إكسبو، وذكرى الاتحاد الإمارات من التأسيس إلى القوة الناعمة
مرسل: السبت ديسمبر 07, 2013 12:06 am
بقلم : هاني نسيرة
تبدو الإمارات العربية المتحدة، منذ تأسيسها في 2 ديسمبر سنة 1971 تخطو نحو قوة ناعمة في المنطقة، ربما كان من آخر ملامح صعودها فوز دبي بإكسبو 2020 من بين 14 مدينة عالمية، فيما يشبه كأس مدن العالم، وهو الفوز ذو الدلالة الثقافية والسياسية والاقتصادية، على خصوصية وإبداع النموذج، وكذلك على قوة اقتصاد الإمارات واستقرارها وماركة دبي العالمية التنافسية الصاعدة، مضمار النجاح والفوز بأصوات 164 وهو ما مثل كذلك خضة إقليمية لكثير من المرتجفين من هذا الصعود، أو أنصار فكرة القوة الصلبة الأيدولوجية والنووية العسكرية، رغم عدم غيبة العوامل التي كان يمكن أن تصنع انتصارا لفكرة النهضة والتعايش ورفاه الشعوب بدلا من وطأتها تحت طائلة العقوبات في إيران والصراع والحراب الأهلي كما في العراق!
استمر ماراتون التصويت نحو اربع ساعات، نافست فيه دبي تركيا وروسيا والبرازيل، وانتصرت بمئة وستة عشر صوتا، مقابل سبعة وأربعون لروسيا انتصرت بشبابها القائد الذي تصدر وطمح لفوزها، كسبت بمنهجها ورهانها الذي جسده شعارها اللافت في إكسبو" اللافت " تواصل العقول، وصنع المستقبل" الذي أثنى عليه هذا الملتقى التجاري الأكبر في العالم، في العاصمة الفرنسية باريس.
أتى هذا الفوز في 27 نوفمبر سنة 2013 قبل خمسة أيام فقط من اليوم الوطني الإماراتي في 2 ديسمبر، والذي يمثل ذكرى تأسيس الاتحاد عام 1971 إقليميا ودوليا تكاد-أو وصلت بالفعل-إلى هذا الوصف، فقد اتسمت تجربة تأسيسها منذ البداية بإيمان عميق بفكرة التشاور واحترام الاختلاف والتمكين لقيمة التوافق بين الإمارات المتحدة.
يأتي يوم الاتحاد أقوى هذه الفترة، وإن كان ذكرى الوحدة الإماراتية التي تحمل اسم الاتحاد، وتعد تجربة الوحدة العربية الناجحة الوحيدة في المنطقة، دون ضجيج أيدولوجي يعمد مقولات من قبيل الوحدة الاندماجية أو نفي التنوع لصالح الوحدة والتوحيد، كما كانت أيدولوجيات القومية والبعثية العربية التي كانت نشيد إنشاد العرب-كما يقول منيف الرزاز أحد منظريها- بعد عهد الاستقلال الأول[1].
بالعكس من ذلك قامت فكرة الاتحاد الإماراتي، على أساس الإيمان والحوار بين الإمارات السبع، كما ظلت تلتزمها في سائر قضاياها الوطنية، ومختلف المشكلات السياسية والحدودية، وفي مقدمتها الجزر الإماراتية المحتلة من قبل إيران، حيث تصر الإمارات على الدعوة المستمرة للتحكيم الدولي بخصوصها، هو ما ترفضه إيران الشاه ثم الخميني، رغم ما يعلنه رئيسها الحالي حسن روحاني ووزير خارجيتها جواد ظريف من رغبة في التقارب مع الجميع، وهو ما يبدو غربيا فقط!
استمر المسار وتنامت قوة الإمارات الاقتصادية ونموذجها التنموي والاقتصادي، وتميزت بالدور الخارجي الخيري والإغاثي والتفاعلي الإنساني، مع مختلف بلدان العالم العربي، وهو المستمر حتى الآن وخاصة بعد الثورة المصرية الثانية في30 يونيو الماضي، حتى وصلت ل مفهوم أو صورة القوة الناعمة التي يتسع نطاق تأثيرها ودورها في المنطقة والعالم.
الإمارات.. رؤية ومؤسسون:
تأسست دولة الإمارات العربية المتحدة في 2 ديسمبر سنة 1972، وفق رؤية تشاركية تصالحية بين الإمارات المتصالحة، كما كانت توصف قبل تأسيس الاتحاد، في هذا التاريخ، لتكون التجربة الاتحادية العربية الوحيدة التي كتب لها النجاح، بينما فشلت التجارب الوحدوية الأخرى، التي حاول البعثيون والناصريون، إقامتها رغم ضجيجها الأيدولوجي، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه بينما كانت المحاولات الوحدوية الأخرى رؤى تقدس زعيما! كانت الوحدة الإماراتية رؤية يقدسها زعماء، ويقدمونها عليهم، فلم يسع المؤسس الشيخ المؤسس زايد آل نهيان للصدام مع أحد رفض رؤيته، وبارك شريكه المؤسس الشيخ راشد آل مكتوم حاكم دبي- رحمهما الله- رئاسته دون نقاش حين كان الاجتماع الأول بعد أن تبلورت الفكرة والرؤية في 18 فبراير سنة 1968 في مخيم صحراوي، لمناقشة اتحاد أبو ظبي ودبي، وهي القصة التي يحكيها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قائلا:
قال زايد: "ما رأيك يا راشد؟ هل ينبغي أن نؤسس الاتحاد؟" تساءل الشيخ زايد، ودون تردد مد حاكم دبي يده إليه وأجابه: "أعطني يدك يا زايد. لنتعاهد الآن على ذلك وسوف تكون الرئيس".
وكانت المعاهدة بينهما، أو ما يسمى باتفاق الاتحاد" أ ه[2] وبدأ المسار باتحاد الإمارات الست ثم انضمت لهما إمارة رأس الخيمة فيما بعد بع تردد منها، واستمر المسار طموحا ونجاحا وحضورا عربيا حضر في حرب أكتوبر سنة 1973 كما حضر في الحرب الأهلية اللبنانية، ضمن قوات حفظ السلام الدولي، وكذلك حضر ضمن قوات حفظ السلام الدولية في تحرير الكويت سنة 1990، وتوالت نشاطاته العربية والدولية، الإنسانية والإغاثية، وبناءاته الوطنية التنموية على مختلف الصعد، بدءا من تنمية المرأة والشباب والاهتمام الخاص بقطاعي التعليم والابتعاث والخدمات، لتطوير البنى الأساسية لتكون على مستوى عالمي ناجع ومتميز دوليا.
