اسرة ال بربون
مرسل: الأحد ديسمبر 08, 2013 1:38 pm
سيطرت بعض الأسر المالكة علي أقدار ومصائر القارة العجوز (أوروبا) وقد يكون الصحيح القول أن نظام الإقطاع "الذي يتحكم في كل شيء بوصفه ملكية خاصة للحاكم هو نظام أوروبي بامتياز ومعناه: مجموعة الأخلاقيات والمثل التي تحرك الطبقة الحاكمة. فما يعني أشكال الحكومة اللامركزية التي تنتقل فيها السلطة الإدارية والعسكرية والقضائية إلي أيدي الإقطاعيين. وآيا كانت هذه الأشكال، فالثابت أنها كانت أسلوب حياة النبلاء الأوروبيين منذ القرن التاسع (إن لم يكن قبل ذلك) وحتي القرن الثالث عشر (إن لم يكن بعد ذلك).
وأشهد أنني في كل مرة كنت أمر فيها أمام (قصر بوربون) وهو مقر البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) في باريس تقفز إلي ذهني صورة هذه الأسرة العريقة (أسرة بوربون) التي كانت ولعقود زمنية متتالية مستودعاً لمعظم حكام أوروبا خصوصاً في فرنسا والنمسا. ولا شك أن عظمة هذا القصر تعني ضمن ما تعني - "أن حكاماً" أفذاذ كانوا يسيطرون علي مقاليد السلطة في أرجاء بعض الدول الأوروبية القوية آنذاك.
ويؤكد نفر من المؤرخين أن تأثير هذا الإقطاع كان يتجاوز حدود القارة العجوز ويذهب إلي أن الحروب الصليبية التي اكتوي من نيرانها الشرق كانت في جانب منها نتاجاً للقيم والمفاهيم التي تحكم عقول هؤلاء الإقطاعيين.
وكان طبيعياً أن تؤدي الحروب التي تورطت فيها هذه الأسر الحاكمة ودفعت ثمنها أوروبا، ثم البذخ الذي كانت تعيش فيه، وضعف الملوك، وعجز الوزراء عن ضبط إيقاع الحياة السياسية. فضلاً عن تململ الطبقات الأرستقراطية وأنانيتها وجبروتها. كل ذلك أدي إلي انحدار دولة مثل فرنسا إلي حالة من الفوضي الاقتصادية تكررت كثيراً في دول مجاورة، وكان السبب الأول فيها انسلاخ الأسر الحاكمة عن الشعب، واعتمادها بدرجة أولي علي الأموال التي يتفنن بعض وزراء المالية في السطو عليها من جيوب الشعب. ولعل المثال الصارخ علي ذلك ما قام به المدعو (كالون) الذي كان مسئولاً عن المالية الفرنسية عندما اقترح فرض ضريبة عامة علي الأراضي والعقارات لا تستثني منها الطبقة الأرستقراطية نفسها، لكن لان معظم أبناء أسرة بوربون إلي جانب السادة النبلاء كانوا غارقين في الديون، لكان مستبعداً أن تلقي هذه الفكرة استحساناً، ولذلك سقط (كالون) ليخلفه (لوميني دي بريين) الذي عرض اقتراحات متشابهة علي البرلمانات المؤلفة من القضاة المكلفين بتسجيل المراسيم، والذين كان من حقهم الاعتراض علي القوانين في باريس وبعض البلاد الصغيرة ورفضت البرلمانات الاقتراحات وطالبت بانعقاد "مجلس الطبقات" وجاء ذلك علي هوي الطبقة الأرستقراطية لأن هذا المجلس كان يتألف من ثلاث هيئات منتخبة تمثل إحداها الاكليروس وتمثل الثانية النبلاء والثالثة تمثل الشعب. وحيث كانت طبقة رجال الكنيسة (الاكليروس) خاضعة لسيطرة النبلاء الذين يتقلدون المناصب الرفيعة في الكنيسة لقاء الخدمات التي يقدمونها، فقد كانت الطبقتان علي يقين دائم من الحصول علي أغلبية الأصوات.
