صفحة 1 من 1

"عودة الدولة "

مرسل: الأحد ديسمبر 08, 2013 2:07 am
بواسطة محمد السويكت 20
التوجهات الاقتصادية في مرحلة ما بعد الثورات
مجدي صبحي
نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
يميل الذهن البشري عادة إلي تعزيز نزعة مانوية تصبح معها الأمور أكثر صرامة ووضوحا ما بين نقيضين محددين، كالأسود والأبيض، أو الشر والخير، أو الجمال والقبح ... إلخ، مع أن الحالة الغالبة في الحياة الدنيا هي بالقطع أكثر تعقيدا وأقل وضوحا مما يرسمه الذهن البشري من سيناريوهات. تبدو هذه المقدمة ضرورية للبحث عن إجابة لسؤال فحواه: هل سيتم التوجه نحو دور أكبر للدولة علي المستوي الاقتصادي في العالم العربي بعد الأحداث التي شهدتها وتشهدها دول المنطقة؟ أم سيستمر الاقتصاد العربي في العمل طبقا لآليات السوق الحر وحدها؟.

والواقع أن البعض يميل إلي تعزيز فكرة تصاعد دور الدولة الاقتصادي في العالم العربي، خلال الفترة القادمة، لعدة أسباب، أغلبها محلي (وطني/ قطري)، ولكن أيضا يأتي بعضها بشكل طبيعي من التغيرات علي المستوي العالمي عقب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، وهي تلك التغيرات التي تعزز من الفكرة القائلة إن الاقتصاد العالمي قد أضحي منذ ثلاثينيات القرن العشرين علي الأقل يسير علي متصل بدلا من التنقل بين نقيضين، أحدهما دور كبير للدولة في المجال الاقتصادي من ناحية، والثاني هو الاقتصاد الذي يعمل وفقا لآليات السوق وحدها علي النمط الشائع لما يعرف باليد الخفية أو اقتصاد "دعه يعمل دعه يمر" من ناحية أخري.ومن الصحيح كذلك القول إنه قد يتم التحرك في بعض الأحيان علي هذا المتصل بحيث نكون أقرب لواحد من القطبين، إلا أنه لم يحدث بشكل قاطع أن تطابق الموقف أبدا مع النظرات الصافية التي ترد إلي الذهن، حينما نتحدث عن أي من هذين النقيضين في مواجهة أحدهما للآخر.

الدور القوي للدولة:

عقب الأزمة المالية العالمية التي تفجرت بواكيرها في صيف عام 2007، أثيرت العديد من الأسئلة، ليس فقط علي المستوي العملي مثل كيف يمكن التصرف إزاء هذه الأزمة وتجاوزها?، أو كيف يمكن الحيلولة دون تكرار مثل هذه الأزمات المدمرة?، أو كيف يمكن منع هذه الأزمة من التحول إلي أزمة ركود اقتصادي عالمي عميق وممتد؟، ولكن جاءت الأزمة أيضا لتدفع نحو إثارة أسئلة تتعلق بمدي سلامة الأفكار النيو ليبرالية التي روجت خلال العقود الثلاثة الأخيرة لعدم وجود بديل لاقتصاد السوق والرأسمالية الحرين تماما من تدخل الدولة، باعتبارهما أنجح وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية وقهر الفقر وغيره من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. وهي الأفكار التي عبر عنها بشكل واضح ومباشر المفكر الأمريكي الياباني الأصل "فرانسيس فوكوياما"، بتأكيده فشل كافة المنظومات الفكرية التي عارضت الليبرالية والرأسمالية في السابق مع انهيار الاتحاد السوفيتي بسقوط الأيديولوجية الماركسية، بعد أن سبقتها في السقوط كل من الفاشية والنازية.

