- الأحد ديسمبر 08, 2013 10:21 am
#68593
كثير منا يعرف عن تاريخ الحرب العالمية الثانية، وهزيمة اليابان في نهايتها والدمار الذي طال معظم أرجائها، كما سمع الكثير منا وقرأ عن النهضة الاقتصادية اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية وكيف تحولت من بلد يعاني من المجاعة إلى بلد اقتصادي عملاق. لا بلّ أن الاسم الشائع لهذه النهضة غدا “المعجزة اليابانية” التي أصبحت بمثابة مثال ترنو كثير من الأمم للاقتداء به وتطبيقه أملا في النمو السريع الآمن.
ولكن نحن كعرب، كيف يمكن لنا أن نستفيد من هذه التجربة وأن نسخّر دروسها في تنمية مجتمعاتنا ودولنا مع الحفاظ على هويتنا العربية وخصوصيتنا الثقافية‼
لاستخلاص الدروس والعبر من النهضة اليابانية لا بدّ من المرور على مراحلها وتطورها وربط الأحداث بواقعها وظروفها دون إهمال الدور الثقافي في تلك النهضة. فنقطة الانطلاق للمعجزة اليابانية ليست كما يظن الكثيرون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل هي أقدم من ذلك بكثير، وما حدث بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية هو نقطة تحول في مسيرة هذه النهضة وتوجهاتها.
الخطوات الأولى:
كانت اليابان على مدى عصور طويلة بلدا غامضا بالنسبة للغرب (والمقصود بالغرب هنا جميع الحضارات التي تقع في غرب آسيا وأوروبا وصولا لأمريكا)، ويعود ذلك إلى الخيار الذي اتخذته القوى الحاكمة في اليابان قديما بالعزلة عن العالم الخارجي والإنغلاق على الذات، وقد ساعد على ذلك كون اليابان جزيرة لا تربطها حدود برية مع البرّ الرئيسي لآسيا.
دام هذا الوضع لعدة قرون حتى دخلت اليابان في مخططات الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر وعلى رأسها البرتغال وبريطانيا وهولندا الذين كانوا يتنازعون على مصادر الثروة في آسيا والمحيط الهندي. وكانت إولى المحاولات الغربية للدخول في اليابان عن طريق الهولنديين عندما أرسل وليام الثاني ملك هولندا رسالة إلى حكّام اليابان عام 1844 يطالبهم فيها بفتح الموانئ اليابانية أمام السفن الأجنبية، ولكن رسالته هذا قوبلت بالرفض من قبل الشوغونات حكّام اليابان حينها. ولم تستمر مقاومة الشوغونات كثيرا، ففي عام 1853 قامت أربع سفن تابعة للبحرية الأمريكية بقيادة ماثيو بيري بدخول ميناء يوكوهاما الياباني مجبرة الشوغونات على فتح اليابان أمام العلاقات مع الغرب بعد أن استعرض بيري قدرات مدافع سفنه التي لم يكن لليابانيين أي قدرة على مقاومتها، وفي العام التالي عاد بيري مع سبع سفن وأجبر الشوغونات على توقيع اتفاقية للتبادل الدبلوماسي مع الولايات المتحدة، وفي غضون 5 أعوام وقعت اليابان عدة معاهدات مشابهة مع باقي الدول الغربية. وبذلك تم فتح عدة موانئ يابانية أمام السفن التجارية الغربية، دون أن يتم أي احتكاك فعلي مع الثقافة اليابانية لعدة عقود إلى أن دخلت اليابان في عهد الإمبراطور ميجي الذي اشتهر تاريخيا من خلال إصلاحاته الشاملة في اليابان والتي حملت اسمه “إصلاحات ميجي”. وعلى خلاف الوقت السابق، فقد اتجه ميجي للاستفادة من التقدم الغربي التكنلوجي والعسكري بدلا من أي يكون فقط مجرد مصدر للمواد الأولية والثروات للغرب. فقامت إدارة ميجي بإرسال المئات من الطلبة اليابانيين للدراسة في الجامعات الغربية، كما تم استقدام العديد من الخبراء الغربيين بمن فيهم المهندسين والأطباء والمدرسين وغيرهم للمساهمة في بناء اليابان الجديدة. ونظرا لتمسك اليابانيين في تلك الفترة بقوميتهم بشكل كبير، كان دور الإرساليات اليابانية للخارج والغربية القادمة لليابان هو تقديم المعلومات والتدريس، فيما قام اليابانيون أنفسهم بإعداد المشاريع وتنفيذها على أرض الواقع مما ساهم في تحريك عجلة النمو الداخلي من جهة، وتقوية الخبرات والقدرات البشرية اليابانية من جهة ثانية. بالمحصلة استطاعت اليابان في غضون سنوات قليلة إعادة هيكلة الخبرات الغربية لتتوافق مع إرثها الثقافي الحضاري، وبشكل يخدم مصالحها الذاتية أولا، والحفاظ على استقلال القرار الياباني عن تأثير القوى الغربية التي لم ترَ في اليابان حينها أي تهديد على مصالحها في المنطقة.