وهكذا، وجد الشعب نفسه ضحية لأسرات تحكم، ونظام حكم (أجوف) يحرص علي الشكل دون المضمون.
وربما هذا الحال الخانق هو الذي ساعد في تفاقم الأوضاع ومهد - فعلاً "لا قولاً" - للثورة حيث ملأ الخطباء المقاهي، خصوصاً تلك المحيطة بالقصر الملكي (باليه رويال) وكانت الجماهير تحتشد علي أبواب هذه المقاهي ونوافذها لتستمع في شغف إلي بعض هؤلاء الخطباء الذين كانوا يخاطبون جماهيرهم من فوق المقاعد والمناضد.
ويذكر كتاب باريس في سنوات الثورة لمؤلفه راي تاناهيل أن العيش بات عسيراً، فلقد بلغ رغيف وزنه أربعة أرطال حوال 14.5سو وهو العملة الفرنسية التي كانت سائدة آنذاك وتعادل خمسة سنتيمات. بينما لا يتجاوز صافي الأجر اليومي لعامل البناء (18سو).
كان هذا الواقع سبباً إضافياً اقتنع العامة في باريس بأن الأرستقراطيين قد أوشكوا علي سحقهم تحت نعالهم القرمزية.
والحديث عن الخبز في باريس يذكر - علي الفور - بثورة الجياع التي عكرت صفو الملكة ماري أنطوانيت فسألت في دهشة عن سبب المظاهرات التي تحيط بقصر فرساي حيث كانت تقيم، فقيل لها: أن الشعب يطالب بالخبز، وهو يبحث عنه فلا يجده! فقالت قولتها الشهيرة" إذا لم يجد خبزاً فليأكل الجاتوه!
وفي كل الأحوال لقد بلغت نغمة الشعب الفرنسي حدها الأقصي فأتجه من فورة نحو سجن الباستيل وقام بتحطيمه في مشهد خارق لا تزال تحتفظ به الذاكرة الإنسانية ليسدل بعدها علي أسرة بوربون الحاكمة. ويبدأ عصر آخر.
ويروي أن مجموعة قوامها حوالي أربعين فرداً قد تقدمت وفتحت، لهم البوابة الرئيسية للسجن، ولكن سرعان ما رفع الجسر المتحرك وذبحت المجموعة بأكملها علي الفور. فزاد تفاقم الأوضاع. وطالب الشعب بالثأر، وسرعان ما وجه الحشد مدافعه صوب البوابة وفتحوا فجوة فيها اقترنت بروح السخط التي سادت الموقف وأدت إلي استسلام الحصن علي الفور.
ولاستكمال هذه المشاهد التي أعلن فيها الشعب الفرنسي رفضه للأسرة الحاكمة، والإقطاع وطبقة النبلاء، والأرستقراطية المتغطرسة لابد من التوقف أمام مشهدين:
الأول، هو مقتل الملك لويس التاسع عشر الذي كانت حاشيته تعتقد انه الملك الإله، فبعد أن تم توجيه التهمة إليه بالخيانة العظمي ضد الأمة، كان لابد من سوقه نحو المشنقة. ويذكر تاريخ الثورة وصفاً دقيقاً كالآتي:
تدفقت دماء الملك، وشقت صيحات الفرح الصادرة من 180 ألف رجل مسلح عنان السماء. وترددت الصيحات علي طول الأرصفة. وكان الناس يغمسون أطراف أصابعهم وقطع الورق في دمائه، ويتذوقها واحد ليقول: دمه كالح كريه.