جدلية الفكر الرأسمالي والاشتراكي:

وجهت للأفكار النيو ليبرالية الاقتصادية ضربة قوية مع اندلاع الأزمة العالمية، خاصة مع الاتجاه المتزايد للدول الغربية عامة، وبشكل خاص في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، لوضع خطط لإنقاذ المؤسسات المالية تستند إلي الموارد العامة، وهو ما أدي إلي ارتفاع أصوات من قبل كتل جماهيرية واسعة للاحتجاج علي التدخل لإنقاذ هذه المؤسسات الرأسمالية التي كانت تحقق أرباحا هائلة عن طريق جيوب دافعي الضرائب من الطبقات المتوسطة والفقيرة، إلي درجة أن ثار شعار بين الجمهور أنهم "يخصخصون الأرباح ويعممون الخسائر".

كما ثار السؤال: هل يمثل ذلك اتجاها نحو عودة قوية للأفكار الاشتراكية، مع زيادة الميل نحو الاستحواذ علي العديد من الشركات أو التأميم العملي لبعضها، مع مدها بالأموال العامة مقابل حصص في رأس مال هذه المؤسسات? والواقع أن الجدل الذي ينبغي أن يثار الآن، حتي لا تختلط الأمور، هو جدل السياسي من ناحية والاقتصادي/ الاجتماعي من الناحية الأخري.

فرغم وجود علاقة جدلية واضحة يعترف بها الجميع، سواء كانوا رأسماليين أو اشتراكيين، من وجود تأثير وتأثر واضحين بين الحقلين السياسي من ناحية والاقتصادي/ الاجتماعي من ناحية أخري، فإن هذه العلاقة يميل الجميع إلي تمييعها دون قول فاصل حول اتجاه هذه العلاقة: هل هي متجهة من السياسي إلي الاقتصادي/ الاجتماعي أم العكس؟ والواقع أن هذا السؤال مشروع ليس فقط مع الأزمة الراهنة، وإنما هو سؤال مشروع بحكم التاريخ الخاص للرأسمالية ذاتها. فكما يمكن القول إنه كانت وستظل هناك اشتراكيات متعددة، فإن هناك أيضا رأسماليات متعددة، مع اختلاف طرق إنزال الأفكار النظرية المجردة علي أرض الواقع.

فأزمة الركود العالمي خلال الفترة من 1929إلي 1933 كانت فترة عصيبة أعقبت فترة من الازدهار الاقتصادي بعد نهاية الحرب العالمية الأولي عام 8191. وقد شهدت هذه الأزمة اضطرار الدول الرأسمالية إلي تبني العديد من قواعد وأسس العمل التي كانت مستبعدة في التطبيق الرأسمالي، منذ انتصرت الرأسمالية كنظام علي النظام الاقطاعي، وكان أفضل تعبير لذلك ما سمي "الصفقة الجديدة" New Dealالتي طبقها الرئيس الأمريكي روزفلت خلال فترات ولايته (1933-1945).

وقد استندت هذه القواعد الجديدة منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي في تجلياتها النظرية إلي كتاب الاقتصادي البريطاني الشهير "جون مانيارد كينز"، "النظرية العامة في التشغيل وسعر الفائدة والنقود"، الذي نشر عام 6391. إلا أن التوجه العام ظل مختلفا في حدود أن ما دعا إليه "كينز" في كتاباته كان من قبيل الدفاع عن الرأسمالية بكل الأساليب الممكنة، في ظل بقاء السلطة السياسية، وأغلب النشاطات يسيطر عليها الرأسماليون. وعلينا أن نتذكر أنه علي الرغم من وجود معارضة دائمة لأفكار كينز والمطالبة بالعودة لترك الحرية الكاملة لآليات السوق -وهي أفكار عبر عنها التيار النيوكلاسيكي الذي مثله اقتصاديون كبار مثل الاقتصادي النمساوي/ الإنجليزي "هايك"، والاقتصادي الأمريكي "مليتون فريدمان" والمدرسة التي تتبعه في جامعة شيكاغو الأمريكية- فإن هذه الأفكار لم تجد الفرصة لتطبيقها أيضا إلا في ظل أزمة اقتصادية كبيرة في الدول الغربية، وهي ما سميت أزمة "الركود التضخمي" في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وباختصار، فإن سقوط بعض الأفكار وصعود بعضها الآخر يأتي في الغالب في ظرف أزمة سياسية/اقتصادية عميقة.

