الثقة المفقودة
مرسل: السبت ديسمبر 07, 2013 10:02 pm
تداعيات أزمة التجسس الأمريكي على الدول الأوروبية
نوران شفيق علي
تشهد العلاقات الأمريكية- الأوروبية حاليا حالة من التوتر بعد ما نشر من معلومات حول قيام وكالة الأمن القومي الأمريكية بالتجسس على نحو 35 من القادة على مستوى العالم، وأكثر من 60 مليون مكالمة هاتفية في دول مختلفة، من بينها دول أوروبية، إذ صرح القادة الأوروبيون بأن في ذلك ما يخل باعتبارات الثقة التي يجب أن توجد ما بين الحلفاء.
وتثير هذه الأزمة عددا من التساؤلات حول قضية التجسس ما بين الحلفاء بشكل عام، وإلى أي مدى يمكن للدول تقبلها، ومستقبل العلاقات الأمريكية- الأوروبية، ومآلات التعاون فيما بينهما في الجوانب الاستخباراتية كجزء من جهود مكافحة الإرهاب. فعلى الرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها توجيه أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة للقيام بأعمال استخباراتية ضد حلفائها في أوروبا، فإن هذه الحالة بها من الملابسات ما يضفي عليها قدرا من الخصوصية، مقارنة بسابقاتها.
تداعيات الأزمة وردود الأفعال الأوروبية:
لقد أثار ما نشر من تقارير عن عمليات التجسس التي قامت بها وكالة الأمن القومي الأمريكية ردود أفعال غاضبة من عدد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، وذلك إثر المعلومات التي أكدت أن رئيسة الوزراء، أنجيلا ميركل، كانت هدفا لعمليات التجسس منذ عام 2002 وحتى عام 2010، وأن المكالمات الهاتفية التي أجرتها من هاتفها تم تسجيلها طوال هذه المدة.
ولقد دفع ذلك عددا من الدول الأوروبية، إلى جانب ألمانيا، من بينها فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والتي ذكرت التقارير أنها تعرضت أيضا للتجسس الأمريكي، باستدعاء سفراء الولايات المتحدة، وإظهار غضبها مما حدث، وتأكيدها أنه سيؤثر حتما فى آفاق التعاون المستقبلي مع الإدارة الأمريكية. كما أعلنت ألمانيا وفرنسا عن اعتزامهما التفاوض مع الولايات المتحدة لإبرام اتفاقيات تحظر على أطرافها إجراء أي عملية تجسس ضد بعضها بعضا.
وإلى جانب ردود الأفعال الفردية من قبل بعض الدول الأوربية، ظهرت تداعيات الأزمة على المستوى المؤسسي، سواء من خلال الاتحاد الأوروبي، أو الأمم المتحدة. فلقد دعت ألمانيا والبرازيل، بمساندة مجموعة من الدول الأوروبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى ضرورة تبني المنظمة لقرار يحمي خصوصية الدول، ويقف حائلا أمام عمليات التجسس المماثلة. ويعد ذلك أول تحرك دولي لحماية الدول من عمليات التجسس التي تدعمها دول أخرى، وتقيد البرامج الاستخباراتية لوكالة الأمن القومي الأمريكية.
وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، تعالت الأصوات الداعية لاتخاذ تدابير عقابية ضد الولايات المتحدة، إذ يناقش البرلمان الأوروبي حاليا اقتراحا قدمته بعض الدول، وفي مقدمتها ألمانيا، بوقف المشاورات الخاصة باتفاقية التجارة الحرة ما بين أوروبا والولايات المتحدة، والتي بدأت المفاوضات عليها في فبراير الماضي، وكان من شأنها أن تحقق مكاسب اقتصادية هائلة لكلا الطرفين. وعلى الرغم من أن قرار تعليق المفاوضات لم يصدر بعد، فإن عددا من القادة الأوربيين قد أكدوا صعوبة استكمال المشاورات مع الإدارة الأمريكية بعد كشف عمليات التجسس هذه، والتي رأوا أنها قللت من مصداقية الولايات المتحدة كحليف للدول الأوروبية.
