منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#67825
يحبذ معظم باحثوا العلوم الاجتماعية رؤية مساهمة أعمالهم في حل أبرز المشكلات ، بالنسبة لباحثي العلاقات الدولية فمن المؤكد عدم وجود نقص في القضايا التي تحتاج منهم الى معالجة : النزاعات الإثنية والدينية ، تسيير عالم الاقتصاد الهش ، الارهاب الكوني ، التغيّر المناخي ، انتشار أسلحة الدار الشامل ، أزمة اليورو الخ ... فالقائمة غير منتهية . تجعلنا هذه التعقيدات المتزايدة و استمرار الخلافات المتعلقة بالنظام العالمي نعتقد أن الخبرة الاكاديمية بخصوص الشؤون الدولية تحظى بتقدير عال ، سنتصور المنظرين الأكاديميين و هم يعملون لساعات إضافية لأجل إيجاد الحلول العملية لكثير من مشكلات العالم الحقيقي كما يلعبون دورا بارزا في النقاشات العامة حول السياسة الخارجية . لكن لا يبدو في هذه الآونة بأنّها محورا لاهتمام أغلبهم . يتذمر صناع السياسة الأوائل من المعرفة الأكاديمية فإمّا يرونها غير ذات أهمية و إمّا أنّها صعبة الإدراك ، فعادة ما تجدها محصورة ضمن دائرة ضيقة من النقاشات الاكاديمية ، و قد ادعى أحد الاكاديميين مؤخرا أن : " الباحثين صاروا أكثر تركيزا على عالمهم الأكاديمي من العالم الحقيقي " .
لم يكن هذا هو الوضع الذي كنتُ أتوقعه لما قررت متابعة الدكتورة في العلوم السياسية ربيع سنة 1976 ، حينها كانت الدراسة آنذاك ضمن برنامج جامعة ستانفورد الخارجي ألى برلين بألمانيا . لقد كانت العلاقات الدولية هي تخصصي الأساسي – الأوّلي- و قد كنتُ حينها مشتتا بين الدراسات العليا في العلوم السياسية أو متابعة الدراسة القانونية هروبا من المجازفة . محاضرة حول المثقفين في حقبة فايمار ألقاها المؤرخ جوردن كرايغ رجّحت الموازين : لقد حاجج كرايغ بأنّ العديد من المثقفين الألمان انسحبوا في تلك الحقبة من الحياة العامة – معتبرين السياسة شيء فاسد و دنيء – و قد ساعد تخليهم هذا على تمهيد الطريق أمام نشأة النازية . كنتُ حينها شابا و مثاليا " أو ساذجا كما يقول البعض " إذ عزمتُ الحصول على الدكتورة لأحاول بعدها اعتماد البحث الأكاديمي بهدف التأثير على أهم قضايا السياسة العامة .
مرّت قرابة الثلاثين سنة منذ حصولي على الدكتورة ، في هذا الوقت صرتُ مقتنعا بإمكانية منظومة البحث العلمي على التحقق و التأكد من الحقائق النهائية و الكشف عنها كذلك ، تلك الحقائق المتعلقة بالسياسة الدولية و السياسة الخارجية ، و من شأن هذه الكشوفات أن تصنع سياسة مجتمعية جيدة بإمكانها أن تستوعب المجتمع بسرعة فتبني على أساسها وصفات صحيحة . بمرور الوقت اكتسبتُ احتراما كبيرا لحدود ما يمكن أن تقدمه العلوم الاجتماعية و تقدير آخر لقدرة السياسة المجتمعية على عقلنة الخطاب ، خصوصا بالولايات المتحدة . حتى و إن كان للباحثين قدرة على إنتاج تحليلات أكثر إقناعا متجاوزة بذلك المصالح الراسخة التي ترسم ما يختاره صناع السياسة القيام به ، فليست المسألة بالأمر الهيّن .
بالرغم من أن هذا الموضوع لم يطبع مساري الأكاديمي بأي طريقة واعية ، إلا أنّه يمكن أن يُتتبع من خلال عملي . لقد كان عملي الأساسي –الأول- عن تشكّل الأحلاف " أصول الأحلاف ، 1987 " يسعى لإيجاد حلول لبعض المعضلات النظرية التّي تتمحور في قلب النقاشات السياسية المتكررة حول استخدام القوة في السياسة الخارجية الأمريكية . حاججتُ حينها أنّ الإدعاء القائل بأنّ الدول تميل إلى سياسة الانضمام to bandwagon "التحالف مع الطرف الأقوى أو مع القوى المُهدِّدة " كان عادة ما يُستعمل لتبرير استخدام القوة بشكل واسع مُحافظةً على مصداقية الولايات المتحدة و الحيلولة دون انشقاق الحلفاء و انضمامهم إلى الكتلة السوفياتية . إذا كانت الدول في مقابل ذلك تسعى إلى التوازن في مواجهة التهديد فلن تكون مصداقية الولايات المتحدة ذات أهمية ، كما أنّه لن يكون من الضرورة الدخول في حروب قتالية مُكلفة في محيطها . لقد كان التدخل الأمريكي مبرَّرا أيضا بالحاجة المتصوّرة و ذلك للحيلولة دون اكتساب الحكومات اليسارية عنصر القوة انطلاقا من الإيمان بأنّ هذه الأنماط من الأنظمة تتجه إيديولوجيا للتحالف مع موسكو .