وبينما تتجلى أبوظبي في قوة اقتصادها، حيث تملك أكبر صندوق سيادي في العالم، وهو جهاز أبوظبي للاستثمار، العاصمة السياسية، تتجلى العاصمة الثانية دبي نموذج جذب استثماري وسياسي بمستوى عالمي تنافسي تجاوز في مستوى بعض قطاعاته كبرى العواصم العالمية، ويواصل حكام الإمارات العربية مسيرة النضج والفعل وشرعية الإنجاز، التي تمكن لانتماء وهوية إماراتية جامعة للشعب خلف حكامه، الدور في مرحلة ما بعد الثورات العربية.
ولعل نموذج " دبي التعايشي" كمركز استثماري وسياحي، إقليمي وعالمي، تحركت برؤية وكتب حاكمها رؤيته في خطوطه وتفاصيله، وسجلت في بنيتها الأساسية ونموذجها التنموية والخدمي مركز جذب ل 200 جنسية من مختلف أنحاء العالم، تقطنها وترنو إليها، منصهرة معا في نموذج" تعايشي تسامحي" يتمتع بهوية الفعل الحضاري والإيجابي، الذي يركز على أسئلة الفعل والتقدم، والمصالحة والتثاقف بين الذات والآخر، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين التقاليد والحداثة، كما تقدم الإمارات العربية معارضها ومبادراتها التنموية والثقافية المختلفة، التي تتوحد معا، بسياسة تلحم المواطن بالدولة، والدولة بالمجتمع مواطنيه والمقيمين فيه في إطار القانون.
ووفق بعض المراقبين، تتسم هذه السياسة بالاتساق عكس ما تشهده تحولات وتحيزات إمارة قطر، التي يؤمل لها أن تعود بقوة وترا منسجما- وليس مختلفا- في لحن مجلس التعاون الخليجي، في القمة الخليجية القادمة في الكويت، وتحدياته المتصاعدة إقليميا ودوليا، أو في دعاوى تظل بعيدة عنها، أو لا تلتزمها قبل أن تلزم بها الآخرين، ولكن تتلبس صوت وصورة دعاتها شأن دمقرطة المنطقة، التي تدعو لها إمارة قطر، وكأنها شأن يخص باقي العرب دونها، كما عبرت عن ذلك مجلة الإيكونوميست في تحقيق لها في شهر يونيو 2013[3].
من جانب آخر، تبدو دولة الإمارات العربية المتحدة- مع السعودية ومصر المستعادة والأردن- أحد أهم الفاعلين في محور الاعتدال العربي، الذي استعاد حضوره وتشكله بموازاة تحديات إقليمية وتغيرات جيواستراتيجية، جعلت من المنطقة أكثر محاذاة لخطر تمدد فاعلين آخرين كإيران وتركيا وإسرائيل، ومع ارتباكات وترددات الحقبة الأوبامية الثانية التي بدأت في 6 و7 نوفمبر العام 2012، والتي زاد ارتباكها ارتفاع معدلات توتره وتردده في الثورة السورية، وعجزه عن صوغ حل سياسي لها، وتجاوز نظام بشار الأسد كل الخطوط الحمر واختراق كل أعراف المنظومة الدولية، فضلا عن التقارب الإيراني الأمريكي بعد رئاسة روحاني في يونيو الماضي 2013، ومكالمتهما الهاتفية في سبتمبر المنصرم، والتعارض بين التوجهات الأمريكية من جهة وبعض التوجهات الغربية، والفرنسية تحديدا، ومواقف بعض الدول العربية من جهة أخرى.
في مفهوم القوة الناعمة.
تقوم العلاقات الدولة على مفهوم الصراع من أجل المصلحة، أو حمايتها بالأساس بين الدول، وهو المرادف لمفهوم سياساتPower Politics)) التي تسعي عبرها جميع القوى والدول لتحقيق مصالحها الوطنية وتوسيع نطاق قوتها وسيطرتها ونفوذها، وتنقسم القوة ل صلبة عسكرية واقتصادية، وأخرى ناعمة Soft power، والمفهوم الأخير يبدو منطبقا الآن على عدد من دول الخليج العربي، وبخاصة السعودية والإمارات، خاصة في حقبة ما بعد يونيو سنة 2012.
ولا شك أن مفهوم القوة الناعمة أسبق وجودا من تاريخ صكه أو بلورته مع كتاب جوزيف ناي الأكاديمي في هارفارد“ مـلـزمـون بـالـقـيـادة Bound to Lead‘‘[4] حيث يشير هذا المفهوم لقدرة دولة ما على التأثير في سلوكيات ومواقف دول أخرى عبر آليات سلمية ووسائل إقناعيه وجاذبة، دون لجوء للقوة الصلبة أو العسكرية لتحقيق رؤاها أو رغباتها، وإن كان هذا لا يتعارض مع استخدامه في إطار من الشرعية الدولية، ووفق مبادئ حفظ السلم والأمن الدوليين، ولا نبالغ إذا قلنا إن دولة كالمملكة العربية السعودية لرمزيتها الدينية والإٍسلامية عند عموم المسلمين أولا، وقوتها الاقتصادية وأدوار الوساطة والمبادرات التي تقوم بها خلال الأعوام الماضية، تمثل قوة ناعمة يصعب تجاهلها في مسارات المنطقة، كما يصعب عداؤها على من يبغي ذلك! ويبدو أن فعالية هذه القوة صار أكثر وضوحا في اللحظة الراهنة، عبرت عنه المملكة في خطوات عديدة بدءا من دعم الثورة المصرية، للاعتذار الإيجابي الذي قدمته في 18 أكتوبر، عن العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن، وهو ما تضامنت فيه معها سائر الدول الخليجية والعربية، إضافة إلى دعمها المستمر والمتسق للثورة السورية، ودعم الثورة المصرية في 30 يونيو ومسارها بعدها، عمليا ودبلوماسيا على مختلف الصعد، وهو ما صار يعبر عنه بالصعود السعودي الإماراتي ونراه عودة أكثر قوة لمحور الاعتدال العربي الذي يضمهما مع مصر الجديدة بعد 30 يونيو والأردن وعدد من الدول الأخرى.
لحظة عربية مختلفة..
تعد ثورة 30 يونيو التي يحاول الإخوان وأنصارهم، الذين يعتمدون أبو الأعلى المودودي وسيد قطب في دعوتهما للانقلاب الإسلامي، وصفها- وتشويهها- انقلابا، وتبعتهم في ذلك دوائر غربية وأمريكية وعربية وتركية أخرى، بداية موجة ثانية من الثورات/ الربيع العربي، بدأت بتلك التي حدثت في مصر في 30 يونيو، لتصحح من مسار الثورات السابقة، التي نجحت تيارات أيدولوجية بعينها، وحلفائها في حصد كل أو جل ثمارها والاستئثار بها، دون غيرهم في توجه لإنشاء تسلطيات جديدة وأحلاف على أسس أيدولوجية ومصلحية غير حديثة، لا تراعي فيها غير مصالحها الضيقة! كما استعادت القاعدة نشاطها وحضورها الإقليمي بدءا من داعش دولة القاعدة في العراق وبلاد الشام، أو النصرة الملتحقة بالظواهري وهو ما أكده في حديث له بتاريخ 8 نوفمبر الماضي، أو نشاطها في سيناء وكذلك في ليبيا وشرقها بالخصوص، ونشاطها في جبل الشعانبي في تونس! على الحدود الجزائرية التونسية، في هذا المناخ المرتبك والمتوتر إقليميا ودوليا كان لا بد أن تتمتع بقدر أكبر من المرونة الدبلوماسية الناعمة والسياسة الخارجية الفاعلة في ظل التغيرات والارتباكات السياسية في الإقليم والعالم.