هكذا، كان الحال مع الفكر الكينزي عقب الركود الاقتصادي الكبير (1929-1933)، ثم مع الفكر النيوكلاسيكي عقب أزمة الركود التضخمي في منتصف السبعينيات. وهكذا، يبدو هو الحال أيضا الآن مع الأزمة المالية العالمية الحالية، وتحولها إلي ركود واضح في الدول الصناعية المتقدمة.وإضافة إلي ما سبق، فإنه يمكن القول إنه دائما ما كنا نشهد تباينا واضحا في طريقة تطبيق وتبني منظومة معينة من الأفكار.

علي الجانب الآخر، فإن الفكرة الاشتراكية، وإن كانت قد أصيبت بأضرار واضحة مع سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1990، فإن هذه الفكرة ظلت حيه، بل إنها وجدت تطبيقات جديدة تحاول أن تتجنب ما شهدته الدول الاشتراكية السابقة من أخطاء، بل وخطايا، خاصة علي المستوي السياسي.

أمريكا اللاتينية .. فرادة التحول السياسي - الاقتصادي وتعدده:

ربما يكون أفضل مثال علي ذلك هو بعض دول أمريكا اللاتينية التي توجهت بلدانها، عكس التيار السائد عالميا، لتختار شعوبها أحزابا اشتراكية لتتولي الحكم فيها، علي الرغم من أن هذه التطبيقات هي الأخري لم تتجنب تماما التيار السائد، حيث كان مكونا ضمن مكونات صنع السياسات فيها، برغم أن من يتولي الحكم هم اشتراكيون. فعندما بدأت شيلي -علي سبيل المثال- طريق التحول الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي، فإن البلد سلك طريقا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا شديد التميز والخصوصية، يكاد يستعصي علي أي تعريف تقليدي أو بسيط.

وفي غضون هذه السنوات، شهدت شيلي حالة من النمو الاقتصادي المتواصل، واستقرارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا نادرا، وصلت بها اليوم إلي التطلع إلي الخروج من دائرة البلدان النامية لتدخل نادي البلدان المتقدمة في زمن ليس ببعيد. وليس أدل علي خصوصية النموذج الشيلي وتميزه من واقع أن هذا التحول جري في ظل حكومة يسارية ترأسها، منذ فوزه في انتخابات الرئاسة في عام 2000، الرئيس ريكاردو لاجوس، زعيم الحزب الاشتراكي الشيلي (أي الحزب نفسه الذي قاد حكومة الوحدة الشعبية لسلفادور الليندي، والذي قتل في انقلاب عسكري في سبتمبر 1973)، وزعيم التحالف الديمقراطي الذي قام بالدور الأبرز في إزاحة الديكتاتورية العسكرية واستعادة الديمقراطية في شيلي، ثم انتخبت بعده الرئيسة ميشيل باشيليه لتتولي الحكم في عام 2006، ليستمر حكم الاشتراكيين للبلاد حتي انتخاب رئيس يميني في عام 2010.

وبالرغم من الحكم الاشتراكي منذ عام 2000 وحتي عام 2010، فإن شيلي ظلت تتبني اقتصادا للسوق يعد من اكثر اقتصادات السوق في العالم حرية، ولا يتردد المسئولون في حكومتها اليسارية في التعبير عن اعتزازهم بأنه لا يكاد يوجد في شيلي قطاع اقتصادي عام من أي نوع، ويقصرونتدخل الدولة في الاقتصاد علي قطاع الخدمات العامة وفي أضيق حدود.