وفي كتاب باريس في سنوات الثورة الذي ترجمه إلهام عثمان، جاء هذا الوصف: إلي جانب المقصلة، يبيع جلاد خصلاً من شعره، ويشتري الناس الشريط الذي كان يعقصه به. كل إنسان يحمل قطعة من ثوبه أو تذكاراً مخضباً بالدماء لهذا المشهد المأساوي! كانت الحشود تسير متأبطة ذراع بعضها البعض وهي تتضاحك كأنها عائدة من مهرجان. لم يترك إعدام الملك أي انطباع، فتحت المسارح أبوابها كالمعتاد، وفرغت أباريق الحانات في الميدان الدموي، وعادت أصوات البائعين تنادي علي الكعك والفطائر حول الجثة المبتورة الرأس التي وضعت في سلة عادية كالتي توضع فيها رءوس المجرمين العاديين. وتم حملها إلي مدفن "مادلين" حيث غطيت بسخاء بالجير الحي حتي يستحيل علي كل ملوك أوروبا الحصول علي اصغر تذكار من رفاته.
الغريب أن تاريخ فرنسا المعاصر يذكر هذه المشاهد في شماتة ويري أن الأمة الفرنسية وقفت فريسة لنظام حكم ملكي ظالم ترك للنبلاء حق استعباد الشعب. والتعامل مع أفراده كما لو كانوا عبيداً. فكان لابد من القصاص.
المشهد الثاني هو الملكة ماري انطوانيت تحت المقصلة. حيث كانت عيناها ذنادراً - ما تنظران إلي الجماهير، فإذا بها تنظر بعمق ومن حولها القوي المسلحة المؤلفة من 30 ألف رجل. تحدثت الملكة إلي القس الجالس إلي جوارها في خنوع محتشمة دون أن يبدو عليها كرب أو اكتئاب. وصعدت سلم المشنقة بسرعة ونفاذ صبر، وحلت ناظريها في آسي وتأثر صوب حديقة (تويلري) مسرح مجدها الزائل. وفي الثانية عشرة والنصف، فصلت المقصلة رأسها عن جسدها. وحملها الجلاد والدماء تتدفق منها، ليعرضها علي حشود الجماهير الغفيرة المبتهجة - والملتفة حول أركان المشنقة الأربعة.
صحيح أن الثورة الفرنسية عادت لتلتهم أبناءها، فلقي روبسير الملقب بفتي الثورة الغر الثائر حتفه بذات المقصلة، وكذلك لقي آخرون نفس المصير، لكن يبقي أن الثورة طوت إجباراً - صفحة أسرة (بوربون) التي حكمت فرنسا والنمسا فترات غائرة في جسد أوروبا.
ورغم ذلك فإن فكرة الأسرة الواحدة التي تمتلك الثروات وتمارس بشكل أو بآخر (إقطاعاً من نوع خاص في ميادين كثيرة ظلت ملحماً من الطلائع المجتمعية في فرنسا إلي يومنا. فأسرة الزعيم شارل ديجول لا تزال ترفض الحياة السياسية والعسكرية الفرنسية بشباب يدين بالفضل للرجل (رقم واحد) وهو شارل ديجول الذي أسال لعاب شباب الأسرة عبر الأجيال المتعاقبة ليكون من بينهم من تحمل الراية بعده. لكن هذا الحال لا يرقي إلي مستوي (الإرث) لأن حكام اليوم يرون أن فرنسا لم تعد ملكية، ولعل هذا ما كان يعنيه الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي عندما سئل عما إذا كان يتعبر نفسه وريثاً للديجوليين عبر سابقة جاك شيراك فأجاب: أنا لست وريثاً لأحد، أو امتداد له، وفرنسا ليست ملكية.
لكن ذلك لم يمنع ابنه (من زوجته الأولي) من أن تنخرط في العمل العام - ويقود مجموعة من الشباب والكهول ضمن دوائر المحليات الانتخابية. ولكن لا يعرف مكان هذه الدوائر تعتبر "مراكز تدريب أولية لرجال السياسة في بداية مشوارهم العملي. وكادت تفقد رئاسة حي لاديفانس الشهير وابرز الأحياء المالية والاقتصادية في باريس لساركوزي الصغير، ووسط ضجيج إعلامي عن التوريث، بشكل أو بآخر، وعن الابن الذي يسير في نفس الطريق الذي سلكه الأب قبلاً، فوجئ الفرنسيون بأن ابن الرئيس ساركوزي يتعذر عن هذا الموقع السياسي الحساس. وتذكر صحيفة لوباريزيان بأن ساركوزي الصغير ينأي أن يجعل والده لبانه! في فم خصومه السياسيين يلوكونها ليل نهار. وهو ما يعني أن ضمن بطموحه السياسي من اجل أن تظهر صورة والده الرئيس خالية من العقوب. وهي رديئة ناضجة، لكنها لا تعني أن ساركوزي الصغير قد ضمن تماماً بطموحه السياسي، وإنما كل ما قام به هو عملية أرجاء، مفضلاً "شكلاً" من أشكال الكون أو البيات المؤقت.