بيّنت أبحاثي أنّ سياسة التوازن كانت أكثر شيوعا من سياسة الانضمام , و قد كانت خلاصتي السياسية الأولية أنّه وبسبب كون الولايات المتحدة تحظى بأفضلية جيوبوليتيكية هائلة على الإتحاد السوفياتي فإنّها لن تكون في حاجة إلى التدخل في دول العالم الثالث بدواعي المصداقية و بالتالي بوسعها أن يكون لها على العموم نظرة أكثر أريحية بخصوص احتياجاتها الأمنية . لقد حظي الكتاب بترحيب جيّد في العالم الأكاديمي كما استرعى انتباها متواضعا داخل الدوائر السياسية مع ذلك فإنّه من الصعوبة بمكان أن نميّز تأثيرا مباشرا له على السياسة الخارجية الأمريكية .
قام العمل اللاحق "الثورة و الحرب ، 1996 " بتفعيل نظرية توازن التهديد حتّى يفسّر لم تقود الثورات الداخلية إلى تزايد التنافس الأمني و تُصعّد خطر الحرب . كانت البداية مرّة أخرى مع معضلة سياسية : لمِا كان صناع السياسة الأمريكيون على أهبة الاستعداد بخصوص الثورات الداخلية ، و لما كان لواشنطن علاقات فاترة مع ثوريي روسيا ، الصين ، كوبا ، إيران و غيرهم ... ؟ لقد وجدتُ أنّ الثورات تقوم بصياغة حسابات توازن القوة بطريقة أكثر تعقيدا ، تُطلق العنان لسوء الإدراك المتبادل و الذّي يجعل استخدام القوة يبدو ضروريا و مُغريا و عادة ما يُصعّد من مستويات التنافس الأمني ، كما يزيد من خطر الحرب . حاججتُ حينها بأنّه من المحتمل أن تكبح استراتيجيات " التغاضي عن الخيّرين " " benevolent neglect " من التأثيرات ، و تُمّكن الولايات المتحدة "وغيرها" من احتواء تأثير الانقلابات والاضطرابات الثورية بشكل أقل تكلفة و خطرا . وبغّض النظر عن مزايا هذه الحجج فإنّ مؤشرات التأثير السياسي كانت بين ضعيفة و منعدمة .
"في ترويض القوة الأمريكية : الاستجابة الكونية للصدارة الأمريكية" ، سعيتُ في هذا الكتاب –الصادر سنة 2005"- إلى شرح و تفسير طريقة استجابة الأصدقاء و الأعداء كذلك ، للتمركزات غير العادية للهيمنة و التّي باشرتها الولايات المتحدة عقِِب زوال الإتحاد السوفياتي . ما سبب توجّس حلفاء الولايات المتحدة من التفوق الأمريكي و ما هي الإستراتيجيات التّي وظّفها هؤلاء الحلفاء و الخصوم لتحاشي القوة الأمريكية أو لاستغلالها خدمةً لغاياتها الخاصة ؟ فبالرغم من عدم اقتصار هذا العمل على المفاهيم الخالصة للواقعية إلاّ أنّه عكس مع ذلك أساسا ذلك الحس الواقعي : حتّى و إن كانت السياسة الخارجية الأمريكية مدفوعة بأهداف نبيلة فقد لا تأخذها الدول الأخرى على أنّها كذلك ، أهدافا نبيلة . فلتقليص مناوئة التفوق والصدارة الأمريكية وضمان المشاركة العادلة لحلفاء الولايات المتحدة الأساسيين في تحمّل أعباء الأمن الجماعي المشترك حاججتُ لأجل تبني إستراتيجية كبرى قائمة على "التوازن خارج المجال" “offshore balancing” والتّي بإمكانها أن تُقلص الوجود العسكري الكوني للولايات المتحدة ، كما تجنّبها أيضا حروبا طويلة ومُكلفة في مناطق ذات أهمية إستراتيجية هامشية . لقد غدت هذه الوصفة أكثر قوة و مُحاججةً عقِب الأزمة المالية سنة 2007 وبعد فشل الحملة العسكرية على كل من العراق وأفغانستان ، كانت هذه الأحداث هي ما دفعت الولايات المتحدة باتجاه تبني إستراتيجية كبرى أكثر ذكاءً و ليست بلاغة كلماتي .
أخيرا كان عملي المشترك مع جون ميرشايمر عن تأثير اللوبي الإسرائيلي و الذّي انبثق عن تحليل واقعي محض وأحد الأعمال الناذرة التّي عكست أصولنا الواقعية المشتركة . من وجهة نظرنا المشتركة فإنّ "العلاقات الخاصة و المتميّزة" بين الولايات المتحدة و إسرائيل لم تكن من قبيل المصالح الإستراتيجية للدولة في منظورها البعيد ، وبالتالي لم تكن متّسقة مع المبادئ الأساسية للواقعية ، لذلك و بالنسبة للواقعيين فإنّ التأييد المسرف و الغير مشروط الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل ما هو إلاّ شذوذ يحتاج إلى تفسير . جادلنا آنذاك بأنّ ذلك راجع مبدئيا إلى نفوذ و تأثير قوى خاصة ، مجموعات مصالح معينة داخل الولايات المتحدة . لقد حظي الكتاب آنذاك بأعلى المبيعات و ساعد على فتح نقاش طال انتظاره حول هذا الموضوع ، مع ذلك فلا يبدو أنّ هذا العمل قد أحدث تأثيرا واسعا أو بعيد المدى على أي من اللوبي أو هذه العلاقات الخاصة المتميزة .
بما تُوحي لي هذه الخبرات و غيرها فيما يتعلق بمسألة العلاقة بين النظرية و الممارسة ؟ أوّل الدروس استخلاصا –مع بعض الإحباط- هو ذلك التأثير النسبي الضئيل للنظريات الأكاديمية –بما فيها عملي الخاص- سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر على سلوك الدولة الراهن . قد يحدّث الباحثين أنفسهم أنّهم " يقولون الحقائق للسلطة" لكن في معظم الأحيان فإنّ السلطة لا تُصغي إليهم . فلنضرب مثالا واضحا و الذي كنتُ على صلة به ، لم تحظى جهود مجموعتين بارزتين لباحثين في الدراسات الأمنية بأي تأثير ملموس في معارضتها لقرار غزو العراق سنة 2003 ، إذ لم تتمكن من التأثير على إدارة بوش في توجّهها نحو الحرب ، في حين ساند كثير من الديمقراطيين بحماسة بالغة مسعى الرئيس بوش .
