العهود والمواثيق في الإسلام
مرسل: السبت ديسمبر 07, 2013 9:55 pm
العهود والمواثيق في الإسلام:
أـ تعريف العهد والميثاق والمعاهدة
العهد أو الميثاق في فقهنا الإسلامي لـه معنى أعم أو أوسع من كلمة «معاهدة» في القانون الدولي الوضعي.
ففي الشريعة أو الفقه: العهد: هو كل ما يتفق فيه شخصان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقاً، وإن أكداه باليمين خاصة سمي «يميناً». وسمي عقد الزواج في القرآن الكريم ميثاقاً غليظاً، أي مؤكداً شديد التأكيد.
والمعاهدة: هي أساساً اتفاق الإرادتين بصرف النظر عن الشكل أو الإجراء.
والعرف السائد اليوم يدل على تمييز «العهد» عن «العقد» بإضفاء سمة الإجلال والسمو والتعظيم للعهد، وتخصيصه بالعقد الموثق بقصد الوفاء به بنحو مؤكد، سواء تم توثيقه بالكتابة أو باليمين، أو بغيرهما من وسائل التوثيق، فكل اتفاق هو عقد، وليس كل «عقد» هو «عهد».
والعرف الدولي يميز «العهد» عن «المعاهدة» فإن «العهد» أوسع معنى من «المعاهدة» كما في فقهنا فكل معاهدة هي عهد، وليس كل عهد معاهدة. والمعاهدة محصورة عرفاً بالاتفاق بين دولتين، بين الأفراد والجماعات، وموضوعها محصور في حكم علاقة دولية ذات طابع قانوني، أي إنها ذات معنى خاص ضيق من حيث الطرفان والموضع. فيقال للانفاقيات الدولية في معاملة الأسرى وقواعد الحرب وأحوال مشروعية القتال أو استخدام القوة: إنها معاهدة.
والمسائل الجزئية الجانبية ذات الأهمية المحدودة لا تنظمها المعاهدة التي لها طابع العنصر الدولي المهم، وإنما توصف بأنها اتفاقية مثل أمر الحاكم بإنهاء الحرب مع مدينة معينة أو شعب مجاور، ومثل اتفاقية تبادل الأسرى ونحو ذلك.
ب – أهمية المعاهدات والمواثيق ومشروعيتها
تضفي المعاهدات والمواثيق على أعمال الأمم والشعوب والدول والأفراد عنصر الثقة والاطمئنان، وتعمل على تخفيف حدة التوتر في العالم، وتكفل إلى حد بعيد تنفيذ الشروط والبنود وتحقيق المصلحة في وقت محدد، يعود على الطرفين بالخير والهدوء والراحة النفسية والاجتماعية.
وبالمعاهدة يحل مبدأ السلم محل الحرب، والأمن محل القلق والخوف، والحب والصفاء بدل الكراهية والكيد، وينعم الناس بنعمة الحرية التي لا قيود عليها، فيتفرغون لشؤون المعيشة، وتقدم المدنية والعمران، وتنشيط الصناعة وتطورها وتوجيهها وجهة لخير الإنسان وصالحة ونفعه، ولإنعاش الزراعة وحفظ المواسم، وتنمية التجارة، وفتح الأسواق أمام الصادرات والواردات، وتبادل المنتجات، فتكون المعاهدة أداة تفاهم وودّ، وتقدم وحضارة، ورفاه وسعادة.
والمعاهدة فضلاً عن كل ذلك أداة حاسمة وموثقة لتنمية العلاقات الدولية، وفض المنازعات والخصومات الخارجية. لذا عظّم الإسلام العهود والمعاهدات ورغب فيها، وشرعها وسيلة متعينة لتنظيم العلاقات الخارجية، وآثر فض المنازعات الجماعية بالوسائل السلمية، سواء في داخل الدولة المسلمة أو خارجها، ولتحقيق الأغراض الكريمة والغايات الإنسانية االنبيلة، بل إن نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة
لا يتم إلا في ظلها وفي ربوع الأمن والسلام وإشاعة الاستقرار والرخاء المتحقق بها.
والنصوص الشرعية في الإسلام كثيرة دالة على مبدأ مشروعية المعاهدات مع الأعداء حال السلم أو الحرب، في إطار من الشروط المتفق عليها بالتراضي والاختيار، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( (المائدة:1)، وقوله سبحانه:
( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (
(لأنفال:72) أي إن حق الميثاق فوق حق الإخوة الإسلامية، حيث ينصر المعاهد غير المسلم، ولا ينصر المسلم الذي ليس بينه وبين المسلمين ميثاق(12).
