منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By ناجي العييد80
#19517
يوسف أباالخيل

عندما كانت جحافل القوات الأمريكية تدق أبواب بغداد كان الشعار الذي يرافقها هو: دمقرطة العراق بحيث يكون نموذجا للديمقراطية المراد نشرها في الشرق الأوسط!. ولم ينتظر صقور المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية السابقة لكي يطبخوا نموذجهم المزعوم في العراق على نار هادئة، ليتمكنوا من بعث مخرجات النواة إلى بقية الأقطار المستهدفة بالديمقراطية، بل شجعوا تلك الأقطار على أن تساوق التجربة العراقية بالزمن ليكون القطاف الديمقراطي سريعا!. والسؤال هنا: ما هي محصلة «الديمقراطية» العربية، سواءً أكانت «ديمقراطية» من الداخل، أو دمقرطة من الخارج على طريقة المحافظين الجدد؟.

واقع التجارب «الديمقراطية» العربية، سواءً منها تلك التي ساوقت الزمن «الديمقراطي»العراقي، أو التي أتت بعده، أو تلك التي مرت بالتجربة «الديمقراطية» قبله، يؤكد، يوما بعد يوم، على أنها دشنت لوضع سياسي أتى بحمل استبدادي أثقل مما حمله الوضع السياسي السابق لها. في العراق الجريح، نجد أن صناديق الاقتراع أفرزت تكتلات وأحزاباً حزبية هي أشبه بالكانتونات المذهبية الضيقة، لأن تلك التكتلات والأحزاب قدمت برامجها في الانتخابات، إما على أساس مذهبي بحت، كما هي الحال فيما يخص الشيعة والسنة، أو عرقي بحت، كما هي حال الأكراد. والناخب العراقي، من جهته، أدلى بصوته للتكتل أو الحزب الذي يتفق وميوله المذهبية أو العرقية، والغائب الأكبر في العملية الانتخابية العراقية، الذي هو الحاضر الوحيد في العمليات الديمقراطية الحقيقية، كان الوطنية والوطن.

لقد أفرزت صناديق الاقتراع العراقية وضعا سياسياً طائفياً اضطر معه رئيس الوزراء العراقي:(نوري المالكي)، إلى الشكوى العلنية من النتائج المدمرة لما يمكن أن أسميها ب «ديمقراطية الطوائف»، الأمر الذي حدا به إلى المطالبة ب «إنهاء الديمقراطية التوافقية والمحاصصة». وبرر قبول العراقيين لتلك المحاصصة الطائفية بأن «النفوس كانت مثقلة بالخوف والتهميش ولم يكن أمامنا خيار سوى التوافق ومبدأ المحاصصة، كنا في حاجة لطمأنة الشركاء، وقد حققنا ما أمكن، لكن الاستمرار هو الضد لعملية الاستقرار السياسي». وبدا واضحاً أكثر، وهو يؤكد رفضه للمحاصصة الطائفية «الديمقراطية» بقوله: «لا بد أن نختار إما الدولة وتحمل المسؤولية، وإما المعارضة:( يقصد المعارضة الديمقراطية الحقة)، فالصيغ التي اضطررنا إليها، مثل الديمقراطية التوافقية والمحاصصة ربما كانت ضرورة في مرحلة بناء الدولة لكن اليوم لا بد أن ننتهي ونعود إلى القانون والدستور».

وما لم يدركه رئيس الوزراء العراقي، أو أنه أدركه ولم يكن قادراً على البوح به، أن الديمقراطية من جانب، والطائفية والعرقية والإثنية من جانب آخر، ضدان لا يجتمعان، وأن «الديمقراطية» الشكلية الممثلة بصناديق الاقتراع والتصويت وفرز الأصوات، وإعلان النتائج، ليست هي الديمقراطية الحقيقية. وأن ثقافة الديمقراطية القائمة على احترام الحقوق الأساسية للإنسان بمطلقه ضرورة تسبق إحلال الديمقراطية نفسها بما هي صناديق اقتراع وتصويت وفرز ونتائج.

في المقابل، فلم يخرج الامتداد النموذجي/ الجغرافي للدمقرطة الأمريكية في بقية أقطار الشرق الأوسط عن الإطار (الشكلي) للديمقراطية، لأن المجتمعات التي حاولت أن تتمقرط بنفسها، أو حاول الخارج دمقرطتها، كانت مجتمعات متشابهة، إن لم نقل متماثلة، في أنها مجتمعات ما قبل الحداثة، مجتمعات الطائفة والمذهب والعرق المقدمة على الوطن بفضائه الجامع، هذا إذا كان ثمة حضور للوطن بمفهومه الفلسفي الحديث، في الثقافة العربية المعاصرة. ففي فلسطين، مثلاً، انتخب الناخب الفلسطيني الذي لم (يتلبرل) بعدُ، شأنه شأن بقية أقرانه في بقية الأقطار العربية، حركة حماس، كحركة متمذهبة تحاسب «المواطن» الفلسطيني وفقاً لانتماءاته الدينية قبل الوطنية، هذا إذا كان للانتماء الوطني حضور لديها من الأساس.