لما تحظى الكتابات الأكاديمية في موضوع السياسة الخارجية بمثل هذا التأثير المحدود ؟ للإجابة عن هذا السؤال فلننظر أوّلا فيما يمكن أن تساهم به النظرية ، ثمّ لنبحث بعدها عن سبب هذا التأثير النسبي المتواضع .

2- مكانة و دور النظرية في العملية السياسية :
نحن نعيش في عالم شديد التعقيد ، حريٌ فيه أن يحاول صناع السياسة كل يوم معرفةُ أيُّ الأحداث تستحق انتباههم أكثر و أيُّ الأشياء تحتمل بطبيعتها التأجيل ، كما يجب عليهم أن يختاروا أهدافهم البعيدة و كذا الأدوات السياسية التّي يعتقدون بأفضليتها في بلوغ تلك الأهداف . وللقيام بذلك كلّه فإنّهم يرتكزون على معرفة واقعية محضة –أي مستقاة من العالم الحقيقي- "مثلا : ما هو ميزان المدفوعات الراهن ؟ ، ما كمية اليورانيوم المخصّب الذي بحوزة إيران ؟ " بل و حتّى تقسيمات بسيطة : " مثلا : التعديليون في مواجهة قوى الستاتيكو " ، فقواعد العمل تُستخلص انطلاقا من الخبرة العملية أو من مبادئ إمبريقية مستقِرة بشكل جيّد ، سواءً كانوا مدركين ذلك أم لا فإنّ صناع السياسة يستخدمون دوما ما تُقدمه النظريات بشكل ضمني أو صريح ، والتّي تسعى لتحديد ماهية العلاقات السببية بين متغيرين أو أكثر من متغيرات المصلحة .
لقد توقفت الحوارات السياسية اليوم عن مناقشة الإدعاءات النظرية بسبب الضعف النسبي لنظريات العلاقات الدولية المعاصرة ، فقد أثبتت التجارب العملية صعوبتها وعدم جدواها ، على سبيل المثال : ففي تسعينيات القرن المنصرم ظلّت الحجج المتباينة حول طريقة الاستجابة لحرب البلقان مرتهنة بمنافسة نظرية –بين النظريات- عن أسباب النزاع الإثني هناك . و اليوم فإنّ وصفات متباينة حول سُبل التعامل مع الصعود الصيني تظّل محصورة بين نظريات متنافسة في السياسة العالمية . بين تفضيل الواقعيين لتصميم و إعداد سلوكات وقائية لاحتواء التطلعات الصينية ، وبين دعاوي سياسية ليبرالية تُصمَّم بهدف تعزيز علاقات الاعتماد المتبادل ، وبين دعاوي بنائية تبحثُ عن طريقة "لتمدين" " "socialize الصين إجتماعيا في معاييرها ومؤسساتها القائمة .
هذه نقاشات مهمة لأنّها تعتمد على نظريات "وهمية زائفة" " relying on bogus theories " بإمكانها أن تؤدّي بالدول إلى مشكلة عميقة . قبل الحرب العالمية الأولى جادل كتاب"خطر النظرية" للأميرال الألماني ألفريد فون تريبيتز بأنّ التوسع البحري بإمكانه أن يضع البحرية الملكية في خطر و يردع بريطانيا العظمي من مواجهة التطلعات الألمانية . لقد قادت هذه السياسة بريطانيا في حقيقة الأمر إلى اصطفاف جد مكلف مع أعداء ألمانيا . لقد ساعدت السمعة السيئة "لنظرية الدومينو" على تبرير كلفة التورط الامريكي في الهند الصينية وكذا للتدخلات الطائشة غير الحكيمة في أمريكا الوسطى ، مثلما أدّى كذلك الإيمان الساذج للمحافظين الجدد بإمكانية نشر الديمقراطية عبر القوة العسكرية إلى تمهيد الطريق أمام كارثة العراق .
وبالطبع فالعكس صحيح أيضا : فالنظريات الجيّدة عادة ما ينتج عنها نتائج سياسية جيّدة . لقد ساعدت نظرية ريكاردو عن التجارة الحرة في زيادة النمو الاقتصادي العالمي ، كما شكّلت نظرية الردع النووي التّي طُوّرت في خمسينيات القرن المنصرم العديد من أوجه السياسة الدفاعية لولايات المتحدة ، كما غالبا ما قلّصت في الوقت الراهن خطر حدوث حرب نووية .
أيُّ نظرية تُعّدُ نظرية جيّدة من وجهة نظر صنّاع السياسة ؟
ينبغي على أي نظرية جيّدة أن تكون متناسقة منطقيا و صالحة إمبريقيا . "مثلا ينبغي أن تحتوي برهانا متاحا" ، ينبغي أيضا أن تكون قادرة على مساعدة صناع السياسة في فهم الظواهر التي يمكن أن تكون غير مفهومة . "هذا ما نعنيه بالقوة التفسيرية للنظرية" . فالنظريات مفيدة جدّا لصناع السياسة حينما يتعاملون مع الظواهر المهمة , وكذا حينما تحتوي على متغيرات يكون لصناع السياسة عليها قدرا من النفوذ . أخيرا تكون النظريات أعظم إفادة حينما تُصاغ بوضوح , فالنظرية صعبة التّي تتّسم بصعوبة الفهم تأخذ وقتا أكبر ليستوعبها المستخدمين الأساسيين وعادة ما تكون عسيرة جدّا على التجربة و التحقيق .