وقد جمعت شيلي بين سياسات تقوم علي اقتصادات السوق وبرامج اجتماعية حازمة حققت نجاحات كبيرة في الحد من الفقر والبطالة، وذلك بالتركيز علي التعليم والصحة، وبتوجيه دقيق للدعم الحكومي إلي الفئات الأشد حاجة إليه، وهو ما يبدو في شكل نتائج اجتماعية جدية، مثل انخفاضكبير في عدد وفيات الأطفال دون سن الخامسة، وزيادة نسب الالتحاق بالتعليم خاصة لأولاد الفقراء، ومساعدة ذوي الدخول المحدودة علي بناء مساكن لهم، هذا كله في ظل ارتفاع متواصل في متوسط الدخل، حيث ارتفع مستوي نصيب الفرد من الناتج الإجمالي ليصل إلي ما يزيد علي سبعةآلاف دولار، وذلك بالرغم من وجود فجوة واسعة في الدخل بين الشريحة صاحبة أعلي دخل وأفقر شرائح المجتمع.

ولكن هذا يعود جزئيا إلي أن شيلي كغيرها أيضا من بلاد أمريكا اللاتينية كانت تتسم تقليديا وعلي مدي زمني طويل بالتفاوت الاجتماعي الواسع، بحيث كانت نسبة السكان تحت خط الفقر تبلغ ما يزيد علي 42% من عدد السكان حتي تسعينيات القرن العشرين، لتلي بذلك البرازيل مباشرة في سوء توزيع الدخل. كما أن هناك بعض المشكلات لا تزال تمثل تحديا كبيرا، يأتي علي رأسها مشكلة البطالة، وضيق قاعدة الصادرات. إذ علي الرغم من التنويع الكبير مع تحول شيلي لتصبح مصدرا كبيرا نسبيا للنبيذ والأسماك والفواكه والورق وعجينة الورق والأخشاب، وهو نجاح ينسب إلي حد كبير إلي الحكم الاشتراكي، فإن النحاس لا يزال يشكل نسبة تزيد علي 40% من إجمالي قيمة الصادرات، وهو ما يعمل علي تأثر النشاط الاقتصادي في البلاد، مع التقلب في أسعاره في السوق الدولية.

وبالمثل، فحينما صعد الرئيس سيلفا دي لولا لحكم البرازيل في فترته الأولي في يناير 2003، كان من مفارقات القدر أن يبدأ بتنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي الذي يستند إلي التقشف المالي، في الوقت الذي استند فيه نجاحه وشعبيته إلي انحيازه القوي للفقراء، وترويجه إبانحملته الانتخابية للعديد من البرامج الاجتماعية التي وعد بتنفيذها في حال انتخابه. وبعد عام من التقشف الشديد وانخفاض في نسبة الاستثمار، كان من المنطقي انخفاض معدل النمو الاقتصادي في العام الأول لحكم الرئيس لولا إلي 0.5%. ولكن مع تنفيذ البرنامج والمهارة السياسية التي تمتع بها الرئيس، في محاولة الإبقاء علي الزخم الجماهيري المؤيد له، زادت الثقة في الاقتصاد البرازيلي تدريجيا، كما تجلي في انخفاض درجة المخاطر. ومع بدء تنفيذ سياسة اقتصادية توسعية بعض الشيء بتنفيذ جانب من البرامج الاجتماعية للرئيس، فقد بدأ هذا كله في الإتيان بثماره، فتمت استعادة الانتعاش الاقتصادي القوي، فقفز معدل نمو الناتج إلي أكثر من 5%، وارتفع معدل التوظيف.

وإلي جانب هذا، فقد تم تسجيل أداء تصديري قوي أدي إلي فائض كبير في الميزان التجاري، إلي جانب نمو الطلب المحلي بقوة مع انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية، وتسهيل إجراءات الحصول علي الائتمان، وذلك في ظل معدلات إنتاج تقترب من الطاقة الإنتاجية القصوي المتاحة، وزيادة درجة الثقة في دوائر الأعمال، حيث ارتفعت الاستثمارات، وهذا كله مع التزام حكومة الرئيس لولا بمعدل للتضخم يقع ضمن النطاق المحدد له، ويقل عن 10%.