وقولـه (عزوجل): (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ( (التوبة:4).
وهذا كله دليل في الشريعة الإسلامية على قدسية المعاهدات ووجوب احترامها وإلزام الوفاء بها، قال النبي(ص): «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طبيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة»(13).
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس بن مالك(رضي الله عنه)، عن رسول الله(ص) قال: «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»(14).
ج – الوفاء بالعهد
الوفاء بالعهود والمواثيق فرض واجب لازم في الشريعة الإسلامية كأداء الفرائض الأخرى من العبادات وغيرها، فعلى المسلمين تنفيذ التزاماتهم التي تعهدوها في معاهداتم دون تلكؤ ولا تباطؤ ولا تسويف، ولم يسمح الإسلام بالغدر والخيانة أو نقض العهد والتحلل من الالتزامات أو بنود المعاهدة، لأن ذلك شيء مهين يخل بالثقة والاحترام، ولأن المسلمين يمثلون سمو الرسالة الإلهية وشرف الكلمة النابعة من الدين.
لذا لم تكن المعاهدات في الإسلام مجرد قصاصة ورق، كما هو الشأن المعروف عند الدول غير الإسلامية في الماضي أو الحاضر، ولا وسيلة لخداع العدو ولا ستاراً لتنفيذ أغراض معينة، ولا شعاراً لفرض القوي سلطانه على الضعيف أو المغلوب كما يفعل غير المسلمين عادة، حتى إذا قوي الضعيف نبذها، وقاتل للتحلل من قيودها والتخلص من سلطة العدو الأقوى، وهي أيضاً كانت عند غير المسلمين صورة أو مظلة لقوة الأقوياء لإملاء شروطهم غالباً وليست إجراء لتنظيم السلم العادل، وإنما كانت المعاهدات في شريعة الإسلام وتاريخ المسلمين مصونة عن أي غدر أو خداع أو قهر، أو لتحقيق مصلحة مادية رخيصة، أو من أجل فتح منافذ أسواق لتصريف السلع والمنتجات الصناعية، وفائض الزراعة، أو المواد الاستهلاكية الزائدة عن الحاجة، وبشرط عدم التأثير على أسعار السلعة محلياً، وإلا ألقي الفائض في البحار، ولم يصدَّر لأحد، كما تفعل بعض الدول الغربية المعاصرة من إلقاء فائض البن مثلاً في البحر.
ولم يستثن الفقهاء المسلمون من مبدأ الوفاء بالعهد إلا عقود الهدنة الحربية مع العدو عند توافر القرائن القاطعة على تحركات جيشة المريبة، والاستعداد لحرب جديدة، أو حال المعاملة بالمثل وحال نقض العدو المعاهدة من جانب واحد، وذلك لقول الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(
(لأنفال:58) أي إن قامت القرائن على خيانة العدو عهده، نقض العهد وأعلم العدو بالنقض حتى يكون المسلمون وغيرهم متساوين في العلم بذلك.
وصرح فقهاء الحنفية بأن الهدنة لا تنتقض إلا باتفاق العدو على نقضها، أي لا عبرة بنقض الأفراد(15).
والإلزام القرآني باحترام العهود والمواثيق هو من أجل إقامة حالة سلم ثابتة تقوم على أقوى الدعائم، سواء في الداخل أو الخارج.
والبراهين على وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق متوافرة متضافرة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
فمن آيات القرآن: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( (النحل:91)، ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً( (الاسراء:34)، ( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ( (التوبة:4)،
( فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ( (التوبة:7)، أي إن الوفاء بالعهد من أصول الإيمان، وهو شأن المؤمنين خلافاً للمنافقين، لقوله تعالى في وصف المؤمنين: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ( (الرعد:20) ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ((البقرة:177).
ومن الأحاديث الصحيحة في احترام العهود: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»(16)، «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة»(17).
بل إن الإسلام ألزم بالوفاء بأحلاف الجاهلية ذات الطابع الخير والإنساني الرفيع، فقال عليه الصلاة والسلام: «أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده – أي الإسلام – إلا شدة، ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام»(18) أي إن الإسلام يقر التعاهد علىنصرة الحق والخير أياً كان مصدره، ويمنع التحالف على الشر والفتنة، والقتال القبلي، والعدوان الهمجي.
ولا يسمح الإسلام بالإخلال بالعهود أو الغدر، حتى ولو غدر العدو بالمسلمين وقاعدة الفقهاء في ذلك: «وفاء بعهد من غير غدر خير من غدر بغدر»(19) وهذا مأخوذ من قول أبي عبيدة الجراح حين غدر الروم بالمسلمين، فأمر ألا يعاملوا بمثل أفعالهم.