يضاف إلى ذلك دعوة البرلمان الأوربي لضرورة تعليق العمل بالاتفاقية المشتركة ما بين الولايات المتحدة وأوروبا والمعروفة ببرنامج تتبع تمويل الإرهاب Terrorist Finance Tracking Program والذي يعد إحدى أبرز صور التعاون الاستخباراتي ما بين الطرفين. بدأ العمل بهذا البرنامج بعد أحداث 11 سبتمبر في ظل إدارة جورج بوش كجزء من التعاون الأوروبي مع الولايات المتحدة للحرب على الإرهاب. بمقتضى هذا البرنامج، سمح للولايات المتحدة تتبع عدد كبير من التحويلات البنكية من خلال الدول الأوروبية. ولقد ظل هذا البرنامج في طي السرية حتى كشف عنه عدد من الجرائد، من بينها النيويورك تايمز، والواشنطن بوست في عام 2006، وهو ما دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتحويله إلى اتفاقية معلنة تقوم على أسس قانونية.
ضبابية الموقف الأمريكي:
ردا على الغضب الأوروبي، أعلن البيت الأبيض عدم علمه بعمليات التجسس هذه أو بمراقبة الهاتف الخاص بميركل على وجه التحديد، وأنه كان ليوقفها إذا ما علم بها من قبل. في حين جاءت تصريحات بعض مسئولي الوكالة تؤكد علم الإدارة بمعظم البرامج الاستخباراتية التي تقوم بها. فلقد وضعت هذه الأزمة الإدارة الأمريكية في مأزق. فإذا ما أعلن أوباما عن علمه بهذه البرامج، فهو بذلك سيعمق من الخلاف مع الدول الأوروبية.
ومن جهة أخرى، أثار تصريح أوباما بأنه لم يكن على علم بهذه العمليات شكوكا حول مدى كفاءته في إدارة مؤسسات الدولة والرقابة عليها، وعن مدى استقلالية وكالة الأمن القومي وبرامجها. إذ ترتب على ما نشر من معلومات أن نُظم عدد كبير من المظاهرات في عدة ولايات أمريكية تندد بقيام الوكالة بالتجسس على المواطنين، وبفشل أوباما في السيطرة على عملها.
وعلى الرغم من تصريح بعض المسئولين التابعين للإدارة الأمريكية بأن هذه البرامج الاستخباراتية تتم بشكل روتيني، ولا يتم إعلام الرئيس بها بالضرورة، فإن ما نشر من تقارير قد يشكك في مصداقية هذه التصريحات. إذ توضح التقارير المنشورة أن عمليات التجسس بدأت في عهد بوش، وهو ما يعني أن أوباما من المفترض أن يكون قد علم بها عند توليه منصب الرئاسة. يضاف إلى ذلك أن التجسس على الهاتف الخاص بميركل قد تم تكثيفه، وفقا لما نشر من معلومات في عام 2010، أي في وقت الأزمة المالية في منطقة اليورو، والتي لعبت فيها ألمانيا الدور الأبرز، وهو الأمر الذي يشكك في مدى "روتينية" هذه العمليات، وأن هناك دوافع سياسية كامنة وراءها ترتبط بالضرورة بالإدارة الأمريكية، وبوزارة الخارجية، أي أن علمها بها أمر محتمل، حتى وإن صرح أوباما بغير ذلك.
وفي تحد لما نشر من معلومات، فقد جاء في خطاب رئيس وكالة الأمن القومي، الجنرال كيث ألكسندر، أمام الكونجرس، أن ما نشر عن تنصت الولايات المتحدة على ملايين المكالمات الهاتفية لمواطنين في إسبانيا وفرنسا غير صحيح، وأن هذه المعلومات قد جمعتها الأجهزة الاستخباراتية للدول الأوروبية ذاتها، وهي التى قامت بتسليمها للولايات المتحدة، وهو بالتالي لا يرى ما يتعارض مع مشروعية حصول الولايات المتحدة على هذه المعلومات. جاء هذا الخطاب في ظل مناقشة الكونجرس لاقتراحات تقضي بزيادة الرقابة على عمل الوكالة، والحد مما تقوم به من برامج تجسسية يتم من خلالها جمع معلومات عن المواطنين.