ولم يمض وقت طويل حتى بدأت اليابان تشعر أنها صاحب الحق الأول في الاستفادة من طاقات منطقة شرق آسيا وجنوبها بدلا من الدخيل الغربي الذي لا يملك أي رابط مع هذه المنطقة سوى المصلحة التجارية الاستعمارية. ومن هنا بدأت الحملة التوسعية اليابانية في المنطقة، وقد تم لليابان بسرعة كبيرة السيطرة على أجزاء كبيرة من جنوب شرق آسيا بالإضافة لأجزاء كبيرة من الصين وكوريا. ومما ساعد اليابان في ذلك هو أنها غدت القوة العسكرية الأكبر في المنطقة متفوقة على الوجود العسكري الغربي فيها، كما أن نظرة السكان المحليين في المنطقة نحو اليابانيين كانت نظرة المنقذ من المستعمر الغربي، حتى أن الكثير من السكان المحليين كانوا ينخرطون في صفوف الجيش الياباني المتسارع النمو في تلك الفترة. يضاف إلى ذلك أن القوى العظمى في مطلع القرن العشرين كانت مشغولة في الحرب العالمية الثانية والقضاء على القوة الألمانية وحليفتها العثمانية، ولم يكن هناك اهتمام بتنامي القوة اليابانية في الشرق البعيد عن مركز الصراع في أوروبا والشرق الأوسط.
هذا التوسع المتسارع الذي تم في أقل من 30 سنة دفع بعجلة الاقتصاد الياباني نحو الأمام بسرعة هائلة، كون متطلبات الجيش الياباني والقدرات العسكرية كان يتم تلبيتها داخليا دون استيراد أي شيء من الغرب. وما إن دنت الحرب العالمية الثانية حتى غدت اليابان القوة الكبرى المسيطرة في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ.
الحرب العالمية الثانية والدمار:
لن نخوض في دخول اليابان للحرب أو سير العمليات القتالية خلال سنوات الحرب، بل ما أريد التحدث عنه هو تأثير القوة الصناعية اليابانية السابقة للحرب في الجهد الحربي. فقد كان الاقتصاد الياباني موجها بالكامل لخدمة القدرة العسكرية للجيش الإمبراطوري، ولكن ذلك كان محفوفا بخطر نقص الموارد الأولية. فعلى خلاف الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة الذين وضعوا أيديهم على مصادر المواد الأولية والطاقة في العالم وعلى رأسها المعادن والنفط، فإن اليابان التي تفتقر لهذه المواد كانت بعيدة عن المنابع، مما ساهم بشكل كبير في تراجع القدرات العسكرية اليابانية مع تقدم سنوات الحرب وقيام قوات الحلفاء وعلى رأسها الولايات المتحدة بقطع معظم الإمدادات التي كانت تتجه لليابان.
وفي آخر أيام الحرب قامت الولايات المتحدة بتدمير معظم المدن اليابانية بالقصف الجوي، ولا أحد بالطبع ينسى قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما النوويتين.