كيف تُساعد النظرية صناع السياسة على آداء مهامهم بطريقة أكثر فاعلية ؟
أولا ، بإمكان النظرية أن تساعدهم على تشخيص الوضعيات الجديدة بمجرد نشوءها , فحينما يحدّد صناع السياسة قضيتهم ، إمّا مسألة متكررة أو حادثة خاصة جديدة ، فإنّه يجب عليهم أن يُدركوا بشكل دقيق أي نوع من الظواهر هم بصدد مواجهتها . هل المفاوضات المسدودة جاءت نتيجة لانعدام عنصر الثقة أم أنّ ذلك راجع ببساطة إلى أنّ أطراف النزاع لا تزال بعيدة جدّا عن مرحلة عقد صفقة ؟
هل يرجع سعي الطرف الآخر للمحافظة على الستاتيكو-الوضع الراهن- إلى جشعه ، عدم الثقة ، تصوّر إيديولوجي خاص أم لوضع غير آمن ، وبالتالي محاولة تحسين وضعية ضعيفة ؟
وبتوسيع نطاق مجموعة التفسيرات المحتملة ، تزوّد النظريات صناع السياسة بمجموعة من التشخصيات وبإمكانها أيضا أن تساعدهم على تجنّب النهاية المبكرة أو الأشكال الخطيرة للصور النمطية .
ثانيا ، وبتحديد ماهية القوى المركزية التي تعمل في النظام الدولي –ما يسميه كينيث والتز "بصورة المملكة أو صورة العالم "- " a “picture of a realm” " فإنّ النظرية تساعد صناع السياسة على التنبؤ بالتطورات المستقبلية . وتكون هذه العملية قيّمة خصوصا حينما تتغيّر الظروف بسرعة ، ويكون المسار المنبثق من الماضي غير جدير بالثقة "خطر لا يمكن الاعتماد عليه " . فلنأخذ مثالا واضحا ، إنّه لمن الحُمق أن نُحاول التنبؤ بالتحرك المستقبلي للصين من خلال النظر إلى تصرفاتها السابقة وحسب ، أو حتّى من خلال سلوكها الراهن ، لأنّه من المحتمل على القادة الصينيين أن يُعدّلوا أولوياتهم ووجهاتهم تبعا لقوتهم المتزايدة . مع ذلك فبإمكان النظرية الجيّدة أن تبيّن لنا كيف تُأثر تحولات ميزان القوى على السلوك الصيني كما تساعد على إعداد قادة سياسيين ذوي خبرة لمواجهة التطورات المستقبلية الخطيرة .
ثالثا ، تُعد النظرية أمرا أساسيا لتشكيل وصفات سياسية ، لأنّ الأفعال السياسية تعتمد أقل شيء على بعض من المفاهيم السببية الخام . بعبارة أخرى عندما يختار صناع السياسة التدابير أو البدائل : أ ، ب ، ج فذلك لإيمانهم بأنّه سيترتب عنها النتائج المطلوبة . فالنظرية تساعد صناع السياسة على اختيار أهدافهم ، توّجه اختيار الأدوات السياسية وكذا تحدّد ماهية الشروط الواجب توفيرها لهذه الوسائل لتؤدي عملها .
رابعا ، تلعب النظرية أيضا دورا نقديا ، وذلك لتفعيل التطور السياسي ، بمعنى أنّه في حالة ما إذا كانت سياسة معينة سياسة ناجعة فإنّه يجب على صناع السياسة تحديد ماهية المعايير الإجرائية-العملية- تجاه الأهداف المحدَّدة . نظريا فإنّ اختيار هذه المعايير ينبغي أن يرتكز على ما نظّن أنّنا نعرفه عن العلاقات السببية المتعلقة بإنتاج النتائج المرجوة. ترتكز الاستراتيجيات الكبرى على توجه نظري واقعي لتأكيد و ترسيخ المعايير التّي تقيس تحولات القوة النسبية ، مثلا ، حينما تنبثق الإستراتيجية عن مبادئ ليبرالية فإنّها تبحث عن تنامي جوانب الاقتصاد ، مستويات المشاركة الديمقراطية أو توسيع و تعميق المؤسسات العالمية .
أخيرا ، فبإمكان معظم نظريات السياسة الدولية أن تُبقينا محميين من مختلف أشكال التصورات النمطية الشوفينية . بالأخص النظريات الواقعية فهي تبرز أهمية الأمن في عالم يفتقد إلى سيادة سُلطوية مركزية ، كما تُسلط الضوء على كيفية ستتشكل وتندفع " shape and shove" القوى البنيوية في وُجهات متماثلة حتّى مع التباين الكبير بين الدول ، لأنّها تُدرك ضرورة اعتماد الدول على مواردها الخاصة للدفاع عن نفسها . فالواقعيون أقل عُرضة –لداء- شيطنة الخصوم و أدنى احتمالا لقراءة الاستعدادات العسكرية للخصوم على أنّها مؤشر لنوايا عدوانية . و الواقعيون أقل تفاجئا أيضا إذا ما التمسوا تعارضا بين سلوكات الولايات المتحدة و قيمها الليبرالية أو التزامها المزعوم لتعزيز حقوق الإنسان و النهوض بها لأنّ النظرية تصوّر السياسة الدولية كمملكة تنافسية أين يجب على كل دولة كبرى في بعض الأحيان أن تعقد تسويات معينة لأجل تثبيت أمنها الذاتي .