وكان نجاح فريق الرئيس لولا في فترته الرئاسية الأولي قد دفع خبراء صندوق النقد الدولي إلي الإشادة بالنجاح الكبير الذي حققته الحكومة، بل إن بعض هؤلاء الخبراء قالوا بالحرف الواحد" إن أهداف السياسة المالية البرازيلية في عام 2005 تعد متحفظة للغاية، علي الرغم من أنها تركت مجالا واسعا للإنفاق علي البنية الأساسية والبرامج الاجتماعية". وأعرب هؤلاء الخبراء عن رأيهم بأن "الظروف والبيئة الاقتصادية في البرازيل تقدم فرصة عظيمة للتعامل مع الضعف الهيكلي في الاقتصاد، وتمكن في الوقت نفسه من خفض الفقر وعدم المساواة".

واتفقت البرازيل مع الصندوق في 28 مارس 2005 علي أنه بنهاية برنامج التثبيت في نهاية الشهر ذاته، فإن البلاد ليست بحاجة للدخول في برامج جديدة معه، كما كان هذا النجاح ذاته هو السبب وراء انتخاب الرئيس لولا لفترة رئاسة ثانية، كما لم يكن غريبا أن تحقق مرشحة حزب العمال البرازيلي ومرشحة الرئيس لولا نفسه فوزا واضحا في الانتخابات لتصبح الرئيسة الاشتراكية الثانية للبلاد، مع تسلم مهامها الرئاسية في يناير 1102. وتعد البرازيل الآن من بين أهم بلدان العالم الثالث ليس فقط من حيث نجاحها الاقتصادي، وإنما في تزايد دورها ونفوذها الدولي، والخطط التي طرحت أخيرا لتطوير المؤسسات المالية الدولية تعطي للبرازيل إلي جانب الهند والصين دورا كبيرا نسبيا في إدارة الاقتصاد العالمي.

إلي جانب هاتين التجربتين، هناك أيضا التجربة الاشتراكية الفنزويلية في عهد الرئيس شافيز (1999 وحتي الآن)، وهي تعد تجربة أكثر راديكالية علي المستويين السياسي والاقتصادي. حيث يمكن القول بشكل عام إنها تجربة تتبع إلي حد أكبر خطوط التطور الاقتصادي الاشتراكي التقليدي بدور قوي للدولة، والتدخل بتأميم عدد من المشروعات الرئيسية، إلي جانب برامج إنفاق اجتماعي ضخمة لمصلحة الفقراء، وهم بشكل واضح مؤيدو الرئيس في مواجهة احتجاجات واسعة من جانب كبار رجال الأعمال والشريحة العليا من الطبقة الوسطي الفنزويلية.

ونوجز كل ما سبق بالقول إن التغير الذي تشهده السياسات الاقتصادية علي المستوي العالمي الآن هو استجابة براجماتية من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة أو غيرها للأزمة المالية الحالية، وهو أمر حدث سابقا وسيحدث لاحقا عقب كل أزمة، لكن يمكن القول في الوقت نفسه إن هذا أعطي شرعية ومجالا أكبر لتنفس الأفكار التي تطالب بدور قوي للدولة علي الأقل في مجال الإشراف والرقابة والتوجيه لعمل آليات السوق، وربما تدفع الأزمة إلي تغير سياسي، خاصة في البلدان النامية، بعد نجاح بعض البلدان ذات الحكم "الاشتراكي" في تحقيق نجاحات ملموسة، حتي في ظل سيادة الأفكار النيوكلاسيكية علي المستوي العالمي.

