- السبت ديسمبر 07, 2013 4:53 pm
#68238
ظلت قضية إعادة بناء الدولة السودانية تشكل محور الجدل والأزمات السياسية خلال فترة ما بعد الاستقلال، وفى ظل التوصل لاتفاق السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، فقضية بناء الدولة يمكن مناقشتها فى سياق ثلاثة متغيرات مهمة تشهد تفاعلات كثيفة خلال الفترة الحالية، وهي تتعلق أولاً بالعلاقة بين مركز الدولة وأطرافها، وثانياً بشبكة العلاقات فيما بين الأحزاب السودانية، وثالثاً تتعلق باستقرار حكومة الوحدة الوطنية كشروط عامة لإعادة بناء الدولة في السودان، وذلك بالإضافة للعوامل الخارجية التي أثرت تكوين دولة السودان وسياساتها الداخلية والخارجية.
أولاً: أسباب الحرب الأهلية
تجسد الحرب الأهلية التى بدأت منذ الاستقلال وتجددت فى عام 1983 وما صاحبها من عدم الاستقرار السياسى جوهر المشكلة السودانية، فهى ظاهرة لازمت نظم الحكم المدنية والعسكرية، وأدت إلى عدم استقرار الحكومات ومنعت تحقيق التنمية المتوازنة على مستوى الأقاليم السودانية، ويمكن تحديد أسباب الحرب الأهلية في العوامل التالية.
أ - ضعف التجارب الديمقراطية: لم تستطع التجارب الديمقراطية بناء نظام سياسى مستقر، فالتجارب الديمقراطية التي مورست في السودان، كانت ممارسات إجرائية شكلية افتقدت المحتوى السياسي والاقتصادي ولم تلتزم بإطار فكري، كما لم تستطع تكوين نخبة متماسكة تؤمن بها، وهو ما أدى إلى فشل تطبيقات النموذج الليبرالي للحكم ثلاث مرات منذ الاستقلال والذي ظهر بوضوح في الفترة 1985 – 1989 التي اتضح خلالها تدهور الدولة وبروز الصراعات السياسية.
ولذلك نتجت الحرب الأهلية في ظل ضعف الجيش والمؤسسات وعدم قدرتها على حماية المواطنين، وهذا يرجع بالأساس إلى الصراعات الحزبية وتمدد الانقسامات السياسية داخل الجيش، مما أدي لتفاقم الحرب الأهلية وضعف الدولة عن استيعاب التوتر السياسي أو طرح مبادرات لحل مشكلات المناطق السودانية.
وفي أواخر 1987 وضعت الحركة الشعبية استراتيجية النجم الساطع، والتي تهدف للسيطرة علي المنطقة المحددة بنهر النيل، إلي الغرب، ومن سوبا إلي الشمال، وحتي الحدود الدولية لإثيوبيا، كينيا، وأوغندا، وكل هذا تحقق في منتصف 1989، وغرب الاستوائية في 1991، وفي 1991 سيطر الجيش الشعبي علي أكثر من 90% من جنوب السودان، ونقلت الصراع لمنطقتين في جنوب النيل الأزرق، واستطاعت السيطرة علي أراض في جبال النوبا، والتقدم في دارفور في نفس العام.
ب - قصر الفترات الانتقالية : لقد اتسمت الفترات الانتقالية بالضعف والاضطراب وغياب الرؤية السياسية الجامعة لمعالجة القضايا المصيرية، وعلى رأسها مشكلة الحرب الأهلية، وعدم وجود كيان دستوري متماسك لحماية برنامج الفترة الانتقالية، بشكل أدى لإعادة إنتاج المشكلة السياسية، وحدوث دورات من الانقلابات العسكرية.
ومع اعتداء حركة العدل والمساواة علي العاصمة القومية ( الخرطوم) فيما أطلقت عليه " الذراع الطويلة" في مايو 2008، ثار عدد من القضايا من بينها العلاقة بين مركز الدولة وأطرافها ومسائل تقاسم الثروة ونشر السلطة، غير أن القضية الأكثر أهمية هي أن هذه الحادثة جاءت في سياق الفترة الانتقالية الممهدة للتوافق الوطني حول بناء الدولة، وهذا ما يثير التساؤل حول جدوى الفترة الانتقالية ومساهمتها في تحقيق الاستقرار السياسي.
فالاعتداء علي العاصمة القومية التي حظيت باعتبار خاص فى اتفاق السلام الشامل، يعيد الأزمة السياسية في السودان إلي حالتها التقليدية ودائرة الحرب الأهلية ويقلل من فرص التوافق العام حول القضايا الأساسية، فبالنظر للخطاب السياسي لحركة العدل والمساواة، يتضح أن الحركة ركزت علي أنه رغم وجود دولة السودان المتعددة الأقاليم إلا أنه لم يتم التوافق الوطنى حول أسس التعايش المشترك أو معالجة الاختلال بين مركز وأطراف الدولة، ولمعالجة هذه المشكلة رأت الحركة أن وضع دستور يتيح فرصاً متكافئة لكل السودانيين يعد شرطاً لازماً للحوار الوطنى.
كما تكمن أهمية نقل الصراع المسلح للعاصمة السودانية، في أنه يعد وثيق الصلة بالسياسات الدولية تجاه السودان، فهو يعد نتيجة طبيعية للدعم الذى تتلقاه حركات المعارضة المسلحة بشكل عام من جهات عدة تسعي لترتيب مكانتها ودورها السياسي فى القارة الأفريقية.
ورغم شمول مشاريع الاتفاق بين الحكومة وحركات دارفور للقضايا محل الخلاف، إلا أن حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة لم يشاركا في جولات التفاوض التى شملتها رعاية الأمم المتحدة فى "سرت"، ويعد العامل الدولى مهماً فى تفسير تدهور محادثات الحكومة مع هاتين الحركتين، وخاصة فى ظل تدويل قضية دارفور وتزايد التدخل الدولى في ظل قرار مجلس الأمن رقم 1706.
وبغض النظر عن الإخفاق في تحقيق أهداف الفترة الانتقالية الحالية، تعكس مفاوضات الدوحة بين الحومة وحركات دارفور مدي تعقد الأزمة السياسية في السودان، حيث تسعي حركات دارفور لخلق وضع في غرب السودان يماثل وضع الجنوب، وهو ما يعد توجها نحو المطالبة بتقرير المصير وتجاوز مرحلة المطالبة بتقاسم السلطة والثروة، وهذا ما ينقل الجدل والصراع السياسي خطوة متقدمة نحو إعادة صياغة الدولة السودانية، ليس من خلال رؤي ومشاريع تقاسم السلطة والثروة ولكن من خلال تقسيم الدولة أو اضمحلال السلطة المركزية.
ج) انقسام النخبة السياسية: يعد انقسام النخبة السودانية من العوامل الرئيسية المسببة للحرب الأهلية، فقد ارتبطت الحرب الأهلية بالانقسام حول قضايا الاندماج الوطنى فترة ما بعد الاستقلال، فقد شهدت القضايا المتعلقة بوحدة الدولة وتحقيق السلام خلافات شديدة بين قادة الأحزاب والحركات السياسية، ساهمت فى زيادة التباعد فيما بينها.
وقد أدى انقسام النخبة السياسية إلى فشل التنظيمات السياسية السودانية، قبل وبعد الاستقلال، فى تحقيق الاستقرار السياسى، فلم تستطع بناء مؤسسات سياسية قادرة على توفير الاستقرار السياسي، ووضع أسس مستقرة لإدارة الدولة، سواء أثناء فترة الحكومات المدنية أو في الفترة الانتقالية، وهذا ما أدى إلى انهيار النظم المدنية فى أعوام 1958م، 1969م، و 1989م.
ولعل النتيجة الأكثر أهمية للانتخابات السودانية والتي أجريت في أبريل 2010 تتمثل في اتساع الفجوة بين شريكي السلطة ( المؤتمر الوطني والحركة الشعبية )، فمن ناحية كشفت الانتخابات عن قدرة "المؤتمر الوطني" علي إجراء الانتخابات رغم الكثير من المعوقات الداخلية والخارجية، كما كشفت في ذات الوقت عن قدرة الحركة الشعبية في السيطرة علي إدارة الانتخابات في الجنوب، غير أن الأكثر أهمية هنا، هو ما يتعلق بالخطاب السياسي للحركة الشعبية أثناء الحملة الانتخابية والذي بات أكثر اقتراباً من الخطاب الجنوبي الانفصالي، وقد لازم هذا التباعد تفكك الأحزاب السياسية والمجتمع المدني وتراجع دورها السياسي، حيث ساهمت مقاطعة عدد من الأحزاب للانتخابات في ترسيخ هشاشة النظام السياسي وخفض مستوي المشاركة السياسية بشكل يضعف الدولة عن الصمود أمام التحديات، وتعكس تركيبة الحكومة التي شكلها " البشير" جوانب التنافر السياسي فى الدولة، وهي حالة تدفع السلطة للاستسلام للضغوط الخارجية.
ويمكن القول؛؛ أن التحدى الأساسي الذي يواجه الأحزاب والحركات السودانية، هو أن التحالفات السياسية ما تزال ظاهرة قلقة ولم تشهد استقراراً ملموساً خلال فترة ما بعد الاستقلال الأمر الذي يفرض تحديات على الفترة الانتقالية، يتمثل أهمها في إمكانية حدوث التحول والحراك السياسي للأحزاب والحركات السياسية كإطار للتكيف مع وضع الفترة ما بعد الانتقالية.
لقد كانت تجارب الاستبعاد والعزل السياسي تطوراً غريباً علي السياسة السودانية. فقد شكل حل الحزب الشيوعي في أواسط الستينيات من قبل البرلمان وصدور أحكام بالردة علي الشخصيات العامة بداية لانحراف الدولة عن المواطنة، وباستمرار هذا التوجه في إعدامات رمضان الشهيرة في عام 1990 حدث شرخ وانقسام عميق في الحركة الوطنية السودانية، فقد كانت النتيجة المباشرة لهذه الأحداث هو ما يتمثل في تزايد حدة الانقسام بين التيارين القومي والإسلامي وبشكل ساعد علي انتشار التيارات الجهوية والانفصالية في السياسة السودانية.
وكان من المفترض أن يترسخ استقلال الدولة مع مضي أكثر من خمسين عاماً علي الاستقلال، غير أن ثمة شواهد توضح أن الدولة تقع أسيرة للتدخل الأجنبي في كثير من مناحي السياسة والاقتصاد والاجتماع،
فمنذ بداية تسعينات القرن الماضي شهدت العلاقة بين الأحزاب السودانية تضامناً ساعد علي الدخول في تحالف معارض للحكومة السودانية، إلا أنه فى النصف الثانى من العقد ذاته شهد خلافات شديدة بينها، فبينما استمر تحالف الحركة الشعبية والاتحادى الديمقراطي منذ توقيع اتفاقية السلام فى 1988، كانت علاقتهما تزداد توترا مع حزب الأمة، وخاصة بعد خروج الصادق المهدى من السودان فى ديسمبر 1996، ووصلت العلاقة لمستوى ألازمة فى ديسمبر 1999، ولكنه رغم الانتقادات المتبادلة عقد الحزب الاتحادي اتفاق "نداء السودان" مع حزب الأمة فى 27 فبراير 2001، بعد عقد الحركة الشعبية "اطار تفاهم مع "المؤتمر الشعبى" فى "جنيف" فى 19 فبراير 2001.
لقد كانت العلاقة بين حزب الأمة والحركة الشعبية شديدة التقلب خلال فترات زمنية متقاربة، فرغم اتساع مساحة التلاقى في بداية عقد التسعينات وخاصة بعد اتفاق شقدوم 1994، فإنها أخذت فى التآكل حتى انقطعت العلاقة بينهما فى 1999، عندما اعتبر "جارانج" أن حزب الأمة مسئول عن الأزمة السياسية للدولة، ورغم ذلك شارك الطرفان الى جانب الحزب الاتحادى فى عقد "إعلان القاهرة" فى 24 مايو 2003، لوضع إطار للتعامل مع مفاوضات مشاكوس.
ويرجع التقلب فى العلاقة بين هذه القوى الى تأثرها بالتدخلات الخارجية، بحيث يمكن القول أن تقاربها أو تباعدها لايعبران عن تحول حقيقى فى التوجهات السياسية، وهذا ما تكشف نماذج التحالفات فى الفترة 1990 - 1995، فقد غلب عليها تجاوز التوجهات الأيدلوجية والسياسية، دون إجراء مناقشات داخلية أو طرح رؤى جديدة تعبر عن تحول حقيقي فى مواقفها، فلم تستطع خلق مصالح دائمة، وهذا ما يفسر انفراطها السريع.
وبالتالي فإن التحدي الذي يواجه اتفاق التراضي الوطني وعيره من الاتفاقات، يتمثل فى اختلاف الإرادة السياسية لقادة الأحزاب والحركات السياسية حول المشروع الوطني، وهو ما يعطل البدء بحراك سياسي تقوم عليه تنظيمات سياسية حديثة لتشكيل الإطار الوطني للعمل السياسي.