السنوات الأولى بعد الحرب:
انتهت الحرب العالمية الثانية بالنسبة لليابان بتوقيعها على معاهدة الاستسلام في 2 أيلول/ سبتمبر عام 1945، لتدخل اليابان سنوات عانى فيها الكثير من اليابانيون الجوع والمرض والأوبئة.
وكان الهمّ الأكبر لقادة اليابان ما بعد الحرب هو التخلص من آثار تلك الحرب ومحاولة إعادة الحياة إلى الوضع الطبيعي بين ملايين اليابانيين.
والمميز في هذه المرحلة أن اليابان استطاعت الحفاظ على وحدتها الداخلية رغم غياب السلطة الفعلية الشاملة للبلاد لفترة مؤقتة، ورغم وجود معارضين كثر لتوقيع معاهدة الاستسلام أو معارضين لتخلي الإمبراطور عن مكانته كقائد مطلق للأمة اليابانية.
كل هذا لم تسبب بأي نوع من الصراع الداخلي العنيف بين مختلف هذه التيارات، بل كانت الأنظار موجهة لما يجب القيام به من الآن وصاعدا. ولعل الشعور بالهزيمة وهول الأضرار التي تعرضت لها اليابان بشريا وماديا ونفسيا قد دفع بالكثيرين إلى التخلي عن أي محاولة للمقاومة بالقوة.
اتفاقية سانفرانسيسكو والنهضة الثانية:
وقعت اليابان عام 1952 اتفاقية سان فرانسيسكو للسلام التي أعادت لليابان سيادتها على أراضيها وأعادة الحكم للحكومة اليابانية المنتخبة من الشعب. وفي هذه الفترة استلم الحكم الحزب الديمقراطي الحرّ الذي قاد مسيرة النهوض الثانية.
ما قامت به القوات الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية أثناء قصفها للمدن اليابانية هو تدمير المراكز الصناعية اليابانية بشكل كامل، ولم تسلم أي مدينة في اليابان من القصف (باستثناء كيوتو ونارا وكاماكورا)، ولكن ما لم تدمره القنابل الأمريكية هو العقول اليابانية التي أوصلت اليابان إلى ما كانت عليه قبل الحرب. وهنا جاء دور القيادات اليابانية التي استلمت زمام الأمور بعد توقيع معاهدة سان فرانسيسكو بدلا من الحكم الذي تسلّط عليه العسكريون أثناء الحرب وما سبقها.
فما قام به قادة اليابان الجدد ليس صناعة بلد جديد من لا شيء، بل أعادوا بناء اليابان باستخدام الإمكانات الموجودة سابقا مع تعديل وحيد، هو توجّه هذه القدرات. فبعد أن كان الغرض من كل القدرة اليابانية قبل الحرب وأثنائها موجها لخدمة المجهود الحربي والقدرة العسكرية، تم توجيه هذه الطاقات لتعمل على إعادة البناء وترميم ما تبقى. وقد وجدت هذه القدرات متنفسا لها في ذلك للتخلص من شعور الهزيمة والإنكسار.
ومما ساهم أيضا في دفع عجلة التنمية بعد الحرب هو الشركات اليابانية الخاصة التي كانت قائمة في فترة ما قبل الحرب والتي استعادت نشاطها بسرعة بعد انتهاء الحرب مستفيدة من جو السلام والهدوء والحاجة العالمية لمنتجات جديدة وبكميات هائلة، فقامت هذه الشركات بتوسيع أسواقها لتمتد إلى جميع أنحاء العالم.
وفي السبعينيات وصلت سرعة نمو الاقتصاد الياباني إلى ذروتها مستفيدة من نمو الأسواق في البلدان المتقدمة التي تعافت اقتصاداتها من آثار الحرب العالمية الثانية، لتكتسح المنتجات اليابانية أسواق العالم ولتغدوا الشركات اليابانية هي القوة الجديدة التي رفعت علم اليابان في الخارج بدلا من الجيوش والطائرات.
