه التصورات تشترك في نقطة واحدة وهي أن البلدان الديمقراطية لا تلجأ إلى الحرب ضد بعضها البعض.
مع نهاية الحرب الباردة انساقت الدولة–الأمة تدريجيا بعيدا عن تبني الصيغة القديمة للأمن القومي ساعية إلى إيجاد صيغ أخرى للأمن، لأنه أصبح يتعين على هذا المفهوم أن يكون مجهزا للتعامل مع الأزمات الإقليمية، وأزمة الغذاء، وأزمة الطاقة، وأزمة التلوث البيئي وغيرها. هذه الأزمات الأربعة تعتبر حساسة جدا للحياة الإنسانية.
التصور النقدي للأمن
احتدام النقاش بين التصورين الواقعي والليبرالي للأمن والتحولات الحديثة أثارت الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن في إطار الأمن النقدي. هذا المفهوم يجد جذوره في النظرية النقدية التي وضع أسسها منظرو مدرسة فرانكفورت من أمثال "ماكس هوركهاير"، و"تيودور أدورنو" و"يورقن هابرماس". وتقدم المقاربات النقدية نفسها على أنها أكثر اهتماما بعرض أزمة استعراض الظواهر في الفكر الغربي (التنويري) وبالخصوص القضايا المتعلقة بالأسس، والنهايات، والاختلاف، وسلم المعرفة والرأي، والروايات الكبرى وغيرها، كما تدعي أن لديها الأدوات التحليلية الكفيلة بتوضيح المسار الذي أخذه النقاش حول مفهوم الأمن ليأخذ شكله النهائي من خلال الأمن النقدي.
وفي هذا الصدد يقول "كين بوث" إن: "طريقتي في التعامل مع هذا النقاش النقدي هو أنني أرحب بأية مقاربة تمكننا من مواجهة المعايير المشؤومة للدراسات الاستراتيجية للحرب الباردة، للوصول في نهاية الأمر إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن، طالما أن هناك التزاما بـ"الانعتاق" (مقابل ترك موازين القوة كما هي). وفي هذا الاتجاه، فإن بوث يرى أن الأمن يعني "الانعتاق". وهكذا فإن التصور المحوري حول أمن العهد الجديد مرادف للانعتاق، والذي يعني، حسب كين بوث، "تحرير الشعوب من القيود التي تعيق مسعاها للمضي قدما في اتجاه تجسيد خياراتها، ومن بين هذه القيود: الحرب، والفقر، والاضطهاد ونقص التعليم وغيرها كثير". وبالنتيجة فإن الأمن النقدي يمكنه أن يتعامل مع أي من التهديدات التي لم تؤخذ بعين الاعتبار، مثل الكوارث الطبيعية والفقر، وذلك لأن النقاش الأمني القائم، وبالأخص الواقعية وفكرها الدولاتي–التمركز، لا يمكنها من التعامل مع أي تهديد آخر عدا النزاع بين الدول.
خلاصة
إذن، وبناء على ما سبق، فإن تصور الأمن ارتبط بالواقعية، والذي يقوم على افتراض أن الأمن يتحقق بواسطة الدولة–الأمة، وبأن ذلك يحول دون نشوب النزاعات بين الدول. لكن بعد الحرب الباردة، أثارت القضايا الجديدة إشكاليات عديدة بالنسبة لمفهوم الأمن كالكوارث الطبيعية والفقر. ونحن الآن بحاجة إلى تصور الأمن النقدي لإقرار مصادر مشكلاتنا، ولتحديد حلول لها، ثم حلها بهدف تعزيز رفاهيتنا.
نهاية الحرب الباردة، بالنسبة لـ "فرانسيس فوكوياما"، كانت بمثابة انتصار للديمقراطية والرأسمالية، وهي بذلك تعبر عن نهاية التاريخ. بمعنى أن التاريخ دخل مرحلته النهائية كنتيجة لانتصار الولايات المتحدة وحلفائها وسقوط الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية الأخرى. وطالما أن الأمن العالمي على المحك، فإنه كان على العالم أن يتعامل مع وضع شبيه ببداية التاريخ. وباختصار، فقد تتوجب على باحثي العلاقات الدولية أن يعيدوا النظر في تصوراتهم النظرية حول الأمن. ما حدى بـ "ستيفن وولت" إلى وسم هذه المرحلة بمرحلة "النهضة للدراسات الأمنية"، في إشارة منه إلى ما تمثله من تطور في حقل العلاقات الدولية. ومن خلال النقاشات التي أثيرت حول مفهوم الأمن، يمكن الخلوص إلى أن المقاربة النقدية يمكنها التعامل مع أي تهديد في العلاقات الدولية.