د - ترسخ ثنائية الشمال والجنوب: حيث تعد الحرب الأهلية انعكاسا لتركيبة السودان الثنائية منذ الاستقلال، ومن ثم فان التوصل للحل السياسى الشامل لا ينحصر فى وقف الحرب فى جنوب السودان أو تسوية مشكلة الجنوب فقط، ولكن تمتد إلى معالجة أسباب عدم الاستقرار السياسى على المستوى الوطنى، فحصر المشكلة السودانية فى نطاق الجنوب السودانى يقلص المنظور الوطني، فالمشكلات لا تقتصر على الجنوب وحده، بل تشمل كل الجبهات؛ الجنوب ، الشرق ، وسط السودان، وجبال النوبا.
ومع إعلان "بروتوكول مشاكوس"، نشأ نمطان من المفاوضات، الأول بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية، والثاني بين أحزاب المعارضة في التجمع الوطني والحكومة، وقد عكست هذان النمطان الطابع التجزيئي لتناول القضايا السودانية والتي شهدت تعدد منابر التفاوض، غير أن الولايات المتحدة دعمت المفاوضات علي مسار نيفاشا، ورفض "جون دانفورث" مذكرة أعدها " فاروق أبو عيسى" والتي اعترضت على مشاكوس وتفويض الحركة في التفاوض نيابة عن التجمع الوطني، حيث أن إطار مشاكوس لايؤدي لوحدة الدولة ويعزز خيارات الانفصال، وذلك لأنه تضمن عناصر خلل كثيرة، تتمثل في تعدد النظم السياسية في السودان، بين نظم علمانية، وأخرى إسلامية، واختلاف الصلاحيات الممنوحة للأقاليم، بشكل يهدد الوحدة الوطنية، ويعزز ذلك تصنيف بعض الأقاليم ( أبيى، جنوب النيل الأرزق) على أساس إثنى وليس على أساس جغرافي أو إداري.
ولذلك جاءت البروتوكلات الست، وخاصة ما يتعلق بقسمة السلطة وابيي، لا يخدم قضية السلام، ففى الفترة الانتقالية يكرس هيمنة طرفي الاتفاق على مؤسسات الدولة، ويهمش الأطراف الأخرى بمنحها مجتمعة 20 % كنسبة مشاركة في مؤسسات الدولة، بينما تحظى الحكومة بنسبة 52 % والحركة الشعبية 28%، فيما يتوسع في صلاحيات حكومة جنوب السودان.
وكشفت التطورات السياسية أثناء الفترة الانتقالية منذ يناير 2005 عن وجود خلافات بين الحركة الشعبية وبعض أعضاء تحالف المعارضة، بسبب سعى الحركة إلى توسيع النطاق الجغرافى للإقليم الجنوبى، وقد أثارت مسألة أبيبى جدلاً واسعاً على المستوى السوداني.
ثانياً: التدخل الخارجي
منذ دخول الاستعمار الأوربي للسودان، بدأ تطبيق سياسات التغيير الثقافي في السودان و عزلها عن السياسة المصرية إلي جانب العمل علي تكوين ثقافات متصادمة داخل السودان.
سياسات التغريب: قامت الخطة الأساسية التعليمية للاستعمار على تكوين هوية مختلفة للجنوب، مستخدمة السياسات الثقافية والتعليمية والإدارية، وقد ساعدت هذه السياسات والتي طبقت بعد الحرب العالمية الأولي علي تغذية مقومات تمرد الجنوبيين، وقد ترافقت تلك السياسات مع السماح للجمعيات التبشيرية المسيحية ممارسة نشاطها في جنوب السودان بحرية تامة وحددت لكل منها المنطقة التي تعمل فيها، فالإرسالية الأمريكية تعمل بين الشلك، والجمعية التبشيرية الإنجليزية تعمل بين الدينكا والشلك، والجمعية الكاثوليكية تعمل بين القبائل النيلية دينكا نوير والشلك أي غالبية سكان بحر الغزال والاستوائية، وقد سعت السياسات لتحقيق الأهداف التالية:
1- محاربة الإسلام في جنوب البلاد ووقف انتشاره بين القبائل الإفريقية .
2- إدماج الجماعات العرقية الجنوبية في النظام الذي يسعي الاستعمار لتكوينه.
3- العمل علي توطين الثقافة الغربية لدي الجنوبيين.
وعندما حصل المبشر ون على موافقة حكومة العهد الثنائي لعملهم في جنوب السودان بدأوا في إنشاء الكنائس والمدارس، غير أن التقدم فيها كان بطيئاً جداً بسبب صعوبة المواصلات ونقص الموارد المالية وتعدد اللغات بين القبائل و انتشار الأمراض، إضافة إلى تنقل القبائل من منطقة لأخرى سعياً وراء مناطق الرعي والزراعة والصيد. كان رأي الحكومة أن عمل الجمعيات التبشيرية هو السعي لتغريب القبائل الوثنية أكثر مما هو محاولة لنشر المسيحية بينها، حيث اعتبرت في مؤتمر الرجاف ١٩٢٨ م ، أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للتعامل في جنوب السودان، ووضع الصعاب في وجه اللغة العربية.
ولكنه بمرور الوقت تزايد نفوذ الجمعيات التبشيرية وبدأت في العمل علي تسليح وتدريب الجماعات الجنوبية وتكوين نظام اجتماعي متباين مع الأنساق الاجتماعية السودانية، لتشكل جانباً مهماً للسياسات الغربية المناهضة للإسلام والعروبة، وقد حاولت الحكومة السودانية في عام 1962 التصدي لتغلغل الإرساليات الأجنبية، غير أن هذه المحاولة واجهت حملة سياسية مضادة تحت رعاية الولايات المتحدة وأوربا لمنع الحكومة السودانية من التدخل في في شئون الجمعيات التبشيرية، وقد وفرت هذه المظلة الفرص المواتية للجمعيات للعمل على عرقلة مساعى الحكومة ومشاريعها في الجنوب، ودعم قوى المتمردين فيه، وقد برزت خلال تلك الآونة عدة تنظيمات للمتمردين منها الاتحاد الوطنى السودانى للمناطق المقفلة، وحزب سانو، وما تفرع عنه من تنظيمات بعد ذلك.
السياسات الغربية الراهنة: حاولت الولايات المتحدة تعزيز تغلغلها في السياسة السودانية عن طريق أحزاب المعارضة في المنفي في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، حيث عقدت اجتماعات بين مسئولين أمريكيين وممثلين للمعارضة في كمبالا (أوغندا) والقاهرة، وكان الهدف من هذه الاجتماعات إخضاع المعارضة للسياسة الأمريكية في مقابل إمدادها بالسلاح والأموال، ولم تدرك أحزاب المعارضة أن السياسة الأمريكية تتجه لفرض أوضاع سياسية تتعارض مع الرؤي الوطنية لكل من أحزاب؛ الاتحادي الديمقراطي والأمة القومي والحزب الشيوعي والبعث الاشتراكي فضلاً عن ممثلي القوات المسلحة المشاركين في المعارضة.
حدث خلاف داخل الولايات المتحدة حول صيغة التجمع الوطنى للمشكلة السودانية كما طرحها فى مؤتمر 1995، فقد ظهر اتجاه جديد لتغيير الحكومات بالطرق السلمية وسمى "سياسة الهبوط السهل" (SOFT-ALANDING POLICY) كبديل لتغييرها بالعنف، وقد دعم هذا التوجه المؤسسات غير الحكومية والتى مارست ضغوطا على الإدارة الأمريكية للمضى فى ذلك السبيل، ومن تلك المؤسسات مركز كارتر ومنظمة "وورلد نشنو" التى كان يعنيها توظيف المعونات الإنسانية لأهداف سياسية ، وتوجيهها لتعزيز مطالب حق تقرير المصير.
وقد ساهم الأمريكيون بتقديم دعم لتقوية الموقف التفاوضى للمعارضة، وقد خصصت الولايات المتحدة فى عام 2000 ثلاثة ملايين دولار، قسمت على 3 دفعات، عبر صندوق الدعم الأمريكى USAID وبرنامج النجمة STAR وغيره من البرامج، التزمت بمبلغ 42.5 مليون دولار، عشرون مليوناً منها للتعليم والاثنان وعشرون ونصف المتبقية لتطوير قطاع للزراعة.
وقد شكلت أمريكا طرفاً مهما فى التحضير لجولات التفاوض في نيفاشا والمسودات والتدخل في الصياغات النهائية، وبكلمة مختصرة نستطيع القول أن الولايات المتحدة هي مهندس كل البروتوكولات الست. والجانب الأكثر أهمية في الدور الأمريكى كان فى تحويل الملف السوداني لمنظمة الإيجاد وشركائها، وإبعاده عن أعين الدول العربية، وهذا ما يتطابق مع الأجندة الأمريكية وأجندة الحركة الشعبية، وبهذا المعنى تكونت تحالفات كان من نتيجتها توسيع الخيارات أمام الحركة الشعبية فى إدارة جنوب السودان، وتهميش الدول العربية وإبعادها عن المسرح السياسي.
لقد ظلت السياسات الغربية مدفوعة بترسيخ الطابع الأفريقي والعلماني للدولة السودانية، وقض تكاملت هذه الرؤية مع سياسات التنصير وتنشيط دور الكنائس الغربية وغير الأرثوذكسية في مجال الإغاثة والتعليم. وقد عملت هذه السياسة علي تكوين تركيبة اجتماعية موالية للدول الغربية وتجزئ الهوية السودانية، بحيث صارت هناك حركات تري الحل في هوية غير سودانية تغلف بمطالب الانفصال.
وقد قامت استراتيجيات التفاوض في جولات مشاكوس وكارن ونيفاشا خلال النصف الأول من العقد الحالي علي تجزئ الحركة السياسية السودانية، فقد اعترفت المفاوضات والتي قامت تحت رعاية منظمة الايجاد وشركائها وخاصة الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا بحقوق سكان إقليم جنوب السودان في تقرير المصير، وقد وظفت هذا المدخل لتفكيك الحركة السياسية السودانية، حيث استبعدت الأحزاب السودانية من المشاركة في المفاوضات التي انحصرت في الطابع الثنائي؛ بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وعلي هذا الأساس صارت مناقشات مستقبل السودان تتراوح بين انفصال الجنوب ووحدة السودان،
وفى أثناء زيارته للسودان في 2010، أعلن نائب الرئيس الأمريكى (جو بايدن) عن استقرار الولايات المتحدة للاعتراف بدولة جنوب السودان إذا ما اتجهت نتائج الاستفتاء على تقرير المصير نحو الانفصال، وقد جاء هذا التصريح فى سياق جولة أفريقية لنائب الرئيس الأمريكى، يتناول يها السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا، وإذا كانت السياسة الأمريكية تجاه السودان خلال العامين الماضيين متأرجحة بين الوحدة والانفصال، فإن صدور هذا التصريح يعنى أن السياسة الأمريكية تتجه لتفضيل الانفصال، وخاصة بعد الانتخابات السودانية التى كشفت عن التباعد بين الشمال والجنوب، وهو ما يشكل واحد من العوامل التى ترتكز عليها السياسة الأمريكية، والعامل الآخر والذى لا ييقل أهمية، وهو أن السياسة الأمريكية تتقارب مع أجندة الحركة الشعبية ذات الطبيعة الأفريقية والمتباعدة مع الثقافة العربية.
وقد استخدت الولايات المتحدة والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن المحكمة الجنائية الدولية لتقويض دعائم النظام السياسي للمؤتمر الوطني، حيث صيغت الاتهامات لتشمل الكثير من أركان النظام ولم تستثن رئيس الدولة، وهذا ما يتضافر مع فكرة المساعي الأوربية والأمريكية لتقويض ركائز النظام القائم رغم غموض الخيارات السياسية بشأن مصير الدولة السودانية، فخلال الفترة الانتقالية حدث تباين واسع النطاق بين القوي والتوجهات السياسية، بحيث صارت فرص التقارب والتوافق في الحدود الدنيا، وهو ما يعزز خيار الانفصال والانقسام ليس فقط علي مستوي جنوب السودان ولكن أيضاً علي مستوي الدولة .
وقد جاء التتوجه الأمريكي كامتداد للتعامل الدولي مع الأزمة السودانية والذي استند علي تقرير الأمين العام ( كوفي عنان ) فى 1998 والمتعلق بحالة الأمن والسلم فى أفريقيا، وبشكل خاص فى قضية دارفور، حيث صدر بشأنها تسعة قرارات فى الفترة من أبريل 2004 وحتى نوفمبر 2006، ويمثل القرار 1547 ( أبريل 2004) أساس التدخل فى السودان، فقد تناول قضايا المفاوضات بشأن جنوب السودان بين الحكومة والحركة الشعبية وعرض أيضاً لدارفور باعتبارها مشكلة قادمة، وعلى هذا الأساس مدت الأمم المتحدة مظلتها لقضية دارفور، وبدأت قرارات مجلس الأمن في تناول الأزمة من منظور يعزز حركات التمرد ويضعف دور الحكومة، فاعتبرت أن الجنجويد هم امتداد للحكومة ويشكلون تهديداً للأمن فى دارفور (القرار 1556)، وهناك من القرارات ما يشكل تهديداً وضغطاً مباشراً على الحكومة، فتشير القرارات إلى حدوث تقدم دور الحكومة فى حفظ الأمن إلا أنها تقر فى ذات الوقت بوجود تهديد للسكان.