خصوصية الأزمة الحالية:
ليست هذه المرة الأولى التي تثار فيها قضية التجسس ما بين الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الأوروبية. فدائما ما كانت هناك مخاوف لدى أوروبا من قيام الولايات المتحدة بالتجسس لأهداف سياسية واقتصادية، مستغلة في ذلك الجهود الاستخباراتية المشتركة فيما بينهما.
فعلى سبيل المثال، أصدر البرلمان الأوروبي سنة 2000 تقريرا يتهم فيه الولايات المتحدة بمراقبة المكالمات، والفاكسات، والبريد الإلكتروني لشركات أوروبية من خلال برنامج تجسس يسمى "إيشلون". يعود هذا البرنامج إلى الحرب الباردة، وبمقتضاه تعاونت الأجهزة الاستخباراتية لكل من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، واستراليا، ونيوزيلندا في مراقبة شبكات الاتصال حول العالم بهدف التجسس على المعسكر الشرقي. وردا على الاتهامات الأوروبية، أعلنت الولايات المتحدة إنهاء العمل بالبرنامج تماما في سبتمبر 2002.
وفي 2010 أيضا، نشرت بعض المعلومات التي أثارت بدورها مخاوف الدول الأوروبية من استخدام الولايات المتحدة لبرنامج متابعة تمويل الإرهاب كغطاء للتجسس على الدول الأوروبية لأهداف اقتصادية، وأنها تقوم بنقل المعلومات الاقتصادية التي تحصل عليها من خلال التعاون في إطار هذا البرنامج لشركات أمريكية.
وكذلك في مايو 2012، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، اتهمت فرنسا الولايات المتحدة بشن هجوم إلكتروني على الفريق الانتخابي الخاص برئيس الجمهورية ساركوزي، تم من خلاله الاطلاع على الخطط الاستراتيجية الخاصة بالحملة، وهو ما نفته الولايات المتحدة.
يتضح من ذلك أن الاتهامات للولايات المتحدة بالتجسس على حلفائها في أوروبا ليست بجديدة، ولكن ثمة مجموعة من العوامل أضفت على اتهامات التجسس هذه المرة قدرا من الخصوصية أدت إلى تحولها لأزمة حقيقية تهدد العلاقات الأمريكية- الأوروبية. وتتمثل هذه العوامل في الآتي:
أولا- طريقة الحصول على المعلومات: معظم ما نشر من معلومات حول عمليات التجسس الأمريكية تم الحصول عليه من خلال إدوارد سنودن، الذي عمل سابقا مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ووكالة الأمن القومي، وقام بنشر معلومات سرية خاصة بعمل الوكالة. ويتمتع سنودن حاليا بحق اللجوء السياسي في روسيا، بعد أن وجهت له الولايات المتحدة الأمريكية اتهامات بسرقة معلومات ووثائق حكومية.
فعلى عكس الحالات السابقة التي لم يكن فيها أي دليل قاطع يدعم الاتهامات الأوروبية للولايات المتحدة، قدم سنودن هذا الدليل، والذي لم يدع مجالا للشك في قيام وكالة الأمن القومي بعمليات التجسس المعلن عنها. ولأن هذه المعلومات صادرة عن مسئول من داخل المؤسسة، ووجهت له اتهامات بسرقة معلومات سرية، فلم يكن من الممكن أن تنكر الإدارة الأمريكية هذه العمليات، كما كانت تنكر من قبل، وإنما اكتفت فقط بإنكار العلم بها.
