تولي أمير المؤمنين (عليه السلام) لزعامة المسلمين
مرسل: الأحد ديسمبر 08, 2013 5:29 pm
تولي أمير المؤمنين (عليه السلام) لزعامة المسلمين سياسياً وادارياً بعد مقتل عثمان، الا ان أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما تولى الخلافة بعد مقتل عثمان، اراد ان يشرح للمسلمين بطريقته الخاصة، ان المسألة ليست بالنسبة اليه تبديل شخص بشخص آخر، وليست مسألة فارق اسمي بين زعيم الأمس وزعيم اليوم، وانما المسألة هي مسألة اختلاف شامل كامل للمنهج، وفي كل القضايا المطروحة.
الا انه لعلاجها وتصفيتها، كان يريد ان يبين للمسلمين ضرورة ان ينظر اليه بوصفه قائماً على الخط، وقيماً على المنهج وأميناً على الرسالة. وعنواناً لدستور جديد، يختلف عن الوضع المنحرف القائم بعد وفاة النبي (صلى الله علية وآله وسلم).
لأجل هذا امتنع عن قبوله الخلافة أول الأمر، فقال لهم فكروا في غيري، واتركوني وزيراً لمن تستخلفونه، فانا لكم وزير خير مني أمير، يعني على مستوى حياة الدعة والكسل، على مستوى الرخاء واليسر، على مستوى الحياة الفارغة من المسؤولية، على مستوى هذه الحياة انا وزير خير مني امير، لاني حينما اكون اميراً سوف ارهقكم، سوف اتعبكم سوف افتح امامكم أبواب مسؤوليات كبرى تجعل ليلكم نهارا، وتجعل نهاركم ليلاً، هذه الهموم التي تجعلكم دائماً وابداً تعيشون مشاكل الامة في كل ارجاء العالم الاسلامي، هذه الهموم التي سوف تدفعكم الى حمل السلاح - من دون حاجة مادية - لاجل تطهير الارض الاسلامية من الانحراف الذي قام عليها...؟
اتركوني وزيراً أكون أفضل لكم على مستوى هذه الحياة مني وانا امير، لأني كوزير لا املك ان ارسم الخط، أو أن أضع المخطط، وانما انصح واشير.
وحينئذ يبقى الوضع الذي كان بعد وفاة النبي (صلى الله علية وآله وسلم)مستمراً، اصروا عليه بان يقبل الخلافة، ففرض عليهم الشروط فقبلوها اجمالاً دون ان يسألوه التوضيح، اعطاهم فكرة عن ان عهده هو عهد منهج جديد للعمل السياسي والاجتماعي والاداري، فقبلوا هذا العهد، وكان هذا سبباً في ان ينظر المسلمون من اللحظة الأولى، الى أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بوصفه نقطة تحول في الخط الذي وجد بعد النبي (صلى الله علية وآله وسلم)، لا بوصفه مجرد خليفة، فانتعشت مع هذا العهد الجديد آمال كثيرة.
وحينما بويع علي (عليه السلام) ، كانت اكثر الصعاب التي واجهها بعد بيعته، هو انشقاق معاوية وتخلف الشام بكامله لابن ابي سفيان عن الانضمام الى بيعته. هذا التناقض، شق المجتمع الاسلامي في الدولة الاسلامية الى شقين، ووجد في كل منهما جهاز سياسي واداري لايعترف بالآخر. ومنذ البدء، كان هناك فوارق موضوعية واضحة، بين وضع علي بن أبي طالب (عليه السلام) السياسي والاداري، ووضع معاوية السياسي والاداري، تجعل هذه الفوارق معاوية، احسن موقفاً واثبت قدماً، واقدر على الاستمرار في خطه من امام الاسلام (عليه السلام) .
هذه الفوارق الموضوعية لم يصنعها الامام (عليه السلام) وانما كانت نتيجة تاريخ:
فأولاً: كان معاوية يستقل باقليم من اقاليم الدولة الاسلامية، ولم يكن لعلي أي رصيد او قاعدة شعبية في ذلك الاقليم على الاطلاق، لأن هذا الاقليم، قد دخل في الاسلام بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)وانعزال علي عن خط العمل، وكان هذا الاقليم، قد دخل ودشن حياته الاسلامية بولاية يزيد أخي معاوية، ثم بعد بولاية معاوية، وعاش الاسلام من منظار آل أبي سفيان، ولم يسمع لعلي (عليه السلام) ، ولم يتفاعل مع الوجود الاسلامي والعقائدي، هذا الامام العظيم لم يكن يملك شعاراً له رصيد او قاعدة شعبية في المجتمع الذي تزعمه معاوية، وحمل لواء الانشقاق فيه، في حين، العكس فان شعار معاوية كان يملك رصيداً قوياً وقاعدة قوية في المجتمع الذي تزعمه الامام (عليه السلام) لأن معاوية، كان يحمل شعار الخليفة القتيل، والمطالبة بدمه والخليفة هذا كان أمير المجتمع الذي تزعمه علي (عليه السلام) ، وكان لهذا الخليفة القتيل اخطبوط في هذا المجتمع وقواعد. وهكذا كان شعار ابن أبي سفيان يلتقي مع وجود قاعدة ورصيد في داخل محتمع أمير المؤمنين (عليه السلام) بينما لم يكن شعار علي يلتقي مع قاعدة ورصيد في داخل مجتمع معاوية.