وإذا كان القراران السابقان يمهدان للتدخل، فأن القرارات 1591، 1593، 1672، وفرت الأرضية للتدخل المباشر فى الشئون السودانية، حيث تناولت الترتيبات المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية وأسماء المشمولين بالاتهام، ولم تتوقف القرارات عند هذا الحد، ولكنها فى القرار 1706 وصلت إلى أقصى مدى من التدخل، فقد تضمنت (م8) من هذا القرار ثلاثة بنود، الأول؛ إعادة صياغة النظام القضائى السودانى، والثانى إدارة شأن الشرطة فى السودان، أما الثالث الحكومة السودانية، وتنحية النظام من جهة ، ودعم حركات التمرد من جهة أخرى.
الدور الإسراائيلي
يتسم الدور الإسرائيلي في أزمة جنوب السودان بثلاثة خصائص، و هي أنه دورتاريخي و استراتيجي و غير مباشر ، ونقصد بالدور التاريخي أن إسرائيل كانت من أهم الدول المساندة
لحركة الانيانيا في الستينات حتي توقيع اتفاقية أديس أبابا في عام 1972، وتصاعد الدعم الاسرائيلي للجنوبيين خلال فترة ما بعد حرب 1967، حيث قدمت المساعدة العسكرية التي جعلت من الانيانيا قوة سياسية مسلحة معتبرة، وقد استمرت هذه العلاقة مع الحركة الشعبية ومع عودة الحرب الأهلية في عام 1983
ثالثاً: خريطة الأدوار الإقليمية
نمو المظلة الأفريقية
وبشكل عام قامت منظمة الإيجاد بأدوار مهمة فى إعادة ترتيب الأوضاع السياسية فى شرق أفريقيا، حيث برز الدور السياسى لكل من كينيا وإثيوبيا، وقد لقى هذا الدور مساندة مباشرة من شركاء الإيجاد، وترجع أهمية إطار شركاء الإيجاد إلى أنه يشمل كلا من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، وهو بهذا المعنى يشكل مظلة سياسية واقتصادية تعزز الدور السياسى للمنظمة على مستوى شرق أفريقيا، وهذا لا يقتصر فقط على الدعم الاقتصادى ولكنه يشمل الدعم السياسى، وقد اتضح التضامن من جانبين:-
الأول: تقوية الدور الإقليمى لكل من كينيا وإثيوبيا فى تسوية الصراعات والحروب الأهلية، حيث أطلعت كينيا بدور محورى فى التوصل لاتفاق السلام الشامل أما إثيوبيا فقد أسند إليها ملف الصومال بحيث صارت الطرف المهيمن على الشئون الصومالية وخاصة بعد تشكيل الحكومة الحالية ( برئاسة شيخ شريف) ، وبمرور الوقت ترسخ الدور الإقليمى للبلدين ولكنه كان خصماً من الرصيد السياسى لكل من إريتريا والسودان والنطاق العربى بشكل عام.
وقد تعزز التقارب والتضامن بوجود أهداف مشتركة فى مكافحة "الإرهاب" وقد فتح هذا الجانب باباً واسعاً للتعاون الأمنى ، لم يقتصر فقط على مد كينيا وإثيوبيا بالسلاح ولكن امتد لإنشاء مراكز متقدمة للإنذار المبكر والانتشار السريع فى كينيا ووجود خمس قواعد عسكرية غربية فى جيبوتى وإسناد الدور العسكرى الإثيوبى فى الصومال.
أما الجانب الثانى: ويتمثل فى الترابط الفكرى، فقد اتضح منذ بداية التسعينات وجود تماثل فى التوجهات الفكرية لدى الإيجاد وشركائها، فالعوامل المشتركة بينهم تتمثل فى ترسيخ الهوية الأفريقية لدى المنظمة والعلمانية، وانعكس هذا التوافق بشكل خاص فى مبادرات الإيجاد لحل الأزمة السودانية ، حيث ركزت مبادرة الإيجاد (1994) على الطابع الأفريقى والعلمانى للسودان، وتبلورت هذه الرؤى فى إعلان مشاكوس (مايو 2002) ومفاوضات نيفاشا (كينيا)، ولعل النتيجة المهمة لتعامل المنظمة على الملف السودانى تتمثل فى تحويل الحركة الشعبية لتحرير السودان من حركة متمردة إلى شريك مؤثر فى السلطة وهى عملية تحول كبيرة فى السياسة السودانية تشكل تمدداً فى الرؤية الأفريقية والعلمانية فى السودان.
مصر والسودان
منذ الحكم الثنائي، ساد العلاقات المصرية ـ السودانية نوع من التوتر السياسي، تمثلت أبرز محطاته في القبول بفصل السودان عن مصر في أواسط الخمسينات من القرن الماضي تحت تأثير تراجع التوجهات الاتحادية بين السودانيين، وقد انعكس هذا التراجع في تصويت مجلس الشعب السوداني ـ وبمشاركة الجنوبيين ـ علي استقلال السودان في نهاية عام 1955، غير أن المشكلة لاتكمن في سعي السودانيين للاستقلال، وإنما تكمن في تزايد فترات التوتر السياسي بين البلدين وفشل مشروعات التكامل والتعاون، وهناك أسباب عديدة لهذا الفشل، فير أنه من الأهمية الإشارة إلي أن تجربة الحكم الثنائي شكلت جزءً من الإدراك السلبي لدي قطاع من السودانيين تجاه السياسة المصرية، ولم تنجح محاولات تصحيح هذه الصورة علي مدي فترة ما بعد استقلال السودان، وخاصة مع إثارة مشكلات يمكن وضع تصور لحلها.
وتعكس التطورات الجارية المشكلة المزمنة للدور المصرى فى السودان والتى اتسمت بضعف الإطلاع المصرى على الشئون السودانية خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذا الضعف يرجع للعديد من العوامل الداخلية المتعلقة بالنظام المصري والتي تتمثل فى صعوبة التكيف مع مطالب التعددية العرقية والسياسية فى السودان وعدم الدخول فى شراكات جادة مع المنظمات الإقليمية وخاصة منظمة الإيجاد، وقد أدت هذه السياسة إلى التباعد مع الحركات الجنوبية فى أواخر التسعينات من القرن الماضي بسبب رفض حق تقرير المصير وهو ما ترتب عليه تهميش دورها فى الترتيب لمحادثات السلام التى اطلعت بها كينيا كطرف ثالث بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية، وفى هذا السياق يمكن القول بوجاهة انتقادات الخارجية السودانية للدور المصرى ومحدودية تأثيره، فهو يعكس واقع كشف عنه الكثير من الأحداث، سواء فى قضية دارفور أو الجنوب أو الشرق.
رابعاً: حق تقرير المصير:
تبلورت مطالب حق تقرير المصير في نهاية عقد الثمانينيات، بعد مضي مايقرب من عقد علي عودة الحرب الأهلية في عام 1983، وقد أدركت الولايات المتحدة تنامي مطالب تقرير المصير ورتبت لعقد اجتماعات للأحزاب السودانية والشخصيات العامة لمناقشة المستقبل السياسي للسودان، وقد بدأت الترتيبات الأمريكية بعقد مفاوضات فرانكفورت 1992 بين الحكومة و المنشقين عن الحركة الشعبية ( جناح الناصر)، غير أن هذه المفاوضات كشفت عن تباين التوجهات السياسية، فبينما ركزت الحكومة السودانية على الهوية العربية الإسلامية، فإن الحركة الشعبية – الناصر تمسكت بالعلمانية والأفريقية، ومن ثم حدثت مزايدة بين الفصائل الجنوبية والمطالبة بالاستقلال.
وقد شهدت أوائل التسعينيات تسارعاً نحو بلورة حق تقرير المصير، وفي هذا السياق عقدت حلقتي نقاش للتعرف علي مواقف السياسيين السودانيين تجاه الوحدة والانفصال وإعادة بناء الدولة، عقدت الحلقة الأولي في جامعة بيرجن في الدانمارك في عام 1992، أما الثنية فقد عقدت في واشنطن في واشنطن في أكتوبر 1993 تحت رعاية المبعوث الأمريكي للسودان (هارى جونستون) والتى شارك فيها العديد من السياسيين الجنوبيين وممثلى المجموعات المسلحة، وشخصيات مستقلة، وقد عمقت نتائج هاتين الحلقتين من التباين في المواقف السياسية والفكرية، بحيث صارت المطالبة بتقرير المصير تشغل أولوية الخطاب السياسي لكل من النخبة المثقفة والسياسيين السودانيين، ولم تقتصر علي الجنوبيين ولكنها انتقلت لغرب السودان وشرقه، كما تبناها حزب الأمة في اتفاقية "شقدوم" مع الحركة الشعبية في ديسمبر 1994.
وبعد ذلك؛ تطور تناول تقرير المصير في السياسة السودانية، ليشكل القضية المركزية في النقاش العام، بحيث صار يرتبط في الأدبيات السودانية بوقف الحرب الأهلية وتحقيق السلام والوحدة الطوعية، وقد قام النقاش علي أرضية "إعلان المبادئ" الصادر في عام 1994 والذى أقرته مجموعة دول "الإيجاد" كأساس لتحقيق السلام، وهو إعلان يركز علي علمانية الدولة وحق تقرير المصير كحل بديل للحرب الأهلية.
وترجع المطالب بحق تقرير المصير إلى الأسباب التالية:-
أ) تنامى الوعى بالهوية الأفريقية للمجموعة الجنوبية والذي يعد السبب الرئيسى فى المطالبة بالاعتراف بمكانتها، وقد أرتبط نمو الوعى بالهوية بتعريف هوية الدولة على أنها عربية إسلامية، أدى إلى تعميق أزمة الاندماج الوطنى الذى برز فى تكوين حركات إقليمية (جهوية) قامت باحتجاجات ضد الحكومة المركزية بإمكانياتها الذاتية أو بدعم أجنبى.
ب) استمرار الصراع السياسى وتركز السلطة فى المجموعات الشمالية وبطء استجابة الحكومات المتتالية لمطالب الأقاليم.
جـ) وقد زادت حدة المطالبة بحق تقرير المصير، بعد انقلاب 1989 لسببين:
1- فرض الحكومة السودانية مفهوماً خاصاً للانتماء الإسلامي والعربى على كافة المجموعات السكانية فى السودان.
2- طرح الحكومة السودانية خيار تقرير المصير على المجموعات المنشقة عن الحركة الشعبية فى اجتماعات "فرانكفورت 1992"، وهو ما أدى لتشدد الجنوبيين تجاه حق تقرير المصير.
د) أدى تزايد تدخل دول الجوار فى الصراع السودانى وتدويله، لتوحيد مطالب الجنوبيين بتقرير المصير.
هـ) تعثر خيار الوحدة، فقد رأت الحركة الشعبية فى مقررات "توريت " 1991 أن العمل من أجل تقرير المصير كبديل عن خيار السودان الجديد، وقد ارتبط هذا التوجه بتدهور القدرات السياسية للحركة الشعبية، سواء بفقد دعم الحكومة الإثيوبية، أو إنشقاقها وهو ما دفعها لإضافة خيارى؛ الكونفدرالية، وتقرير المصير.
المناطق المشمولة بحق تقرير المصير: ثار جدل حول تحديد المناطق المشمولة بممارسة تقرير المصير ، فبينما يري العديد من الاحزاب السودانية حدود الأول من يناير 1956، تشكل أساس نطاق تقرير المصير ليشمل بحر الغزال الاستوائية، وأعالي النيل، تتوسع الحركة الشعبية وإتحاد الأحزاب الأفريقية والحزب القومى فى تعريفه ليشمل مناطق؛ جبال النوبا، أبيى فى جنوب كردفان، وجبال الأنجسنا، وأى حدود او تخوم سوف يتم إقرارها وفقاً للقانون الدولى أو عبر الوساطة الدولية لتعيين الحدود، وهو ما يضفي صيغة واسعة لتعريف حدود إقليم جنوب السودان، بما يخلق سياسة دائمة للتوسع نحو الشمال.
وإزاء هذا الخلاف قبلت أحزاب التجمع الوطنى إجراء الاستفتاء فى مناطق جبال النوبا، أبيى ، جبال الأنجستا، على مرحلتين، الاستفتاء حول الترتيبات الإدارية لتقرير الوضع الإدارى لهذه المناطق، وبناء على نتيجة الاستفتاء حول الوضع الإداري، يتم التعامل مع ممارسة حق تقرير المصير.
خيارات الاستفتاء. توافقت الصياغات السياسية علي نمطين للاستفتاء وهما:-
1- أن يتم تطبيق الاستفتاء على حق تقرير المصير مباشرة على "جنوب السودان" بحدود يناير 1956، للاختيار ما بين الوحدة فى إطار فدرالى أو كنفدرالى، أو الإستقلال.
2- تعليق تطبيق حق تقرير المصير على الانتهاء من استطلاع رأى سكان؛ أبيى، جبال الأنجستا، وجبال النوبا، حول رغبتهم فى الاستمرار فى إطار الترتيبات الإدارية كجزء من شمال السودان، أو الانضمام لبحر الغزال عبر استفتاء يتم خلال الفترة الانتقالية، وإذا ما أكد الاستفتاء أن رغبة الأغلبية من مواطنى منطقة أبيى هى الانضمام لبحر الغزال فإنه يصبح من حقهم ممارسة حق تقرير المصير كجزء من جنوب السودان.
ولكنه في ظل عدم أجراء الاستفتاء في المناطق الثلاثة خلال الفترة الانتقالية، فإن هذا الوضع سوف يدخل السودان في حالة من الصراعات والنزاعات المفتوحة، ويشكل الصراع حول منطقة أبيي المعضلة الأولي لتداعيات إجراء الاستفتاء في جنوب السودان.