ومن الأمور المثيرة للإعجاب في النهضة الثانية أن جميع المواطينين حصلوا على نصيبهم من الثروة الجديدة بشكل عادل، حتى بلغت نسبة البطالة في اليابان في أوج النهضة في أواخر السبعينيات أقل من 2%، وأصبح العامل أو الموظف الياباني محسودا في العالم بسبب دخله المرتفع والخدمات التي تقدمها الدولة.
ولكن نحن كعرب، كيف يمكن لنا أن نستفيد من هذه التجربة وأن نسخّر دروسها في تنمية مجتمعاتنا ودولنا مع الحفاظ على هويتنا العربية وخصوصيتنا الثقافية‼
لاستخلاص الدروس والعبر من النهضة اليابانية لا بدّ من المرور على مراحلها وتطورها وربط الأحداث بواقعها وظروفها دون إهمال الدور الثقافي في تلك النهضة. فنقطة الانطلاق للمعجزة اليابانية ليست كما يظن الكثيرون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل هي أقدم من ذلك بكثير، وما حدث بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية هو نقطة تحول في مسيرة هذه النهضة وتوجهاتها.
الخطوات الأولى:
كانت اليابان على مدى عصور طويلة بلدا غامضا بالنسبة للغرب (والمقصود بالغرب هنا جميع الحضارات التي تقع في غرب آسيا وأوروبا وصولا لأمريكا)، ويعود ذلك إلى الخيار الذي اتخذته القوى الحاكمة في اليابان قديما بالعزلة عن العالم الخارجي والإنغلاق على الذات، وقد ساعد على ذلك كون اليابان جزيرة لا تربطها حدود برية مع البرّ الرئيسي لآسيا.
دام هذا الوضع لعدة قرون حتى دخلت اليابان في مخططات الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر وعلى رأسها البرتغال وبريطانيا وهولندا الذين كانوا يتنازعون على مصادر الثروة في آسيا والمحيط الهندي. وكانت إولى المحاولات الغربية للدخول في اليابان عن طريق الهولنديين عندما أرسل وليام الثاني ملك هولندا رسالة إلى حكّام اليابان عام 1844 يطالبهم فيها بفتح الموانئ اليابانية أمام السفن الأجنبية، ولكن رسالته هذا قوبلت بالرفض من قبل الشوغونات حكّام اليابان حينها. ولم تستمر مقاومة الشوغونات كثيرا، ففي عام 1853 قامت أربع سفن تابعة للبحرية الأمريكية بقيادة ماثيو بيري بدخول ميناء يوكوهاما الياباني مجبرة الشوغونات على فتح اليابان أمام العلاقات مع الغرب بعد أن استعرض بيري قدرات مدافع سفنه التي لم يكن لليابانيين أي قدرة على مقاومتها، وفي العام التالي عاد بيري مع سبع سفن وأجبر الشوغونات على توقيع اتفاقية للتبادل الدبلوماسي مع الولايات المتحدة، وفي غضون 5 أعوام وقعت اليابان عدة معاهدات مشابهة مع باقي الدول الغربية. وبذلك تم فتح عدة موانئ يابانية أمام السفن التجارية الغربية، دون أن يتم أي احتكاك فعلي مع الثقافة اليابانية لعدة عقود إلى أن دخلت اليابان في عهد الإمبراطور ميجي الذي اشتهر تاريخيا من خلال إصلاحاته الشاملة في اليابان والتي حملت اسمه “إصلاحات ميجي”. وعلى خلاف الوقت السابق، فقد اتجه ميجي للاستفادة من التقدم الغربي التكنلوجي والعسكري بدلا من أي يكون فقط مجرد مصدر للمواد الأولية والثروات للغرب. فقامت إدارة ميجي بإرسال المئات من الطلبة اليابانيين للدراسة في الجامعات الغربية، كما تم استقدام العديد من الخبراء الغربيين بمن فيهم المهندسين والأطباء والمدرسين وغيرهم للمساهمة في بناء اليابان الجديدة. ونظرا لتمسك اليابانيين في تلك الفترة بقوميتهم بشكل كبير، كان دور الإرساليات اليابانية للخارج والغربية القادمة لليابان هو تقديم المعلومات والتدريس، فيما قام اليابانيون أنفسهم بإعداد المشاريع وتنفيذها على أرض الواقع مما ساهم في تحريك عجلة النمو الداخلي من جهة، وتقوية الخبرات والقدرات البشرية اليابانية من جهة ثانية. بالمحصلة استطاعت اليابان في غضون سنوات قليلة إعادة هيكلة الخبرات الغربية لتتوافق مع إرثها الثقافي الحضاري، وبشكل يخدم مصالحها الذاتية أولا، والحفاظ على استقلال القرار الياباني عن تأثير القوى الغربية التي لم ترَ في اليابان حينها أي تهديد على مصالحها في المنطقة.
