الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة
مرسل: الأحد ديسمبر 08, 2013 1:23 pm
المبحث الحادي عشر
الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة
في مارس 1985، وبعد رحيل ثلاثة زعماء تولوا القيادة السوفيتية خلال الفترة من عام 1964 إلى 1985 ـ بريجنيف "1964- 1982"، وأندربوف "1982- 1984"، وشيرنينكو "1984- 1985" ـ جاء زعيم شاب "54 عاماً حينئذ" هو ميخائيل جورباتشوف ليتولى زعامة الحزب، وقد كان اختياره السريع من جانب زملائه في المكتب السياسي، ولم يكن أكبرهم سناً ولا مكانة في سلم القيادة، يعكس تفهماً واقتناعاً من جانبهم أن الاتحاد السوفيتي يواجه تحديات جديدة تتطلب رجلاً ذا رؤية وإرادة مختلفة.
والواقع أن إدراك هذه التحديات كان قد بدأ يتبلور مع مجيء أندربوف من حيث الإحساس بحالة الترهل في الجهاز الحكومي، وتدهور قيمة العمل وعاداته، وإدمان الشراب، والفساد، واللامبالاة، وانعدام الكفاءة الأمر الذي سبب تدهوراً في الإنتاج. ولما كان أندربوف رئيساً سابقًا لجهاز المخابرات، فقد أدرك مصدر المشكلة، وتحرك سريعاً لمحاولة إصلاح الأمور، ولذلك نجد أن عبارة أندربوف الرئيسية كانت هي بث النظام واستعادته "وجعل البلاد تتحرك من جديد"، وهو ما دفعه إلى طرد أكثر من عشرين وزيراً، ونائب وزير، وما بين 20-30% من الرسميين الحزبيين والحكوميين، وما هو أهم من ذلك واتجاهه إلى إعادة تقييم لأساليب دراسة المجتمع السوفيتي وتعرفه فقد ذكر: "أننا لم ندرس بشكل كاف المجتمع الذي نعيش فيه ونعمل، ولم نكتشف بشكل كامل القوانين التي تحكم تطوره وخاصة القوانين الاقتصادية..".
في مقال لأندربوف في بداية عام 1983 في مجلة الحزب كوميونيست، ركز على الحاجة إلى الفهم الدائم لمرحلة التطور التي تمر بها الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وحذر من محاولات القفز على المستوى الراهن للتطور التي تعني ببساطة أهدافاً غير واقعية، وأصر على أن الاتحاد السوفيتي هو فقط في بداية مرحلة تاريخية طويلة من التطور الاشتراكي إذ لا يكون هناك مبالغة في اقترابها من الهدف النهائي للشيوعية العالمية، وحيث يجب أن يكون هناك اعتراف بالصعوبات التي ما زالت قائمة. وفي خطاب له أمام اللجنة المركزية، في يونيه عام 1983، لاحظ أندربوف أن هناك عناصر من "العزلة عن الواقع"، والتوقعات التي لا مبرر لها، ورأى أن من الضرورات الحيوية التقدم من الوضع القائم فعلاً، وتفادى "الحلول الجاهزة".
وفي سبيل هذا التقييم الجديد، ومحاولة وضعه موضع التطبيق، دفع أندربوف إلى المقدمة بمجموعة من القادة الشبان الذين أتوا بأفكار جديدة، وهي التي ستتمثل وتقوم بجوهر عملية التغيير المقبلة.
غير أن وفاة أندربوف، ومجيء زعيم مريض آخر، هو شيرنينكو، لم يغير وقتها كثيراً من الأمور، بل عد مجيئه مرحلة انتقالية نحو زعامة جديدة، تتولى إنجاز التغيير المطلوب، وهو ما تحقق بعد وفاة شيرنينكو، وتولى جورباتشوف. وينقل عن جورباتشوف قوله، إنه حتى قبل مجيئه سكرتيرًا عامًا للحزب، كان قد بدأ وزملاءه في الحزب يفحصون أوجه الخطأ في المجتمع السوفيتي: في مؤسساته واقتصاده، وتركيزه على المقدرات العسكرية، وقد اكتشفوا كثيراً من جوانب القصور، وأنهم اختاروا مجموعات من الخبراء للتخطيط للبرامج التي أصبحت تعرف فيما بعد، وتشكل برنامج جورباتشوف في إعادة البناء Perestroika ، والعلانية Glasnost وأن ينظروا نظرة جديدة إلى الاحتياجات الدفاعية بل وللعقيدة العسكرية السوفيتية ذاتها.
أما ما بدا مؤثراً مع تولى جورباتشوف فهو حدة الإحساس بالأزمة، وتوجهه للمشكلات الرئيسية، كما كان من الواضح شعوره بأهمية الوقت في التعامل مع هذه المعضلات وخاصـة في الحقل الاقتصادي.
وقد كان من الأمور الواضحة في عملية الفحص الأولى والمباشرة أن إجراءات أندربوف، وإن كانت قد حققت بعض التحسن في الإنتاج والتزايد في النمو الاقتصادي، إلا أن هذا كان علاجاً على المدى القصير، ولكنه لم يقدم علاجاً أو حلولاً لحاجات الاتحاد السوفيتي على المدى الطويل. وقد تبين أنه على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي ينتج في هذه المرحلة ضعيف إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية من الصلب، وضعف أو ثلاثة أمثال الإنتاج الأمريكي من المعدات، إلا أن احتياجات التقدم السوفيتي على المدى الطويل باتت أكثر تعقيداً من هذا بكثير. فقد بدت مشكلة الاتحاد السوفيتي في الكيف وليس في الكم، وهي المشكلة التي نجمت أساساً عن دخول معظم الدول الرأسمالية تقريباً عصر الثورة الصناعية الثالثة ومكوناتها، من نظم المعلومات والاتصالات المتقدمة، والإلكترونات. وهكذا فإن المشكلة بدت تحديداً في الفجوة العلمية والتكنولوجية، ولم تكن هذه الفجوة محصورة فقط في نطاقها العلمي المحدود أو تطبيقاته المباشرة، وإنما في أبعادها التي تمتد لكل جوانب كيان الاتحاد السوفيتي الاقتصادية والإنتاجية والعسكرية، وتتصل في نهاية الأمر بمكانته وموضعه في سلم القوى الدولية المتقدمة بمعايير الثورة التكنولوجية الجديدة. فأيديولوجياً كانت هذه الفجوة التكنولوجية تفوق الإدعاء بأن الاشتراكية قادرة على الاحتفاظ دائماً بقوة الاندفاع نحو النمو والتقدم، وهو المعنى الذي قدمه إطلاق القمر الصناعي السوفيتي Sputnik عام 1957ـ أما اليوم فإن الأمر لم يعد مجرد مساواة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وإنما مع أقطار مثل اليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل، بل وتايوان. وقد أظهرت هذه الفجوة، فيما يتصل بمواءمة الأسس النظرية للنظام الاقتصادي الاشتراكي، أن نموذج النمو القائم على التوسع والذي اعتمد في الإنتاج على العناصر التقليدية من العمالة، ورأس المال، والأرض، هذا النموذج لم يعد ملائماً للاحتياجات الجديدة المعقدة للاقتصاد السوفيتي، وأصبحت الحاجة أكثر إلى النموذج القائم على النموذج المكثف.