الجدل السياسي حول أبيي. لدي مناقشة قضية منطقة أبيي تظهر مسالة الحدود الإدارية للمنطقة والتي دار بشأنها جدل حاد في مفاوضات السلام وترتبت عليها أزمات سياسية بين حكومة الوحدة الوطنية والحركة الشعبية، بشكل يعيد الأزمة السودانية لمراحلها البدائية، فقضية ابيي ـ وفقاً لكل من الحكومة والحركة الشعبية، تعد النقطة الحرجة فى الفترة الانتقالية.
وقبل عقد اتفاق السلام الشامل مثلت الحدود الإدارية التى تفصل الإقليم الجنوبي عن الأقاليم الأخري جزءً كبيراً من الخلاف بين الحكومات السودانية المتعاقبة منذ 1956 وبين الأحزاب والحركات الجنوبية، وكان المطلب الرئيسي للجنوبيين هو فى ضرورة وجود رقابة أجنبية، وقد ظهر ذلك فى الجدل حول طبيعة الحدود بين الشمال والجنوب كما أقرت فى يناير 1956، فالجدل كما يتبناه كثير من الأحزاب الجنوبية، يوضح أن هذه الحدود ليست حدوداً إدارية بالمعنى التقليدى ( داخل الدولة ) ولكنها يمكن أن ترتقى لمصاف الحدود الدولية .
وهذا الوضع ينطبق على أبيى، إذ أن برنامج عمل لجنة حدود أبيي يقوم علي وجود رقابة أجنبية تشارك في تقرير مستقبل منطقة أبيي وترسيم حدودها وهذه العملية هي أقرب لأدوار محاكم التحكيم الدولية، وبغض النظر عن الخلاف بين الحكومة والحركة الشعبية بشأن مهمة لجنة حدود أبيي، فإن تشكيل اللجنة وطريقة إعلانها للتقرير النهائي دون موافقة حكومة الوحدة الوطنية، يشيران إلي أنها تتمتع باختصاصات قضائية حاولت من خلالها وضع أسس جديدة لتعريف مشكلة ابيي استندت فيها علي الشهادات الشفوية لسكان أبيي، فيما كان دور الخرائط والوثائق التاريخية أقل أهمية، واستبعدت توثيق الخمسين عاما الماضية رغم وضوحه بشكل أفضل من توثيق المائة عام السابقة علي الاستقلال.
وثمة اعتقاد أن إثارة مسألة الحدود على هذا النحو، لا يتعلق فقط برغبة الحركة الشعبية في الاستحواذ على منطقة أبيي فضلاً عن جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان والثروات والسكان، بقدر ما يمهد لتوسيع الإقليم الجنوبى.
لقد تمثلت أهم النتائج التي تترتب علي الخلاف حول أبيي فى عدم استقرار حكومة الوحدة الوطنية، حيث انسحبت منها الحركة الشعبية ثم عادت إليها، غير أن التطور الأكثر أهمية فى هذا السياق هو أن الحركة الشعبية تضع مهام حكومة جنوب السودان في أولوياتها وتركز في توسيع دورها في مواجهة حكومة الوحدة، وهذا ما يعد إضعافاً لفرص استمرار وحدة الدولة، وخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تقييد عمل لجنة تعداد السكان بشكل أد لتعطل إجارء الاستفتاء علي أبيي وجبال النوبا وجنوب النيسل الأزرق، وبهذا المعنى يمكن القول أن إجراء الاستفتاء علي تقرير مصير جنوب السودان قبل تقرير تبعية المناطق الثلاثة سوف يوفر مناخاً للتوتر السياسي في الفترة القادمة، حيث من المتوقع أن تثير الحركة الشعبية مطالبات بضم هذه المناطق لجنوب السودان، سواء عن طريق الاستفتاءات أو بدء حملة تحريض لسكان هذه المناطق ضد الحكومة السودانية مما قد يؤدي لنشوب الحرب الأهلية مرة أخري.
خامساً: صيغ الخروج من الأزمة
يتوافق الكثير من الكتابات السودانية وأيضاً الحركات والأحزاب السياسية علي حقيقة ومظاهر الأزمة، فيما تتمثل المعضلة في كيفية الخروج منها. فقد اتفق الجميع على حقيقة فشل السودانيين في تأسيس حكومات مستقرة تقوم علي الإرادة الشعبية، وتخاطب كل المشكلات والقضايا الوطنية المزمنة.
الإنتماء الثقافى للدولة:
لقد ثار جدل كبير حول هوية السودان، فهناك اتجاهات تتبني الهوية العربية والأفريقية ، وبشكل عام برز اتجاهان إزاء هوية الدولة ، وهما :ـ
أ) التوجه العربى الإسلامى : حيث تطرح "رؤية للنهضة ترتبط بأيدلوجيته الإسلامية تجاه الدولة، الاقتصاد، والمرأة، وغيرها من القضايا ، بما يحقق إقامة مجتمع إسلامي يكفل كرامة الإنسان وحريته، ويستمد أصوله من القرآن والسنة، بالإضافة إلى مصادر التشريع الأخرى، والتى لا تتعارض مع النصوص القطعية الدلالة والثبوت، ويتوافق مع عناصر الهوية المكتسبة والتي تتمثل في الأفريقية كانتماء تاريخى وجغرافى، وهى تنطبق على كل السودانيين، بينما اللغة والدين يعدان من العوامل المكتسبة، وهذه تشكل عناصر الانتماء الوطنى.
ب) التوجه الأفريقى : وتضم هذه المجموعة الحركة الشعبية واتحاد الأحزاب الأفريقية، والحزب القومى، وتستند رؤيتها لانتماء الدولة إلى أن البعد الأفريقي يمثل عنصر الانتماء الأصيل، لاتغير من حقيقته الهجرات العربية وانتشار الإسلام فى السودان، حيث أن نشأته سابقة على التاريخ الإسلامي، بداية من التواصل بين الحضارتين؛ النوباوية والمصرية، والهجرات العربية إلى شمال السودان، وهو ما أدى لتكوين السودان بشكله الحالى، والذى يتميز بالتعددية الإثنية، ولذلك تختزل "الحركة الشعبية" السودان فى الهوية الأفريقية، ذات الأساس الزنجى، وتعتبر أن التغيرات السكانية والثقافية التى طرأت على السودان لم تغير من طبيعته الأفريقية.
وقد عرفت الحركة الشعبية أصول نشأة السودان، بأنها الأرض التي وصفت في الإصحاح الثامن عشر بأرض "كوش"، وهي أرض السود خلف جبال "إثيوبيا"، وهي أرض الشجعان، الأباة، والطوال ذوي البشرة الناعمة، والذين أرسلوا سفراء للقدس بهدايا ثمينة، وتطلق عليهم الحضارة الرومانية القديمة، الأفارقة بمعني أرض السود، ويسميها المؤرخ اليوناني ( هيبرودوت) أرض إثيوبيا، أرض السود، وقد ظل هذا التصور يشكل الأرضية الفكرية للحركة الشعبية، وخلال الفترة الانتقالية لم تشر أدبيات الحركة لحدوث تغير أو تحول في موافقها الفكرية، وهذا ما يطرح التساؤلات عن تصوراتها لما بعد الاستفتاء علي تقرير المصير، وخاصة نا يثار عن سعي الحركة الشعبية لتطوير درها السياسي في المناطق خارج حدود جنوب السودان وفقاً لحدود 1956، وقد يكتسب الحديث عن تدعيم الحركة للخيارات الانفصالية لحركات دارفور ( حركة تحرير السودان) وبعض الحركات في شرق السودان، بما يساعد الحركة في تطوير مفهومها للسودان الجديد الأفريقي والعلماني.
مقترحات توزيع السلطة في بداية الفترة الانتقالية
برزت ثلاث صيغ لتوزيع السلطة بين الحكومة المركزية وبين الأقاليم لضمان التوازن والاستقرار خلال الفترة الانتقالية.
أ- الأسلوب شبه المركزى: حيث يغلب على توزيع السلطات بين الحكومة المركزية والولايات الشمالية (كردفان، دارفور، الوسطي، الشرقية، والشمالية)، النمط شبه المركزى، فقد شملت الاختصاصات المركزية العناصر الممثلة لسيادة الدولة؛ السياسة الخارجية، الدفاع، والضرائب، إلى جانب إدارة الموارد الطبيعية، وإدارة الخدمات ذات الطابع القومى، وخاصة فى مسألة التخطيط، فيما تركت الخدمات المحلية والثروة الزراعية داخل الإقليم لحكومات الولاية.
ب- التوسع فى اللامركزية: حيث التوسيع اختصاصات الولاية الجنوبية، فتختص الولاية الجنوبية بحفظ الأمن الداخلى وإدارة قوات الشرطة وقوات "الحركة الشعبية"، وتكوين لجنة الانتخابات الإقليمية، وفرض وجباية الضرائب، والتجارة عبر الحدود وجباية الرسوم الجمركية، وبالإضافة إلى تحديد اختصاصات الولاية الجنوبية حصراً، تم التوسع فى صلاحياتها، حيث أضيفت الاختصاصات التى لم ترد فى السلطات المركزية أو السلطات المشتركة، وهي صيغة تضفي الشخصية الاعتبارية الدولية للولاية الجنوبية بما يتيح لهاعقد اتفاقات ثقافية واقتصادية مع الحكومات الأجنبية.
جـ- الإدارة المشتركة: وتشمل الإدارة المشتركة أقاليم جبال النوبا وأبيى" الواقعتين تحت سيطرة الجيش الشعبى، بإدارة مشتركة عن طريق سلطة مدنية مشتركة بين حكومة إقليم كردفان و "الحركة الشعبية"، أما "جبال الأنجسنا" فيدار من خلال إدارة مشتركة بين حكومة الإقليم الأوسط و "الحركة الشعبية".
وبشكل عام شكلت هذه الصيغ الأرضية لتعزيز خيارات التباعد بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية، وتركيز خطابها السياسي علي الدعوة لانفصال الجنوب كحل نهائي، وخلال الفترة الانتقالية أدت هذه الصيغ لزيادة الفصام بين الحركات والأحزاب السياسية، وتضاؤل التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم ظلت قضايا الخلاف علي توزيع السلطة والثروة تتصدر الأحداث السياسية، وهذا ما يثر مشكلة مهمة وهي أنه رغم انتهاء الفترة الانتقالية لم يحدث التقدم السياسي المرغوب، وبالتالي، يمكن القول أن مشكلات السودان لا يمكن حلها فقط من خلال فترة انتقالية لا تتوافر لها الضمانات الكافية لتوطيد الثقة بين السودانيين، فمن الملاحظ أن الفترة الانتقالية وأيضاً الفترات الانتقالية السابقة شابها التوتر وانعدام الثقة وتزايد تأثير التدخلات الخارجية في الشئون السودانية.
ومن ثم، فإنه من الأهمية تكوين جبهة وطنية عريضة لضمان عدم انفراط عقد الدولة، وفي هذا السياق تعد مساهمات التيارات القومية والإسلامية أساسية وضرورية لمواجهة التحديات التي تواجه الدولة في مرحلة ما بعد الاستفتاء. تكمن أهمية مثل هذه الخطوة في أنها تتجاوز خلافات الماضي، كما أنها تدفع باتجاه إمعان النظر في إعادة بناء الدولة علي أساس التوافق الوطني والتكامل بين الفكر والحركة حتي لا يظل السودان في نهايات مفتوحة.
المراجع
1. إخلاص مهدى (إعداد): رسائل تاريخية بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون جارانج ( د. م، د . ن، 2002).
2. الحركة الشعبية لتحرير السودان: السودان الجديد: التصور والبرنـامج والدستـور المقترح، ياي، السودان: مارس 1998م.
3. الحزب الاتحادي الديمقراطي: برنامج الحزب، القاهرة : الحزب الاتحادى الديمقراطى، مؤتمر المرجعية، 15 18 ربيع الأول 1425هـ الموافق 4- 7 مايو 2004.
4. الحزب الشيوعى السودانى: الحل السلمى الشامل، ورقة مقدمة إلى اجتماع هيئة القيادة، أسمرا: 1 يونيو1999.
5. حكومة السودان والتجمع الوطني الديمقراطي: اتفاق الجولة الإجرائية للتفاوض بين الحكومة السودانية والتجمع الوطني الديمقراطي لثلاثاء 24 أغسطس إلى يوم الاثنين 30 أغسطس 2004م، القاهرة: 30 أغسطس 2004.
6. د. حمدي عبد الرحمن حسن، د. محمد عاشور مهدي، المسلمون ومشكلات التعددية الدينية والإثنية في جنوب السودان
7. د. سعيد الخليفة، أثر اختلاف نظم التعليم بين شمال السودان وجنوبه في الوحدة الوطنية: دراسة تحليلية لفترة الحكم الثنائي بالسودان " ١٩٠٠ ١٩٥٦، دراسات تربوية العدد ( ٢٠).
8. عبد الغفار محمد أحمد: السودان والوحدة في التنوع ـ تحليل الواقع واستشراف المستقبل (الخرطوم، دار جامعة الخرطوم، ط2، 1992).
9. لجنة كتاب الحل السياسي الشامل بـ" حزب الأمة"( إعداد): الحل السياسي الشامل: أدبيات حزب الأمة في الفترة يونيو 1989 – أغسطس 2002 ( الخرطوم: مركز دراسات حزب الأمة، أغسطس 2002).