ولم يمض وقت طويل حتى بدأت اليابان تشعر أنها صاحب الحق الأول في الاستفادة من طاقات منطقة شرق آسيا وجنوبها بدلا من الدخيل الغربي الذي لا يملك أي رابط مع هذه المنطقة سوى المصلحة التجارية الاستعمارية. ومن هنا بدأت الحملة التوسعية اليابانية في المنطقة، وقد تم لليابان بسرعة كبيرة السيطرة على أجزاء كبيرة من جنوب شرق آسيا بالإضافة لأجزاء كبيرة من الصين وكوريا. ومما ساعد اليابان في ذلك هو أنها غدت القوة العسكرية الأكبر في المنطقة متفوقة على الوجود العسكري الغربي فيها، كما أن نظرة السكان المحليين في المنطقة نحو اليابانيين كانت نظرة المنقذ من المستعمر الغربي، حتى أن الكثير من السكان المحليين كانوا ينخرطون في صفوف الجيش الياباني المتسارع النمو في تلك الفترة. يضاف إلى ذلك أن القوى العظمى في مطلع القرن العشرين كانت مشغولة في الحرب العالمية الثانية والقضاء على القوة الألمانية وحليفتها العثمانية، ولم يكن هناك اهتمام بتنامي القوة اليابانية في الشرق البعيد عن مركز الصراع في أوروبا والشرق الأوسط.
هذا التوسع المتسارع الذي تم في أقل من 30 سنة دفع بعجلة الاقتصاد الياباني نحو الأمام بسرعة هائلة، كون متطلبات الجيش الياباني والقدرات العسكرية كان يتم تلبيتها داخليا دون استيراد أي شيء من الغرب. وما إن دنت الحرب العالمية الثانية حتى غدت اليابان القوة الكبرى المسيطرة في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ.
الحرب العالمية الثانية والدمار:
لن نخوض في دخول اليابان للحرب أو سير العمليات القتالية خلال سنوات الحرب، بل ما أريد التحدث عنه هو تأثير القوة الصناعية اليابانية السابقة للحرب في الجهد الحربي. فقد كان الاقتصاد الياباني موجها بالكامل لخدمة القدرة العسكرية للجيش الإمبراطوري، ولكن ذلك كان محفوفا بخطر نقص الموارد الأولية. فعلى خلاف الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة الذين وضعوا أيديهم على مصادر المواد الأولية والطاقة في العالم وعلى رأسها المعادن والنفط، فإن اليابان التي تفتقر لهذه المواد كانت بعيدة عن المنابع، مما ساهم بشكل كبير في تراجع القدرات العسكرية اليابانية مع تقدم سنوات الحرب وقيام قوات الحلفاء وعلى رأسها الولايات المتحدة بقطع معظم الإمدادات التي كانت تتجه لليابان.
وفي آخر أيام الحرب قامت الولايات المتحدة بتدمير معظم المدن اليابانية بالقصف الجوي، ولا أحد بالطبع ينسى قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما النوويتين.
السنوات الأولى بعد الحرب:
انتهت الحرب العالمية الثانية بالنسبة لليابان بتوقيعها على معاهدة الاستسلام في 2 أيلول/ سبتمبر عام 1945، لتدخل اليابان سنوات عانى فيها الكثير من اليابانيون الجوع والمرض والأوبئة.