تحضر الإمارات خارجيا بنشاطية سياسية فاعلة وقدرة على المبادرة، في هذا المناخ الإقليمي المتوتر، سواء في عدد من بلدان الثورات العربية، أو في مجالات استعادة الدولة أو إنهاك بعض الفصائل السياسية لها، كما يحدث في ليبيا وعبرت عنه بقوة حادثة اختطاف رئيس وزرائها على زيدان في 9 و10 أكتوبر سنة 2013، أو ما حدث في تونس في 23 أكتوبر الماضي من عمليات إرهابية في ذكرى انتخاب المجلس الوطني التأسيسي على يد جماعات السلفية الجهادية والتي راح ضحيتها سبعة من أفراد الأمن في مواجهات بمدينة سيدي أبوزيد التي انطلقت منها الثورة وعدد من المناطق الأخرى، أو التقارب الأمريكي الإيراني كما أسلفنا، والتباين في وجهات النظر الأمريكية من جهة والعربية من جهة أخرى وخاصة الموقف الأمريكي المرتبك الداعم للإخوان المسلمين في مصر، والذي تحفظ بل واتخذ إجراءات عقابية ضد الثورة المصرية في 30 يونيو، بينما لم يحرك ساكنا بخصوص الثورة السورية حتى الآن فعليا! كما كان عكسه في الانتفاضة البحرينية الطائفية، وفي كلا الموقفين هو عكس الموقف السعودي والإماراتي المشترك، كما اتسعت الهوة كذلك بين الموقف الإماراتي/ السعودي من جهة والموقف القطري والتركي من جهة أخرى رغم تقاربهما هما بدرجة ما في الموقف من الثورة السورية.
الإمارات والثورات العربية:
لم تغب الإمارات عن الموجة الأولى من الثورات العربية في يناير سنة 2011 حيث شاركت بقوات لها في مهمة قوات الناتو في ليبيا، وفق مرجعيتي قراري مجلس الأمن رقمي 1970 و1973 بشأن الحالة الليبية (ومضمونهما إحالة الوضع في ليبيا إلي المحكمة الجنائية الدولية، وحظر الأسلحة والسفر، وتجميد الأصول الليبية في الدول الغربية، وإقامة منطقة حظر طيران جوي في الأجواء الليبية)، فضلا عن قرار الجامعة العربية رقم 7298 بتاريخ 2 مارس 2011 بشأن الطلب من مجلس الأمن تحمل مسئولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض منطقة حظر جوي علي حركة الطيران العسكري الليبي، وإقامة مناطق آمنة في الأماكن التي تتعرض للقصف في نهاية شهر مارس 2011.
كما قدمت الإمارات الدعم للمرحلة الانتقالية في مصر بعد الثورة الأولى في 25 يناير سنة 2011، ونحت بنفسها عن دور التدخل في شئونها، وهو ما استمر حتى وصول الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي الذي داوم وجماعته على اتهام الإمارات بشتى أنواع التهم، بدءا من دعم معارضيه خاصة مع هجرة منافسه في جولة الإعادة لدولة الإمارات العربية المتحدة، إلى المؤامرة عليه، بل اتهمها عصام العريان القيادي في الإخوان باختطاف الجنود في سيناء في 25 مايو سنة 2013، فبدا الحكم الإخواني المنتهي في مصر توجها لتسلطية فصيل اغتال الديمقراطية بدعوى الصندوق، واصطدم مع الشركاء السياسيين والاجتماعيين في مصر، كما أجاد لغة شراء العداء الأيدولوجية مع العديد من دول الإقليم وفي مقدمتها السعودية والإمارات وسائر دول الخليج باستثناء إمارة قطر الداعمة له.
كما جعل حكم الإخوان من العلاقة التاريخية بين مصر والإمارات العربية المتحدة حكرا على علاقة الأخيرة بفرع الإخوان في الإمارات رغم الحظر الحكومي والقانوني لها، والتهم الموجهة إليها، وكذلك بمعتقلي النشطاء الإخوان- دون غيرهم من السجناء المصريين- في الإمارات، وقد تسببت تصريحات العريان في تأخر المعونة الإماراتية المقررة ل مصر وقيمتها 3 مليار دولار.
وفي برنامجه الديني بقناة الجزيرة القطرية، انتقد الداعية الإخواني يوسف القرضاوي بالإمارات متدخلا في شئونها الداخلية في 5 مارس سنة 2012، وهو الموقف الذي دعمه محمود غزلان المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، دون مراعاة للعلاقة بين الشعبين أو الدولتين، في بيان شديد اللهجة في 12 مارس سنة 2012.
لهذه الأسباب وغيرها، رحبت الإمارات بسقوط الإخوان بالثورة الشعبية في 30 يونيو، والموجة الثانية من الثورات العربية، والذي نظن أنها لم تكن، ولا غيرها تتوقعه بهذا الشكل وهذه النتيجة، وكذلك المملكة العربية السعودية والكويت، وهو ما بلغ مجموعة 12 مليار دولار في شهر يوليو سنة 2013 وهي المساعدات التي زادت قيمتها الى 4.9 مليار دولار بعد زيارة رئيس الحكومة المصرية للإمارات آواخر أكتوبر سنة 2013، بأوامر من ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد حفظه الله.
كما دأبت السياسة الخارجية الإماراتية على دعم موقف الدولة المصرية في حربها على الإرهاب في سيناء وضد فلول النظام الإخواني السابق، وتم تكريم شيخ الأزهر- أكثر من مرة- بعد أن تجرأت جماعة الإخوان وأنصارها على هذه المؤسسة العريقة والأكبر في العالم الإسلامي والسني، وهو ما عبر عنه مؤخرا وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان في 13 نوفمبر، أثناء لقائه مع نظيره الألماني جيدو فيستر فيله مؤكدا" إن الاختلاف السياسي في مصر مع أي دولة أو حكم لا يبرر العمليات الإرهابية التي نراها اليوم مؤكدا سموه ضرورة وقوف الشعب المصري كله مع العملية السياسية وان يكون لأصدقاء مصر في العالم دور كذلك في تسريع الحوار والمفاوضات"[5].