أما من جهة السياسة الخارجية فإن الفجوة التكنولوجية، وما تحدثه من تراجع اقتصادي، بدأت تهز صورة الأحزاب الشيوعية الأوربية، كما بدأ النموذج السوفيتي في التنمية والتقدم يهتز أمام دول العالم الثالث، بعد أن تبنته في الستينيات، فبدأ يسود الاعتقاد بأنه نموذج غير فعال.
ولم يقتصر تأثير هذه الفجوة فقط على المجالات الأيديولوجية، أو على صورة الاتحاد السوفيتي أمام العالم الخارجي فحسب، بل هددت جوهر العسكرية السوفيتية وإمكاناتها في المستقبل، خاصة مع الاتجـاه إلى عدم استخدام الأسلحة النووية، والحاجة إلى التركيز على القوات التقليدية، ومن ثم الحاجة إلى إدخال الأساليب العلمية الحديثة فيها.
وقد ضاعف من حدة المعضلة التكنولوجية أن الدورة الزمنية Life Cycle للتكنولوجيات الحديثة نادراً ما تتجاوز عامين أو ثلاثة، وهذا يعنى أن ما تنتجه يصبح بالياً أسرع من أي وقت مضى. فسرعة التجديد التكنولوجي أصبحت أسرع مما كانت عليه من حقبتين أو حقب سابقة حين كان العمر الزمني يمتد لحقبة أو أكثر.
إلا أن القيادة السوفيتية خلال فترة بريجنيف، وفي المرحلة الانتقالية التي تلتها حتى مجيء جورباتشوف لم تنفذ إلى جوهر التحدي الذي تمثله هذه الفجوة، ولم تفكر وتتأمل أيضاً فيما يجب أن يكون الأسلوب الفعال لمواجهة هذه الظاهرة. وربما كان هذا جوهر ما أدركه جورباتشوف من حيث نفاذه إلى صميم المعضلة السوفيتية، وتقييمه لعناصر القوة الفعلية للثورة الدولية في عالم اليوم، وهي أنه بدون قاعدة إنتاجية وصناعية وتكنولوجية واسعة ومتقدمة ومسايرة لمستويات الثورة العلمية، فإنه من الصعب على أية قوة أن تحتفظ لنفسها بمكانتها قوة عالمية مؤثرة. وربما كان هذا أساس ما أصبح ينظر به إلى الوضع السوفيتي، وعدّه قوة ذات بعد واحد، وهو البعد العسكري، أما الأبعاد الأخرى الاقتصادية والإنتاجية القائمة على تكنولوجيا متقدمة، فإن الاتحاد السوفيتي يبدو قوة ثانية وربما ثالثة مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، والمجموعة الأوربية واليابان، وربما بذّته قوى أخرى بازغة.
غير جورباتشوف وفريقه في تحليلهم للمعضلة الاقتصادية والتكنولوجية، أو بمعنى أدق لما يسمى "الأزمة المادية والروحية" التي خلفها عهد بريجنيف، تبين لهم أنه لا يمكن مواجهتها بأساليب منعزلة، أو بمعزل عن آليات النظام الأخرى الاقتصادية والسياسية، أو بإجراءات جزئيـة كتلك التي اتبعها أندربوف؛ بهدف تحسين نظام العمل، وإنما بمواجهة فعالة وشاملة لهذه الأزمة، مع تتطلب إصلاحاً اقتصادياً هيكلياً، أو كما أسماه جورباتشوف في الشهور الأولى من توليه "تحولاً عميقاً في الاقتصاد". كذلك اكتشف جورباتشوف منذ البداية أن الإصلاحات الاقتصادية لن تكون فعالة أبداً بدون إصلاحات سياسية"، وأن الفارق في هذا يكمن بين ما هو مقبل عليه وبين المحاولات التي سبق للنظام أن قام بها للإصلاح، وخاصة في عهد نيكيتا خروتشوف "1953- 1964".
هذه الأفكار والتصورات صدرت عن جورباتشوف خلال الشهور والعام الأول لمجيئه للسلطة، لكنّ اختباره لعناصر الواقع السوفيتي من مركز السلطة قد بلور لديـه رؤية أكثر تحديداً لهذا الواقع ولجوانب القصور فيه وفي أخطائه، كما تبلورت لديه في الوقت نفسه الأساليب والسياسات المتكاملة لمعالجة الأزمة. فمع عام 1987 تبلور فكر جورباتشوف فيما أسماه "التفكير الجديد"، وهو التفكير الذي لم يقتصر فقط على الاتحاد السوفيتي، وإنما على أسلوب النظر إلى العالم باعتبار الترابط الوثيق الذي ازداد عن أي وقت مضى بين عناصر الواقع الداخلي وقضاياه، وبين مواقف العالم وعلاقات الاتحاد السوفيتي مع قواه المختلفة.