والثابت عملاً أن الرئيس الفرنسي قد سعد كثيراً بقرار ابنه ووضع (موقفه) موضع الاعتبار والتقدير. وهو عكس حالة أخري عرفتها الحياة السياسية في زمن الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، الذي لم يتردد لحظة واحدة في إسناد ملف القارة الأفريقية لأبنه "كلود" الذي كان الحاكم والآمر الناهي في القارة السمراء، ويقال أن سياسة أفريقيا كان يرسمها هذا الشاب فارع الطول في مكتبه الواقع داخل دهاليز قصر الإليزية. ومعروف أن كلود ميتران كان تورط في أعمال كثيرة داخل القارة من بينها تجارة سلاح وسمسرة وعمولات. وكذلك إسقاط حكام وفرض حكام آخرين.
وكانت بعض الصحف الفرنسية تتحدث عن ميتران الابن في لغة أشبه بالنمر والفخر، لكن ميتران (الرئيس) لم يكن يلقي بالاً لها. كما كان الحال مع ابنته غير الشرعية (مازارين) حتي عشيقته التي فرض عليها حصاراً حتي أخيرات أيامه قبل أن يعترف ببنوتها حسبما نشرت مجلة باري ماتش في ذلك الحين.
يبقي أن تذكر أن أوروبا بشكل عام - وفرنسا علي وجه الخصوص لا تسعي إلي فرض نظام الأسر الحاكمة ويكاد تحرص علي تفاديه، وهي تعتز كثيراً بثورتها التي حكمت سجن الباستيل الكبير، ورفض من شأن الطبقات الفقيرة علي نحو ما أرخ ذلك فيكتور هوجو في قصة "البؤساء"، وهي تتعامل مع الظاهرة في لغوية إذا ما جاءت الأحداث بشكل طبيعي، لكن لا يمنع ذلك من استهجان عام من فكرة التوريث في السياسة حتي ولو جاء الأمر علي صورة طموح ابن يرغب في تقليد والده، وهو حق مشروع للأبناء الذين يرون أن من حقهم أن يقلدوا الأب في كثير من السلوكيات وهي حالة ساراكوزي الأب والابن. وإن لم يمنع ذلك بالاعتزاز بعراقة الأسر نوع ما وبممارسة أشكال من دنيا من الإقطاع - ليس بالضرورة الإقطاع السياسي. مثل تباهي البعض بأن اسم العائلة مسبوق بحرف (دي) في إشارة إلي أصله الذي يعود إلي طبقة النبلاء أو الأرستقراطيين ومثل عائلة "داسو" التي تحتكر- تقريباً - صناعة الطائرات وهو ما يعطيها سطوة وقوة نافذة تجعلها تؤثر في القرار السياسي الفرنسي. وهناك من يتحدث عن "إقطاع إعلامي" ويعني امتلاك بعض الأسر لأكبر نسبة من الأسهم في جرائد مثل فرناس سوار التي يقال أن عائلة داسو هي التي تمتلكها.