حدود تأثير النظرية :
بالرغم من استحالة تشكيل سياسة معينة دون أدنى خلفية نظرية " مثلا: بعض المفاهيم عن العلاقة السببية بين الأشياء" ، فلا يبدو أنّ لأجود نظريات العلاقات الدولية تأثيرا كبيرا على التهيئات السياسية . بداية ، تبحث أغلب نظريات العلاقات الدولية عن تفسير الاتجاهات الكلية بغض النظر عن مفاهيم الزمان و المكان باستثناء بعض المتغيرات التّي من الممكن أن تكون ذات صلة بحالات خاصة . إنّ أي من نظرياتنا الموجودة تملك قدرة تفسيرية هائلة ، خاصة للسلوكات التّي تقوم بها الدولة عادة و الناتجة عن عوامل مختلفة عديدة ، " القدرة النسبية ، سمات الزعامة الفردية ... إلخ " .. لكن للأسف نفتقر إلى منهجية واضحة للجمع بين مختلف هذه النظريات أو لنقرّر أيٌّ منها يُمارس التأثير الأكبر على حالة معينة . يُفاقم المحتوى الواسع الذي تُحدثه السياسة الخارجية من هذا الإشكال . يؤدي العلم الاجتماعي عمله بامتياز حينما يمكن تحديد ماهية المشكلة بدقة و تحليلها نظاميا ، مثلا : حينما تكون خيارات الفواعل معلومة وثابتة ، حينما تكون هناك معطيات غزيرة و التّي يمكن من خلالها تجربة التكهنات و حينما يكون تأثير البدائل المتاحة محدّد بدقة . لكن هذه هي الحالة الناذرة في إدارة السياسة الخارجية . فالخيارات و البدائل عادة ما تكون غامضة مبهمة ، وعادة ما تكون هناك عدة استراتيجيات مطروحة ، كما أنّ النتائج المنبثقة عن مختلف البدائل عادة ما تكون غير معلومة . فالعلاقات غير الثابتة ، كثرة تأثير المتغيرات الداخلية ، الخيارات و المدركات يمكن أن تتغيّر من دون تبنيه حتّى مع الجهود الحذرة لمعاينة تأثير أدوات سياسة محدّدة كبرامج المساعدة ، العقوبات الاقتصادية ، التغيّرات المفروضة خارجيا على النظام فإنّها حافلةٌ بتأثيرات معينة و التّي تجعل من الصعوبة بمكان تقدير تأثيراتها السببية .
يمتلك المنظّرون و صناع السياسة أجندات جدّ مختلفة ، و هذا ما يُعقد الأمور أكثر ، يهتم المنظرون بمتابعة التفسيرات العامة للسلوكات المتكررة ، إلاّ أنّ اهتمام صناع السياسة ينصّبُ أكثر على محاولة إيجاد حلول لمشاكل معينة يواجهونها يوميا . وبالرغم من أنّ فهم صناع السياسة للتوجهات المختلفة بإمكانه أن يساعدهم على فهم أي من مقاصدهم المتعددة سواءً منها تلك السهلة أو الأهداف الصعبة فإنّ ما يحدث في أغلب الأحيان لا يحدث مثلما نتصور بالضبط ، مثلما من المحتمل أن يحدث غالبا في القضية التّي تكون بين أيدينا . علاوة على ذلك ، فإنّ صناع السياسة عادة ما يكونون أقل اهتماما بالتيارات التفسيرية من معرفة كيفية تجاوزها .
يُسجل آرثر ستاين كنتيجة لذلك : " في العمق ، فإنّ المعرفة المستمدة من الخبرة و التجربة تهمين على التنظير العام وعلى التعميمات الإحصائية في تشكيل السياسة " .
أخيرا و ليس آخرا ، فإنّ تأثير النظرية الأكاديمية تأثير محدود حتّى من قِبل توظيف التخصصات الفرعية للعلاقات الدولية لها ، ممّا أدى إلى تنامي الفجوة بين البرج العاجي –عالم النظرية- و بين عالم السياسة . رغم أنّ الأكاديميين لا يزالون مُبعدين عن الوظائف السياسية ففي فُرص معينة فإنّ شهاداتهم العلمية لا تُكسبهم مزيدا من الاحترام داخل الدوائر الرسمية أو حتّى تُظهرهم كطرف مسؤول . كما بإمكانهم أن يتعلموا أيضا أنّ السياسيين يهتمون عادة بالولاء و الفاعلية البيروقراطية أكثر من جوائز المنظرين الأكاديمية المتميزة أو بإبداعاتهم النظرية .
علاوة على ذلك و على غِرار معظم تخصصات العلوم السياسية ، فإنّ البحث العلمي في العلاقات الدولية المعاصرة يُكتب للرد على أطراف أخرى داخل الميدان و لم تُعّدُ لأجل الاستهلاك الواسع ، والذي يعّدُ أحد أسباب غموضها المتزايد وانشغالها المسبق عادة بمواضيع ضيقة وتافهة .
يعتقد الباحثين الشباب أنّ الجدّة النظرية و كذا التكلف –التعقيد ، الأناقة- المنهجي يعّدُ أكثر تقديرا و أهمية من العمق المعرفي لميدان السياسة . حقيقةً ، فإنّ هناك تحامل واضح على هذه النقطة الأخيرة في العلوم السياسية المعاصرة ، لأنّ العمل الذي يكون مفيدا لصناع السياسة يجلبُ بعضا من المكافئات ، إنّه لمن المفاجئ بشدّة أن تُحاول مراكز الأبحاث الجامعية ناذرا انتاج ذلك .