وربما يكون التطور الأهم هو صعود بعض البلدان الناهضة اقتصاديا، مثل الصين والبرازيل والهند، لتصبح لاعبا مهما في الساحة الاقتصادية الدولية، وإسهامها بدور أكبر في إعادة صياغة النظام الاقتصادي الدولي، ولعبها لدور أكبر في مؤسسات التمويل الدولية، وهو ما يمكن أن يقدم عالما مختلفا يستند إلي تعدد الأقطاب، بدلا من النظام الحالي القائم علي الهيمنة الغربية، خاصة الأمريكية، علي مقدرات العالم الاقتصادية، وعلي ما يدير اقتصادات العالم من سياسات.

العالم العربي .. احتجاجات وتغيير منتظر في السياسات:

هذه التغيرات المتمثلة في قبول دور أوسع للدولة في النشاط الاقتصادي، خاصة في فرض القواعد والمعايير التي تدار وفقا لها النشاطات وبعض القطاعات الاقتصادية، خاصة القطاع المالي علي المستوي العالمي، نجمت إذن عن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، وهو الأمر الذي يسير في خط التطور الإنساني الطبيعي، بمعني أن كل أزمة يترتب عليها بالضرورة، في محاولة تجاوزها، إقرار سياسات جديدة، تختلف بشكل واضح عما كان مطبقا من سياسات قبل تفجر هذه الأزمة. وتواجه المنطقة العربية ومصر الآن وضعا مشابها، بمعني أن الثورات التي شهدتها بعض دول المنطقة، كتونس ومصر، والاحتجاجات التي تشهدها دول أخري، مثل ليبيا واليمن والبحرين وعمان والجزائر والمغرب والأردن، والتي تكشف معها في مصر وتونس عن حجم ضخم من الفساد والنهب المنظمين للموارد العامة من قبل جحافل نظم الحكم السابقة، خاصة في ظل تزاوج المال بالسلطة، وفي ظل سياسات كانت تروج للاستناد إلي آليات السوق وحدها، وفي ظل تفاوت واسع في الدخل والثروة بين أقلية تتحكم في مقادير الأمور اقتصاديا وسياسيا، بين أغلبية كاسحة تعيش في مستويات معيشية متردية -كل هذه التطورات ستفرض بالضرورة اتباع سياسات جديدة في كل هذه البلدان.

فهذه الثورات والاحتجاجات أسهمت بدور بارز في تفجيرها طبيعة الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية التي شهدتها هذه البلدان، خاصة من بطالة للمتعلمين، وتدهور مستويات معيشة أقسام واسعة من السكان. وهو أمر ليس واضحا وصحيحا في حالة بلدان كمصر وتونس فقط، بل ينطبق أيضا علي عدد آخر من البلدان النفطية الغنية. فتقديرات نسب البطالة، علي سبيل المثال، خلال عام 2010 تقترب من 12% في المملكة العربية السعودية، وترتفع إلي 12.8% في الجزائر، و 15% في البحرين، وتصل إلي أكثر من 25% في ليبيا. ومع الوضع في الاعتبار ارتفاع مستوي التعليم، فإن نوعية العاطلين عن العمل الآن تختلف قطعا عن نوعية هؤلاء مع بدء التدفق الكبير لعائدات النفط، خاصة مع زيادة الأسعار في منتصف السبعينيات، وهو ما يشكل ضغطا كبيرا علي الدولة.