باختصار: أن الإقطاع السياسي الذي تجسده الأسر الحاكمة، هو آفة عانت منها أوروبا وفرنسا علي وجه الخصوص وظلت ترزح تحت وطأتها قروناً طويلة، لكنها قررت أن تضع حداً له فكانت ثورتها التي رفعت الشعار الشهير "حرية، أخاء، مساواة" ولا يقلل من إرادة الشعب في أن يمارس الديمقراطية وأن يحكم نفسه بنفسه عبر صناديق الاقتراع أن تكسر القاعدة إحدي الأسر في مجال الاقتصاد، أو أسرة أخري في المستويات الدنيا من السياسة
فالتاريخ يؤكد أن الشعوب، تتطلع دائماً إلي الأمام ولا تلتفت كثيراً إلي الوراء إلا بما يدعم الرؤية نحو المستقبل.
وأشهد أنني في كل مرة كنت أمر فيها أمام (قصر بوربون) وهو مقر البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) في باريس تقفز إلي ذهني صورة هذه الأسرة العريقة (أسرة بوربون) التي كانت ولعقود زمنية متتالية مستودعاً لمعظم حكام أوروبا خصوصاً في فرنسا والنمسا. ولا شك أن عظمة هذا القصر تعني ضمن ما تعني - "أن حكاماً" أفذاذ كانوا يسيطرون علي مقاليد السلطة في أرجاء بعض الدول الأوروبية القوية آنذاك.
ويؤكد نفر من المؤرخين أن تأثير هذا الإقطاع كان يتجاوز حدود القارة العجوز ويذهب إلي أن الحروب الصليبية التي اكتوي من نيرانها الشرق كانت في جانب منها نتاجاً للقيم والمفاهيم التي تحكم عقول هؤلاء الإقطاعيين.
وكان طبيعياً أن تؤدي الحروب التي تورطت فيها هذه الأسر الحاكمة ودفعت ثمنها أوروبا، ثم البذخ الذي كانت تعيش فيه، وضعف الملوك، وعجز الوزراء عن ضبط إيقاع الحياة السياسية. فضلاً عن تململ الطبقات الأرستقراطية وأنانيتها وجبروتها. كل ذلك أدي إلي انحدار دولة مثل فرنسا إلي حالة من الفوضي الاقتصادية تكررت كثيراً في دول مجاورة، وكان السبب الأول فيها انسلاخ الأسر الحاكمة عن الشعب، واعتمادها بدرجة أولي علي الأموال التي يتفنن بعض وزراء المالية في السطو عليها من جيوب الشعب. ولعل المثال الصارخ علي ذلك ما قام به المدعو (كالون) الذي كان مسئولاً عن المالية الفرنسية عندما اقترح فرض ضريبة عامة علي الأراضي والعقارات لا تستثني منها الطبقة الأرستقراطية نفسها، لكن لان معظم أبناء أسرة بوربون إلي جانب السادة النبلاء كانوا غارقين في الديون، لكان مستبعداً أن تلقي هذه الفكرة استحساناً، ولذلك سقط (كالون) ليخلفه (لوميني دي بريين) الذي عرض اقتراحات متشابهة علي البرلمانات المؤلفة من القضاة المكلفين بتسجيل المراسيم، والذين كان من حقهم الاعتراض علي القوانين في باريس وبعض البلاد الصغيرة ورفضت البرلمانات الاقتراحات وطالبت بانعقاد "مجلس الطبقات" وجاء ذلك علي هوي الطبقة الأرستقراطية لأن هذا المجلس كان يتألف من ثلاث هيئات منتخبة تمثل إحداها الاكليروس وتمثل الثانية النبلاء والثالثة تمثل الشعب. وحيث كانت طبقة رجال الكنيسة (الاكليروس) خاضعة لسيطرة النبلاء الذين يتقلدون المناصب الرفيعة في الكنيسة لقاء الخدمات التي يقدمونها، فقد كانت الطبقتان علي يقين دائم من الحصول علي أغلبية الأصوات.
وهكذا، وجد الشعب نفسه ضحية لأسرات تحكم، ونظام حكم (أجوف) يحرص علي الشكل دون المضمون.