في الواقع فإنّ الفجوة بين النظرية و الممارسة السياسية قد تمّ جسرها مع تنامي مجمعات الثينك ثانكس أي مراكز البحث و التفكير ، المستشارين و كذا المجموعات شبه الأكاديمية والتي صارت تُهيمن على الحياة الفكرية في العواصم العالمية الكبرى ، خاصة في العاصمة واشنطن ، فلا يوجد عجز بشري داخل دائرة واشنطن ، والذين سيسرهم ذلك و سيُدفع لهم فقط لأجل القيام بهذا . بإمكان هذه المنظمات أن تقدّم إرشادات مفيدة إلاّ أنّ هناك جوانب سلبية لبروزها المتنامي .
تملك معظم مراكز الأبحاث في واشنطن أجندة إيديولوجية –عادة ما تكون مدعومة ماليا من قِبل مؤيديها- ومخرجات أبحاثها عبارة عن مواضيع بعيدة عن المعايير الدقيقة و الصارمة .. كما تفتقر أيضا لدقة صياغة المنتجين بما فيها الأحكام التي تعتمدها الجامعات لإعداد قراراتها ومواقفها الشخصية . يمكن لصناع السياسة أن يحصلوا على مشورة خارجية و التي تقود فورا للقلق ، لكنّها لا هي غير متحيّزة ولا هي جازمة .
هذا لا يعني عدم امتلاك الباحثين الأكاديميين لأي تأثير على الاطلاق . ففي بعض الأحيان تقوم نظريات العلاقات الدولية بتزويد المجتمع السياسي و العالم بأكمله بمنظومة مفاهيم تُساهم في النقاش ، كما يمكن أن تُمارس تأثيرات –خفية- على النتائج السياسية النهائية . فمصطلحات من قبيل : "الإعتماد المتبادل ، صدام الحضارات ، الثنائية القطبية ، الإرغام و القوة الناعمة إلخ... " تُعّدُ جزءًَ لا يتجزأ من النقاش السياسي لها تأثير على القرارات بطرق غير مبشرة . كما يمكن أن يستغل الباحثين مناعتهم الأكاديمية لمعالجة المواضيع المحرمة –الطابوهات- أو تلك المثيرة للجدل ، وبإمكانهم هنا أن يحققوا نجاحا في استئناف النقاش حول مواضيع مهمة سابقة .
في الولايات المتحدة اليوم ، ناذرا ما يتحدى منظّروا العلاقات الدولية الطابوهات ، وناذرا ما يكون لهم تأثير كبير على السياسة إلاّ إذا ما تركوا حياتهم الأكاديمية و عملوا بأنفسهم مباشرة في الحكومة . أهميتنا الجمعية كتخصص لا ينبغي أن تُفاجئنا : إنّ الولايات المتحدة دولة قوية و سياستها الخارجية تخضع لبيروقراطية واسعة ، راسخة للغاية –متأصلة و معقدة- و تخترقها مصالح جماعات نافذة ، بالإضافة إلى مصالح جهات أخرى ، كما أنّ لها نظام حكومة مقسّم تمتلك أطراف عديدة فيه حق الاعتراض و النقض ، والتي تجعل الإبداع السياسي صعبا للغاية . تحت هذه الشروط ، فإنّه من الحمق الاعتقاد أنّه بإمكانك الكتب أو المقالات العلمية –أو حتّى سلسلاتها الكبيرة- أن تقود لوحدها قارب الدولة باتجاه جديد .
ليكون هناك تأثير ملموس ذا دلالة على السياسة إمّا عن طريق التورط أو التدخل السياسي المستدام ، فإنّ ذلك يتطلب نشاطات سواء تلك التي تمثل محور اهتمام الأكاديميين أو تلك المعّدة للمتابعة بشكل جيد . و لنضرب مثال بالرجوع إلى عقد الخمسينيات . لقد قدّم ألبرت وولستيتر و زملائه عشرات الجلسات –الإحاطات- يعرضون فيها نتائج مؤسسة راند الشهيرة للدراسات ، من خلال جهودها الناجحة لإقناع المؤسسة العسكرية في نهاية المطاف بتبني توصياتها . أيضا حملة المحافظين الجدد العسكرية الطويلة للحرب على العراق –و التي صرنا نعلم اليوم أنّها أُسّست على وقائع مغلوطة ، تحليلات منحازة و نظريات زائفة وهمية- والتي بدأت جديا سنة 1998 لكنّها لم تُثمر إلاّ بعد خمسة سنوات لاحقة . فالمثابرة –والإصرار- لا الرؤية الثاقبة هي الأصل الحقيقي في التأثير السياسي .
يجب أن تكون هذه الحالة مربكة لكل من كرّس نفسه "للحياة الفكرية" محاولا استخدام المعرفة لأجل بناء عالم أفضل . مع ذلك لازلنا نأمل في دعم وترويج هذه الأهداف عبر مهمتنا في التدريس ، ومثلما ذكرنا سابقا أنّ التأثير المباشر سيكون لبضع الباحثين من خلال عملهم في الحكومة ، سيكون هناك أحيانا لحظات أين يوّفر الباحث فيها للحكومة وصفات و تصوّرات جديدة أو مقاربة تحليلية تقيس تصوراتهم و تمثُّلاتهم بخصوص السلطة لأنها عادة ما تقود الحاجة المعتبرة للحظة الراهنة . لكن الالتزام بهدف "إيراد الحقائق للسلطة" فغالبا ما يبقى شيئا بعيد المنال بشكل كبير .