يضاف إلى ذلك أن مصداقية المعلومات هذه المرة قد مثلت عنصر ضغط على زعماء أوروبا لاتخاذ مواقف حاسمة تجاه الولايات المتحدة. إذ يرى بعض الخبراء أن ردود الفعل الأوروبية مفتعلة، وأن الدول كافة على علم بإجراء مثل هذه العمليات حتى بين الحلفاء. ولكن بعد أن نشرت معلومات مؤكدة حول قيام الولايات المتحدة بالتجسس على مواطنين أوروبيين، وانتهاك خصوصياتهم، وفي ظل ما تتعرض له الدول الأوروبية من ضغوط داخلية، لم يكن من المتصور ألا يتخذ قادتها المواقف الحالية من انتقاد لما حدث، واتخاذ إجراءات حاسمة تجاهه.
ثانيا- طبيعة ونطاق هذه العمليات: فلقد اتسمت عمليات التجسس هذه المرة باتساع نطاقها، حيث شملت التجسس على ملايين المكالمات الهاتفية للمواطنين في عدد كبير من الدول. وما يزيد من خصوصية الأزمة هو طبيعة عمليات التجسس التي لم تقتصر فقط على مواطنين، وإنما أيضا شملت القادة الأوربيين. فلم يسبق أن تم نشر معلومات عن تنصت الولايات المتحدة على هاتف أحد قيادات الدول الحليفة لها أو العكس، وهو ما أثار غضب ميركل والساسة، والمواطنين الألمان.
وتبقى هذه الأزمة كاشفة ليس فقط عن طبيعة البرامج الاستخباراتية للولايات المتحدة، وإنما أيضا عن اتساع نطاق هذه البرامج لتشمل ملايين المواطنين حول العالم. فردود الفعل الغاضبة على ما نشر من وثائق لم تقتصر فقط على الزعماء الذين تعرضوا للتجسس، وإنما أيضا على المواطنين في العديد من الدول، ومن بينها الولايات المتحدة، ضد ما رأوه تعديا على خصوصيتهم من قبل الحكومات تحت دعاوى "الحرب على الإرهاب".
نوران شفيق علي
تشهد العلاقات الأمريكية- الأوروبية حاليا حالة من التوتر بعد ما نشر من معلومات حول قيام وكالة الأمن القومي الأمريكية بالتجسس على نحو 35 من القادة على مستوى العالم، وأكثر من 60 مليون مكالمة هاتفية في دول مختلفة، من بينها دول أوروبية، إذ صرح القادة الأوروبيون بأن في ذلك ما يخل باعتبارات الثقة التي يجب أن توجد ما بين الحلفاء.
وتثير هذه الأزمة عددا من التساؤلات حول قضية التجسس ما بين الحلفاء بشكل عام، وإلى أي مدى يمكن للدول تقبلها، ومستقبل العلاقات الأمريكية- الأوروبية، ومآلات التعاون فيما بينهما في الجوانب الاستخباراتية كجزء من جهود مكافحة الإرهاب. فعلى الرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها توجيه أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة للقيام بأعمال استخباراتية ضد حلفائها في أوروبا، فإن هذه الحالة بها من الملابسات ما يضفي عليها قدرا من الخصوصية، مقارنة بسابقاتها.
تداعيات الأزمة وردود الأفعال الأوروبية:
لقد أثار ما نشر من تقارير عن عمليات التجسس التي قامت بها وكالة الأمن القومي الأمريكية ردود أفعال غاضبة من عدد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، وذلك إثر المعلومات التي أكدت أن رئيسة الوزراء، أنجيلا ميركل، كانت هدفا لعمليات التجسس منذ عام 2002 وحتى عام 2010، وأن المكالمات الهاتفية التي أجرتها من هاتفها تم تسجيلها طوال هذه المدة.