وسوف يتم عرض بعض محاور التصور النقدي للأمن، ولكن سيتم في المقام الأول استعراض التصور الواقعي الذي هيمن على هذا الحقل المعرفي، ليتبع بتصور الأمن الجماعي ونظرية السلام الديمقراطي، وأخيرا سيتم تحديد مقتضيات الأمن النقدي في الوقت الحالي.
الواقعية في العلاقات الدولية
سيتم استعراض التصور الواقعي وفحص نظرته للأمن في العلاقات الدولية. الواقعية هي الطريقة التي يتم وفقها النظر إلى العلاقات الدولية كعلاقات قوة. ويتعين علينا الرجوع إلى اليونان القديمة والصين إذا أردنا تتبع جذور هذه النظرية. إذ أسسّ" توسيديدس" للواقعية ولعلاقات القوة التي تقوم عليها عبر تأريخه للحرب التي دارت رحاها بين أثينا وإسبرطا، والتي عرفت بـ"الحرب البيلونيزية"، وقد قال في هذا الصدد أن: "إرساء معايير العدالة يعتمد على نوع القوة التي تسندها، وفي الواقع، فإن القوي يفعل ما تمكنه قوته من فعله، أما الضعيف فليس عليه سوى تقبل ما لا يستطيع رفضه". وبدوره أسدى "سان تسو"، الاستراتيجي الصيني الذي عاش في زمن "مو تي"، النصح للحاكم وكيفية صيانة بقائه، واستعمال القوة لتعزيز مصالحه خلال زمن الحرب، وهذا لأول مرة في التاريخ. وبعدها بقرون، في إيطاليا عصر النهضة، كتب الفيلسوف الإيطالي "نيكولا ميكيافيلي" حول القوة وصيانة الدول لوجودها وهذا في معرض استشاراته للأمير الذي كان يعيش وضعا مماثلا لوضع الصين القديمة زمن سان تسو، وفي كتابه "الأمير" نصح ميكيافيلي الحاكم بجعل القوة والحالة الأمنية فوق كل اعتبار، ونحن اليوم نستعمل مصطلح الميكيافيلية لوسم استخدامات القوة بشكل مفرط بهدف التحكم في الأمور. وفي عام 1700، أوجد الفيلسوف السياسي الإنجليزي "توماس هوبز" تصور "حالة الفطرة" و"الليفياتان" وأظهر أن الحروب والنزاعات بين الدول شيء لا يمكن تجنبه. ويعني "الليفياتان" ما نحتاجه لـ "إقرار النظام وإنهاء الفوضى المميزة لحالة الفطرة"، ويمكن أن يلعب هذا الدور "حاكم أعلى" أو "سلطة الدولة"، ويرتئي هوبز أن الإنسان الذي يعيش "حالة الفطرة"، إنما يعيش وضعا يقاتل فيه الكل بعضهم بعضا.
هذه الرؤية أثرت في التصور الواقعي للعلاقات الدولية، وهذه الصورة حول الفرد تنطبق على العلاقات بين الدول، لأنه لا وجود لـ "الليفياتان" أو القوة الفوقية. وبهذا فإن النظام العالمي الذي تتفاعل فيه الدولة دون سلطة فوقية يمكن أن يصبح فوضويا تتصارع فيه الدول من أجل القوة وفق منطق "الكل ضد بعضهم البعض". إذن، وبحسب هوبز، فإن الدول، كفاعلين في العلاقات الدولية، تبدوا في حالة صراع دائم فيما بينها من أجل القوة. وهذا ما يجعل من الفاعلين من غير الدول كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، والمنظمات غير الحكومية وغيرها لا تعتبر فاعلين من المنظور الواقعي. ونسمي هذه الحالة بالافتراض دولاتي–التمركز (أي متمحور حول الدولة). إن دور الدولة في هذه الوضعية يتمثل في حماية نفسها من الدول الأخرى، وذلك مرادف للأمن "القومي"، الذي يتمحور حول امتلاك القوة الكفيلة بحماية مصالح دولة معينة من أعدائها. وهذا ما جعل من الواقعية صراعا حول القوة في العلاقات الدولية. إذ أن النزاعات الدولية، من وجهة النظر هذه، رافقت التاريخ البشري، فعندما تحاول الدول الصراع من أجل القوة لحماية نفسها ومصالحها المحددة بزيادة مستويات القوة لديها، فهي بحاجة في ذلك إلى قرارات عقلانية حول الأمن، والهدف من ذلك هو سعيها الدائم لتعزيز مصالحها، فالدول كفاعل في العلاقات الدول يجب أن تكون عقلانية، ويمكن اختصار كل ذلك في خمس نقاط:
1- استقيت الرؤى الواقعية من الكتابات القديمة لمفكرين مثل: سان تسو، ثوسيديديس، وهوبز.