بدأ جورباتشوف تقييمه للواقع السوفيتي بأن رد بدايات الركود إلى منتصف السبعينيات. فقد بدأت البلاد تفقد قوة اندفاعها، وتكرر الإخفاق الاقتصادي بدرجة أكبر، وبدأت الصعوبات تتراكم، والمشكلات، التي لا تجد حلاً، تتضاعف.. وبدأت تظهر في حياة المجتمع السوفيتي عناصر ما سُميّ بالركود وظواهر أخرى غريبة على الاشتراكية، وقد حدث كل هذا في وقت دخلت فيه الثورة العلمية والتكنولوجية آفاقاً جديدة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وهكذا شهدت الخمسة عشر عاماً الأخيرة تدهوراً في معدلات نمو الدخل القومي لأكثر من النصف، ومع حلول بدايات الثمانينيات اتجهت إلى مستوى قريب من الركود الاقتصادي، وبدأ الاتحاد السوفيتي الذي كان يلحق يوماً بسرعة ببلدان العالم المتقدم، يفقد موقعاً بعد الآخر، بالإضافة إلى ذلك بدأت تتسع، وفي غير صالحه، الفجوة في كفاءة الإنتاج، وجودة المنتجات، والتطور العلمي والتكنولوجي وإنتاج التكنولوجيا المتقدمة واستخدام تقنياتها".
غير أن تصور جورباتشوف لجوانب القصور والتراجع لم يقتصر فقط على الأوضاع الاقتصادية والإنتاجية، وإنما امتد إلى القيم الأيديولوجية، في مجتمع كان يعد العامل الأيدولوجي، طوال تجربة استمرت سبعين عاماً في البناء الاشتراكي، محركًا أساسيًا في حركة التقدم بالقيم التي يبثها في المجتمع. في هذا المجتمع رصد جورباتشوف ظهور ظواهر متناقضة للقيم الأيديولوجية البناءة مثل "تشجيع المديح والخنوع، واستبعاد التفكير الخلاق، والانفصال بين القول والعمل، مما قضى على القيم الأساسية للمجتمع، وبدأ الفساد يجرى في الأخلاق العامة، وتزايد إدمان الخمور والمخدرات والجرائم". ويختتم جورباتشوف وصفه للواقع السوفيتي لكي يدلل على "أن الوضع كان خطيرًا، وأن التغيير الشامل كان ملحًا. كم كان الوضع خطيراً".
وإذا كانت هذه هي قراءة جورباتشوف واستيعابه للواقع الداخلي في الاتحاد السوفيتي، فإن الوضع الدولي للاتحاد السوفيتي مع تسلمه للسلطة كان سلبياً كذلك، فمع نهاية الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، كان النفوذ السوفيتي على المسرح الدولي يبدو متصاعداً، وبدأ تغير نوعي في مكانة الاتحاد السوفيتي يتحقق، وكأن علاقات القوى الدولية إنما تتحول في صالح الاتحاد السوفيتي. ولم يكن هذا مجرد تصور أو تقدير نظري، وإنما تجسد في إقرار لقوة الخصم الرئيسية وهي الولايات المتحدة الأمريكية بحالة التعادل Parity في القوى الإستراتيجية بينها وبين الاتحاد السوفيتي، وسجل هذا في اتفاقيات سولت الأولـى التي توصل إليها عام 1972 وهدفت إلى تنظيم ووضع حـدود على السباق في هذا المستوى الخطير من التسلح، كما بدأ في البيانات المشتركة التي صاحبت مؤتمر قمة موسكو عام 1972 وصدرت عنه.
كذلك بدت الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات وهي تدخل عصر الوفاق، إن لم تكن من موقف ضعف، فعلى الأقل وهي تحت ضغوط دولية وداخلية. وقد تمثلت هذه الضغوط في انتقال الاتحاد السوفيتي ـ على المستوى الإستراتيجي ـ إلى وضع القوة الأعظم، وذلك من خلال توصله إلى حالة التعادل في الأسلحة النووية والإستراتيجية بتطويره الصواريخ العابرة للقارات International Missiles وتطويره لصواريخ جديدة مثل: Orbital Missiles، ثم بناء أسطول بحري قادر على الحضور عالمياً. كما بدت الولايات المتحدة الأمريكية تعانى من ضغوط وتوترات أول هزيمة عسكرية في تاريخها في فيتنام، وما أحدثه هذا من تفاعلات داخل المتجمع الأمريكي، كما تضاعفت هذه الضغوط الداخلية بظهور قضية ووترجيت، وتأثيرهـا على النسيـج المعنوي للشعب الأمريكي، وثقتـه بذاته وفي قياداته.
وأوروبياً كان التطور يبعث على الاطمئنان بالنسبة للقيادة السوفيتية في هذه الحقبة، خاصة بعد السياسة التي تبناها المستشار الألماني ويلي براندت، وعرفت باسم Ostpolitik، وهي السياسة التي أقرت بشكل رسمي حدود ما بعد الحرب الثانية، وتخلت عن أية دعاوى ألمانية حول تهديد هذه الحدود أو تغييرها، وصحبها اتفاقيات ألمانيا الغربية مع عدد من دول أوروبا الشرقية بما فيها ألمانيا الشرقية. وقد مهد هذا التطور لتطور أوسع على المستوى الأوروبي، وهو عقد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، والذي كان الاتحاد السوفيتي يدعو إليه دائماً، وأراد به أن يصدق نهائياً على أوضاع ما بعد الحرب الثانية الإقليمية، وقد توجت هذه العملية باتفاقيات هلسنكي عام 1975.
ولم توفر ظروف هذه المرحلة أوضاعاً ملائمة فقط لتطور واستقرار علاقات الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين بما كانت تبشر به وتفتحه من علاقات تجارية واقتصادية مفيدة للاقتصاد السوفيتي فحسب، بل بدت وهي تفتح فرصاً لاكتساب الاتحاد السوفيتي لمواضع أقدام ونفوذ في عدد من المناطق الإقليمية، التي كانت تشكل جزءاً رئيسياً في مجال المنافسة الأمريكية السوفيتية. ولهـذا رأينا ذلك يشجع على سياسة سوفيتية جريئة ومتقدمة في مناطق مثل الجنوب الأفريقي، حيث وضعت ثقلها من خلال دولة اشتراكية أخرى هي كوبا، وحضوره في القرن الأفريقي من خلال تأييده للنظام الإثيوبي الذي تبنى الماركسية اللينينية. وكذلك في اليمن الجنوبي. ثم في خطوتـه الأكثر جرأة بتدخلـه العسكري في أفغانستان ديسمبر 1979.