وربما هذا الحال الخانق هو الذي ساعد في تفاقم الأوضاع ومهد - فعلاً "لا قولاً" - للثورة حيث ملأ الخطباء المقاهي، خصوصاً تلك المحيطة بالقصر الملكي (باليه رويال) وكانت الجماهير تحتشد علي أبواب هذه المقاهي ونوافذها لتستمع في شغف إلي بعض هؤلاء الخطباء الذين كانوا يخاطبون جماهيرهم من فوق المقاعد والمناضد.
ويذكر كتاب باريس في سنوات الثورة لمؤلفه راي تاناهيل أن العيش بات عسيراً، فلقد بلغ رغيف وزنه أربعة أرطال حوال 14.5سو وهو العملة الفرنسية التي كانت سائدة آنذاك وتعادل خمسة سنتيمات. بينما لا يتجاوز صافي الأجر اليومي لعامل البناء (18سو).
كان هذا الواقع سبباً إضافياً اقتنع العامة في باريس بأن الأرستقراطيين قد أوشكوا علي سحقهم تحت نعالهم القرمزية.
والحديث عن الخبز في باريس يذكر - علي الفور - بثورة الجياع التي عكرت صفو الملكة ماري أنطوانيت فسألت في دهشة عن سبب المظاهرات التي تحيط بقصر فرساي حيث كانت تقيم، فقيل لها: أن الشعب يطالب بالخبز، وهو يبحث عنه فلا يجده! فقالت قولتها الشهيرة" إذا لم يجد خبزاً فليأكل الجاتوه!
وفي كل الأحوال لقد بلغت نغمة الشعب الفرنسي حدها الأقصي فأتجه من فورة نحو سجن الباستيل وقام بتحطيمه في مشهد خارق لا تزال تحتفظ به الذاكرة الإنسانية ليسدل بعدها علي أسرة بوربون الحاكمة. ويبدأ عصر آخر.
ويروي أن مجموعة قوامها حوالي أربعين فرداً قد تقدمت وفتحت، لهم البوابة الرئيسية للسجن، ولكن سرعان ما رفع الجسر المتحرك وذبحت المجموعة بأكملها علي الفور. فزاد تفاقم الأوضاع. وطالب الشعب بالثأر، وسرعان ما وجه الحشد مدافعه صوب البوابة وفتحوا فجوة فيها اقترنت بروح السخط التي سادت الموقف وأدت إلي استسلام الحصن علي الفور.
ولاستكمال هذه المشاهد التي أعلن فيها الشعب الفرنسي رفضه للأسرة الحاكمة، والإقطاع وطبقة النبلاء، والأرستقراطية المتغطرسة لابد من التوقف أمام مشهدين:
الأول، هو مقتل الملك لويس التاسع عشر الذي كانت حاشيته تعتقد انه الملك الإله، فبعد أن تم توجيه التهمة إليه بالخيانة العظمي ضد الأمة، كان لابد من سوقه نحو المشنقة. ويذكر تاريخ الثورة وصفاً دقيقاً كالآتي:
تدفقت دماء الملك، وشقت صيحات الفرح الصادرة من 180 ألف رجل مسلح عنان السماء. وترددت الصيحات علي طول الأرصفة. وكان الناس يغمسون أطراف أصابعهم وقطع الورق في دمائه، ويتذوقها واحد ليقول: دمه كالح كريه.
وفي كتاب باريس في سنوات الثورة الذي ترجمه إلهام عثمان، جاء هذا الوصف: إلي جانب المقصلة، يبيع جلاد خصلاً من شعره، ويشتري الناس الشريط الذي كان يعقصه به. كل إنسان يحمل قطعة من ثوبه أو تذكاراً مخضباً بالدماء لهذا المشهد المأساوي! كانت الحشود تسير متأبطة ذراع بعضها البعض وهي تتضاحك كأنها عائدة من مهرجان. لم يترك إعدام الملك أي انطباع، فتحت المسارح أبوابها كالمعتاد، وفرغت أباريق الحانات في الميدان الدموي، وعادت أصوات البائعين تنادي علي الكعك والفطائر حول الجثة المبتورة الرأس التي وضعت في سلة عادية كالتي توضع فيها رءوس المجرمين العاديين. وتم حملها إلي مدفن "مادلين" حيث غطيت بسخاء بالجير الحي حتي يستحيل علي كل ملوك أوروبا الحصول علي اصغر تذكار من رفاته.