وكان الهمّ الأكبر لقادة اليابان ما بعد الحرب هو التخلص من آثار تلك الحرب ومحاولة إعادة الحياة إلى الوضع الطبيعي بين ملايين اليابانيين.
والمميز في هذه المرحلة أن اليابان استطاعت الحفاظ على وحدتها الداخلية رغم غياب السلطة الفعلية الشاملة للبلاد لفترة مؤقتة، ورغم وجود معارضين كثر لتوقيع معاهدة الاستسلام أو معارضين لتخلي الإمبراطور عن مكانته كقائد مطلق للأمة اليابانية.
كل هذا لم تسبب بأي نوع من الصراع الداخلي العنيف بين مختلف هذه التيارات، بل كانت الأنظار موجهة لما يجب القيام به من الآن وصاعدا. ولعل الشعور بالهزيمة وهول الأضرار التي تعرضت لها اليابان بشريا وماديا ونفسيا قد دفع بالكثيرين إلى التخلي عن أي محاولة للمقاومة بالقوة.
اتفاقية سانفرانسيسكو والنهضة الثانية:
وقعت اليابان عام 1952 اتفاقية سان فرانسيسكو للسلام التي أعادت لليابان سيادتها على أراضيها وأعادة الحكم للحكومة اليابانية المنتخبة من الشعب. وفي هذه الفترة استلم الحكم الحزب الديمقراطي الحرّ الذي قاد مسيرة النهوض الثانية.
ما قامت به القوات الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية أثناء قصفها للمدن اليابانية هو تدمير المراكز الصناعية اليابانية بشكل كامل، ولم تسلم أي مدينة في اليابان من القصف (باستثناء كيوتو ونارا وكاماكورا)، ولكن ما لم تدمره القنابل الأمريكية هو العقول اليابانية التي أوصلت اليابان إلى ما كانت عليه قبل الحرب. وهنا جاء دور القيادات اليابانية التي استلمت زمام الأمور بعد توقيع معاهدة سان فرانسيسكو بدلا من الحكم الذي تسلّط عليه العسكريون أثناء الحرب وما سبقها.
فما قام به قادة اليابان الجدد ليس صناعة بلد جديد من لا شيء، بل أعادوا بناء اليابان باستخدام الإمكانات الموجودة سابقا مع تعديل وحيد، هو توجّه هذه القدرات. فبعد أن كان الغرض من كل القدرة اليابانية قبل الحرب وأثنائها موجها لخدمة المجهود الحربي والقدرة العسكرية، تم توجيه هذه الطاقات لتعمل على إعادة البناء وترميم ما تبقى. وقد وجدت هذه القدرات متنفسا لها في ذلك للتخلص من شعور الهزيمة والإنكسار.
ومما ساهم أيضا في دفع عجلة التنمية بعد الحرب هو الشركات اليابانية الخاصة التي كانت قائمة في فترة ما قبل الحرب والتي استعادت نشاطها بسرعة بعد انتهاء الحرب مستفيدة من جو السلام والهدوء والحاجة العالمية لمنتجات جديدة وبكميات هائلة، فقامت هذه الشركات بتوسيع أسواقها لتمتد إلى جميع أنحاء العالم.
وفي السبعينيات وصلت سرعة نمو الاقتصاد الياباني إلى ذروتها مستفيدة من نمو الأسواق في البلدان المتقدمة التي تعافت اقتصاداتها من آثار الحرب العالمية الثانية، لتكتسح المنتجات اليابانية أسواق العالم ولتغدوا الشركات اليابانية هي القوة الجديدة التي رفعت علم اليابان في الخارج بدلا من الجيوش والطائرات.
ومن الأمور المثيرة للإعجاب في النهضة الثانية أن جميع المواطينين حصلوا على نصيبهم من الثروة الجديدة بشكل عادل، حتى بلغت نسبة البطالة في اليابان في أوج النهضة في أواخر السبعينيات أقل من 2%، وأصبح العامل أو الموظف الياباني محسودا في العالم بسبب دخله المرتفع والخدمات التي تقدمها الدولة.