بالرغم من هذه المحدودية ، فللباحثين الأكاديميين –بما فيهم منظّروا العلاقات الدولية- ثلاث أدوار مفيدة يلعبونها على الأقل في إثراء و توسعة النقاش العام حول الشؤون الدولية . بدايةً ، فالذين يمتلكون أفكارا أبعد مدى و أعمق عن طبيعة العالم السياسي الحديث بإمكانهم أن يساعدوا المواطنين المتابعين لهم –المتأثرين بهم- على تشكيل إحساس و معنى معين بعيدا عن عالمهم المعولم . عادة ما يستوعب الناس العاديين ما يرتبط بالشؤون المحلية ، لكن عادة ما يتطلب فهم ما يحدث ما وراء البحار الاعتماد على معرفة المتخصصين . لهذا السبب وحسب ينبغي على المراكز الأكاديمية الجامعية أن تشجع على الكتابة بنشاط للجماهير العريضة و التواصل معها ، بدلا من الدخول في نقاش مع بعضها البعض وحسب .
ثانيا ، يُعّدُ تدخل المجتمع الأكاديمي ذا ثقل أساسي بالنسبة للجهود الحكومية للتلاعب بالمدركات و التصورات العامة للجماهير ، فللحكومات قدرة أكبر للوصول إلى المعلومات المتباينة لدعم أجنداتهم الخاصة . ولأنّ الموظفين الحكوميين معرضين للخطأ فإنّ المجتمع بحاجة إلى أصوات بديلة لتحدي عقلانيتهم واقتراح حلول مختلفة . فالباحثين محميين بمناصبهم ولا يعتمد معاشهم على دعم الحكومة ، لذلك فإنّهم وُجدوا بمفردهم لتحدي القصص السائدة والأعراف التقليدية . لذا يعّدُ التنوع وتدخل المجتمع الأكاديمي أمرا ضروريا مكملا لأجل سياسة ديمقراطية صحيّة .
ثالثا ، يُقدم المجتمع العلمي أيضا نماذج مفيدة للنقاشات البنيوية . و بالرغم من الخلافات العلمية الساخنة في بعض الأحيان إلاّ أنّها ناذرا ما تنزل إلى مستوى الهجوم الشخصي أو الاغتيال والذي يميز النقاش السياسي اليوم بشكل متزايد . في الحقيقة ، فربّما يؤدي اعتماد الأكاديميين لمثل هذه التكتيكات في مقالاتهم العلمية إلى تشويه سمعتهم أكثر ممن يستهدفونهم بمقالاتهم هذه . و لجلب معايير النقاش الأكاديمي للمحيط العام فبإمكان الباحثين الأكاديميين أن يساعدوا على استعادة شيء من التمدن "والكياسة" الذي صار مفقودا في الحياة العامة المعاصرة .
كيف يمكن لهذه المعجزات أن تتحقق ؟ ليس لدي أوهام عن إيجاد نمط من أنماط "مملكة الفيلسوف" أين يحكم الأكاديميين ، فثلاثين سنة قضيتها في ثلاث جامعات و مراكز بحث مختلفة أقنعتني أنّ عالما كهذا لن يتحسن في أغلب الأحوال . لكن هل ينبغي لباحثي العلاقات الدولية أن يكونوا مفتخرين بحق لوجود عدد قليل من الناس يعيرون اهتماما لما يقولون ؟
سيكون من الجيد قليلا مناشدة صناع السياسة و الرأي العام ليعيرونا انتباها أكثر ، العلاج الوحيد هو إنتاج عمل يكون أكاديميا صارما وعمليا مفيدا على حد سواء لأولئك الموصولون بقرارات صناع السياسة . ما نحتاجه إذن هو جهدٌ واع لتغيير المعايير السائدة ولتحفيز المجتمع الأكاديمي . لا يبدو أنّ هذا الهدف هدفٌ بعيد المنال ، فهذه المعايير المهنية لا هي ثابتة و لا هي إلهية فوقية . في الواقع فإنّ إجماع الأعضاء في حدّ ذاته يحدّد المعايير التّي تحكم مؤسساتنا . كسياسة ذاتية واسعة لمجتمعنا وصلنا إلى إقرار أيُّ السمّات نثمّن غالبا ، ولا وجود لأي سبب يفسر لما لا يمكن أن تمنحنا السياسة و ما له علاقة بها وكذا الرأي العام وزنا وأهمية أكبر .

ما الذي يجب علينا فعله ؟
إذا ما أقر مجتمع باحثي العلاقات الدولية رفضه بأن يبقى متجاهَلا فإنّ هناك مجموعة من الخطوات العملية إذا ما طُبقت فبإمكانها أن تشجع و تُجلّي أهميتهم العظيمة :

1-منح وزن و أهمية أكبر لأثر العالم الحقيقي على قرارات الترقية –التحفيز- :
بدلا من التركيز الكامل في معظم الأحيان على الدراسات و الحوليات المتخصصة فبإمكان لجان التحفيز " promotion committees " أن تُجري أيضا تقييمات منتظمة لمساهمات أعضاء القسم في توسعة نطاق النقاش الجماهيري العام ، مثلا : فلاإضافة إلى قياس نقاط الاستحسان فإمكان لجان التحفيز متابعة مسار التقارير الإخبارية للمشرحين أو عدد الزيارات المسجلة لمدوناتهم ، و بدلا من الاعتماد على تقييمات الباحثين الآخرين وحسب فبإمكان نفس هذه اللجان أن تلتمس أيضا تقييمات من صناع السياسة العاملين في ميادين ذات صلة بذلك .
و قد تمّ اكتشاف أنّ عمل متواضع لأحد الزملاء كان له تأثير أساسي على طريقة تفكير صناع السياسة حول مسألة ما ، من المؤكد أن لذلك صلة بتقييم أهميتهم على المدى البعيد .