10. محمد على جادين: تقييم التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان (القاهرة: مركز الدراسات السودانية، ط2، 2002).
11 The Secretariat of Information and Culture in the Sudan People's Liberation, Movment: Opening and Closing Sspeeches, by John Garang, de Mabior to the First SPLM/A National Convention, 2ed April, 1994.
12- The Sudan People's Liberation Movement: Peace Through Development- Perspectives and Prospects in the Sudan (yai, Sudan : February, 2ooo).
أولاً: أسباب الحرب الأهلية
تجسد الحرب الأهلية التى بدأت منذ الاستقلال وتجددت فى عام 1983 وما صاحبها من عدم الاستقرار السياسى جوهر المشكلة السودانية، فهى ظاهرة لازمت نظم الحكم المدنية والعسكرية، وأدت إلى عدم استقرار الحكومات ومنعت تحقيق التنمية المتوازنة على مستوى الأقاليم السودانية، ويمكن تحديد أسباب الحرب الأهلية في العوامل التالية.
أ - ضعف التجارب الديمقراطية: لم تستطع التجارب الديمقراطية بناء نظام سياسى مستقر، فالتجارب الديمقراطية التي مورست في السودان، كانت ممارسات إجرائية شكلية افتقدت المحتوى السياسي والاقتصادي ولم تلتزم بإطار فكري، كما لم تستطع تكوين نخبة متماسكة تؤمن بها، وهو ما أدى إلى فشل تطبيقات النموذج الليبرالي للحكم ثلاث مرات منذ الاستقلال والذي ظهر بوضوح في الفترة 1985 – 1989 التي اتضح خلالها تدهور الدولة وبروز الصراعات السياسية.
ولذلك نتجت الحرب الأهلية في ظل ضعف الجيش والمؤسسات وعدم قدرتها على حماية المواطنين، وهذا يرجع بالأساس إلى الصراعات الحزبية وتمدد الانقسامات السياسية داخل الجيش، مما أدي لتفاقم الحرب الأهلية وضعف الدولة عن استيعاب التوتر السياسي أو طرح مبادرات لحل مشكلات المناطق السودانية.
وفي أواخر 1987 وضعت الحركة الشعبية استراتيجية النجم الساطع، والتي تهدف للسيطرة علي المنطقة المحددة بنهر النيل، إلي الغرب، ومن سوبا إلي الشمال، وحتي الحدود الدولية لإثيوبيا، كينيا، وأوغندا، وكل هذا تحقق في منتصف 1989، وغرب الاستوائية في 1991، وفي 1991 سيطر الجيش الشعبي علي أكثر من 90% من جنوب السودان، ونقلت الصراع لمنطقتين في جنوب النيل الأزرق، واستطاعت السيطرة علي أراض في جبال النوبا، والتقدم في دارفور في نفس العام.
ب - قصر الفترات الانتقالية : لقد اتسمت الفترات الانتقالية بالضعف والاضطراب وغياب الرؤية السياسية الجامعة لمعالجة القضايا المصيرية، وعلى رأسها مشكلة الحرب الأهلية، وعدم وجود كيان دستوري متماسك لحماية برنامج الفترة الانتقالية، بشكل أدى لإعادة إنتاج المشكلة السياسية، وحدوث دورات من الانقلابات العسكرية.
ومع اعتداء حركة العدل والمساواة علي العاصمة القومية ( الخرطوم) فيما أطلقت عليه " الذراع الطويلة" في مايو 2008، ثار عدد من القضايا من بينها العلاقة بين مركز الدولة وأطرافها ومسائل تقاسم الثروة ونشر السلطة، غير أن القضية الأكثر أهمية هي أن هذه الحادثة جاءت في سياق الفترة الانتقالية الممهدة للتوافق الوطني حول بناء الدولة، وهذا ما يثير التساؤل حول جدوى الفترة الانتقالية ومساهمتها في تحقيق الاستقرار السياسي.
فالاعتداء علي العاصمة القومية التي حظيت باعتبار خاص فى اتفاق السلام الشامل، يعيد الأزمة السياسية في السودان إلي حالتها التقليدية ودائرة الحرب الأهلية ويقلل من فرص التوافق العام حول القضايا الأساسية، فبالنظر للخطاب السياسي لحركة العدل والمساواة، يتضح أن الحركة ركزت علي أنه رغم وجود دولة السودان المتعددة الأقاليم إلا أنه لم يتم التوافق الوطنى حول أسس التعايش المشترك أو معالجة الاختلال بين مركز وأطراف الدولة، ولمعالجة هذه المشكلة رأت الحركة أن وضع دستور يتيح فرصاً متكافئة لكل السودانيين يعد شرطاً لازماً للحوار الوطنى.
كما تكمن أهمية نقل الصراع المسلح للعاصمة السودانية، في أنه يعد وثيق الصلة بالسياسات الدولية تجاه السودان، فهو يعد نتيجة طبيعية للدعم الذى تتلقاه حركات المعارضة المسلحة بشكل عام من جهات عدة تسعي لترتيب مكانتها ودورها السياسي فى القارة الأفريقية.
ورغم شمول مشاريع الاتفاق بين الحكومة وحركات دارفور للقضايا محل الخلاف، إلا أن حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة لم يشاركا في جولات التفاوض التى شملتها رعاية الأمم المتحدة فى "سرت"، ويعد العامل الدولى مهماً فى تفسير تدهور محادثات الحكومة مع هاتين الحركتين، وخاصة فى ظل تدويل قضية دارفور وتزايد التدخل الدولى في ظل قرار مجلس الأمن رقم 1706.
وبغض النظر عن الإخفاق في تحقيق أهداف الفترة الانتقالية الحالية، تعكس مفاوضات الدوحة بين الحومة وحركات دارفور مدي تعقد الأزمة السياسية في السودان، حيث تسعي حركات دارفور لخلق وضع في غرب السودان يماثل وضع الجنوب، وهو ما يعد توجها نحو المطالبة بتقرير المصير وتجاوز مرحلة المطالبة بتقاسم السلطة والثروة، وهذا ما ينقل الجدل والصراع السياسي خطوة متقدمة نحو إعادة صياغة الدولة السودانية، ليس من خلال رؤي ومشاريع تقاسم السلطة والثروة ولكن من خلال تقسيم الدولة أو اضمحلال السلطة المركزية.
ج) انقسام النخبة السياسية: يعد انقسام النخبة السودانية من العوامل الرئيسية المسببة للحرب الأهلية، فقد ارتبطت الحرب الأهلية بالانقسام حول قضايا الاندماج الوطنى فترة ما بعد الاستقلال، فقد شهدت القضايا المتعلقة بوحدة الدولة وتحقيق السلام خلافات شديدة بين قادة الأحزاب والحركات السياسية، ساهمت فى زيادة التباعد فيما بينها.
وقد أدى انقسام النخبة السياسية إلى فشل التنظيمات السياسية السودانية، قبل وبعد الاستقلال، فى تحقيق الاستقرار السياسى، فلم تستطع بناء مؤسسات سياسية قادرة على توفير الاستقرار السياسي، ووضع أسس مستقرة لإدارة الدولة، سواء أثناء فترة الحكومات المدنية أو في الفترة الانتقالية، وهذا ما أدى إلى انهيار النظم المدنية فى أعوام 1958م، 1969م، و 1989م.
ولعل النتيجة الأكثر أهمية للانتخابات السودانية والتي أجريت في أبريل 2010 تتمثل في اتساع الفجوة بين شريكي السلطة ( المؤتمر الوطني والحركة الشعبية )، فمن ناحية كشفت الانتخابات عن قدرة "المؤتمر الوطني" علي إجراء الانتخابات رغم الكثير من المعوقات الداخلية والخارجية، كما كشفت في ذات الوقت عن قدرة الحركة الشعبية في السيطرة علي إدارة الانتخابات في الجنوب، غير أن الأكثر أهمية هنا، هو ما يتعلق بالخطاب السياسي للحركة الشعبية أثناء الحملة الانتخابية والذي بات أكثر اقتراباً من الخطاب الجنوبي الانفصالي، وقد لازم هذا التباعد تفكك الأحزاب السياسية والمجتمع المدني وتراجع دورها السياسي، حيث ساهمت مقاطعة عدد من الأحزاب للانتخابات في ترسيخ هشاشة النظام السياسي وخفض مستوي المشاركة السياسية بشكل يضعف الدولة عن الصمود أمام التحديات، وتعكس تركيبة الحكومة التي شكلها " البشير" جوانب التنافر السياسي فى الدولة، وهي حالة تدفع السلطة للاستسلام للضغوط الخارجية.
ويمكن القول؛؛ أن التحدى الأساسي الذي يواجه الأحزاب والحركات السودانية، هو أن التحالفات السياسية ما تزال ظاهرة قلقة ولم تشهد استقراراً ملموساً خلال فترة ما بعد الاستقلال الأمر الذي يفرض تحديات على الفترة الانتقالية، يتمثل أهمها في إمكانية حدوث التحول والحراك السياسي للأحزاب والحركات السياسية كإطار للتكيف مع وضع الفترة ما بعد الانتقالية.
لقد كانت تجارب الاستبعاد والعزل السياسي تطوراً غريباً علي السياسة السودانية. فقد شكل حل الحزب الشيوعي في أواسط الستينيات من قبل البرلمان وصدور أحكام بالردة علي الشخصيات العامة بداية لانحراف الدولة عن المواطنة، وباستمرار هذا التوجه في إعدامات رمضان الشهيرة في عام 1990 حدث شرخ وانقسام عميق في الحركة الوطنية السودانية، فقد كانت النتيجة المباشرة لهذه الأحداث هو ما يتمثل في تزايد حدة الانقسام بين التيارين القومي والإسلامي وبشكل ساعد علي انتشار التيارات الجهوية والانفصالية في السياسة السودانية.
وكان من المفترض أن يترسخ استقلال الدولة مع مضي أكثر من خمسين عاماً علي الاستقلال، غير أن ثمة شواهد توضح أن الدولة تقع أسيرة للتدخل الأجنبي في كثير من مناحي السياسة والاقتصاد والاجتماع،
فمنذ بداية تسعينات القرن الماضي شهدت العلاقة بين الأحزاب السودانية تضامناً ساعد علي الدخول في تحالف معارض للحكومة السودانية، إلا أنه فى النصف الثانى من العقد ذاته شهد خلافات شديدة بينها، فبينما استمر تحالف الحركة الشعبية والاتحادى الديمقراطي منذ توقيع اتفاقية السلام فى 1988، كانت علاقتهما تزداد توترا مع حزب الأمة، وخاصة بعد خروج الصادق المهدى من السودان فى ديسمبر 1996، ووصلت العلاقة لمستوى ألازمة فى ديسمبر 1999، ولكنه رغم الانتقادات المتبادلة عقد الحزب الاتحادي اتفاق "نداء السودان" مع حزب الأمة فى 27 فبراير 2001، بعد عقد الحركة الشعبية "اطار تفاهم مع "المؤتمر الشعبى" فى "جنيف" فى 19 فبراير 2001.
لقد كانت العلاقة بين حزب الأمة والحركة الشعبية شديدة التقلب خلال فترات زمنية متقاربة، فرغم اتساع مساحة التلاقى في بداية عقد التسعينات وخاصة بعد اتفاق شقدوم 1994، فإنها أخذت فى التآكل حتى انقطعت العلاقة بينهما فى 1999، عندما اعتبر "جارانج" أن حزب الأمة مسئول عن الأزمة السياسية للدولة، ورغم ذلك شارك الطرفان الى جانب الحزب الاتحادى فى عقد "إعلان القاهرة" فى 24 مايو 2003، لوضع إطار للتعامل مع مفاوضات مشاكوس.
ويرجع التقلب فى العلاقة بين هذه القوى الى تأثرها بالتدخلات الخارجية، بحيث يمكن القول أن تقاربها أو تباعدها لايعبران عن تحول حقيقى فى التوجهات السياسية، وهذا ما تكشف نماذج التحالفات فى الفترة 1990 - 1995، فقد غلب عليها تجاوز التوجهات الأيدلوجية والسياسية، دون إجراء مناقشات داخلية أو طرح رؤى جديدة تعبر عن تحول حقيقي فى مواقفها، فلم تستطع خلق مصالح دائمة، وهذا ما يفسر انفراطها السريع.
وبالتالي فإن التحدي الذي يواجه اتفاق التراضي الوطني وعيره من الاتفاقات، يتمثل فى اختلاف الإرادة السياسية لقادة الأحزاب والحركات السياسية حول المشروع الوطني، وهو ما يعطل البدء بحراك سياسي تقوم عليه تنظيمات سياسية حديثة لتشكيل الإطار الوطني للعمل السياسي.
د - ترسخ ثنائية الشمال والجنوب: حيث تعد الحرب الأهلية انعكاسا لتركيبة السودان الثنائية منذ الاستقلال، ومن ثم فان التوصل للحل السياسى الشامل لا ينحصر فى وقف الحرب فى جنوب السودان أو تسوية مشكلة الجنوب فقط، ولكن تمتد إلى معالجة أسباب عدم الاستقرار السياسى على المستوى الوطنى، فحصر المشكلة السودانية فى نطاق الجنوب السودانى يقلص المنظور الوطني، فالمشكلات لا تقتصر على الجنوب وحده، بل تشمل كل الجبهات؛ الجنوب ، الشرق ، وسط السودان، وجبال النوبا.