الغريب أن تاريخ فرنسا المعاصر يذكر هذه المشاهد في شماتة ويري أن الأمة الفرنسية وقفت فريسة لنظام حكم ملكي ظالم ترك للنبلاء حق استعباد الشعب. والتعامل مع أفراده كما لو كانوا عبيداً. فكان لابد من القصاص.
المشهد الثاني هو الملكة ماري انطوانيت تحت المقصلة. حيث كانت عيناها ذنادراً - ما تنظران إلي الجماهير، فإذا بها تنظر بعمق ومن حولها القوي المسلحة المؤلفة من 30 ألف رجل. تحدثت الملكة إلي القس الجالس إلي جوارها في خنوع محتشمة دون أن يبدو عليها كرب أو اكتئاب. وصعدت سلم المشنقة بسرعة ونفاذ صبر، وحلت ناظريها في آسي وتأثر صوب حديقة (تويلري) مسرح مجدها الزائل. وفي الثانية عشرة والنصف، فصلت المقصلة رأسها عن جسدها. وحملها الجلاد والدماء تتدفق منها، ليعرضها علي حشود الجماهير الغفيرة المبتهجة - والملتفة حول أركان المشنقة الأربعة.
صحيح أن الثورة الفرنسية عادت لتلتهم أبناءها، فلقي روبسير الملقب بفتي الثورة الغر الثائر حتفه بذات المقصلة، وكذلك لقي آخرون نفس المصير، لكن يبقي أن الثورة طوت إجباراً - صفحة أسرة (بوربون) التي حكمت فرنسا والنمسا فترات غائرة في جسد أوروبا.
ورغم ذلك فإن فكرة الأسرة الواحدة التي تمتلك الثروات وتمارس بشكل أو بآخر (إقطاعاً من نوع خاص في ميادين كثيرة ظلت ملحماً من الطلائع المجتمعية في فرنسا إلي يومنا. فأسرة الزعيم شارل ديجول لا تزال ترفض الحياة السياسية والعسكرية الفرنسية بشباب يدين بالفضل للرجل (رقم واحد) وهو شارل ديجول الذي أسال لعاب شباب الأسرة عبر الأجيال المتعاقبة ليكون من بينهم من تحمل الراية بعده. لكن هذا الحال لا يرقي إلي مستوي (الإرث) لأن حكام اليوم يرون أن فرنسا لم تعد ملكية، ولعل هذا ما كان يعنيه الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي عندما سئل عما إذا كان يتعبر نفسه وريثاً للديجوليين عبر سابقة جاك شيراك فأجاب: أنا لست وريثاً لأحد، أو امتداد له، وفرنسا ليست ملكية.
لكن ذلك لم يمنع ابنه (من زوجته الأولي) من أن تنخرط في العمل العام - ويقود مجموعة من الشباب والكهول ضمن دوائر المحليات الانتخابية. ولكن لا يعرف مكان هذه الدوائر تعتبر "مراكز تدريب أولية لرجال السياسة في بداية مشوارهم العملي. وكادت تفقد رئاسة حي لاديفانس الشهير وابرز الأحياء المالية والاقتصادية في باريس لساركوزي الصغير، ووسط ضجيج إعلامي عن التوريث، بشكل أو بآخر، وعن الابن الذي يسير في نفس الطريق الذي سلكه الأب قبلاً، فوجئ الفرنسيون بأن ابن الرئيس ساركوزي يتعذر عن هذا الموقع السياسي الحساس. وتذكر صحيفة لوباريزيان بأن ساركوزي الصغير ينأي أن يجعل والده لبانه! في فم خصومه السياسيين يلوكونها ليل نهار. وهو ما يعني أن ضمن بطموحه السياسي من اجل أن تظهر صورة والده الرئيس خالية من العقوب. وهي رديئة ناضجة، لكنها لا تعني أن ساركوزي الصغير قد ضمن تماماً بطموحه السياسي، وإنما كل ما قام به هو عملية أرجاء، مفضلاً "شكلاً" من أشكال الكون أو البيات المؤقت.