ولقد دفع ذلك عددا من الدول الأوروبية، إلى جانب ألمانيا، من بينها فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والتي ذكرت التقارير أنها تعرضت أيضا للتجسس الأمريكي، باستدعاء سفراء الولايات المتحدة، وإظهار غضبها مما حدث، وتأكيدها أنه سيؤثر حتما فى آفاق التعاون المستقبلي مع الإدارة الأمريكية. كما أعلنت ألمانيا وفرنسا عن اعتزامهما التفاوض مع الولايات المتحدة لإبرام اتفاقيات تحظر على أطرافها إجراء أي عملية تجسس ضد بعضها بعضا.
وإلى جانب ردود الأفعال الفردية من قبل بعض الدول الأوربية، ظهرت تداعيات الأزمة على المستوى المؤسسي، سواء من خلال الاتحاد الأوروبي، أو الأمم المتحدة. فلقد دعت ألمانيا والبرازيل، بمساندة مجموعة من الدول الأوروبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى ضرورة تبني المنظمة لقرار يحمي خصوصية الدول، ويقف حائلا أمام عمليات التجسس المماثلة. ويعد ذلك أول تحرك دولي لحماية الدول من عمليات التجسس التي تدعمها دول أخرى، وتقيد البرامج الاستخباراتية لوكالة الأمن القومي الأمريكية.
وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، تعالت الأصوات الداعية لاتخاذ تدابير عقابية ضد الولايات المتحدة، إذ يناقش البرلمان الأوروبي حاليا اقتراحا قدمته بعض الدول، وفي مقدمتها ألمانيا، بوقف المشاورات الخاصة باتفاقية التجارة الحرة ما بين أوروبا والولايات المتحدة، والتي بدأت المفاوضات عليها في فبراير الماضي، وكان من شأنها أن تحقق مكاسب اقتصادية هائلة لكلا الطرفين. وعلى الرغم من أن قرار تعليق المفاوضات لم يصدر بعد، فإن عددا من القادة الأوربيين قد أكدوا صعوبة استكمال المشاورات مع الإدارة الأمريكية بعد كشف عمليات التجسس هذه، والتي رأوا أنها قللت من مصداقية الولايات المتحدة كحليف للدول الأوروبية.
يضاف إلى ذلك دعوة البرلمان الأوربي لضرورة تعليق العمل بالاتفاقية المشتركة ما بين الولايات المتحدة وأوروبا والمعروفة ببرنامج تتبع تمويل الإرهاب Terrorist Finance Tracking Program والذي يعد إحدى أبرز صور التعاون الاستخباراتي ما بين الطرفين. بدأ العمل بهذا البرنامج بعد أحداث 11 سبتمبر في ظل إدارة جورج بوش كجزء من التعاون الأوروبي مع الولايات المتحدة للحرب على الإرهاب. بمقتضى هذا البرنامج، سمح للولايات المتحدة تتبع عدد كبير من التحويلات البنكية من خلال الدول الأوروبية. ولقد ظل هذا البرنامج في طي السرية حتى كشف عنه عدد من الجرائد، من بينها النيويورك تايمز، والواشنطن بوست في عام 2006، وهو ما دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتحويله إلى اتفاقية معلنة تقوم على أسس قانونية.
ضبابية الموقف الأمريكي:
ردا على الغضب الأوروبي، أعلن البيت الأبيض عدم علمه بعمليات التجسس هذه أو بمراقبة الهاتف الخاص بميركل على وجه التحديد، وأنه كان ليوقفها إذا ما علم بها من قبل. في حين جاءت تصريحات بعض مسئولي الوكالة تؤكد علم الإدارة بمعظم البرامج الاستخباراتية التي تقوم بها. فلقد وضعت هذه الأزمة الإدارة الأمريكية في مأزق. فإذا ما أعلن أوباما عن علمه بهذه البرامج، فهو بذلك سيعمق من الخلاف مع الدول الأوروبية.