ومع إعلان "بروتوكول مشاكوس"، نشأ نمطان من المفاوضات، الأول بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية، والثاني بين أحزاب المعارضة في التجمع الوطني والحكومة، وقد عكست هذان النمطان الطابع التجزيئي لتناول القضايا السودانية والتي شهدت تعدد منابر التفاوض، غير أن الولايات المتحدة دعمت المفاوضات علي مسار نيفاشا، ورفض "جون دانفورث" مذكرة أعدها " فاروق أبو عيسى" والتي اعترضت على مشاكوس وتفويض الحركة في التفاوض نيابة عن التجمع الوطني، حيث أن إطار مشاكوس لايؤدي لوحدة الدولة ويعزز خيارات الانفصال، وذلك لأنه تضمن عناصر خلل كثيرة، تتمثل في تعدد النظم السياسية في السودان، بين نظم علمانية، وأخرى إسلامية، واختلاف الصلاحيات الممنوحة للأقاليم، بشكل يهدد الوحدة الوطنية، ويعزز ذلك تصنيف بعض الأقاليم ( أبيى، جنوب النيل الأرزق) على أساس إثنى وليس على أساس جغرافي أو إداري.
ولذلك جاءت البروتوكلات الست، وخاصة ما يتعلق بقسمة السلطة وابيي، لا يخدم قضية السلام، ففى الفترة الانتقالية يكرس هيمنة طرفي الاتفاق على مؤسسات الدولة، ويهمش الأطراف الأخرى بمنحها مجتمعة 20 % كنسبة مشاركة في مؤسسات الدولة، بينما تحظى الحكومة بنسبة 52 % والحركة الشعبية 28%، فيما يتوسع في صلاحيات حكومة جنوب السودان.
وكشفت التطورات السياسية أثناء الفترة الانتقالية منذ يناير 2005 عن وجود خلافات بين الحركة الشعبية وبعض أعضاء تحالف المعارضة، بسبب سعى الحركة إلى توسيع النطاق الجغرافى للإقليم الجنوبى، وقد أثارت مسألة أبيبى جدلاً واسعاً على المستوى السوداني.
ثانياً: التدخل الخارجي
منذ دخول الاستعمار الأوربي للسودان، بدأ تطبيق سياسات التغيير الثقافي في السودان و عزلها عن السياسة المصرية إلي جانب العمل علي تكوين ثقافات متصادمة داخل السودان.
سياسات التغريب: قامت الخطة الأساسية التعليمية للاستعمار على تكوين هوية مختلفة للجنوب، مستخدمة السياسات الثقافية والتعليمية والإدارية، وقد ساعدت هذه السياسات والتي طبقت بعد الحرب العالمية الأولي علي تغذية مقومات تمرد الجنوبيين، وقد ترافقت تلك السياسات مع السماح للجمعيات التبشيرية المسيحية ممارسة نشاطها في جنوب السودان بحرية تامة وحددت لكل منها المنطقة التي تعمل فيها، فالإرسالية الأمريكية تعمل بين الشلك، والجمعية التبشيرية الإنجليزية تعمل بين الدينكا والشلك، والجمعية الكاثوليكية تعمل بين القبائل النيلية دينكا نوير والشلك أي غالبية سكان بحر الغزال والاستوائية، وقد سعت السياسات لتحقيق الأهداف التالية:
1- محاربة الإسلام في جنوب البلاد ووقف انتشاره بين القبائل الإفريقية .
2- إدماج الجماعات العرقية الجنوبية في النظام الذي يسعي الاستعمار لتكوينه.
3- العمل علي توطين الثقافة الغربية لدي الجنوبيين.
وعندما حصل المبشر ون على موافقة حكومة العهد الثنائي لعملهم في جنوب السودان بدأوا في إنشاء الكنائس والمدارس، غير أن التقدم فيها كان بطيئاً جداً بسبب صعوبة المواصلات ونقص الموارد المالية وتعدد اللغات بين القبائل و انتشار الأمراض، إضافة إلى تنقل القبائل من منطقة لأخرى سعياً وراء مناطق الرعي والزراعة والصيد. كان رأي الحكومة أن عمل الجمعيات التبشيرية هو السعي لتغريب القبائل الوثنية أكثر مما هو محاولة لنشر المسيحية بينها، حيث اعتبرت في مؤتمر الرجاف ١٩٢٨ م ، أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للتعامل في جنوب السودان، ووضع الصعاب في وجه اللغة العربية.
ولكنه بمرور الوقت تزايد نفوذ الجمعيات التبشيرية وبدأت في العمل علي تسليح وتدريب الجماعات الجنوبية وتكوين نظام اجتماعي متباين مع الأنساق الاجتماعية السودانية، لتشكل جانباً مهماً للسياسات الغربية المناهضة للإسلام والعروبة، وقد حاولت الحكومة السودانية في عام 1962 التصدي لتغلغل الإرساليات الأجنبية، غير أن هذه المحاولة واجهت حملة سياسية مضادة تحت رعاية الولايات المتحدة وأوربا لمنع الحكومة السودانية من التدخل في في شئون الجمعيات التبشيرية، وقد وفرت هذه المظلة الفرص المواتية للجمعيات للعمل على عرقلة مساعى الحكومة ومشاريعها في الجنوب، ودعم قوى المتمردين فيه، وقد برزت خلال تلك الآونة عدة تنظيمات للمتمردين منها الاتحاد الوطنى السودانى للمناطق المقفلة، وحزب سانو، وما تفرع عنه من تنظيمات بعد ذلك.
السياسات الغربية الراهنة: حاولت الولايات المتحدة تعزيز تغلغلها في السياسة السودانية عن طريق أحزاب المعارضة في المنفي في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، حيث عقدت اجتماعات بين مسئولين أمريكيين وممثلين للمعارضة في كمبالا (أوغندا) والقاهرة، وكان الهدف من هذه الاجتماعات إخضاع المعارضة للسياسة الأمريكية في مقابل إمدادها بالسلاح والأموال، ولم تدرك أحزاب المعارضة أن السياسة الأمريكية تتجه لفرض أوضاع سياسية تتعارض مع الرؤي الوطنية لكل من أحزاب؛ الاتحادي الديمقراطي والأمة القومي والحزب الشيوعي والبعث الاشتراكي فضلاً عن ممثلي القوات المسلحة المشاركين في المعارضة.
حدث خلاف داخل الولايات المتحدة حول صيغة التجمع الوطنى للمشكلة السودانية كما طرحها فى مؤتمر 1995، فقد ظهر اتجاه جديد لتغيير الحكومات بالطرق السلمية وسمى "سياسة الهبوط السهل" (SOFT-ALANDING POLICY) كبديل لتغييرها بالعنف، وقد دعم هذا التوجه المؤسسات غير الحكومية والتى مارست ضغوطا على الإدارة الأمريكية للمضى فى ذلك السبيل، ومن تلك المؤسسات مركز كارتر ومنظمة "وورلد نشنو" التى كان يعنيها توظيف المعونات الإنسانية لأهداف سياسية ، وتوجيهها لتعزيز مطالب حق تقرير المصير.
وقد ساهم الأمريكيون بتقديم دعم لتقوية الموقف التفاوضى للمعارضة، وقد خصصت الولايات المتحدة فى عام 2000 ثلاثة ملايين دولار، قسمت على 3 دفعات، عبر صندوق الدعم الأمريكى USAID وبرنامج النجمة STAR وغيره من البرامج، التزمت بمبلغ 42.5 مليون دولار، عشرون مليوناً منها للتعليم والاثنان وعشرون ونصف المتبقية لتطوير قطاع للزراعة.
وقد شكلت أمريكا طرفاً مهما فى التحضير لجولات التفاوض في نيفاشا والمسودات والتدخل في الصياغات النهائية، وبكلمة مختصرة نستطيع القول أن الولايات المتحدة هي مهندس كل البروتوكولات الست. والجانب الأكثر أهمية في الدور الأمريكى كان فى تحويل الملف السوداني لمنظمة الإيجاد وشركائها، وإبعاده عن أعين الدول العربية، وهذا ما يتطابق مع الأجندة الأمريكية وأجندة الحركة الشعبية، وبهذا المعنى تكونت تحالفات كان من نتيجتها توسيع الخيارات أمام الحركة الشعبية فى إدارة جنوب السودان، وتهميش الدول العربية وإبعادها عن المسرح السياسي.
لقد ظلت السياسات الغربية مدفوعة بترسيخ الطابع الأفريقي والعلماني للدولة السودانية، وقض تكاملت هذه الرؤية مع سياسات التنصير وتنشيط دور الكنائس الغربية وغير الأرثوذكسية في مجال الإغاثة والتعليم. وقد عملت هذه السياسة علي تكوين تركيبة اجتماعية موالية للدول الغربية وتجزئ الهوية السودانية، بحيث صارت هناك حركات تري الحل في هوية غير سودانية تغلف بمطالب الانفصال.
وقد قامت استراتيجيات التفاوض في جولات مشاكوس وكارن ونيفاشا خلال النصف الأول من العقد الحالي علي تجزئ الحركة السياسية السودانية، فقد اعترفت المفاوضات والتي قامت تحت رعاية منظمة الايجاد وشركائها وخاصة الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا بحقوق سكان إقليم جنوب السودان في تقرير المصير، وقد وظفت هذا المدخل لتفكيك الحركة السياسية السودانية، حيث استبعدت الأحزاب السودانية من المشاركة في المفاوضات التي انحصرت في الطابع الثنائي؛ بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وعلي هذا الأساس صارت مناقشات مستقبل السودان تتراوح بين انفصال الجنوب ووحدة السودان،
وفى أثناء زيارته للسودان في 2010، أعلن نائب الرئيس الأمريكى (جو بايدن) عن استقرار الولايات المتحدة للاعتراف بدولة جنوب السودان إذا ما اتجهت نتائج الاستفتاء على تقرير المصير نحو الانفصال، وقد جاء هذا التصريح فى سياق جولة أفريقية لنائب الرئيس الأمريكى، يتناول يها السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا، وإذا كانت السياسة الأمريكية تجاه السودان خلال العامين الماضيين متأرجحة بين الوحدة والانفصال، فإن صدور هذا التصريح يعنى أن السياسة الأمريكية تتجه لتفضيل الانفصال، وخاصة بعد الانتخابات السودانية التى كشفت عن التباعد بين الشمال والجنوب، وهو ما يشكل واحد من العوامل التى ترتكز عليها السياسة الأمريكية، والعامل الآخر والذى لا ييقل أهمية، وهو أن السياسة الأمريكية تتقارب مع أجندة الحركة الشعبية ذات الطبيعة الأفريقية والمتباعدة مع الثقافة العربية.
وقد استخدت الولايات المتحدة والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن المحكمة الجنائية الدولية لتقويض دعائم النظام السياسي للمؤتمر الوطني، حيث صيغت الاتهامات لتشمل الكثير من أركان النظام ولم تستثن رئيس الدولة، وهذا ما يتضافر مع فكرة المساعي الأوربية والأمريكية لتقويض ركائز النظام القائم رغم غموض الخيارات السياسية بشأن مصير الدولة السودانية، فخلال الفترة الانتقالية حدث تباين واسع النطاق بين القوي والتوجهات السياسية، بحيث صارت فرص التقارب والتوافق في الحدود الدنيا، وهو ما يعزز خيار الانفصال والانقسام ليس فقط علي مستوي جنوب السودان ولكن أيضاً علي مستوي الدولة .
وقد جاء التتوجه الأمريكي كامتداد للتعامل الدولي مع الأزمة السودانية والذي استند علي تقرير الأمين العام ( كوفي عنان ) فى 1998 والمتعلق بحالة الأمن والسلم فى أفريقيا، وبشكل خاص فى قضية دارفور، حيث صدر بشأنها تسعة قرارات فى الفترة من أبريل 2004 وحتى نوفمبر 2006، ويمثل القرار 1547 ( أبريل 2004) أساس التدخل فى السودان، فقد تناول قضايا المفاوضات بشأن جنوب السودان بين الحكومة والحركة الشعبية وعرض أيضاً لدارفور باعتبارها مشكلة قادمة، وعلى هذا الأساس مدت الأمم المتحدة مظلتها لقضية دارفور، وبدأت قرارات مجلس الأمن في تناول الأزمة من منظور يعزز حركات التمرد ويضعف دور الحكومة، فاعتبرت أن الجنجويد هم امتداد للحكومة ويشكلون تهديداً للأمن فى دارفور (القرار 1556)، وهناك من القرارات ما يشكل تهديداً وضغطاً مباشراً على الحكومة، فتشير القرارات إلى حدوث تقدم دور الحكومة فى حفظ الأمن إلا أنها تقر فى ذات الوقت بوجود تهديد للسكان.
وإذا كان القراران السابقان يمهدان للتدخل، فأن القرارات 1591، 1593، 1672، وفرت الأرضية للتدخل المباشر فى الشئون السودانية، حيث تناولت الترتيبات المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية وأسماء المشمولين بالاتهام، ولم تتوقف القرارات عند هذا الحد، ولكنها فى القرار 1706 وصلت إلى أقصى مدى من التدخل، فقد تضمنت (م8) من هذا القرار ثلاثة بنود، الأول؛ إعادة صياغة النظام القضائى السودانى، والثانى إدارة شأن الشرطة فى السودان، أما الثالث الحكومة السودانية، وتنحية النظام من جهة ، ودعم حركات التمرد من جهة أخرى.