والثابت عملاً أن الرئيس الفرنسي قد سعد كثيراً بقرار ابنه ووضع (موقفه) موضع الاعتبار والتقدير. وهو عكس حالة أخري عرفتها الحياة السياسية في زمن الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، الذي لم يتردد لحظة واحدة في إسناد ملف القارة الأفريقية لأبنه "كلود" الذي كان الحاكم والآمر الناهي في القارة السمراء، ويقال أن سياسة أفريقيا كان يرسمها هذا الشاب فارع الطول في مكتبه الواقع داخل دهاليز قصر الإليزية. ومعروف أن كلود ميتران كان تورط في أعمال كثيرة داخل القارة من بينها تجارة سلاح وسمسرة وعمولات. وكذلك إسقاط حكام وفرض حكام آخرين.
وكانت بعض الصحف الفرنسية تتحدث عن ميتران الابن في لغة أشبه بالنمر والفخر، لكن ميتران (الرئيس) لم يكن يلقي بالاً لها. كما كان الحال مع ابنته غير الشرعية (مازارين) حتي عشيقته التي فرض عليها حصاراً حتي أخيرات أيامه قبل أن يعترف ببنوتها حسبما نشرت مجلة باري ماتش في ذلك الحين.
يبقي أن تذكر أن أوروبا بشكل عام - وفرنسا علي وجه الخصوص لا تسعي إلي فرض نظام الأسر الحاكمة ويكاد تحرص علي تفاديه، وهي تعتز كثيراً بثورتها التي حكمت سجن الباستيل الكبير، ورفض من شأن الطبقات الفقيرة علي نحو ما أرخ ذلك فيكتور هوجو في قصة "البؤساء"، وهي تتعامل مع الظاهرة في لغوية إذا ما جاءت الأحداث بشكل طبيعي، لكن لا يمنع ذلك من استهجان عام من فكرة التوريث في السياسة حتي ولو جاء الأمر علي صورة طموح ابن يرغب في تقليد والده، وهو حق مشروع للأبناء الذين يرون أن من حقهم أن يقلدوا الأب في كثير من السلوكيات وهي حالة ساراكوزي الأب والابن. وإن لم يمنع ذلك بالاعتزاز بعراقة الأسر نوع ما وبممارسة أشكال من دنيا من الإقطاع - ليس بالضرورة الإقطاع السياسي. مثل تباهي البعض بأن اسم العائلة مسبوق بحرف (دي) في إشارة إلي أصله الذي يعود إلي طبقة النبلاء أو الأرستقراطيين ومثل عائلة "داسو" التي تحتكر- تقريباً - صناعة الطائرات وهو ما يعطيها سطوة وقوة نافذة تجعلها تؤثر في القرار السياسي الفرنسي. وهناك من يتحدث عن "إقطاع إعلامي" ويعني امتلاك بعض الأسر لأكبر نسبة من الأسهم في جرائد مثل فرناس سوار التي يقال أن عائلة داسو هي التي تمتلكها.
باختصار: أن الإقطاع السياسي الذي تجسده الأسر الحاكمة، هو آفة عانت منها أوروبا وفرنسا علي وجه الخصوص وظلت ترزح تحت وطأتها قروناً طويلة، لكنها قررت أن تضع حداً له فكانت ثورتها التي رفعت الشعار الشهير "حرية، أخاء، مساواة" ولا يقلل من إرادة الشعب في أن يمارس الديمقراطية وأن يحكم نفسه بنفسه عبر صناديق الاقتراع أن تكسر القاعدة إحدي الأسر في مجال الاقتصاد، أو أسرة أخري في المستويات الدنيا من السياسة
فالتاريخ يؤكد أن الشعوب، تتطلع دائماً إلي الأمام ولا تلتفت كثيراً إلي الوراء إلا بما يدعم الرؤية نحو المستقبل.