ودعى خلال نفس اللقاء إلى ضرورة الدفع بعجلة التنمية في مصر وتجاوز قصورها، كما أشار إلى زيارة كل من جون كيري ونظيره الألماني للإمارات التي تحتفظ بعلاقات ودودة مع مجموعة الدول الخمس الكبرى التي تتفاوض مع إيران، "ان زيارة وزير الخارجية الأمريكي في 10 نوفمبر، والتي التقى فيها ولي عهد أبوظبي والمسئولين في الدولة، وكذلك وزير الخارجية الالماني للإمارات خلال يومين هو دليل على الشفافية التي تربطنا مع مجموعة 5 + 1 وحرص الامارات ودول مجلس التعاون على تطوير الافكار والنقاشات المشتركة والتأكيد على اهمية استقرار المنطقة" وطالب وزير الخارجية الإماراتي بالتفريق بين الحديث عن البرنامج النووي الإيراني والسلوكيات الإيرانية في المنطقة، مؤكدا" أن هناك عدم قبول من بعض التصرفات الايرانية في المنطقة ..نرى ذلك في لبنان وسوريا العراق واليمن ودول الخليج العربي وافغانستان وباكستان"[6]..
ويذكر أن اليمن أصدرت مؤخرا في 13 نوفمبر حكما بالسجن من سنة إلى عشر سنوات على طاقم سفينة إيرانية متهمة بتهريب السلاح لموالين لها في اليمن، وبعد يومين فقط من انتهاء الجولة الأولى من محادثات إيران ومجموعة الدول الخمسة الكبرى، في الخامس من نوفمبر أعلنت وكالة مهر الرسمية مقتل ضابط إيراني برتبة عميد بالحرس الثوري على الأراضي السورية[7]!
ويستمر الموقف السعودي والإماراتي، متسقا مع الثورة والقضية السورية، دعما للمعارضة والقوى الثورية غير المتطرفة، وجهودا دبلوماسية دولية مع مختلف الأطراف، والسعي لبلورة حل سياسي معطل، نتيجة مراوغات النظام السوري وإصرار بشار الأسد على البقاء دون الرحيل الذي يمثل المطلب الأول لكل القوى المعارضة، بعد تجاوزه كل الخطوط الحمراء ضد شعبه، وتبدو الفجوة اتسعت مع الشقيقة الخليجية الأصغر قطر التي يبدو أن ثمة تحولا جزئيا في إدارتها الجديدة بقيادة الأمير تميم بن حمد آل ثاني الذي تنازل له والده منتصف يونيو 2013، خاصة بعد إنهاء أزمة مخطوفي إعزاز في18 أكتوبر سنة 2013، بعد أن استمرت دون حل لمدة 17 شهرا، وتوجهه لاعتماد حل سياسي للأزمة السورية، دعا إليه الشيخ تميم في 5 نوفمبر الماضي على عكس خلفه ووزير خارجيته الأسبق، وعدم ارتفاع اعتراضها على التلكؤ الدولي في التدخل أو الضربة المحتملة التي كان أعلنها أوباما ثم تراجع عنها، وهو ما لم يلق أي اعتراض أو استياء معلن من قطر، كما وجه الشيخ تميم في 15 أكتوبر الماضي دعوة للرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني لزيارة قطر، في مكالمة هاتفية بينهما وهو ما رد عليه الأخير بأنه يعتمد سياسة الحوار مع دول الجوار.
يظل الاتساق السعودي/ الإماراتي واضحا، فضلا عن المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين في الأردن وتركيا، مع الالتزام بعدم الخروج عن إطار الشرعية الدولية والإنسانية، ورفض للتدخل الإيراني فيها، دون تحيز لفصيل سياسي وأيدولوجي بعينه دون غيره، كما تصنع دولة قطر قبل وبعد تولي الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في يونيو الماضي، وهي السياسة المتحيزة القطرية في وفي تونس وليبيا، وهو ما تزال قطر مصرة عليه بخصوص الثورة المصرية في 30 يونيو، وخرجت التظاهرات مرات عديدة في عواصم كل من تونس وليبيا ومصر منددة به، وهو ما لم يحدث مثلا تجاه محور الاعتدال الإماراتي السعودي مطلقا خلال العامين المنصرمين ..
نشطت الدبلوماسية الإماراتية على هذه الصعد المختلفة، واتخذت مواقف مسئولة تجاه العداء التركي المعلن تجاه الثورة المصرية في 30 يونيو، ومحاولة تركيا معاقبة مصر عبر تغيير مسار سفنها التي تقوم بتصدير منتجاتها للخليج عبر مصر في 17 يوليو الماضي، وهي الاستثمارات التي تقدر بالمليارات.
كذلك وفي 28 سبتمبر سنة 2013 استدعت الإمارات سفيرها في تونس السفير سالم القطام، ردا على تصريحات الرئيس التونسي منصف المرزوقي على منصة الأمم المتحدة أثناء انعقاد جمعيتها العامة آواخر سبتمبر سنة 2013 ، وهو ما رفضته الإمارات من دولة شقيقة ل مصر، واستدعت سفيرها ردا على هذا التصرف الخطابي المعهود من منصف المرزوقي[8].
مواقف كثيرة وجولات مكوكية وأداء دبلوماسي سلمي وشرعي مسئول تعتمده دولة الإمارات العربية المتحدة في سياستها الخارجية، تواصل به حكمة السلام والمنطق التصالحي الذي اعتمده آباؤها المؤسسون، يمكن التعبير عنه بسياسات قوة ناعمة إماراتية تنضاف وتضيف لمحور اعتدال عربي بجوار السعودية ومصر المستعادة والأردن والكويت والبحرين، ودول المغرب العربي يتشكل بعيدا عن التبعية لأمريكا التي تباينت مواقفها مع المواقف السعودية والإماراتية في الانتفاضات العربية جميعا، تأييدا أو معارضة، وكذلك تتسع الهوة في الموقف من الملف النووي الإيراني ومن العلاقة الأمريكية بقوى الإسلام السياسي في المنطقة.
إن القوة الناعمة الخليجية الفاعلة والمبادرة، لا تكتفي بدور المشاهد السلبي، ولكن تعمد إلى شراكات مسئولة تستطيع التعبير عن مواقفها ودعمها بلا تردد، وتجيد التعاطي والإدارة الإيجابية في الآن نفسه مع التغيرات الإقليمية والفاعلين والمؤثرين فيه، خاصة في لحظة الاستقطاب الحادة التي شملت المنطقة بعد ثورة 30 يونيو سنة 2012 الشعبية في مصر، والتي أسقطت حكم جماعة الإخوان المسلمين، وأعادت مع السياسة السعودية والمصرية الجديدة فعالية محور الاعتدال وقدرته على المناورة والفعل بموازاة الارتباك الأمريكي الأوبامي الثاني في مختلف الملفات[9].