وجاء في الحديث «في العهود وفاء لا غدر»(20).
أـ تعريف العهد والميثاق والمعاهدة
العهد أو الميثاق في فقهنا الإسلامي لـه معنى أعم أو أوسع من كلمة «معاهدة» في القانون الدولي الوضعي.
ففي الشريعة أو الفقه: العهد: هو كل ما يتفق فيه شخصان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقاً، وإن أكداه باليمين خاصة سمي «يميناً». وسمي عقد الزواج في القرآن الكريم ميثاقاً غليظاً، أي مؤكداً شديد التأكيد.
والمعاهدة: هي أساساً اتفاق الإرادتين بصرف النظر عن الشكل أو الإجراء.
والعرف السائد اليوم يدل على تمييز «العهد» عن «العقد» بإضفاء سمة الإجلال والسمو والتعظيم للعهد، وتخصيصه بالعقد الموثق بقصد الوفاء به بنحو مؤكد، سواء تم توثيقه بالكتابة أو باليمين، أو بغيرهما من وسائل التوثيق، فكل اتفاق هو عقد، وليس كل «عقد» هو «عهد».
والعرف الدولي يميز «العهد» عن «المعاهدة» فإن «العهد» أوسع معنى من «المعاهدة» كما في فقهنا فكل معاهدة هي عهد، وليس كل عهد معاهدة. والمعاهدة محصورة عرفاً بالاتفاق بين دولتين، بين الأفراد والجماعات، وموضوعها محصور في حكم علاقة دولية ذات طابع قانوني، أي إنها ذات معنى خاص ضيق من حيث الطرفان والموضع. فيقال للانفاقيات الدولية في معاملة الأسرى وقواعد الحرب وأحوال مشروعية القتال أو استخدام القوة: إنها معاهدة.
والمسائل الجزئية الجانبية ذات الأهمية المحدودة لا تنظمها المعاهدة التي لها طابع العنصر الدولي المهم، وإنما توصف بأنها اتفاقية مثل أمر الحاكم بإنهاء الحرب مع مدينة معينة أو شعب مجاور، ومثل اتفاقية تبادل الأسرى ونحو ذلك.
ب – أهمية المعاهدات والمواثيق ومشروعيتها
تضفي المعاهدات والمواثيق على أعمال الأمم والشعوب والدول والأفراد عنصر الثقة والاطمئنان، وتعمل على تخفيف حدة التوتر في العالم، وتكفل إلى حد بعيد تنفيذ الشروط والبنود وتحقيق المصلحة في وقت محدد، يعود على الطرفين بالخير والهدوء والراحة النفسية والاجتماعية.
وبالمعاهدة يحل مبدأ السلم محل الحرب، والأمن محل القلق والخوف، والحب والصفاء بدل الكراهية والكيد، وينعم الناس بنعمة الحرية التي لا قيود عليها، فيتفرغون لشؤون المعيشة، وتقدم المدنية والعمران، وتنشيط الصناعة وتطورها وتوجيهها وجهة لخير الإنسان وصالحة ونفعه، ولإنعاش الزراعة وحفظ المواسم، وتنمية التجارة، وفتح الأسواق أمام الصادرات والواردات، وتبادل المنتجات، فتكون المعاهدة أداة تفاهم وودّ، وتقدم وحضارة، ورفاه وسعادة.
والمعاهدة فضلاً عن كل ذلك أداة حاسمة وموثقة لتنمية العلاقات الدولية، وفض المنازعات والخصومات الخارجية. لذا عظّم الإسلام العهود والمعاهدات ورغب فيها، وشرعها وسيلة متعينة لتنظيم العلاقات الخارجية، وآثر فض المنازعات الجماعية بالوسائل السلمية، سواء في داخل الدولة المسلمة أو خارجها، ولتحقيق الأغراض الكريمة والغايات الإنسانية االنبيلة، بل إن نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة
لا يتم إلا في ظلها وفي ربوع الأمن والسلام وإشاعة الاستقرار والرخاء المتحقق بها.
والنصوص الشرعية في الإسلام كثيرة دالة على مبدأ مشروعية المعاهدات مع الأعداء حال السلم أو الحرب، في إطار من الشروط المتفق عليها بالتراضي والاختيار، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( (المائدة:1)، وقوله سبحانه:
( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (
(لأنفال:72) أي إن حق الميثاق فوق حق الإخوة الإسلامية، حيث ينصر المعاهد غير المسلم، ولا ينصر المسلم الذي ليس بينه وبين المسلمين ميثاق(12).
وقولـه (عزوجل): (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ( (التوبة:4).