إن من المعلوم به من الضرورة من فلسفة الحداثة، أن الديمقراطية هي ثقافة تتأصل في النظام التربوي الشامل للمجتمع قبل اللجوء إلى آلياتها الشكلية: صناديق اقتراع، اقتراع، نتائج، وضع سياسي جديد. لا يمكن أن (تتمقرط) السياسة قبل أن (تتلبرل) الثقافة. ولا يمكن أن (تتلبرل)الثقافة ما لم تُحشر أدبيات الطائفة والمذهب والعرق في الزوايا الشخصية البحتة التي لا يُحاسب «المواطن»، بعد أن يصبح مواطنا حقيقياً، وفقاً لمعطياتها. ولا يمكن أن يتم ذلك الحشر ما لم تحل الوطنية الحقة التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع وفقاً لمعطياتها لوحدها، وهي المعطيات التي تتأسس على احترام حقوق الإنسان الأساسية التي حددتها «مبادئ حقوق الإنسان والمواطن»، والتي دشنتها، في العصور الحديثة، الثورة الفرنسية عام 1879م.

إن الوطنية الحقة ستنتصر على الطائفية والعرقية والمذهبية عندما تكون الثقافة المعاشة في المجتمع قائمة على احترام الحقوق الفردية الأساسية ل «المواطن» بعيداً عن دينه ومذهبه وقبيلته وأصله وفصله. عندما يكون الخيط العلائقي الناظم للعلاقات الاجتماعية على هذا المستوى من الشفافية الحقوقية، يمكن الحديث، حينها، عن الدمقطرة والديمقراطية.

في كتاب له صدر حديثا، يتساءل فريد زكريا بقوله: هل المزيد من الديمقراطية يؤدي بشكل أوتوماتيكي إلى المزيد من الحرية؟. والجواب العفوي التقليدي المباشر، وفقاً للدكتور هاشم صالح، الذي استعرض الكتاب المذكور في كتاب صدر له حديثا سماه: معضلة الأصولية الإسلامية، هو: «نعم فالديمقراطية هي الحل السحري لجميع المشاكل، ويكفي أن نتوصل إليها لكي تنقشع كل همومنا ومصائبنا دفعة واحدة. ولكن المؤلف:( يقصد فريد زكريا)، يبرهن عن طريق الأمثلة المحسوسة أن الأمور ليست بهذه البساطة. فالديمقراطية لا تعني الحرية بالضرورة».

ويواصل هاشم صالح تحليله للعلاقة بين الديمقراطية والحرية، كجواب على تساؤل فريد زكريا الأساسي بقوله: «بالطبع فإن أفضل نظام سياسي هو ذلك النظام الذي يجمع بين الجانبين: الانتخابات الحرة من جهة، وضمان الحريات الأساسية للإنسان من جهة أخرى. ولكن هذا النوع من الأنظمة المتقدمة لم تتوصل إليها إلا دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، ومنذ نيف وخمسين سنة فقط».

ولعل أميز ما في كتاب فريد زكريا الآنف الذكر ما ضمَّنه من أمثلة واقعية تؤكد ما ذهب إليه من أن الديمقراطية لا تقود بالضرورة إلى الحرية، بل إنها تؤدي، ويا للمفارقة، إلى وضع استبدادي أسوأ من الوضع السابق عليها. فالوضع الاستبدادي السابق عليها يكون، غالباً، استبداديا فرديا: استبداد الرجل الواحد أو الحزب الواحد، أما الديمقراطية المفرغة من محتواها وجذرها الليبرالي فستفرز استبداداً جماعياً مصادقا عليه من قبل الأغلبية الفائزة بالانتخابات، مذهبية كانت تلك الأغلبية، أو عرقية، أو عنصرية فاشية. ولعل أبرز ما يؤكد هذه الرؤية:( تدشين الاستبداد الجماعي بواسطة الديمقراطية الشكلية) ما نسمعه بين الفينة والأخرى، من دعوات لأن تخضع الأقلية السنية، مذهبيا، للأكثرية الشيعية المسيطرة، في حالة المجتمعات ذات الأكثرية الشيعية، مثلما نسمع من دعوات لإخضاع الأقلية الشيعية، مذهبياً، للأكثرية السنية في حالة المجتمعات ذات الأكثرية السنية. والأمر ينطبق أيضاً على علاقة الأقليات والأكثريات العرقية، بعضها ببعض.

من أبرز تلك الأمثلة التي يستشهد بها فريد زكريا على رؤيته في عدم التلازم بين الديمقراطية والحرية، ما حدث بعد تأسيس الجمهورية الأمريكية على أيدي الآباء المؤسسين هناك، فبما أن أولئك الآباء كانوا مأخوذين بمبادئ التنوير التي قادتهم إلى تأسيس جمهوريتهم في تلك المنطقة النائية من العالم آنذاك، إلا أن أغلبية سكان الولايات الجنوبية كانوا، حينها، مؤيدين لنظام الرق، وبالتالي فقد وجد الآباء المؤسسون أنهم لو نظموا انتخابات حرة نزيهة في تلك الولايات فإن سكانها سوف ينتخبون أغلبية عنصرية تؤيد بقاء نظام الرق. فماذا عمل أولئك الآباء؟. هل نظموا انتخابات ديمقراطية اعتماداً على أنها كفيلة بإحلال الحرية واحترام حقوق الإنسان بشكل آلي أوتوماتيكي؟. لا، إنهم قرروا أن الديمقراطية غير مناسبة إطلاقاً للوضع الثقافي الذي كان سائداً آنذاك في الولايات الجنوبية. ولم تجد الولايات الشمالية بداً من إعلان الحرب على الولايات الجنوبية لاستئصال شفة العنصرية قبل التفكير بإحلال الديمقراطية. وهو المسار الثقافي الذي لم تفهمه أو تتفهمه جوقة المحافظين الجدد الذين تمترسوا خلف الإدارة الأمريكية السابقة.