كان هذا هو وضع الاتحاد السوفيتي الدولي حتى نهاية السبعينيات، وهو وضع بدا مطمئناً لمكانة دولة عظمى وطموحها ليس على المستوى الإستراتيجي وإمكانات القوة الفعلية فحسب وإنما كذلك في ترجمة هذه القوة إلى نفوذ سياسي دولي وهو ما سنجده في قول جروميكو في هذه الفترة إنه من الآن فصاعداً فلن يمكن حل أية مسألة دولية دون أن يكون للاتحاد السوفيتي دور وقول فيها.
بدأ وضع الاتحاد السوفيتي يتأثر ومكانته الدولية تتراجع مع نهاية السبعينيات. وللمفارقة فإن الإجراء السوفيتي الذي جاء في نهاية سلسلة الأعمال التي أراد بها تأكيد نفوذه ومكانته كان هو بداية هذا التراجع، ونعني بذلك التدخل العسكري في أفغانستان في ديسمبر 1979. فقد حرك هذا الإجراء كل القوى الدولية تقريباً ضد الاتحـاد السوفيتي، حتى تلك التي لم تكن على علاقـة عداء أو خصومة معه. إن أهم ما أتى به هذا الإجـراء السوفيتي هو ما أطلقه من قوى محافظة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي استخدمته لتعبئ الطاقات الأمريكية والغربية أولاً لتأكيد مفاهيمها حول الطبيعة التوسعية في السياسة السوفيتية، وكذلك لوقف تيار الوفاق واتفاقياته التي كانت تراها مناقضة للمصالح الأمريكية. وقد ناقشنا بالتفصيل ما أحدثه الغزو السوفيتي لأفغانستان في السياسة الأمريكية والإجراءات التي اتخذتها إدارة كارتر للرد على هذا التصرف، والتحول الذي أحدثته في السياسة الأمريكيـة بمجيء إدارة محافظة برئاسة رونالد ريجان.
غير أن ما يعنينا في هذا السياق هو توضيح ما استخلصه جورباتشوف، وما ساهم في صياغة تفكيره السياسي الجديد، من أن السياسات الخارجية التي اتبعها الاتحاد السوفيتي في تحدى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عسكرياً، وتأكيد ذاته في المناطق الإقليمية وتوسيع ارتباطاته فيها قد آتي برد فعل عكسي على المصالح السوفيتية الحقيقية؛ فعلى المستوى العسكري أدى نشر الصواريخ السوفيتية SS- 20 في أوروبا إلى قرار الناتو عام 1979 بنشر الصواريخ الأمريكية برشينج وكروز، ما أدى إلى زيادة القوى العسكرية الأمريكية الأمر الذي تبلور في برنامجها للدفاع الإستراتيجي SDI، والذي مثل تصعيداً خطيراً لسباق التسلح، وتحدياً جديداً له في هذا السباق إذا ما صمم على مواجهته، كما فعل في تحديات سابقة، فإن هذا يعنى استنزافاً جديداً لطاقته وموارده الاقتصادية لم يعد يتحمله. وعلى المستوى الدبلوماسي فشلت الحملة الدبلوماسية والسياسية التي شنها الاتحاد السوفيتي، وحاول بها مخاطبة واستنفار المجتمعات الأوربية لمنع تنفيذ نشر الصواريخ الأمريكية ونفذ هذا القرار في ديسمبر 1983.
أما ما بدا وقتها وكأنه كسب وتوسيع للنفوذ السوفيتي في مناطق مثل الجنوب الأفريقي، والقرن الأفريقي، فإنه جاء ضغطًا على الإمكانات والموارد الاقتصادية السوفيتية، دون أن يترجم إلى كسب سياسي ملموس، وأهم من هذا فقد ساهم في توتر علاقاته الشاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ونفي الجوانب الإيجابية التي كانت قد تحققت خلال حقبة السبعينيات.
بدأت القلاقل تتحرك من جديد في منطقة شرق أوروبا، وهي منطقة الاهتمام السوفيتي المباشر، ونطاق أمنه، وذلك بأحداث بولندا حيث بدأت مرحلة جديدة عام 1980، وبدأ حكم الطبقة العاملة يهاجم من صفوف الطبقة العاملة نفسها، بظهور منظمة "تضامن" العمالية، ويبدو أن الأمر لم يكن قاصرًا على بولندا، بل كان ينبئ بإمكانات تجدد عدم الاستقرار في باقي أقطار الكتلة الاشتراكية.
هذه الرؤية للواقع الداخلي السوفيتي ومؤسساته، والأخطار التي ينذر بها، وكذلك التراجع في الوضع الدولي السوفيتي، دفعت إلى إعادة تقييم أساسي لمقومات الأمن السوفيتي، ومفاهيمه التقليدية، كما فرضت بشكل متزايد أن تخضع السياسة الحالية السوفيتية للضرورات الداخلية واعتباراتها.
من هنا كان التحول الذي أحدثه جورباتشوف في عدد من المفاهيم الراسخة التي وجهت السياسة الخارجية السوفيتية وحكمت توجهاتها الأيديولوجية.
وقد كان الإطار العام، الذي أعاد فيه جورباتشوف صياغة مفاهيم السياسة الخارجية والأمن السوفيتي، هو أن برامجه في إعادة البناء في الاتحاد السوفيتي لا يمكن أن تتم بشكل سليم ومستقر إلا في بيئة دولية وإقليمية سلمية، تخلو من مجابهات وتوترات الحرب الباردة، وشكوكها وانعدام الثقة بين القوى الدولية الرئيسية ويفرض قيوداً على إمكانات التعاون الدولي في عالم رأى جورباتشوف أن الاقتصاد العالمي فيه أصبح كياناً واحداً Single Orgamion، لا تستطيع دولة خارجة عنه أن تتطور تطورًا طبيعيًا بغض النظر عن النظام الاجتماعي الذي تنتمي إليه، وأهم من هذا أن جورباتشوف أكد أن برامجه في إعادة البناء لا يمكن أن تتم إلا في بيئة تخلو من سباق التسلح بأعبائه الباهظة، وكذلك من التوترات والصراعات الإقليمية التي أثبتت أنها تسمم علاقات الاتحاد السوفيتي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتفرض الوقت نفسه أعباء لم يعد في قدرة الاتحاد السوفيتي المادية تحملها.
الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة
في مارس 1985، وبعد رحيل ثلاثة زعماء تولوا القيادة السوفيتية خلال الفترة من عام 1964 إلى 1985 ـ بريجنيف "1964- 1982"، وأندربوف "1982- 1984"، وشيرنينكو "1984- 1985" ـ جاء زعيم شاب "54 عاماً حينئذ" هو ميخائيل جورباتشوف ليتولى زعامة الحزب، وقد كان اختياره السريع من جانب زملائه في المكتب السياسي، ولم يكن أكبرهم سناً ولا مكانة في سلم القيادة، يعكس تفهماً واقتناعاً من جانبهم أن الاتحاد السوفيتي يواجه تحديات جديدة تتطلب رجلاً ذا رؤية وإرادة مختلفة.
والواقع أن إدراك هذه التحديات كان قد بدأ يتبلور مع مجيء أندربوف من حيث الإحساس بحالة الترهل في الجهاز الحكومي، وتدهور قيمة العمل وعاداته، وإدمان الشراب، والفساد، واللامبالاة، وانعدام الكفاءة الأمر الذي سبب تدهوراً في الإنتاج. ولما كان أندربوف رئيساً سابقًا لجهاز المخابرات، فقد أدرك مصدر المشكلة، وتحرك سريعاً لمحاولة إصلاح الأمور، ولذلك نجد أن عبارة أندربوف الرئيسية كانت هي بث النظام واستعادته "وجعل البلاد تتحرك من جديد"، وهو ما دفعه إلى طرد أكثر من عشرين وزيراً، ونائب وزير، وما بين 20-30% من الرسميين الحزبيين والحكوميين، وما هو أهم من ذلك واتجاهه إلى إعادة تقييم لأساليب دراسة المجتمع السوفيتي وتعرفه فقد ذكر: "أننا لم ندرس بشكل كاف المجتمع الذي نعيش فيه ونعمل، ولم نكتشف بشكل كامل القوانين التي تحكم تطوره وخاصة القوانين الاقتصادية..".
في مقال لأندربوف في بداية عام 1983 في مجلة الحزب كوميونيست، ركز على الحاجة إلى الفهم الدائم لمرحلة التطور التي تمر بها الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وحذر من محاولات القفز على المستوى الراهن للتطور التي تعني ببساطة أهدافاً غير واقعية، وأصر على أن الاتحاد السوفيتي هو فقط في بداية مرحلة تاريخية طويلة من التطور الاشتراكي إذ لا يكون هناك مبالغة في اقترابها من الهدف النهائي للشيوعية العالمية، وحيث يجب أن يكون هناك اعتراف بالصعوبات التي ما زالت قائمة. وفي خطاب له أمام اللجنة المركزية، في يونيه عام 1983، لاحظ أندربوف أن هناك عناصر من "العزلة عن الواقع"، والتوقعات التي لا مبرر لها، ورأى أن من الضرورات الحيوية التقدم من الوضع القائم فعلاً، وتفادى "الحلول الجاهزة".
وفي سبيل هذا التقييم الجديد، ومحاولة وضعه موضع التطبيق، دفع أندربوف إلى المقدمة بمجموعة من القادة الشبان الذين أتوا بأفكار جديدة، وهي التي ستتمثل وتقوم بجوهر عملية التغيير المقبلة.
غير أن وفاة أندربوف، ومجيء زعيم مريض آخر، هو شيرنينكو، لم يغير وقتها كثيراً من الأمور، بل عد مجيئه مرحلة انتقالية نحو زعامة جديدة، تتولى إنجاز التغيير المطلوب، وهو ما تحقق بعد وفاة شيرنينكو، وتولى جورباتشوف. وينقل عن جورباتشوف قوله، إنه حتى قبل مجيئه سكرتيرًا عامًا للحزب، كان قد بدأ وزملاءه في الحزب يفحصون أوجه الخطأ في المجتمع السوفيتي: في مؤسساته واقتصاده، وتركيزه على المقدرات العسكرية، وقد اكتشفوا كثيراً من جوانب القصور، وأنهم اختاروا مجموعات من الخبراء للتخطيط للبرامج التي أصبحت تعرف فيما بعد، وتشكل برنامج جورباتشوف في إعادة البناء Perestroika ، والعلانية Glasnost وأن ينظروا نظرة جديدة إلى الاحتياجات الدفاعية بل وللعقيدة العسكرية السوفيتية ذاتها.
أما ما بدا مؤثراً مع تولى جورباتشوف فهو حدة الإحساس بالأزمة، وتوجهه للمشكلات الرئيسية، كما كان من الواضح شعوره بأهمية الوقت في التعامل مع هذه المعضلات وخاصـة في الحقل الاقتصادي.
وقد كان من الأمور الواضحة في عملية الفحص الأولى والمباشرة أن إجراءات أندربوف، وإن كانت قد حققت بعض التحسن في الإنتاج والتزايد في النمو الاقتصادي، إلا أن هذا كان علاجاً على المدى القصير، ولكنه لم يقدم علاجاً أو حلولاً لحاجات الاتحاد السوفيتي على المدى الطويل. وقد تبين أنه على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي ينتج في هذه المرحلة ضعيف إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية من الصلب، وضعف أو ثلاثة أمثال الإنتاج الأمريكي من المعدات، إلا أن احتياجات التقدم السوفيتي على المدى الطويل باتت أكثر تعقيداً من هذا بكثير. فقد بدت مشكلة الاتحاد السوفيتي في الكيف وليس في الكم، وهي المشكلة التي نجمت أساساً عن دخول معظم الدول الرأسمالية تقريباً عصر الثورة الصناعية الثالثة ومكوناتها، من نظم المعلومات والاتصالات المتقدمة، والإلكترونات. وهكذا فإن المشكلة بدت تحديداً في الفجوة العلمية والتكنولوجية، ولم تكن هذه الفجوة محصورة فقط في نطاقها العلمي المحدود أو تطبيقاته المباشرة، وإنما في أبعادها التي تمتد لكل جوانب كيان الاتحاد السوفيتي الاقتصادية والإنتاجية والعسكرية، وتتصل في نهاية الأمر بمكانته وموضعه في سلم القوى الدولية المتقدمة بمعايير الثورة التكنولوجية الجديدة. فأيديولوجياً كانت هذه الفجوة التكنولوجية تفوق الإدعاء بأن الاشتراكية قادرة على الاحتفاظ دائماً بقوة الاندفاع نحو النمو والتقدم، وهو المعنى الذي قدمه إطلاق القمر الصناعي السوفيتي Sputnik عام 1957ـ أما اليوم فإن الأمر لم يعد مجرد مساواة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وإنما مع أقطار مثل اليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل، بل وتايوان. وقد أظهرت هذه الفجوة، فيما يتصل بمواءمة الأسس النظرية للنظام الاقتصادي الاشتراكي، أن نموذج النمو القائم على التوسع والذي اعتمد في الإنتاج على العناصر التقليدية من العمالة، ورأس المال، والأرض، هذا النموذج لم يعد ملائماً للاحتياجات الجديدة المعقدة للاقتصاد السوفيتي، وأصبحت الحاجة أكثر إلى النموذج القائم على النموذج المكثف.