2- الواقعية صراع من أجل القوة في العلاقات الدولية لأنه لا وجود لقوة فوقية.
3- تعتبر الدول، من المنظور الواقعي، أهم الفاعلين على الإطلاق.
4- تحتاج الدول للأمن (القومي) لحماية مصالحها الوطنية ويدخل ضمن هذا الإطار سعيها لاكتساب القوة.
5- الدول فواعل عقلانيون يسعون لتعظيم الفوائد وتقليص التكاليف المتلازمة مع سعيها لتحقيق أهدافها.
الأمن الجماعي والسلام الديمقراطي
الليبرالية هي من المنظورات التي تمتلك تصورا أمنيا مخالفا للواقعية. هذا الاتجاه يعتبر الأمن القومي والتحالفات نتاجا لتطبيق المنظور الواقعي. لكن الليبيراليين يمتلكون تصورا بديلا يتمثل في الأمن الجماعي وهو، وفقا لـ قولدستين، يتمثل في "تشكيل تحالف موسع يضم أغلب الفاعلين الأساسيين في النظام الدولي بقصد مواجهة أي فاعل آخر". وقد وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أسس هذا التصور قبل قرنين من الزمن، عندما اقترح إنشاء فديرالية تضم دول العالم، حيث تتكتل غالبية الدول الأعضاء لمعاقبة أية دولة تعتدي على دولة أخرى. وهذا يعني أن الدول الأعضاء في منظومة الأمن الجماعي ستتعاون مع بعضها البعض ضد أية دولة تسعى لتحقيق مصالح ضيقة. وهي الفكرة التي استند إليها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في تصوره لعالم يسوده السلام. وهو الذي قرر بعد نهاية الحرب العالمية الأولى إنشاء عصبة الأمم لتعزيز السلام في العالم في ظل الصور المروعة لضحايا الحرب. وقد صرح في جانفي 1918 بضرورة أن تقوم هذه العصبة على 14 ركيزة ستقود إلى نظام عالمي مستقر لما بعد الحرب، بما فيها ضمان حق الاستقلال للبلدان الصغيرة التي كانت ضحية لنظام توازن القوى، وإضافة إلى إنشاء منظمة دولية تسهر على إقرار الأمن كبديل لنظام توازن القوى.
لكن ولسوء الحظ، فقد أدت الفاشية في كل من ألمانيا واليابان إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الحين لم يتمكن نظام الأمن الجماعي من فرض نفسه تاركا المجال للأمن القومي والتحالفات التي ميزت العالم خلال فترة الحرب الباردة. على أن العديد من البلدان عملت في هذه الفترة على إنشاء منظمات للأمن الجماعي في مواجهة منظور الأمن القومي، وهذا ليس بهدف تعزيز أمنها العسكري فحسب بل الاقتصادي والثقافي أيضا، ومن بينها الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية وغيرها. بل إن الأمم المتحدة في حد ذاتها أنشأت في المقام الأول للعب دور منظمة أمن جماعي وذلك على الرغم من هيمنة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. ومما سبق فإن الأمن الجماعي يؤدي نظريا أربعة وظائف:
1- الرد على أي عدوان أو أية محاولة لفرض الهيمنة- ولا يتعلق الأمر فقط بالأفعال التي تستهدف بلدانا بعينها.
2- يتم إشراك كل الدول الأعضاء وليس ما يكفي من الأعضاء لصد المعتدي.