تبدو الإمارات العربية المتحدة، منذ تأسيسها في 2 ديسمبر سنة 1971 تخطو نحو قوة ناعمة في المنطقة، ربما كان من آخر ملامح صعودها فوز دبي بإكسبو 2020 من بين 14 مدينة عالمية، فيما يشبه كأس مدن العالم، وهو الفوز ذو الدلالة الثقافية والسياسية والاقتصادية، على خصوصية وإبداع النموذج، وكذلك على قوة اقتصاد الإمارات واستقرارها وماركة دبي العالمية التنافسية الصاعدة، مضمار النجاح والفوز بأصوات 164 وهو ما مثل كذلك خضة إقليمية لكثير من المرتجفين من هذا الصعود، أو أنصار فكرة القوة الصلبة الأيدولوجية والنووية العسكرية، رغم عدم غيبة العوامل التي كان يمكن أن تصنع انتصارا لفكرة النهضة والتعايش ورفاه الشعوب بدلا من وطأتها تحت طائلة العقوبات في إيران والصراع والحراب الأهلي كما في العراق!
استمر ماراتون التصويت نحو اربع ساعات، نافست فيه دبي تركيا وروسيا والبرازيل، وانتصرت بمئة وستة عشر صوتا، مقابل سبعة وأربعون لروسيا انتصرت بشبابها القائد الذي تصدر وطمح لفوزها، كسبت بمنهجها ورهانها الذي جسده شعارها اللافت في إكسبو" اللافت " تواصل العقول، وصنع المستقبل" الذي أثنى عليه هذا الملتقى التجاري الأكبر في العالم، في العاصمة الفرنسية باريس.
أتى هذا الفوز في 27 نوفمبر سنة 2013 قبل خمسة أيام فقط من اليوم الوطني الإماراتي في 2 ديسمبر، والذي يمثل ذكرى تأسيس الاتحاد عام 1971 إقليميا ودوليا تكاد-أو وصلت بالفعل-إلى هذا الوصف، فقد اتسمت تجربة تأسيسها منذ البداية بإيمان عميق بفكرة التشاور واحترام الاختلاف والتمكين لقيمة التوافق بين الإمارات المتحدة.
يأتي يوم الاتحاد أقوى هذه الفترة، وإن كان ذكرى الوحدة الإماراتية التي تحمل اسم الاتحاد، وتعد تجربة الوحدة العربية الناجحة الوحيدة في المنطقة، دون ضجيج أيدولوجي يعمد مقولات من قبيل الوحدة الاندماجية أو نفي التنوع لصالح الوحدة والتوحيد، كما كانت أيدولوجيات القومية والبعثية العربية التي كانت نشيد إنشاد العرب-كما يقول منيف الرزاز أحد منظريها- بعد عهد الاستقلال الأول[1].
بالعكس من ذلك قامت فكرة الاتحاد الإماراتي، على أساس الإيمان والحوار بين الإمارات السبع، كما ظلت تلتزمها في سائر قضاياها الوطنية، ومختلف المشكلات السياسية والحدودية، وفي مقدمتها الجزر الإماراتية المحتلة من قبل إيران، حيث تصر الإمارات على الدعوة المستمرة للتحكيم الدولي بخصوصها، هو ما ترفضه إيران الشاه ثم الخميني، رغم ما يعلنه رئيسها الحالي حسن روحاني ووزير خارجيتها جواد ظريف من رغبة في التقارب مع الجميع، وهو ما يبدو غربيا فقط!
استمر المسار وتنامت قوة الإمارات الاقتصادية ونموذجها التنموي والاقتصادي، وتميزت بالدور الخارجي الخيري والإغاثي والتفاعلي الإنساني، مع مختلف بلدان العالم العربي، وهو المستمر حتى الآن وخاصة بعد الثورة المصرية الثانية في30 يونيو الماضي، حتى وصلت ل مفهوم أو صورة القوة الناعمة التي يتسع نطاق تأثيرها ودورها في المنطقة والعالم.
الإمارات.. رؤية ومؤسسون:
تأسست دولة الإمارات العربية المتحدة في 2 ديسمبر سنة 1972، وفق رؤية تشاركية تصالحية بين الإمارات المتصالحة، كما كانت توصف قبل تأسيس الاتحاد، في هذا التاريخ، لتكون التجربة الاتحادية العربية الوحيدة التي كتب لها النجاح، بينما فشلت التجارب الوحدوية الأخرى، التي حاول البعثيون والناصريون، إقامتها رغم ضجيجها الأيدولوجي، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه بينما كانت المحاولات الوحدوية الأخرى رؤى تقدس زعيما! كانت الوحدة الإماراتية رؤية يقدسها زعماء، ويقدمونها عليهم، فلم يسع المؤسس الشيخ المؤسس زايد آل نهيان للصدام مع أحد رفض رؤيته، وبارك شريكه المؤسس الشيخ راشد آل مكتوم حاكم دبي- رحمهما الله- رئاسته دون نقاش حين كان الاجتماع الأول بعد أن تبلورت الفكرة والرؤية في 18 فبراير سنة 1968 في مخيم صحراوي، لمناقشة اتحاد أبو ظبي ودبي، وهي القصة التي يحكيها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قائلا:
قال زايد: "ما رأيك يا راشد؟ هل ينبغي أن نؤسس الاتحاد؟" تساءل الشيخ زايد، ودون تردد مد حاكم دبي يده إليه وأجابه: "أعطني يدك يا زايد. لنتعاهد الآن على ذلك وسوف تكون الرئيس".
وكانت المعاهدة بينهما، أو ما يسمى باتفاق الاتحاد" أ ه[2] وبدأ المسار باتحاد الإمارات الست ثم انضمت لهما إمارة رأس الخيمة فيما بعد بع تردد منها، واستمر المسار طموحا ونجاحا وحضورا عربيا حضر في حرب أكتوبر سنة 1973 كما حضر في الحرب الأهلية اللبنانية، ضمن قوات حفظ السلام الدولي، وكذلك حضر ضمن قوات حفظ السلام الدولية في تحرير الكويت سنة 1990، وتوالت نشاطاته العربية والدولية، الإنسانية والإغاثية، وبناءاته الوطنية التنموية على مختلف الصعد، بدءا من تنمية المرأة والشباب والاهتمام الخاص بقطاعي التعليم والابتعاث والخدمات، لتطوير البنى الأساسية لتكون على مستوى عالمي ناجع ومتميز دوليا.