الدور الإسراائيلي
يتسم الدور الإسرائيلي في أزمة جنوب السودان بثلاثة خصائص، و هي أنه دورتاريخي و استراتيجي و غير مباشر ، ونقصد بالدور التاريخي أن إسرائيل كانت من أهم الدول المساندة
لحركة الانيانيا في الستينات حتي توقيع اتفاقية أديس أبابا في عام 1972، وتصاعد الدعم الاسرائيلي للجنوبيين خلال فترة ما بعد حرب 1967، حيث قدمت المساعدة العسكرية التي جعلت من الانيانيا قوة سياسية مسلحة معتبرة، وقد استمرت هذه العلاقة مع الحركة الشعبية ومع عودة الحرب الأهلية في عام 1983
ثالثاً: خريطة الأدوار الإقليمية
نمو المظلة الأفريقية
وبشكل عام قامت منظمة الإيجاد بأدوار مهمة فى إعادة ترتيب الأوضاع السياسية فى شرق أفريقيا، حيث برز الدور السياسى لكل من كينيا وإثيوبيا، وقد لقى هذا الدور مساندة مباشرة من شركاء الإيجاد، وترجع أهمية إطار شركاء الإيجاد إلى أنه يشمل كلا من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، وهو بهذا المعنى يشكل مظلة سياسية واقتصادية تعزز الدور السياسى للمنظمة على مستوى شرق أفريقيا، وهذا لا يقتصر فقط على الدعم الاقتصادى ولكنه يشمل الدعم السياسى، وقد اتضح التضامن من جانبين:-
الأول: تقوية الدور الإقليمى لكل من كينيا وإثيوبيا فى تسوية الصراعات والحروب الأهلية، حيث أطلعت كينيا بدور محورى فى التوصل لاتفاق السلام الشامل أما إثيوبيا فقد أسند إليها ملف الصومال بحيث صارت الطرف المهيمن على الشئون الصومالية وخاصة بعد تشكيل الحكومة الحالية ( برئاسة شيخ شريف) ، وبمرور الوقت ترسخ الدور الإقليمى للبلدين ولكنه كان خصماً من الرصيد السياسى لكل من إريتريا والسودان والنطاق العربى بشكل عام.
وقد تعزز التقارب والتضامن بوجود أهداف مشتركة فى مكافحة "الإرهاب" وقد فتح هذا الجانب باباً واسعاً للتعاون الأمنى ، لم يقتصر فقط على مد كينيا وإثيوبيا بالسلاح ولكن امتد لإنشاء مراكز متقدمة للإنذار المبكر والانتشار السريع فى كينيا ووجود خمس قواعد عسكرية غربية فى جيبوتى وإسناد الدور العسكرى الإثيوبى فى الصومال.
أما الجانب الثانى: ويتمثل فى الترابط الفكرى، فقد اتضح منذ بداية التسعينات وجود تماثل فى التوجهات الفكرية لدى الإيجاد وشركائها، فالعوامل المشتركة بينهم تتمثل فى ترسيخ الهوية الأفريقية لدى المنظمة والعلمانية، وانعكس هذا التوافق بشكل خاص فى مبادرات الإيجاد لحل الأزمة السودانية ، حيث ركزت مبادرة الإيجاد (1994) على الطابع الأفريقى والعلمانى للسودان، وتبلورت هذه الرؤى فى إعلان مشاكوس (مايو 2002) ومفاوضات نيفاشا (كينيا)، ولعل النتيجة المهمة لتعامل المنظمة على الملف السودانى تتمثل فى تحويل الحركة الشعبية لتحرير السودان من حركة متمردة إلى شريك مؤثر فى السلطة وهى عملية تحول كبيرة فى السياسة السودانية تشكل تمدداً فى الرؤية الأفريقية والعلمانية فى السودان.
مصر والسودان
منذ الحكم الثنائي، ساد العلاقات المصرية ـ السودانية نوع من التوتر السياسي، تمثلت أبرز محطاته في القبول بفصل السودان عن مصر في أواسط الخمسينات من القرن الماضي تحت تأثير تراجع التوجهات الاتحادية بين السودانيين، وقد انعكس هذا التراجع في تصويت مجلس الشعب السوداني ـ وبمشاركة الجنوبيين ـ علي استقلال السودان في نهاية عام 1955، غير أن المشكلة لاتكمن في سعي السودانيين للاستقلال، وإنما تكمن في تزايد فترات التوتر السياسي بين البلدين وفشل مشروعات التكامل والتعاون، وهناك أسباب عديدة لهذا الفشل، فير أنه من الأهمية الإشارة إلي أن تجربة الحكم الثنائي شكلت جزءً من الإدراك السلبي لدي قطاع من السودانيين تجاه السياسة المصرية، ولم تنجح محاولات تصحيح هذه الصورة علي مدي فترة ما بعد استقلال السودان، وخاصة مع إثارة مشكلات يمكن وضع تصور لحلها.
وتعكس التطورات الجارية المشكلة المزمنة للدور المصرى فى السودان والتى اتسمت بضعف الإطلاع المصرى على الشئون السودانية خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذا الضعف يرجع للعديد من العوامل الداخلية المتعلقة بالنظام المصري والتي تتمثل فى صعوبة التكيف مع مطالب التعددية العرقية والسياسية فى السودان وعدم الدخول فى شراكات جادة مع المنظمات الإقليمية وخاصة منظمة الإيجاد، وقد أدت هذه السياسة إلى التباعد مع الحركات الجنوبية فى أواخر التسعينات من القرن الماضي بسبب رفض حق تقرير المصير وهو ما ترتب عليه تهميش دورها فى الترتيب لمحادثات السلام التى اطلعت بها كينيا كطرف ثالث بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية، وفى هذا السياق يمكن القول بوجاهة انتقادات الخارجية السودانية للدور المصرى ومحدودية تأثيره، فهو يعكس واقع كشف عنه الكثير من الأحداث، سواء فى قضية دارفور أو الجنوب أو الشرق.
رابعاً: حق تقرير المصير:
تبلورت مطالب حق تقرير المصير في نهاية عقد الثمانينيات، بعد مضي مايقرب من عقد علي عودة الحرب الأهلية في عام 1983، وقد أدركت الولايات المتحدة تنامي مطالب تقرير المصير ورتبت لعقد اجتماعات للأحزاب السودانية والشخصيات العامة لمناقشة المستقبل السياسي للسودان، وقد بدأت الترتيبات الأمريكية بعقد مفاوضات فرانكفورت 1992 بين الحكومة و المنشقين عن الحركة الشعبية ( جناح الناصر)، غير أن هذه المفاوضات كشفت عن تباين التوجهات السياسية، فبينما ركزت الحكومة السودانية على الهوية العربية الإسلامية، فإن الحركة الشعبية – الناصر تمسكت بالعلمانية والأفريقية، ومن ثم حدثت مزايدة بين الفصائل الجنوبية والمطالبة بالاستقلال.
وقد شهدت أوائل التسعينيات تسارعاً نحو بلورة حق تقرير المصير، وفي هذا السياق عقدت حلقتي نقاش للتعرف علي مواقف السياسيين السودانيين تجاه الوحدة والانفصال وإعادة بناء الدولة، عقدت الحلقة الأولي في جامعة بيرجن في الدانمارك في عام 1992، أما الثنية فقد عقدت في واشنطن في واشنطن في أكتوبر 1993 تحت رعاية المبعوث الأمريكي للسودان (هارى جونستون) والتى شارك فيها العديد من السياسيين الجنوبيين وممثلى المجموعات المسلحة، وشخصيات مستقلة، وقد عمقت نتائج هاتين الحلقتين من التباين في المواقف السياسية والفكرية، بحيث صارت المطالبة بتقرير المصير تشغل أولوية الخطاب السياسي لكل من النخبة المثقفة والسياسيين السودانيين، ولم تقتصر علي الجنوبيين ولكنها انتقلت لغرب السودان وشرقه، كما تبناها حزب الأمة في اتفاقية "شقدوم" مع الحركة الشعبية في ديسمبر 1994.
وبعد ذلك؛ تطور تناول تقرير المصير في السياسة السودانية، ليشكل القضية المركزية في النقاش العام، بحيث صار يرتبط في الأدبيات السودانية بوقف الحرب الأهلية وتحقيق السلام والوحدة الطوعية، وقد قام النقاش علي أرضية "إعلان المبادئ" الصادر في عام 1994 والذى أقرته مجموعة دول "الإيجاد" كأساس لتحقيق السلام، وهو إعلان يركز علي علمانية الدولة وحق تقرير المصير كحل بديل للحرب الأهلية.
وترجع المطالب بحق تقرير المصير إلى الأسباب التالية:-
أ) تنامى الوعى بالهوية الأفريقية للمجموعة الجنوبية والذي يعد السبب الرئيسى فى المطالبة بالاعتراف بمكانتها، وقد أرتبط نمو الوعى بالهوية بتعريف هوية الدولة على أنها عربية إسلامية، أدى إلى تعميق أزمة الاندماج الوطنى الذى برز فى تكوين حركات إقليمية (جهوية) قامت باحتجاجات ضد الحكومة المركزية بإمكانياتها الذاتية أو بدعم أجنبى.
ب) استمرار الصراع السياسى وتركز السلطة فى المجموعات الشمالية وبطء استجابة الحكومات المتتالية لمطالب الأقاليم.
جـ) وقد زادت حدة المطالبة بحق تقرير المصير، بعد انقلاب 1989 لسببين:
1- فرض الحكومة السودانية مفهوماً خاصاً للانتماء الإسلامي والعربى على كافة المجموعات السكانية فى السودان.
2- طرح الحكومة السودانية خيار تقرير المصير على المجموعات المنشقة عن الحركة الشعبية فى اجتماعات "فرانكفورت 1992"، وهو ما أدى لتشدد الجنوبيين تجاه حق تقرير المصير.
د) أدى تزايد تدخل دول الجوار فى الصراع السودانى وتدويله، لتوحيد مطالب الجنوبيين بتقرير المصير.
هـ) تعثر خيار الوحدة، فقد رأت الحركة الشعبية فى مقررات "توريت " 1991 أن العمل من أجل تقرير المصير كبديل عن خيار السودان الجديد، وقد ارتبط هذا التوجه بتدهور القدرات السياسية للحركة الشعبية، سواء بفقد دعم الحكومة الإثيوبية، أو إنشقاقها وهو ما دفعها لإضافة خيارى؛ الكونفدرالية، وتقرير المصير.
المناطق المشمولة بحق تقرير المصير: ثار جدل حول تحديد المناطق المشمولة بممارسة تقرير المصير ، فبينما يري العديد من الاحزاب السودانية حدود الأول من يناير 1956، تشكل أساس نطاق تقرير المصير ليشمل بحر الغزال الاستوائية، وأعالي النيل، تتوسع الحركة الشعبية وإتحاد الأحزاب الأفريقية والحزب القومى فى تعريفه ليشمل مناطق؛ جبال النوبا، أبيى فى جنوب كردفان، وجبال الأنجسنا، وأى حدود او تخوم سوف يتم إقرارها وفقاً للقانون الدولى أو عبر الوساطة الدولية لتعيين الحدود، وهو ما يضفي صيغة واسعة لتعريف حدود إقليم جنوب السودان، بما يخلق سياسة دائمة للتوسع نحو الشمال.
وإزاء هذا الخلاف قبلت أحزاب التجمع الوطنى إجراء الاستفتاء فى مناطق جبال النوبا، أبيى ، جبال الأنجستا، على مرحلتين، الاستفتاء حول الترتيبات الإدارية لتقرير الوضع الإدارى لهذه المناطق، وبناء على نتيجة الاستفتاء حول الوضع الإداري، يتم التعامل مع ممارسة حق تقرير المصير.
خيارات الاستفتاء. توافقت الصياغات السياسية علي نمطين للاستفتاء وهما:-
1- أن يتم تطبيق الاستفتاء على حق تقرير المصير مباشرة على "جنوب السودان" بحدود يناير 1956، للاختيار ما بين الوحدة فى إطار فدرالى أو كنفدرالى، أو الإستقلال.
2- تعليق تطبيق حق تقرير المصير على الانتهاء من استطلاع رأى سكان؛ أبيى، جبال الأنجستا، وجبال النوبا، حول رغبتهم فى الاستمرار فى إطار الترتيبات الإدارية كجزء من شمال السودان، أو الانضمام لبحر الغزال عبر استفتاء يتم خلال الفترة الانتقالية، وإذا ما أكد الاستفتاء أن رغبة الأغلبية من مواطنى منطقة أبيى هى الانضمام لبحر الغزال فإنه يصبح من حقهم ممارسة حق تقرير المصير كجزء من جنوب السودان.
ولكنه في ظل عدم أجراء الاستفتاء في المناطق الثلاثة خلال الفترة الانتقالية، فإن هذا الوضع سوف يدخل السودان في حالة من الصراعات والنزاعات المفتوحة، ويشكل الصراع حول منطقة أبيي المعضلة الأولي لتداعيات إجراء الاستفتاء في جنوب السودان.
الجدل السياسي حول أبيي. لدي مناقشة قضية منطقة أبيي تظهر مسالة الحدود الإدارية للمنطقة والتي دار بشأنها جدل حاد في مفاوضات السلام وترتبت عليها أزمات سياسية بين حكومة الوحدة الوطنية والحركة الشعبية، بشكل يعيد الأزمة السودانية لمراحلها البدائية، فقضية ابيي ـ وفقاً لكل من الحكومة والحركة الشعبية، تعد النقطة الحرجة فى الفترة الانتقالية.