وثانياً: كانت طبيعة المهمة تميز معاوية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصفه الحاكم الشرعي، والمسؤول عن الأمة الاسلامية كان يريد ان يقضي على هذا الانشقاق الذي وجد في جسم الأمة الاسلامية وذلك بشخصية هؤلاء المنحرفين، واجبارهم بالقوة على انضمامهم الى الخط الشرعي، وكان هذا يستدعي الدخول في الحرب، التي تفرض على علي (عليه السلام) الطلب من العراقي ان يخرج من العراق، تاركاً امنه ووحدته واستقراره، ومعيشته ورخائه، ليحارب اناساً شاميين لم يلتق معهم بعداوة سابقة، وانما فقط بفكرة ان هؤلاء انحرفوا، ولا بد من اعادة ارض الشام للمجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية، فكان موقف علي (عليه السلام) يتطلب ويفترض ويطرح قضية الهجوم. على اناس لا يملكون - في غالبيتهم - الوعي لخطورة تراخيهم على قمع هذا الانحراف، انطلاقاً من عدم استيعابهم لابعاده؟!
في حين ان معاوية بن أبي سفيان، يكتفي من تلك المرحلة، بأن يحافظ على وجوده في الشام، ولم يكن يفكر (مادام أمير المؤمنين) ان يهاجم أمير المؤمنين، وان يحارب العراق ويضم العراق الى مملكته، وانما كان يفكر فقط، في ان يحتفظ بهذا الثغر من الثغور للمسلمين، حتى تتهيأ له الفرص والمناسبات والظروف الموضوعية، بعد ذلك يتآمر على الزعامة المطلقة في كل ارجاء العالم الاسلامي. فمعاوية لم يكن يقول للشامي، اترك استقرارك ووحدتك، واذهب الى العراق محارباً، لأن هذا الشخص خارج عن طاعتي، ولكن كان علي (عليه السلام) يقول هذا للعراقي، لان علياً (عليه السلام) كان يحمل بيده مسؤولية الامة ، ومسؤولية اعادة وحدة المجتمع الاسلامي، بينما كان كل مكسب معاوية وهمّه او قصارى امله، ان يحافظ على هذا الانشقاق ويحافظ على هذه التجزئة التي اوجدها في جسم المجتمع الاسلامي. وشتان بين قضية الهجوم حينما تطرح وقضية الدفاع.
وثالثاً كان هناك فرق آخر بين معاوية والامام (عليه السلام) وهو ان معاوية، كان يعيش في بلد لم يكن قد نشأت فيه زعامات سياسية طامحة الى الحكم والسلطان من ناحية ولم يكن فيه اناس ذوو سابقة في الاسلام، ممن يرى لنفسه الحق ان يساهم في التخطيط وفي التقدير، وفي حساب الحاكم، وفي رسم الخط، لم يكن هكذا، الشام اسلمت على يد معاوية واخيه، كلهم كانوا نتيجة لإِسلام معاوية ولإِسلام اخي معاوية، ولإِسلام من استخلف معاوية على الشام ولم يكن قد مني بتناقضات من هذا القبيل.
اما علي (عليه السلام) كان يعيش في مدينة الرسول (صلى الله علية وآله وسلم)كان يعيش في حاضرة الاسلام الاولى التي عاش فيها الرسول (صلى الله علية وآله وسلم)وعاش بعد ذلك ابو بكر، وعاش بعد ذلك عمر وعثمان، حتى قتلا، ومن ناحية كان يواجه كثيراً ممن يرون ان من حقهم ان يساهموا في التخطيط ، وان يشتركوا في رسم الخط، كان يواجه علي (عليه السلام) اشخاصاً كانوا يرونه نداً لهم، غاية الامر انه ند افضل، ند مقدم، لكنهم صحابة كما انه هو صحابي عاش مع النبي (صلى الله علية وآله وسلم) وعاشوا مع النبي (صلى الله علية وآله وسلم).