وهذا كله دليل في الشريعة الإسلامية على قدسية المعاهدات ووجوب احترامها وإلزام الوفاء بها، قال النبي(ص): «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طبيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة»(13).
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس بن مالك(رضي الله عنه)، عن رسول الله(ص) قال: «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»(14).
ج – الوفاء بالعهد
الوفاء بالعهود والمواثيق فرض واجب لازم في الشريعة الإسلامية كأداء الفرائض الأخرى من العبادات وغيرها، فعلى المسلمين تنفيذ التزاماتهم التي تعهدوها في معاهداتم دون تلكؤ ولا تباطؤ ولا تسويف، ولم يسمح الإسلام بالغدر والخيانة أو نقض العهد والتحلل من الالتزامات أو بنود المعاهدة، لأن ذلك شيء مهين يخل بالثقة والاحترام، ولأن المسلمين يمثلون سمو الرسالة الإلهية وشرف الكلمة النابعة من الدين.
لذا لم تكن المعاهدات في الإسلام مجرد قصاصة ورق، كما هو الشأن المعروف عند الدول غير الإسلامية في الماضي أو الحاضر، ولا وسيلة لخداع العدو ولا ستاراً لتنفيذ أغراض معينة، ولا شعاراً لفرض القوي سلطانه على الضعيف أو المغلوب كما يفعل غير المسلمين عادة، حتى إذا قوي الضعيف نبذها، وقاتل للتحلل من قيودها والتخلص من سلطة العدو الأقوى، وهي أيضاً كانت عند غير المسلمين صورة أو مظلة لقوة الأقوياء لإملاء شروطهم غالباً وليست إجراء لتنظيم السلم العادل، وإنما كانت المعاهدات في شريعة الإسلام وتاريخ المسلمين مصونة عن أي غدر أو خداع أو قهر، أو لتحقيق مصلحة مادية رخيصة، أو من أجل فتح منافذ أسواق لتصريف السلع والمنتجات الصناعية، وفائض الزراعة، أو المواد الاستهلاكية الزائدة عن الحاجة، وبشرط عدم التأثير على أسعار السلعة محلياً، وإلا ألقي الفائض في البحار، ولم يصدَّر لأحد، كما تفعل بعض الدول الغربية المعاصرة من إلقاء فائض البن مثلاً في البحر.
ولم يستثن الفقهاء المسلمون من مبدأ الوفاء بالعهد إلا عقود الهدنة الحربية مع العدو عند توافر القرائن القاطعة على تحركات جيشة المريبة، والاستعداد لحرب جديدة، أو حال المعاملة بالمثل وحال نقض العدو المعاهدة من جانب واحد، وذلك لقول الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(
(لأنفال:58) أي إن قامت القرائن على خيانة العدو عهده، نقض العهد وأعلم العدو بالنقض حتى يكون المسلمون وغيرهم متساوين في العلم بذلك.
وصرح فقهاء الحنفية بأن الهدنة لا تنتقض إلا باتفاق العدو على نقضها، أي لا عبرة بنقض الأفراد(15).
والإلزام القرآني باحترام العهود والمواثيق هو من أجل إقامة حالة سلم ثابتة تقوم على أقوى الدعائم، سواء في الداخل أو الخارج.
والبراهين على وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق متوافرة متضافرة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
فمن آيات القرآن: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( (النحل:91)، ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً( (الاسراء:34)، ( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ( (التوبة:4)،
( فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ( (التوبة:7)، أي إن الوفاء بالعهد من أصول الإيمان، وهو شأن المؤمنين خلافاً للمنافقين، لقوله تعالى في وصف المؤمنين: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ( (الرعد:20) ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ((البقرة:177).
ومن الأحاديث الصحيحة في احترام العهود: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»(16)، «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة»(17).
بل إن الإسلام ألزم بالوفاء بأحلاف الجاهلية ذات الطابع الخير والإنساني الرفيع، فقال عليه الصلاة والسلام: «أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده – أي الإسلام – إلا شدة، ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام»(18) أي إن الإسلام يقر التعاهد علىنصرة الحق والخير أياً كان مصدره، ويمنع التحالف على الشر والفتنة، والقتال القبلي، والعدوان الهمجي.
ولا يسمح الإسلام بالإخلال بالعهود أو الغدر، حتى ولو غدر العدو بالمسلمين وقاعدة الفقهاء في ذلك: «وفاء بعهد من غير غدر خير من غدر بغدر»(19) وهذا مأخوذ من قول أبي عبيدة الجراح حين غدر الروم بالمسلمين، فأمر ألا يعاملوا بمثل أفعالهم.
وجاء في الحديث «في العهود وفاء لا غدر»(20).