وقبل عقد اتفاق السلام الشامل مثلت الحدود الإدارية التى تفصل الإقليم الجنوبي عن الأقاليم الأخري جزءً كبيراً من الخلاف بين الحكومات السودانية المتعاقبة منذ 1956 وبين الأحزاب والحركات الجنوبية، وكان المطلب الرئيسي للجنوبيين هو فى ضرورة وجود رقابة أجنبية، وقد ظهر ذلك فى الجدل حول طبيعة الحدود بين الشمال والجنوب كما أقرت فى يناير 1956، فالجدل كما يتبناه كثير من الأحزاب الجنوبية، يوضح أن هذه الحدود ليست حدوداً إدارية بالمعنى التقليدى ( داخل الدولة ) ولكنها يمكن أن ترتقى لمصاف الحدود الدولية .
وهذا الوضع ينطبق على أبيى، إذ أن برنامج عمل لجنة حدود أبيي يقوم علي وجود رقابة أجنبية تشارك في تقرير مستقبل منطقة أبيي وترسيم حدودها وهذه العملية هي أقرب لأدوار محاكم التحكيم الدولية، وبغض النظر عن الخلاف بين الحكومة والحركة الشعبية بشأن مهمة لجنة حدود أبيي، فإن تشكيل اللجنة وطريقة إعلانها للتقرير النهائي دون موافقة حكومة الوحدة الوطنية، يشيران إلي أنها تتمتع باختصاصات قضائية حاولت من خلالها وضع أسس جديدة لتعريف مشكلة ابيي استندت فيها علي الشهادات الشفوية لسكان أبيي، فيما كان دور الخرائط والوثائق التاريخية أقل أهمية، واستبعدت توثيق الخمسين عاما الماضية رغم وضوحه بشكل أفضل من توثيق المائة عام السابقة علي الاستقلال.
وثمة اعتقاد أن إثارة مسألة الحدود على هذا النحو، لا يتعلق فقط برغبة الحركة الشعبية في الاستحواذ على منطقة أبيي فضلاً عن جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان والثروات والسكان، بقدر ما يمهد لتوسيع الإقليم الجنوبى.
لقد تمثلت أهم النتائج التي تترتب علي الخلاف حول أبيي فى عدم استقرار حكومة الوحدة الوطنية، حيث انسحبت منها الحركة الشعبية ثم عادت إليها، غير أن التطور الأكثر أهمية فى هذا السياق هو أن الحركة الشعبية تضع مهام حكومة جنوب السودان في أولوياتها وتركز في توسيع دورها في مواجهة حكومة الوحدة، وهذا ما يعد إضعافاً لفرص استمرار وحدة الدولة، وخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تقييد عمل لجنة تعداد السكان بشكل أد لتعطل إجارء الاستفتاء علي أبيي وجبال النوبا وجنوب النيسل الأزرق، وبهذا المعنى يمكن القول أن إجراء الاستفتاء علي تقرير مصير جنوب السودان قبل تقرير تبعية المناطق الثلاثة سوف يوفر مناخاً للتوتر السياسي في الفترة القادمة، حيث من المتوقع أن تثير الحركة الشعبية مطالبات بضم هذه المناطق لجنوب السودان، سواء عن طريق الاستفتاءات أو بدء حملة تحريض لسكان هذه المناطق ضد الحكومة السودانية مما قد يؤدي لنشوب الحرب الأهلية مرة أخري.
خامساً: صيغ الخروج من الأزمة
يتوافق الكثير من الكتابات السودانية وأيضاً الحركات والأحزاب السياسية علي حقيقة ومظاهر الأزمة، فيما تتمثل المعضلة في كيفية الخروج منها. فقد اتفق الجميع على حقيقة فشل السودانيين في تأسيس حكومات مستقرة تقوم علي الإرادة الشعبية، وتخاطب كل المشكلات والقضايا الوطنية المزمنة.
الإنتماء الثقافى للدولة:
لقد ثار جدل كبير حول هوية السودان، فهناك اتجاهات تتبني الهوية العربية والأفريقية ، وبشكل عام برز اتجاهان إزاء هوية الدولة ، وهما :ـ
أ) التوجه العربى الإسلامى : حيث تطرح "رؤية للنهضة ترتبط بأيدلوجيته الإسلامية تجاه الدولة، الاقتصاد، والمرأة، وغيرها من القضايا ، بما يحقق إقامة مجتمع إسلامي يكفل كرامة الإنسان وحريته، ويستمد أصوله من القرآن والسنة، بالإضافة إلى مصادر التشريع الأخرى، والتى لا تتعارض مع النصوص القطعية الدلالة والثبوت، ويتوافق مع عناصر الهوية المكتسبة والتي تتمثل في الأفريقية كانتماء تاريخى وجغرافى، وهى تنطبق على كل السودانيين، بينما اللغة والدين يعدان من العوامل المكتسبة، وهذه تشكل عناصر الانتماء الوطنى.
ب) التوجه الأفريقى : وتضم هذه المجموعة الحركة الشعبية واتحاد الأحزاب الأفريقية، والحزب القومى، وتستند رؤيتها لانتماء الدولة إلى أن البعد الأفريقي يمثل عنصر الانتماء الأصيل، لاتغير من حقيقته الهجرات العربية وانتشار الإسلام فى السودان، حيث أن نشأته سابقة على التاريخ الإسلامي، بداية من التواصل بين الحضارتين؛ النوباوية والمصرية، والهجرات العربية إلى شمال السودان، وهو ما أدى لتكوين السودان بشكله الحالى، والذى يتميز بالتعددية الإثنية، ولذلك تختزل "الحركة الشعبية" السودان فى الهوية الأفريقية، ذات الأساس الزنجى، وتعتبر أن التغيرات السكانية والثقافية التى طرأت على السودان لم تغير من طبيعته الأفريقية.
وقد عرفت الحركة الشعبية أصول نشأة السودان، بأنها الأرض التي وصفت في الإصحاح الثامن عشر بأرض "كوش"، وهي أرض السود خلف جبال "إثيوبيا"، وهي أرض الشجعان، الأباة، والطوال ذوي البشرة الناعمة، والذين أرسلوا سفراء للقدس بهدايا ثمينة، وتطلق عليهم الحضارة الرومانية القديمة، الأفارقة بمعني أرض السود، ويسميها المؤرخ اليوناني ( هيبرودوت) أرض إثيوبيا، أرض السود، وقد ظل هذا التصور يشكل الأرضية الفكرية للحركة الشعبية، وخلال الفترة الانتقالية لم تشر أدبيات الحركة لحدوث تغير أو تحول في موافقها الفكرية، وهذا ما يطرح التساؤلات عن تصوراتها لما بعد الاستفتاء علي تقرير المصير، وخاصة نا يثار عن سعي الحركة الشعبية لتطوير درها السياسي في المناطق خارج حدود جنوب السودان وفقاً لحدود 1956، وقد يكتسب الحديث عن تدعيم الحركة للخيارات الانفصالية لحركات دارفور ( حركة تحرير السودان) وبعض الحركات في شرق السودان، بما يساعد الحركة في تطوير مفهومها للسودان الجديد الأفريقي والعلماني.
مقترحات توزيع السلطة في بداية الفترة الانتقالية
برزت ثلاث صيغ لتوزيع السلطة بين الحكومة المركزية وبين الأقاليم لضمان التوازن والاستقرار خلال الفترة الانتقالية.
أ- الأسلوب شبه المركزى: حيث يغلب على توزيع السلطات بين الحكومة المركزية والولايات الشمالية (كردفان، دارفور، الوسطي، الشرقية، والشمالية)، النمط شبه المركزى، فقد شملت الاختصاصات المركزية العناصر الممثلة لسيادة الدولة؛ السياسة الخارجية، الدفاع، والضرائب، إلى جانب إدارة الموارد الطبيعية، وإدارة الخدمات ذات الطابع القومى، وخاصة فى مسألة التخطيط، فيما تركت الخدمات المحلية والثروة الزراعية داخل الإقليم لحكومات الولاية.
ب- التوسع فى اللامركزية: حيث التوسيع اختصاصات الولاية الجنوبية، فتختص الولاية الجنوبية بحفظ الأمن الداخلى وإدارة قوات الشرطة وقوات "الحركة الشعبية"، وتكوين لجنة الانتخابات الإقليمية، وفرض وجباية الضرائب، والتجارة عبر الحدود وجباية الرسوم الجمركية، وبالإضافة إلى تحديد اختصاصات الولاية الجنوبية حصراً، تم التوسع فى صلاحياتها، حيث أضيفت الاختصاصات التى لم ترد فى السلطات المركزية أو السلطات المشتركة، وهي صيغة تضفي الشخصية الاعتبارية الدولية للولاية الجنوبية بما يتيح لهاعقد اتفاقات ثقافية واقتصادية مع الحكومات الأجنبية.
جـ- الإدارة المشتركة: وتشمل الإدارة المشتركة أقاليم جبال النوبا وأبيى" الواقعتين تحت سيطرة الجيش الشعبى، بإدارة مشتركة عن طريق سلطة مدنية مشتركة بين حكومة إقليم كردفان و "الحركة الشعبية"، أما "جبال الأنجسنا" فيدار من خلال إدارة مشتركة بين حكومة الإقليم الأوسط و "الحركة الشعبية".
وبشكل عام شكلت هذه الصيغ الأرضية لتعزيز خيارات التباعد بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية، وتركيز خطابها السياسي علي الدعوة لانفصال الجنوب كحل نهائي، وخلال الفترة الانتقالية أدت هذه الصيغ لزيادة الفصام بين الحركات والأحزاب السياسية، وتضاؤل التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم ظلت قضايا الخلاف علي توزيع السلطة والثروة تتصدر الأحداث السياسية، وهذا ما يثر مشكلة مهمة وهي أنه رغم انتهاء الفترة الانتقالية لم يحدث التقدم السياسي المرغوب، وبالتالي، يمكن القول أن مشكلات السودان لا يمكن حلها فقط من خلال فترة انتقالية لا تتوافر لها الضمانات الكافية لتوطيد الثقة بين السودانيين، فمن الملاحظ أن الفترة الانتقالية وأيضاً الفترات الانتقالية السابقة شابها التوتر وانعدام الثقة وتزايد تأثير التدخلات الخارجية في الشئون السودانية.
ومن ثم، فإنه من الأهمية تكوين جبهة وطنية عريضة لضمان عدم انفراط عقد الدولة، وفي هذا السياق تعد مساهمات التيارات القومية والإسلامية أساسية وضرورية لمواجهة التحديات التي تواجه الدولة في مرحلة ما بعد الاستفتاء. تكمن أهمية مثل هذه الخطوة في أنها تتجاوز خلافات الماضي، كما أنها تدفع باتجاه إمعان النظر في إعادة بناء الدولة علي أساس التوافق الوطني والتكامل بين الفكر والحركة حتي لا يظل السودان في نهايات مفتوحة.
المراجع
1. إخلاص مهدى (إعداد): رسائل تاريخية بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون جارانج ( د. م، د . ن، 2002).
2. الحركة الشعبية لتحرير السودان: السودان الجديد: التصور والبرنـامج والدستـور المقترح، ياي، السودان: مارس 1998م.
3. الحزب الاتحادي الديمقراطي: برنامج الحزب، القاهرة : الحزب الاتحادى الديمقراطى، مؤتمر المرجعية، 15 18 ربيع الأول 1425هـ الموافق 4- 7 مايو 2004.
4. الحزب الشيوعى السودانى: الحل السلمى الشامل، ورقة مقدمة إلى اجتماع هيئة القيادة، أسمرا: 1 يونيو1999.
5. حكومة السودان والتجمع الوطني الديمقراطي: اتفاق الجولة الإجرائية للتفاوض بين الحكومة السودانية والتجمع الوطني الديمقراطي لثلاثاء 24 أغسطس إلى يوم الاثنين 30 أغسطس 2004م، القاهرة: 30 أغسطس 2004.
6. د. حمدي عبد الرحمن حسن، د. محمد عاشور مهدي، المسلمون ومشكلات التعددية الدينية والإثنية في جنوب السودان
7. د. سعيد الخليفة، أثر اختلاف نظم التعليم بين شمال السودان وجنوبه في الوحدة الوطنية: دراسة تحليلية لفترة الحكم الثنائي بالسودان " ١٩٠٠ ١٩٥٦، دراسات تربوية العدد ( ٢٠).
8. عبد الغفار محمد أحمد: السودان والوحدة في التنوع ـ تحليل الواقع واستشراف المستقبل (الخرطوم، دار جامعة الخرطوم، ط2، 1992).
9. لجنة كتاب الحل السياسي الشامل بـ" حزب الأمة"( إعداد): الحل السياسي الشامل: أدبيات حزب الأمة في الفترة يونيو 1989 – أغسطس 2002 ( الخرطوم: مركز دراسات حزب الأمة، أغسطس 2002).
10. محمد على جادين: تقييم التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان (القاهرة: مركز الدراسات السودانية، ط2، 2002).
11 The Secretariat of Information and Culture in the Sudan People's Liberation, Movment: Opening and Closing Sspeeches, by John Garang, de Mabior to the First SPLM/A National Convention, 2ed April, 1994.
12- The Sudan People's Liberation Movement: Peace Through Development- Perspectives and Prospects in the Sudan (yai, Sudan : February, 2ooo).