أما من جهة السياسة الخارجية فإن الفجوة التكنولوجية، وما تحدثه من تراجع اقتصادي، بدأت تهز صورة الأحزاب الشيوعية الأوربية، كما بدأ النموذج السوفيتي في التنمية والتقدم يهتز أمام دول العالم الثالث، بعد أن تبنته في الستينيات، فبدأ يسود الاعتقاد بأنه نموذج غير فعال.
ولم يقتصر تأثير هذه الفجوة فقط على المجالات الأيديولوجية، أو على صورة الاتحاد السوفيتي أمام العالم الخارجي فحسب، بل هددت جوهر العسكرية السوفيتية وإمكاناتها في المستقبل، خاصة مع الاتجـاه إلى عدم استخدام الأسلحة النووية، والحاجة إلى التركيز على القوات التقليدية، ومن ثم الحاجة إلى إدخال الأساليب العلمية الحديثة فيها.
وقد ضاعف من حدة المعضلة التكنولوجية أن الدورة الزمنية Life Cycle للتكنولوجيات الحديثة نادراً ما تتجاوز عامين أو ثلاثة، وهذا يعنى أن ما تنتجه يصبح بالياً أسرع من أي وقت مضى. فسرعة التجديد التكنولوجي أصبحت أسرع مما كانت عليه من حقبتين أو حقب سابقة حين كان العمر الزمني يمتد لحقبة أو أكثر.
إلا أن القيادة السوفيتية خلال فترة بريجنيف، وفي المرحلة الانتقالية التي تلتها حتى مجيء جورباتشوف لم تنفذ إلى جوهر التحدي الذي تمثله هذه الفجوة، ولم تفكر وتتأمل أيضاً فيما يجب أن يكون الأسلوب الفعال لمواجهة هذه الظاهرة. وربما كان هذا جوهر ما أدركه جورباتشوف من حيث نفاذه إلى صميم المعضلة السوفيتية، وتقييمه لعناصر القوة الفعلية للثورة الدولية في عالم اليوم، وهي أنه بدون قاعدة إنتاجية وصناعية وتكنولوجية واسعة ومتقدمة ومسايرة لمستويات الثورة العلمية، فإنه من الصعب على أية قوة أن تحتفظ لنفسها بمكانتها قوة عالمية مؤثرة. وربما كان هذا أساس ما أصبح ينظر به إلى الوضع السوفيتي، وعدّه قوة ذات بعد واحد، وهو البعد العسكري، أما الأبعاد الأخرى الاقتصادية والإنتاجية القائمة على تكنولوجيا متقدمة، فإن الاتحاد السوفيتي يبدو قوة ثانية وربما ثالثة مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، والمجموعة الأوربية واليابان، وربما بذّته قوى أخرى بازغة.
غير جورباتشوف وفريقه في تحليلهم للمعضلة الاقتصادية والتكنولوجية، أو بمعنى أدق لما يسمى "الأزمة المادية والروحية" التي خلفها عهد بريجنيف، تبين لهم أنه لا يمكن مواجهتها بأساليب منعزلة، أو بمعزل عن آليات النظام الأخرى الاقتصادية والسياسية، أو بإجراءات جزئيـة كتلك التي اتبعها أندربوف؛ بهدف تحسين نظام العمل، وإنما بمواجهة فعالة وشاملة لهذه الأزمة، مع تتطلب إصلاحاً اقتصادياً هيكلياً، أو كما أسماه جورباتشوف في الشهور الأولى من توليه "تحولاً عميقاً في الاقتصاد". كذلك اكتشف جورباتشوف منذ البداية أن الإصلاحات الاقتصادية لن تكون فعالة أبداً بدون إصلاحات سياسية"، وأن الفارق في هذا يكمن بين ما هو مقبل عليه وبين المحاولات التي سبق للنظام أن قام بها للإصلاح، وخاصة في عهد نيكيتا خروتشوف "1953- 1964".
هذه الأفكار والتصورات صدرت عن جورباتشوف خلال الشهور والعام الأول لمجيئه للسلطة، لكنّ اختباره لعناصر الواقع السوفيتي من مركز السلطة قد بلور لديـه رؤية أكثر تحديداً لهذا الواقع ولجوانب القصور فيه وفي أخطائه، كما تبلورت لديه في الوقت نفسه الأساليب والسياسات المتكاملة لمعالجة الأزمة. فمع عام 1987 تبلور فكر جورباتشوف فيما أسماه "التفكير الجديد"، وهو التفكير الذي لم يقتصر فقط على الاتحاد السوفيتي، وإنما على أسلوب النظر إلى العالم باعتبار الترابط الوثيق الذي ازداد عن أي وقت مضى بين عناصر الواقع الداخلي وقضاياه، وبين مواقف العالم وعلاقات الاتحاد السوفيتي مع قواه المختلفة.