وبينما تتجلى أبوظبي في قوة اقتصادها، حيث تملك أكبر صندوق سيادي في العالم، وهو جهاز أبوظبي للاستثمار، العاصمة السياسية، تتجلى العاصمة الثانية دبي نموذج جذب استثماري وسياسي بمستوى عالمي تنافسي تجاوز في مستوى بعض قطاعاته كبرى العواصم العالمية، ويواصل حكام الإمارات العربية مسيرة النضج والفعل وشرعية الإنجاز، التي تمكن لانتماء وهوية إماراتية جامعة للشعب خلف حكامه، الدور في مرحلة ما بعد الثورات العربية.
ولعل نموذج " دبي التعايشي" كمركز استثماري وسياحي، إقليمي وعالمي، تحركت برؤية وكتب حاكمها رؤيته في خطوطه وتفاصيله، وسجلت في بنيتها الأساسية ونموذجها التنموية والخدمي مركز جذب ل 200 جنسية من مختلف أنحاء العالم، تقطنها وترنو إليها، منصهرة معا في نموذج" تعايشي تسامحي" يتمتع بهوية الفعل الحضاري والإيجابي، الذي يركز على أسئلة الفعل والتقدم، والمصالحة والتثاقف بين الذات والآخر، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين التقاليد والحداثة، كما تقدم الإمارات العربية معارضها ومبادراتها التنموية والثقافية المختلفة، التي تتوحد معا، بسياسة تلحم المواطن بالدولة، والدولة بالمجتمع مواطنيه والمقيمين فيه في إطار القانون.
ووفق بعض المراقبين، تتسم هذه السياسة بالاتساق عكس ما تشهده تحولات وتحيزات إمارة قطر، التي يؤمل لها أن تعود بقوة وترا منسجما- وليس مختلفا- في لحن مجلس التعاون الخليجي، في القمة الخليجية القادمة في الكويت، وتحدياته المتصاعدة إقليميا ودوليا، أو في دعاوى تظل بعيدة عنها، أو لا تلتزمها قبل أن تلزم بها الآخرين، ولكن تتلبس صوت وصورة دعاتها شأن دمقرطة المنطقة، التي تدعو لها إمارة قطر، وكأنها شأن يخص باقي العرب دونها، كما عبرت عن ذلك مجلة الإيكونوميست في تحقيق لها في شهر يونيو 2013[3].
من جانب آخر، تبدو دولة الإمارات العربية المتحدة- مع السعودية ومصر المستعادة والأردن- أحد أهم الفاعلين في محور الاعتدال العربي، الذي استعاد حضوره وتشكله بموازاة تحديات إقليمية وتغيرات جيواستراتيجية، جعلت من المنطقة أكثر محاذاة لخطر تمدد فاعلين آخرين كإيران وتركيا وإسرائيل، ومع ارتباكات وترددات الحقبة الأوبامية الثانية التي بدأت في 6 و7 نوفمبر العام 2012، والتي زاد ارتباكها ارتفاع معدلات توتره وتردده في الثورة السورية، وعجزه عن صوغ حل سياسي لها، وتجاوز نظام بشار الأسد كل الخطوط الحمر واختراق كل أعراف المنظومة الدولية، فضلا عن التقارب الإيراني الأمريكي بعد رئاسة روحاني في يونيو الماضي 2013، ومكالمتهما الهاتفية في سبتمبر المنصرم، والتعارض بين التوجهات الأمريكية من جهة وبعض التوجهات الغربية، والفرنسية تحديدا، ومواقف بعض الدول العربية من جهة أخرى.
في مفهوم القوة الناعمة.
تقوم العلاقات الدولة على مفهوم الصراع من أجل المصلحة، أو حمايتها بالأساس بين الدول، وهو المرادف لمفهوم سياساتPower Politics)) التي تسعي عبرها جميع القوى والدول لتحقيق مصالحها الوطنية وتوسيع نطاق قوتها وسيطرتها ونفوذها، وتنقسم القوة ل صلبة عسكرية واقتصادية، وأخرى ناعمة Soft power، والمفهوم الأخير يبدو منطبقا الآن على عدد من دول الخليج العربي، وبخاصة السعودية والإمارات، خاصة في حقبة ما بعد يونيو سنة 2012.
ولا شك أن مفهوم القوة الناعمة أسبق وجودا من تاريخ صكه أو بلورته مع كتاب جوزيف ناي الأكاديمي في هارفارد“ مـلـزمـون بـالـقـيـادة Bound to Lead‘‘[4] حيث يشير هذا المفهوم لقدرة دولة ما على التأثير في سلوكيات ومواقف دول أخرى عبر آليات سلمية ووسائل إقناعيه وجاذبة، دون لجوء للقوة الصلبة أو العسكرية لتحقيق رؤاها أو رغباتها، وإن كان هذا لا يتعارض مع استخدامه في إطار من الشرعية الدولية، ووفق مبادئ حفظ السلم والأمن الدوليين، ولا نبالغ إذا قلنا إن دولة كالمملكة العربية السعودية لرمزيتها الدينية والإٍسلامية عند عموم المسلمين أولا، وقوتها الاقتصادية وأدوار الوساطة والمبادرات التي تقوم بها خلال الأعوام الماضية، تمثل قوة ناعمة يصعب تجاهلها في مسارات المنطقة، كما يصعب عداؤها على من يبغي ذلك! ويبدو أن فعالية هذه القوة صار أكثر وضوحا في اللحظة الراهنة، عبرت عنه المملكة في خطوات عديدة بدءا من دعم الثورة المصرية، للاعتذار الإيجابي الذي قدمته في 18 أكتوبر، عن العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن، وهو ما تضامنت فيه معها سائر الدول الخليجية والعربية، إضافة إلى دعمها المستمر والمتسق للثورة السورية، ودعم الثورة المصرية في 30 يونيو ومسارها بعدها، عمليا ودبلوماسيا على مختلف الصعد، وهو ما صار يعبر عنه بالصعود السعودي الإماراتي ونراه عودة أكثر قوة لمحور الاعتدال العربي الذي يضمهما مع مصر الجديدة بعد 30 يونيو والأردن وعدد من الدول الأخرى.
لحظة عربية مختلفة..
تعد ثورة 30 يونيو التي يحاول الإخوان وأنصارهم، الذين يعتمدون أبو الأعلى المودودي وسيد قطب في دعوتهما للانقلاب الإسلامي، وصفها- وتشويهها- انقلابا، وتبعتهم في ذلك دوائر غربية وأمريكية وعربية وتركية أخرى، بداية موجة ثانية من الثورات/ الربيع العربي، بدأت بتلك التي حدثت في مصر في 30 يونيو، لتصحح من مسار الثورات السابقة، التي نجحت تيارات أيدولوجية بعينها، وحلفائها في حصد كل أو جل ثمارها والاستئثار بها، دون غيرهم في توجه لإنشاء تسلطيات جديدة وأحلاف على أسس أيدولوجية ومصلحية غير حديثة، لا تراعي فيها غير مصالحها الضيقة! كما استعادت القاعدة نشاطها وحضورها الإقليمي بدءا من داعش دولة القاعدة في العراق وبلاد الشام، أو النصرة الملتحقة بالظواهري وهو ما أكده في حديث له بتاريخ 8 نوفمبر الماضي، أو نشاطها في سيناء وكذلك في ليبيا وشرقها بالخصوص، ونشاطها في جبل الشعانبي في تونس! على الحدود الجزائرية التونسية، في هذا المناخ المرتبك والمتوتر إقليميا ودوليا كان لا بد أن تتمتع بقدر أكبر من المرونة الدبلوماسية الناعمة والسياسة الخارجية الفاعلة في ظل التغيرات والارتباكات السياسية في الإقليم والعالم.