كما لا يمكن أيضا تجاهل أن تذبذب أسعار تصدير الموارد الطبيعية، خاصة النفط، يؤدي إلي دورات متعاقبة من الازدهار والكساد في البلدان التي تعتمد علي هذه العائدات. وبالطبع، فإنه حينما تكون هناك دورة ازدهار، فإنه لا تكون هناك مشكلة لدي الدولة الريع النفطي، بينما في حالة مرور الأسعار بدورة انخفاض، فإن ذلك يؤدي إلي مصاعب مالية للحكومة، وإلي ركود اقتصادي. وهو أمر منطقي، حيث تلعب السياسة المالية في دول الريع النفطي دورا يتجاوز بكثير الدور المعروف الذي تلعبه هذه السياسة في بلدان أخري، نظرا لدورها في إدارة عجلة النشاط الاقتصادي ككل، سواء في القطاع العام عن طريق المشروعات الكبري التي نفذتها وتديرها الحكومة، أو من خلال الإنفاق علي مشروعات البنية الأساسية التي يقوم بها القطاع الخاص، أو من خلال الدعم المباشر وغير المباشر للمنتجين من القطاع الخاص، وكذلك من حيث توسيع الاستهلاك العائلي من خلال سياسات الدعم المفرط للمواطنين والتي تبنتها هذه البلاد منذ منتصف السبعينيات.

ولذلك، لم يكن غريبا أن كافة البلدان التي شهدت ثورات أو احتجاجات أو حاولت توقيها قد سارعت إلي بعض الإجراءات العملية السريعة، سواء بتوفير فرص العمل المستقر للعاملين المؤقتين، أو زيادة مستويات الرواتب، أو التدخل بزيادة مستوي الدعم لبعض السلع الأساسية وغيرها، كما حدث في مصر وتونس. ويأتي في السياق نفسه ما أقدم عليه الملك عبدالله، العاهل السعودي، عند عودته لبلاده بعد رحلة علاج استغرقت عدة أشهر، بإعلان خطة حكومية لإنفاق نحو 36 مليار دولار علي عدد من القطاعات التي تهم المواطنين السعوديين كالإسكان وتوفير الوظائف وغيرها، توقيا لحالة احتجاج متصاعد في المملكة. بل رأينا اتجاها من دول مجلس التعاون الخليجي الغنية الأربع (السعودية والكويت والإمارات وقطر) إلي توفير خطة يبلغ مقدارها 20 مليار دولار لدعم كل من البحرين وعمان، عضوي المجلس، الأقل ثراء علي مدي عشر سنوات.

وفي البلدان غير النفطية، كمصر وتونس مثلا، ربما لا يمضي الأمر إلي حد هجران آليات السوق، ولكن في ظل ضبط جديد للأوضاع علي يد الدولة بالتحجيم من الفساد، وتوفير آليات شفافة وعادلة تحفز علي المنافسة وتجرم وتحارب الاحتكار، وفي ظل تطبيق معايير تحقق المزيد من العدالة الاجتماعية.

وربما يعبر عن ذلك خير تعبير الدعوة إلي تطبيق حد أدني جديد للأجور يتناسب مع مستويات الأسعار السائدة، وربما سياسة ضريببة تصاعدية جديدة تفرض حدودا أعلي للضرائب علي دخول الشرائح الأغني من السكان، وبما يتيح إنفاقا أكثر، وبالتالي تقديم خدمات عامة أفضل في قطاعات مثل الصحة والتعليم. وفي كل هذا، لن نكون بالضرورة قد انتقلنا إلي دائرة الاقتصاد الموجه، ولكننا علي الأقل سنكون في دائرة اقتصاد يستند إلي آليات السوق، ولكن مع دور أكبر للدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، سواء عبر توزيع الدخل بصورة أكثر عدالة، أو عبر إعادة توزيع الدخل بزيادة الإنفاق العام، وتأكيد توافر معيار الجودة في الخدمات العامة، خاصة تلك التي تقدم للفئات الفقيرة من المواطنين.

لمزيد من التفاصيل حول الموضوع، انظر:

1- John Maynard Keynez, The General Theory of Employment, Interest and Money،Prometheus Books،1997.

2- ف.أ. هايك، "الطريق إلي العبودية"، ترجمة: محمد مصطفي غنيم، دار الشروق، 4991.

- 3ف.أ. هايك، "الغرور القاتل" .. أخطاء الاشتراكية القاتلة، ترجمة: محمد مصطفي غنيم، دار الشروق، 3991