بدأ جورباتشوف تقييمه للواقع السوفيتي بأن رد بدايات الركود إلى منتصف السبعينيات. فقد بدأت البلاد تفقد قوة اندفاعها، وتكرر الإخفاق الاقتصادي بدرجة أكبر، وبدأت الصعوبات تتراكم، والمشكلات، التي لا تجد حلاً، تتضاعف.. وبدأت تظهر في حياة المجتمع السوفيتي عناصر ما سُميّ بالركود وظواهر أخرى غريبة على الاشتراكية، وقد حدث كل هذا في وقت دخلت فيه الثورة العلمية والتكنولوجية آفاقاً جديدة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وهكذا شهدت الخمسة عشر عاماً الأخيرة تدهوراً في معدلات نمو الدخل القومي لأكثر من النصف، ومع حلول بدايات الثمانينيات اتجهت إلى مستوى قريب من الركود الاقتصادي، وبدأ الاتحاد السوفيتي الذي كان يلحق يوماً بسرعة ببلدان العالم المتقدم، يفقد موقعاً بعد الآخر، بالإضافة إلى ذلك بدأت تتسع، وفي غير صالحه، الفجوة في كفاءة الإنتاج، وجودة المنتجات، والتطور العلمي والتكنولوجي وإنتاج التكنولوجيا المتقدمة واستخدام تقنياتها".
غير أن تصور جورباتشوف لجوانب القصور والتراجع لم يقتصر فقط على الأوضاع الاقتصادية والإنتاجية، وإنما امتد إلى القيم الأيديولوجية، في مجتمع كان يعد العامل الأيدولوجي، طوال تجربة استمرت سبعين عاماً في البناء الاشتراكي، محركًا أساسيًا في حركة التقدم بالقيم التي يبثها في المجتمع. في هذا المجتمع رصد جورباتشوف ظهور ظواهر متناقضة للقيم الأيديولوجية البناءة مثل "تشجيع المديح والخنوع، واستبعاد التفكير الخلاق، والانفصال بين القول والعمل، مما قضى على القيم الأساسية للمجتمع، وبدأ الفساد يجرى في الأخلاق العامة، وتزايد إدمان الخمور والمخدرات والجرائم". ويختتم جورباتشوف وصفه للواقع السوفيتي لكي يدلل على "أن الوضع كان خطيرًا، وأن التغيير الشامل كان ملحًا. كم كان الوضع خطيراً".
وإذا كانت هذه هي قراءة جورباتشوف واستيعابه للواقع الداخلي في الاتحاد السوفيتي، فإن الوضع الدولي للاتحاد السوفيتي مع تسلمه للسلطة كان سلبياً كذلك، فمع نهاية الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، كان النفوذ السوفيتي على المسرح الدولي يبدو متصاعداً، وبدأ تغير نوعي في مكانة الاتحاد السوفيتي يتحقق، وكأن علاقات القوى الدولية إنما تتحول في صالح الاتحاد السوفيتي. ولم يكن هذا مجرد تصور أو تقدير نظري، وإنما تجسد في إقرار لقوة الخصم الرئيسية وهي الولايات المتحدة الأمريكية بحالة التعادل Parity في القوى الإستراتيجية بينها وبين الاتحاد السوفيتي، وسجل هذا في اتفاقيات سولت الأولـى التي توصل إليها عام 1972 وهدفت إلى تنظيم ووضع حـدود على السباق في هذا المستوى الخطير من التسلح، كما بدأ في البيانات المشتركة التي صاحبت مؤتمر قمة موسكو عام 1972 وصدرت عنه.
كذلك بدت الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات وهي تدخل عصر الوفاق، إن لم تكن من موقف ضعف، فعلى الأقل وهي تحت ضغوط دولية وداخلية. وقد تمثلت هذه الضغوط في انتقال الاتحاد السوفيتي ـ على المستوى الإستراتيجي ـ إلى وضع القوة الأعظم، وذلك من خلال توصله إلى حالة التعادل في الأسلحة النووية والإستراتيجية بتطويره الصواريخ العابرة للقارات International Missiles وتطويره لصواريخ جديدة مثل: Orbital Missiles، ثم بناء أسطول بحري قادر على الحضور عالمياً. كما بدت الولايات المتحدة الأمريكية تعانى من ضغوط وتوترات أول هزيمة عسكرية في تاريخها في فيتنام، وما أحدثه هذا من تفاعلات داخل المتجمع الأمريكي، كما تضاعفت هذه الضغوط الداخلية بظهور قضية ووترجيت، وتأثيرهـا على النسيـج المعنوي للشعب الأمريكي، وثقتـه بذاته وفي قياداته.
وأوروبياً كان التطور يبعث على الاطمئنان بالنسبة للقيادة السوفيتية في هذه الحقبة، خاصة بعد السياسة التي تبناها المستشار الألماني ويلي براندت، وعرفت باسم Ostpolitik، وهي السياسة التي أقرت بشكل رسمي حدود ما بعد الحرب الثانية، وتخلت عن أية دعاوى ألمانية حول تهديد هذه الحدود أو تغييرها، وصحبها اتفاقيات ألمانيا الغربية مع عدد من دول أوروبا الشرقية بما فيها ألمانيا الشرقية. وقد مهد هذا التطور لتطور أوسع على المستوى الأوروبي، وهو عقد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، والذي كان الاتحاد السوفيتي يدعو إليه دائماً، وأراد به أن يصدق نهائياً على أوضاع ما بعد الحرب الثانية الإقليمية، وقد توجت هذه العملية باتفاقيات هلسنكي عام 1975.
ولم توفر ظروف هذه المرحلة أوضاعاً ملائمة فقط لتطور واستقرار علاقات الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين بما كانت تبشر به وتفتحه من علاقات تجارية واقتصادية مفيدة للاقتصاد السوفيتي فحسب، بل بدت وهي تفتح فرصاً لاكتساب الاتحاد السوفيتي لمواضع أقدام ونفوذ في عدد من المناطق الإقليمية، التي كانت تشكل جزءاً رئيسياً في مجال المنافسة الأمريكية السوفيتية. ولهـذا رأينا ذلك يشجع على سياسة سوفيتية جريئة ومتقدمة في مناطق مثل الجنوب الأفريقي، حيث وضعت ثقلها من خلال دولة اشتراكية أخرى هي كوبا، وحضوره في القرن الأفريقي من خلال تأييده للنظام الإثيوبي الذي تبنى الماركسية اللينينية. وكذلك في اليمن الجنوبي. ثم في خطوتـه الأكثر جرأة بتدخلـه العسكري في أفغانستان ديسمبر 1979.