2-تشجيع الجمعيات المتخصصة لتثمين أثر الجمهور العام :
تمنح الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية اليوم عشرات الجوائز تشجيعا للكتب ، المقالات والأوراق البحثية في عدّة تخصصات أساسية وأخرى فرعية ، تمنح إحداها " إعترافا بخدمة الجمهور العام الجديرة بالإشادة" و أخرى للعمل الوظيفي لفن الحكم . فإذا أردنا تشجيع الباحثين ليكون لهم تأثير أكبر فلنخصص جائزة أو جائزتين لتكريم مثل هذه المنجزات والجهود المستحقة .

3-تيسير حصول الباحثين الشباب على خبرةٍ سياسية :
لتشجيع الباحثين الشباب على تعلم طريقة عمل العالم الحقيقي ، ينبغي على الكليات الأكاديمية أن تيسّر لهم سبل العمل في الحكومة أو في قطاعات سياسية ذات علاقة ، مثلا : بإمكان أكثر الجامعات أن توافق على تأجيل موعد التخرج في حالة ما إذا أراد أعضاء القسم الجدد أن يقضوا عاما عملا في الحكومة أو لصالح منظمة غير حكومية . فبإمكان هذه السياسة أن تخلق باحثين أكثر إدراكا لحقيقة كيفية عمل الحكومة ، و يكونون بالتالي أكثر ميلا لإنتاج عمل مفيد و ذا صلة بالنسبة لصناع السياسة . ذلك لأنّ أغلب الطلبة لهم اهتمام بالعالم الحقيقي في مقابل اهتمامهم المحدود بالمدرسية الفارغة . ستساعد هذه السياسة حتما على خلق أساتذة ذوي كفاءة عالية .

4-إدماج صناع السياسة في عملية البحث :
تُعّدُ القدرة على تحديد و متابعة أجنداتنا البحثية عنصرا أساسيا للحرية الأكاديمية . لا ينبغي أن يتعرض هذا المبدأ لخطر ما مع ذلك ينبغي على الأكاديميين أن يكونوا أكثر قدرة على الإصغاء لذوي الخبرة و الممارسة العملية حينما يقررون أي المواضيع سيعزمون على معالجتها وصبر أغوارها . بالإضافة إلى اقتناص مواضيع جديدة ممّا هو موجود داخل المؤسسة البحثية ، فليس هناك حرج إذا ما تمّ في بعض الأحيان سؤال غير الأكاديميين عن اي نمط من المعرفة يحبّذ أحدهم أن تكون بحوزته . من الممكن أن تُفاجئ بالأسئلة –و المواضيع- الجيدة التي ستكون بحوزتهم .

5-إقناع الإدارات الجامعية حتّى تولي أهمية أكبر بمساهمات العالم الحقيقي :
بإمكان الرؤساء ، رؤساء المجالس و عمداء الجامعات إضافة هذه الأهداف بشكل جيد عبر مكافئة الكليات التي يقوم أعضائها بمساهمات كبيرة للجمهور العام ، وحجب المصادر –في المقابل- على أولئك العالقين في مذهب اللاصلة بالواقع – أي غير النافع عمليا – ليس الهدف من ذلك تشجيع الكليات لتؤول إلى فصائل من المحللين السياسيين البارزين المتلهفين لضرب معالم الحوار و لكن بدلا من ذلك تهدف إلى تعزيز تنوّع مجتمعي أكثر يُغّطي جميع مناحي المستويات الأكاديمية .

6- توسعة المسؤوليات والنقاش الأخلاقي الأكاديمي :
تتمحور الأخلاق المهنية اليوم عموما حول مواضيع كالسرقة الأدبية والعلمية ، الحرية الأكاديمية ، تجاوزات القوة من قبيل التحرش الجنسي ، أو معالجة المواضيع الإنسانية . هذه قضايا مهمة لكن ينبغي علينا أيضا أن نشجع الطلبة على التفكير الجدّي والبعيد حول الرسوم التي يدين بها الباحثين للمجتمع الذي يقدم لهم الدعم ، وكذا مسألة ما إذا كان لدينا مسؤولية أخلاقية واسعة لنستخدم من خلالها معارفنا فنبدل ونستعد لأجل الارتقاء بالمجتمع . يجب على هذا الحوار أيضا أن يعالج العثرات الأخلاقية التي يمكن أن تؤثر على الباحثين الذين صار لهم تدخل مباشر في الأبحاث السياسية ذات الصلة ، وخاصة في حالة ما إذا دخلت مصادر تمويلية أو تعويضات أخرى على الخط .

خاتمة :
على حد تعبير مقولة كينز الشهيرة : " حتّى بعض رجال الأعمال المتمرسين ، عادة ما يكونون رهنا لأفكار بعض الاقتصاديين –أي علماء الاقتصاد- الذين قضوا نحبهم منذ زمن طويل " . من الممكن أن يمارس باحثوا العلاقات الدولية تأثيرا مشابها بعيد المدى لكني أميل إلى الشك في ذلك . يبدو أنّ صناع السياسة يصيرون أقل اهتماما بما نقول يوما بعد يوم ، من جهة ، بسبب انشغالهم الكبير في تعاملهم مع المشكلات اليومية ، و من جهة أخرى أيضا بسبب ميلنا لطرح إشكاليات لا تثير قلقا و اهتماما ثمّ نوّفر إجابات لا يرون أنفسهم بحاجة إليها . إذا ما أراد الأكاديميون لعب دور أهم و أكثر نشاطا و بنيوية في الشؤون العالمية فيجب على الأقل أن نغيّر محتوى بحوثنا العلمية .
ولِنشجع هذا التحوّل ، يجب أن نُعدّل في معايير الجدارة و الاستحقاق بما فيها معايير الانضباط ذاته ، و أن نمنح ما له علاقة بالعالم الحقيقي أهمية و وزنا أعظم . في غياب هذا التغيير لا يمكن نتوقع أن يولينا العالم الخارجي حتى أدنى اهتمام لما نقول .