ومن جهة أخرى، أثار تصريح أوباما بأنه لم يكن على علم بهذه العمليات شكوكا حول مدى كفاءته في إدارة مؤسسات الدولة والرقابة عليها، وعن مدى استقلالية وكالة الأمن القومي وبرامجها. إذ ترتب على ما نشر من معلومات أن نُظم عدد كبير من المظاهرات في عدة ولايات أمريكية تندد بقيام الوكالة بالتجسس على المواطنين، وبفشل أوباما في السيطرة على عملها.
وعلى الرغم من تصريح بعض المسئولين التابعين للإدارة الأمريكية بأن هذه البرامج الاستخباراتية تتم بشكل روتيني، ولا يتم إعلام الرئيس بها بالضرورة، فإن ما نشر من تقارير قد يشكك في مصداقية هذه التصريحات. إذ توضح التقارير المنشورة أن عمليات التجسس بدأت في عهد بوش، وهو ما يعني أن أوباما من المفترض أن يكون قد علم بها عند توليه منصب الرئاسة. يضاف إلى ذلك أن التجسس على الهاتف الخاص بميركل قد تم تكثيفه، وفقا لما نشر من معلومات في عام 2010، أي في وقت الأزمة المالية في منطقة اليورو، والتي لعبت فيها ألمانيا الدور الأبرز، وهو الأمر الذي يشكك في مدى "روتينية" هذه العمليات، وأن هناك دوافع سياسية كامنة وراءها ترتبط بالضرورة بالإدارة الأمريكية، وبوزارة الخارجية، أي أن علمها بها أمر محتمل، حتى وإن صرح أوباما بغير ذلك.
وفي تحد لما نشر من معلومات، فقد جاء في خطاب رئيس وكالة الأمن القومي، الجنرال كيث ألكسندر، أمام الكونجرس، أن ما نشر عن تنصت الولايات المتحدة على ملايين المكالمات الهاتفية لمواطنين في إسبانيا وفرنسا غير صحيح، وأن هذه المعلومات قد جمعتها الأجهزة الاستخباراتية للدول الأوروبية ذاتها، وهي التى قامت بتسليمها للولايات المتحدة، وهو بالتالي لا يرى ما يتعارض مع مشروعية حصول الولايات المتحدة على هذه المعلومات. جاء هذا الخطاب في ظل مناقشة الكونجرس لاقتراحات تقضي بزيادة الرقابة على عمل الوكالة، والحد مما تقوم به من برامج تجسسية يتم من خلالها جمع معلومات عن المواطنين.
خصوصية الأزمة الحالية:
ليست هذه المرة الأولى التي تثار فيها قضية التجسس ما بين الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الأوروبية. فدائما ما كانت هناك مخاوف لدى أوروبا من قيام الولايات المتحدة بالتجسس لأهداف سياسية واقتصادية، مستغلة في ذلك الجهود الاستخباراتية المشتركة فيما بينهما.
فعلى سبيل المثال، أصدر البرلمان الأوروبي سنة 2000 تقريرا يتهم فيه الولايات المتحدة بمراقبة المكالمات، والفاكسات، والبريد الإلكتروني لشركات أوروبية من خلال برنامج تجسس يسمى "إيشلون". يعود هذا البرنامج إلى الحرب الباردة، وبمقتضاه تعاونت الأجهزة الاستخباراتية لكل من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، واستراليا، ونيوزيلندا في مراقبة شبكات الاتصال حول العالم بهدف التجسس على المعسكر الشرقي. وردا على الاتهامات الأوروبية، أعلنت الولايات المتحدة إنهاء العمل بالبرنامج تماما في سبتمبر 2002.
وفي 2010 أيضا، نشرت بعض المعلومات التي أثارت بدورها مخاوف الدول الأوروبية من استخدام الولايات المتحدة لبرنامج متابعة تمويل الإرهاب كغطاء للتجسس على الدول الأوروبية لأهداف اقتصادية، وأنها تقوم بنقل المعلومات الاقتصادية التي تحصل عليها من خلال التعاون في إطار هذا البرنامج لشركات أمريكية.