كان هذا هو وضع الاتحاد السوفيتي الدولي حتى نهاية السبعينيات، وهو وضع بدا مطمئناً لمكانة دولة عظمى وطموحها ليس على المستوى الإستراتيجي وإمكانات القوة الفعلية فحسب وإنما كذلك في ترجمة هذه القوة إلى نفوذ سياسي دولي وهو ما سنجده في قول جروميكو في هذه الفترة إنه من الآن فصاعداً فلن يمكن حل أية مسألة دولية دون أن يكون للاتحاد السوفيتي دور وقول فيها.
بدأ وضع الاتحاد السوفيتي يتأثر ومكانته الدولية تتراجع مع نهاية السبعينيات. وللمفارقة فإن الإجراء السوفيتي الذي جاء في نهاية سلسلة الأعمال التي أراد بها تأكيد نفوذه ومكانته كان هو بداية هذا التراجع، ونعني بذلك التدخل العسكري في أفغانستان في ديسمبر 1979. فقد حرك هذا الإجراء كل القوى الدولية تقريباً ضد الاتحـاد السوفيتي، حتى تلك التي لم تكن على علاقـة عداء أو خصومة معه. إن أهم ما أتى به هذا الإجـراء السوفيتي هو ما أطلقه من قوى محافظة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي استخدمته لتعبئ الطاقات الأمريكية والغربية أولاً لتأكيد مفاهيمها حول الطبيعة التوسعية في السياسة السوفيتية، وكذلك لوقف تيار الوفاق واتفاقياته التي كانت تراها مناقضة للمصالح الأمريكية. وقد ناقشنا بالتفصيل ما أحدثه الغزو السوفيتي لأفغانستان في السياسة الأمريكية والإجراءات التي اتخذتها إدارة كارتر للرد على هذا التصرف، والتحول الذي أحدثته في السياسة الأمريكيـة بمجيء إدارة محافظة برئاسة رونالد ريجان.
غير أن ما يعنينا في هذا السياق هو توضيح ما استخلصه جورباتشوف، وما ساهم في صياغة تفكيره السياسي الجديد، من أن السياسات الخارجية التي اتبعها الاتحاد السوفيتي في تحدى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عسكرياً، وتأكيد ذاته في المناطق الإقليمية وتوسيع ارتباطاته فيها قد آتي برد فعل عكسي على المصالح السوفيتية الحقيقية؛ فعلى المستوى العسكري أدى نشر الصواريخ السوفيتية SS- 20 في أوروبا إلى قرار الناتو عام 1979 بنشر الصواريخ الأمريكية برشينج وكروز، ما أدى إلى زيادة القوى العسكرية الأمريكية الأمر الذي تبلور في برنامجها للدفاع الإستراتيجي SDI، والذي مثل تصعيداً خطيراً لسباق التسلح، وتحدياً جديداً له في هذا السباق إذا ما صمم على مواجهته، كما فعل في تحديات سابقة، فإن هذا يعنى استنزافاً جديداً لطاقته وموارده الاقتصادية لم يعد يتحمله. وعلى المستوى الدبلوماسي فشلت الحملة الدبلوماسية والسياسية التي شنها الاتحاد السوفيتي، وحاول بها مخاطبة واستنفار المجتمعات الأوربية لمنع تنفيذ نشر الصواريخ الأمريكية ونفذ هذا القرار في ديسمبر 1983.
أما ما بدا وقتها وكأنه كسب وتوسيع للنفوذ السوفيتي في مناطق مثل الجنوب الأفريقي، والقرن الأفريقي، فإنه جاء ضغطًا على الإمكانات والموارد الاقتصادية السوفيتية، دون أن يترجم إلى كسب سياسي ملموس، وأهم من هذا فقد ساهم في توتر علاقاته الشاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ونفي الجوانب الإيجابية التي كانت قد تحققت خلال حقبة السبعينيات.
بدأت القلاقل تتحرك من جديد في منطقة شرق أوروبا، وهي منطقة الاهتمام السوفيتي المباشر، ونطاق أمنه، وذلك بأحداث بولندا حيث بدأت مرحلة جديدة عام 1980، وبدأ حكم الطبقة العاملة يهاجم من صفوف الطبقة العاملة نفسها، بظهور منظمة "تضامن" العمالية، ويبدو أن الأمر لم يكن قاصرًا على بولندا، بل كان ينبئ بإمكانات تجدد عدم الاستقرار في باقي أقطار الكتلة الاشتراكية.
هذه الرؤية للواقع الداخلي السوفيتي ومؤسساته، والأخطار التي ينذر بها، وكذلك التراجع في الوضع الدولي السوفيتي، دفعت إلى إعادة تقييم أساسي لمقومات الأمن السوفيتي، ومفاهيمه التقليدية، كما فرضت بشكل متزايد أن تخضع السياسة الحالية السوفيتية للضرورات الداخلية واعتباراتها.
من هنا كان التحول الذي أحدثه جورباتشوف في عدد من المفاهيم الراسخة التي وجهت السياسة الخارجية السوفيتية وحكمت توجهاتها الأيديولوجية.
وقد كان الإطار العام، الذي أعاد فيه جورباتشوف صياغة مفاهيم السياسة الخارجية والأمن السوفيتي، هو أن برامجه في إعادة البناء في الاتحاد السوفيتي لا يمكن أن تتم بشكل سليم ومستقر إلا في بيئة دولية وإقليمية سلمية، تخلو من مجابهات وتوترات الحرب الباردة، وشكوكها وانعدام الثقة بين القوى الدولية الرئيسية ويفرض قيوداً على إمكانات التعاون الدولي في عالم رأى جورباتشوف أن الاقتصاد العالمي فيه أصبح كياناً واحداً Single Orgamion، لا تستطيع دولة خارجة عنه أن تتطور تطورًا طبيعيًا بغض النظر عن النظام الاجتماعي الذي تنتمي إليه، وأهم من هذا أن جورباتشوف أكد أن برامجه في إعادة البناء لا يمكن أن تتم إلا في بيئة تخلو من سباق التسلح بأعبائه الباهظة، وكذلك من التوترات والصراعات الإقليمية التي أثبتت أنها تسمم علاقات الاتحاد السوفيتي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتفرض الوقت نفسه أعباء لم يعد في قدرة الاتحاد السوفيتي المادية تحملها.