تحضر الإمارات خارجيا بنشاطية سياسية فاعلة وقدرة على المبادرة، في هذا المناخ الإقليمي المتوتر، سواء في عدد من بلدان الثورات العربية، أو في مجالات استعادة الدولة أو إنهاك بعض الفصائل السياسية لها، كما يحدث في ليبيا وعبرت عنه بقوة حادثة اختطاف رئيس وزرائها على زيدان في 9 و10 أكتوبر سنة 2013، أو ما حدث في تونس في 23 أكتوبر الماضي من عمليات إرهابية في ذكرى انتخاب المجلس الوطني التأسيسي على يد جماعات السلفية الجهادية والتي راح ضحيتها سبعة من أفراد الأمن في مواجهات بمدينة سيدي أبوزيد التي انطلقت منها الثورة وعدد من المناطق الأخرى، أو التقارب الأمريكي الإيراني كما أسلفنا، والتباين في وجهات النظر الأمريكية من جهة والعربية من جهة أخرى وخاصة الموقف الأمريكي المرتبك الداعم للإخوان المسلمين في مصر، والذي تحفظ بل واتخذ إجراءات عقابية ضد الثورة المصرية في 30 يونيو، بينما لم يحرك ساكنا بخصوص الثورة السورية حتى الآن فعليا! كما كان عكسه في الانتفاضة البحرينية الطائفية، وفي كلا الموقفين هو عكس الموقف السعودي والإماراتي المشترك، كما اتسعت الهوة كذلك بين الموقف الإماراتي/ السعودي من جهة والموقف القطري والتركي من جهة أخرى رغم تقاربهما هما بدرجة ما في الموقف من الثورة السورية.
الإمارات والثورات العربية:
لم تغب الإمارات عن الموجة الأولى من الثورات العربية في يناير سنة 2011 حيث شاركت بقوات لها في مهمة قوات الناتو في ليبيا، وفق مرجعيتي قراري مجلس الأمن رقمي 1970 و1973 بشأن الحالة الليبية (ومضمونهما إحالة الوضع في ليبيا إلي المحكمة الجنائية الدولية، وحظر الأسلحة والسفر، وتجميد الأصول الليبية في الدول الغربية، وإقامة منطقة حظر طيران جوي في الأجواء الليبية)، فضلا عن قرار الجامعة العربية رقم 7298 بتاريخ 2 مارس 2011 بشأن الطلب من مجلس الأمن تحمل مسئولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض منطقة حظر جوي علي حركة الطيران العسكري الليبي، وإقامة مناطق آمنة في الأماكن التي تتعرض للقصف في نهاية شهر مارس 2011.
كما قدمت الإمارات الدعم للمرحلة الانتقالية في مصر بعد الثورة الأولى في 25 يناير سنة 2011، ونحت بنفسها عن دور التدخل في شئونها، وهو ما استمر حتى وصول الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي الذي داوم وجماعته على اتهام الإمارات بشتى أنواع التهم، بدءا من دعم معارضيه خاصة مع هجرة منافسه في جولة الإعادة لدولة الإمارات العربية المتحدة، إلى المؤامرة عليه، بل اتهمها عصام العريان القيادي في الإخوان باختطاف الجنود في سيناء في 25 مايو سنة 2013، فبدا الحكم الإخواني المنتهي في مصر توجها لتسلطية فصيل اغتال الديمقراطية بدعوى الصندوق، واصطدم مع الشركاء السياسيين والاجتماعيين في مصر، كما أجاد لغة شراء العداء الأيدولوجية مع العديد من دول الإقليم وفي مقدمتها السعودية والإمارات وسائر دول الخليج باستثناء إمارة قطر الداعمة له.
كما جعل حكم الإخوان من العلاقة التاريخية بين مصر والإمارات العربية المتحدة حكرا على علاقة الأخيرة بفرع الإخوان في الإمارات رغم الحظر الحكومي والقانوني لها، والتهم الموجهة إليها، وكذلك بمعتقلي النشطاء الإخوان- دون غيرهم من السجناء المصريين- في الإمارات، وقد تسببت تصريحات العريان في تأخر المعونة الإماراتية المقررة ل مصر وقيمتها 3 مليار دولار.
وفي برنامجه الديني بقناة الجزيرة القطرية، انتقد الداعية الإخواني يوسف القرضاوي بالإمارات متدخلا في شئونها الداخلية في 5 مارس سنة 2012، وهو الموقف الذي دعمه محمود غزلان المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، دون مراعاة للعلاقة بين الشعبين أو الدولتين، في بيان شديد اللهجة في 12 مارس سنة 2012.
لهذه الأسباب وغيرها، رحبت الإمارات بسقوط الإخوان بالثورة الشعبية في 30 يونيو، والموجة الثانية من الثورات العربية، والذي نظن أنها لم تكن، ولا غيرها تتوقعه بهذا الشكل وهذه النتيجة، وكذلك المملكة العربية السعودية والكويت، وهو ما بلغ مجموعة 12 مليار دولار في شهر يوليو سنة 2013 وهي المساعدات التي زادت قيمتها الى 4.9 مليار دولار بعد زيارة رئيس الحكومة المصرية للإمارات آواخر أكتوبر سنة 2013، بأوامر من ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد حفظه الله.
كما دأبت السياسة الخارجية الإماراتية على دعم موقف الدولة المصرية في حربها على الإرهاب في سيناء وضد فلول النظام الإخواني السابق، وتم تكريم شيخ الأزهر- أكثر من مرة- بعد أن تجرأت جماعة الإخوان وأنصارها على هذه المؤسسة العريقة والأكبر في العالم الإسلامي والسني، وهو ما عبر عنه مؤخرا وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان في 13 نوفمبر، أثناء لقائه مع نظيره الألماني جيدو فيستر فيله مؤكدا" إن الاختلاف السياسي في مصر مع أي دولة أو حكم لا يبرر العمليات الإرهابية التي نراها اليوم مؤكدا سموه ضرورة وقوف الشعب المصري كله مع العملية السياسية وان يكون لأصدقاء مصر في العالم دور كذلك في تسريع الحوار والمفاوضات"[5].