3- تنظيم رد عسكري – ولا يترك للدول منفردة تحديد ما تراه إجراءات مناسبة تخصها وحدها.
ورغم وجود الكثير من العقبات في وجه تجسيد الأمن الجماعي، إلا أن هذا التصور الكانطي لا يزال قائما، وقد ثارت العديد من النقاشات حول هذه المسألة، والتي تصاعدت حدتها مع "نظرية السلام الديمقراطي" و"المجموعة الأمنية التعددية"، فضلا عن "نظام العصور الوسطى الجديد" الذي أبرزته سياسات ما بعد الحرب الباردة. لكن ومهما اختلفت التسميات إلا أن هذه التصورات تشترك في نقطة واحدة وهي أن البلدان الديمقراطية لا تلجأ إلى الحرب ضد بعضها البعض.
مع نهاية الحرب الباردة انساقت الدولة–الأمة تدريجيا بعيدا عن تبني الصيغة القديمة للأمن القومي ساعية إلى إيجاد صيغ أخرى للأمن، لأنه أصبح يتعين على هذا المفهوم أن يكون مجهزا للتعامل مع الأزمات الإقليمية، وأزمة الغذاء، وأزمة الطاقة، وأزمة التلوث البيئي وغيرها. هذه الأزمات الأربعة تعتبر حساسة جدا للحياة الإنسانية.
التصور النقدي للأمن
احتدام النقاش بين التصورين الواقعي والليبرالي للأمن والتحولات الحديثة أثارت الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن في إطار الأمن النقدي. هذا المفهوم يجد جذوره في النظرية النقدية التي وضع أسسها منظرو مدرسة فرانكفورت من أمثال "ماكس هوركهاير"، و"تيودور أدورنو" و"يورقن هابرماس". وتقدم المقاربات النقدية نفسها على أنها أكثر اهتماما بعرض أزمة استعراض الظواهر في الفكر الغربي (التنويري) وبالخصوص القضايا المتعلقة بالأسس، والنهايات، والاختلاف، وسلم المعرفة والرأي، والروايات الكبرى وغيرها، كما تدعي أن لديها الأدوات التحليلية الكفيلة بتوضيح المسار الذي أخذه النقاش حول مفهوم الأمن ليأخذ شكله النهائي من خلال الأمن النقدي.
وفي هذا الصدد يقول "كين بوث" إن: "طريقتي في التعامل مع هذا النقاش النقدي هو أنني أرحب بأية مقاربة تمكننا من مواجهة المعايير المشؤومة للدراسات الاستراتيجية للحرب الباردة، للوصول في نهاية الأمر إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن، طالما أن هناك التزاما بـ"الانعتاق" (مقابل ترك موازين القوة كما هي). وفي هذا الاتجاه، فإن بوث يرى أن الأمن يعني "الانعتاق". وهكذا فإن التصور المحوري حول أمن العهد الجديد مرادف للانعتاق، والذي يعني، حسب كين بوث، "تحرير الشعوب من القيود التي تعيق مسعاها للمضي قدما في اتجاه تجسيد خياراتها، ومن بين هذه القيود: الحرب، والفقر، والاضطهاد ونقص التعليم وغيرها كثير". وبالنتيجة فإن الأمن النقدي يمكنه أن يتعامل مع أي من التهديدات التي لم تؤخذ بعين الاعتبار، مثل الكوارث الطبيعية والفقر، وذلك لأن النقاش الأمني القائم، وبالأخص الواقعية وفكرها الدولاتي–التمركز، لا يمكنها من التعامل مع أي تهديد آخر عدا النزاع بين الدول.
خلاصة
إذن، وبناء على ما سبق، فإن تصور الأمن ارتبط بالواقعية، والذي يقوم على افتراض أن الأمن يتحقق بواسطة الدولة–الأمة، وبأن ذلك يحول دون نشوب النزاعات بين الدول. لكن بعد الحرب الباردة، أثارت القضايا الجديدة إشكاليات عديدة بالنسبة لمفهوم الأمن كالكوارث الطبيعية والفقر. ونحن الآن بحاجة إلى تصور الأمن النقدي لإقرار مصادر مشكلاتنا، ولتحديد حلول لها، ثم حلها بهدف تعزيز رفاهيتنا.