وكذلك في مايو 2012، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، اتهمت فرنسا الولايات المتحدة بشن هجوم إلكتروني على الفريق الانتخابي الخاص برئيس الجمهورية ساركوزي، تم من خلاله الاطلاع على الخطط الاستراتيجية الخاصة بالحملة، وهو ما نفته الولايات المتحدة.
يتضح من ذلك أن الاتهامات للولايات المتحدة بالتجسس على حلفائها في أوروبا ليست بجديدة، ولكن ثمة مجموعة من العوامل أضفت على اتهامات التجسس هذه المرة قدرا من الخصوصية أدت إلى تحولها لأزمة حقيقية تهدد العلاقات الأمريكية- الأوروبية. وتتمثل هذه العوامل في الآتي:
أولا- طريقة الحصول على المعلومات: معظم ما نشر من معلومات حول عمليات التجسس الأمريكية تم الحصول عليه من خلال إدوارد سنودن، الذي عمل سابقا مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ووكالة الأمن القومي، وقام بنشر معلومات سرية خاصة بعمل الوكالة. ويتمتع سنودن حاليا بحق اللجوء السياسي في روسيا، بعد أن وجهت له الولايات المتحدة الأمريكية اتهامات بسرقة معلومات ووثائق حكومية.
فعلى عكس الحالات السابقة التي لم يكن فيها أي دليل قاطع يدعم الاتهامات الأوروبية للولايات المتحدة، قدم سنودن هذا الدليل، والذي لم يدع مجالا للشك في قيام وكالة الأمن القومي بعمليات التجسس المعلن عنها. ولأن هذه المعلومات صادرة عن مسئول من داخل المؤسسة، ووجهت له اتهامات بسرقة معلومات سرية، فلم يكن من الممكن أن تنكر الإدارة الأمريكية هذه العمليات، كما كانت تنكر من قبل، وإنما اكتفت فقط بإنكار العلم بها.
يضاف إلى ذلك أن مصداقية المعلومات هذه المرة قد مثلت عنصر ضغط على زعماء أوروبا لاتخاذ مواقف حاسمة تجاه الولايات المتحدة. إذ يرى بعض الخبراء أن ردود الفعل الأوروبية مفتعلة، وأن الدول كافة على علم بإجراء مثل هذه العمليات حتى بين الحلفاء. ولكن بعد أن نشرت معلومات مؤكدة حول قيام الولايات المتحدة بالتجسس على مواطنين أوروبيين، وانتهاك خصوصياتهم، وفي ظل ما تتعرض له الدول الأوروبية من ضغوط داخلية، لم يكن من المتصور ألا يتخذ قادتها المواقف الحالية من انتقاد لما حدث، واتخاذ إجراءات حاسمة تجاهه.
ثانيا- طبيعة ونطاق هذه العمليات: فلقد اتسمت عمليات التجسس هذه المرة باتساع نطاقها، حيث شملت التجسس على ملايين المكالمات الهاتفية للمواطنين في عدد كبير من الدول. وما يزيد من خصوصية الأزمة هو طبيعة عمليات التجسس التي لم تقتصر فقط على مواطنين، وإنما أيضا شملت القادة الأوربيين. فلم يسبق أن تم نشر معلومات عن تنصت الولايات المتحدة على هاتف أحد قيادات الدول الحليفة لها أو العكس، وهو ما أثار غضب ميركل والساسة، والمواطنين الألمان.
وتبقى هذه الأزمة كاشفة ليس فقط عن طبيعة البرامج الاستخباراتية للولايات المتحدة، وإنما أيضا عن اتساع نطاق هذه البرامج لتشمل ملايين المواطنين حول العالم. فردود الفعل الغاضبة على ما نشر من وثائق لم تقتصر فقط على الزعماء الذين تعرضوا للتجسس، وإنما أيضا على المواطنين في العديد من الدول، ومن بينها الولايات المتحدة، ضد ما رأوه تعديا على خصوصيتهم من قبل الحكومات تحت دعاوى "الحرب على الإرهاب".