ودعى خلال نفس اللقاء إلى ضرورة الدفع بعجلة التنمية في مصر وتجاوز قصورها، كما أشار إلى زيارة كل من جون كيري ونظيره الألماني للإمارات التي تحتفظ بعلاقات ودودة مع مجموعة الدول الخمس الكبرى التي تتفاوض مع إيران، "ان زيارة وزير الخارجية الأمريكي في 10 نوفمبر، والتي التقى فيها ولي عهد أبوظبي والمسئولين في الدولة، وكذلك وزير الخارجية الالماني للإمارات خلال يومين هو دليل على الشفافية التي تربطنا مع مجموعة 5 + 1 وحرص الامارات ودول مجلس التعاون على تطوير الافكار والنقاشات المشتركة والتأكيد على اهمية استقرار المنطقة" وطالب وزير الخارجية الإماراتي بالتفريق بين الحديث عن البرنامج النووي الإيراني والسلوكيات الإيرانية في المنطقة، مؤكدا" أن هناك عدم قبول من بعض التصرفات الايرانية في المنطقة ..نرى ذلك في لبنان وسوريا العراق واليمن ودول الخليج العربي وافغانستان وباكستان"[6]..
ويذكر أن اليمن أصدرت مؤخرا في 13 نوفمبر حكما بالسجن من سنة إلى عشر سنوات على طاقم سفينة إيرانية متهمة بتهريب السلاح لموالين لها في اليمن، وبعد يومين فقط من انتهاء الجولة الأولى من محادثات إيران ومجموعة الدول الخمسة الكبرى، في الخامس من نوفمبر أعلنت وكالة مهر الرسمية مقتل ضابط إيراني برتبة عميد بالحرس الثوري على الأراضي السورية[7]!
ويستمر الموقف السعودي والإماراتي، متسقا مع الثورة والقضية السورية، دعما للمعارضة والقوى الثورية غير المتطرفة، وجهودا دبلوماسية دولية مع مختلف الأطراف، والسعي لبلورة حل سياسي معطل، نتيجة مراوغات النظام السوري وإصرار بشار الأسد على البقاء دون الرحيل الذي يمثل المطلب الأول لكل القوى المعارضة، بعد تجاوزه كل الخطوط الحمراء ضد شعبه، وتبدو الفجوة اتسعت مع الشقيقة الخليجية الأصغر قطر التي يبدو أن ثمة تحولا جزئيا في إدارتها الجديدة بقيادة الأمير تميم بن حمد آل ثاني الذي تنازل له والده منتصف يونيو 2013، خاصة بعد إنهاء أزمة مخطوفي إعزاز في18 أكتوبر سنة 2013، بعد أن استمرت دون حل لمدة 17 شهرا، وتوجهه لاعتماد حل سياسي للأزمة السورية، دعا إليه الشيخ تميم في 5 نوفمبر الماضي على عكس خلفه ووزير خارجيته الأسبق، وعدم ارتفاع اعتراضها على التلكؤ الدولي في التدخل أو الضربة المحتملة التي كان أعلنها أوباما ثم تراجع عنها، وهو ما لم يلق أي اعتراض أو استياء معلن من قطر، كما وجه الشيخ تميم في 15 أكتوبر الماضي دعوة للرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني لزيارة قطر، في مكالمة هاتفية بينهما وهو ما رد عليه الأخير بأنه يعتمد سياسة الحوار مع دول الجوار.
يظل الاتساق السعودي/ الإماراتي واضحا، فضلا عن المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين في الأردن وتركيا، مع الالتزام بعدم الخروج عن إطار الشرعية الدولية والإنسانية، ورفض للتدخل الإيراني فيها، دون تحيز لفصيل سياسي وأيدولوجي بعينه دون غيره، كما تصنع دولة قطر قبل وبعد تولي الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في يونيو الماضي، وهي السياسة المتحيزة القطرية في وفي تونس وليبيا، وهو ما تزال قطر مصرة عليه بخصوص الثورة المصرية في 30 يونيو، وخرجت التظاهرات مرات عديدة في عواصم كل من تونس وليبيا ومصر منددة به، وهو ما لم يحدث مثلا تجاه محور الاعتدال الإماراتي السعودي مطلقا خلال العامين المنصرمين ..
نشطت الدبلوماسية الإماراتية على هذه الصعد المختلفة، واتخذت مواقف مسئولة تجاه العداء التركي المعلن تجاه الثورة المصرية في 30 يونيو، ومحاولة تركيا معاقبة مصر عبر تغيير مسار سفنها التي تقوم بتصدير منتجاتها للخليج عبر مصر في 17 يوليو الماضي، وهي الاستثمارات التي تقدر بالمليارات.
كذلك وفي 28 سبتمبر سنة 2013 استدعت الإمارات سفيرها في تونس السفير سالم القطام، ردا على تصريحات الرئيس التونسي منصف المرزوقي على منصة الأمم المتحدة أثناء انعقاد جمعيتها العامة آواخر سبتمبر سنة 2013 ، وهو ما رفضته الإمارات من دولة شقيقة ل مصر، واستدعت سفيرها ردا على هذا التصرف الخطابي المعهود من منصف المرزوقي[8].
مواقف كثيرة وجولات مكوكية وأداء دبلوماسي سلمي وشرعي مسئول تعتمده دولة الإمارات العربية المتحدة في سياستها الخارجية، تواصل به حكمة السلام والمنطق التصالحي الذي اعتمده آباؤها المؤسسون، يمكن التعبير عنه بسياسات قوة ناعمة إماراتية تنضاف وتضيف لمحور اعتدال عربي بجوار السعودية ومصر المستعادة والأردن والكويت والبحرين، ودول المغرب العربي يتشكل بعيدا عن التبعية لأمريكا التي تباينت مواقفها مع المواقف السعودية والإماراتية في الانتفاضات العربية جميعا، تأييدا أو معارضة، وكذلك تتسع الهوة في الموقف من الملف النووي الإيراني ومن العلاقة الأمريكية بقوى الإسلام السياسي في المنطقة.
إن القوة الناعمة الخليجية الفاعلة والمبادرة، لا تكتفي بدور المشاهد السلبي، ولكن تعمد إلى شراكات مسئولة تستطيع التعبير عن مواقفها ودعمها بلا تردد، وتجيد التعاطي والإدارة الإيجابية في الآن نفسه مع التغيرات الإقليمية والفاعلين والمؤثرين فيه، خاصة في لحظة الاستقطاب الحادة التي شملت المنطقة بعد ثورة 30 يونيو سنة 2012 الشعبية في مصر، والتي أسقطت حكم جماعة الإخوان المسلمين، وأعادت مع السياسة السعودية والمصرية الجديدة فعالية محور الاعتدال وقدرته على المناورة والفعل بموازاة الارتباك الأمريكي الأوبامي الثاني في مختلف الملفات[9].