طبعاً اننا نعلم ايضاً، بان خلافة علي كانت بعد وفاة النبي (صلى الله علية وآله وسلم)بعشرين سنة، وهذا معناه، ان ذلك الامتياز الخاص الذي كان يتمتع به امير المؤمنين في عهد الرسول (صلى الله علية وآله وسلم)كالنجم لا يطاول، ذاك الامتياز الخاص كان قد انتهى مفهومه وتضاءل أثره في نفوس المسلمين، الناس عاشوا عشرين سنة يرون علياً مأموماً، يرونه منقاداً، يرونه جندياً بين يدي أمير هذا الاحساس النفسي خلال عشرين سنة اذهب تلك الآثار التي خلفها عهد النبوة، وهكذا كان علي (عليه السلام) يُنظر اليه بشكل عام، عند الصحابة الذين ساهموا في حل الامور وعقدها وكانوا يمشون في خط السقيفة، هؤلاء الصحابة الذين قدموا للاسلام في صدر حياتهم، وكانوا قد قدر لهم بعد هذا ان يمشوا في خط الانحراف وفي خط السقيفة، هؤلاء كانوا ينظرون الى علي الأخ الأكبر، الزبير صحيح كان يخضع لعلي (عليه السلام) لكن كان يخضع له كالاخ الاكبر لا يرى ان اسلامه مستمد منه، هذه الحقيقة الثانية الثابتة التي كانت واضحة على عهد النبي (صلى الله علية وآله وسلم)حُرفت خلال عهد الانحراف، خلال عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولهذا كان الزبير يعترف بأن علياً افضل منه، لكنه لا يرى نفسه مجرد آلة ومجرد تابع يجب ان يؤمر فيطيع، فكان هناك اناس من هذا القبيل، هؤلاء يريدون ان يشتركوا في التخطيط ويشتركوا في رسم الخط، في ظرف هو ادق ظرف وابعده عن عقول هؤلاء القاصرين.
رابعاً كانت توجد هناك الاطماع السياسية والاحزاب السياسية التي تكونت في عهد ابن الخطاب، واستفحلت بعده نتيجة للشورى، هذه الاحزاب السياسية كان يفكر في امرها ويفكر في مستقبلها ويفكر في انه كيف يستفيد اكبر قدر ممكن من الفائدة في خضم هذا التناقض، وهذا بخلاف معاوية لم يكن قد مني بصحابة أجلاء يعاصرونه ويقولون له نحن صحابة كما انت صحابي، بل كل اهل الشام مسلمون نتيجة لاسلامه واسلام اخيه، لم ير احد منهم رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)ولم يسمع احد القرآن الا عن طريق معاوية، اذن كانت حالة الاستسلام في المجتمع الشامي بالنسبة اليه لا يوجد ما يناظرها بالنسبة الى الامام (عليه السلام) في مجتمع المدينة والعراق.
خامساً: كان هناك فرق آخر بين الامام (عليه السلام) ومعاوية، وحاصل هذا الفرق هو ان الامام (عليه السلام) كان يتبنى قضية هي في صالح الاضعف من افراد المجتمع، وكان معاوية يتبنى قضية هي في صالح الاقوى من افراد المجتمع، أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يتبنى الاسلام بما فيه من قضايا العدالة الاجتماعية التي يمثلها النظام الاقتصادي للاسلام، وهذه القضايا لم تكن في صالح الاقوى، بل كانت في صالح الاضعف، ومعاوية كان يمثل الجاهلية بفوارقها وعنفوانها وطبقاتها، وهذا لم يكن في صالح الاضعف بل كان في صالح الاقوى، وذلك انه بعد رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)حينما دخل العراق والشام وبقية البلاد في داخل المجتمع الاسلامي، لم يقدر الخلفاء الذين تزعموا زعامة المسلمين على تذويب التنظيم القبائلي الذي كان موجوداً في هذه البلاد، بل بقي التنظيم القبائلي سائداً وبقي زعيم كل قبيلة هو الشخص الذي يرتبط كهمزة الوصل بين قبيلته وبين السلطان. وهذا التنظيم القبائلي بطبيعته، يخلق جماعة من الزعماء ومن شيوخ هذه القبائل الذين لم يربِّهم الاسلام في المرتبة السابقة ولم يعيشوا ايام النبوة عيشاً صحيحاً مما جعل من هؤلاء طبقة معينة ذات مصالح، وذات اهواء وذات مشاعر في مقابل قواعدها الشعبية مما يوفر لهم اسباب النفوذ والاعتبار.
الآن تصوروا مجتمعاً اسلامياً تركه الخلفاء المنحرفون وهو يعم بالتقسيمات القبلية بمعنى ان كل قبيلة كانت تخضع ادارياً وسياسياً لزعامة تلك القبيلة التي تشكّل كما قلنا همزة وصل بين القبيلة وبين الحاكم الذي يسهل عليه ان يرشي رؤساء هذه القبائل بقدر الامكان وهذا ما كان يفعله غير علي (عليه السلام) من الحكام وكان عاملاً من عوامل القوة بالنسبة الى معاوية، هذه الظروف الموضوعية لم يصنعها الامام (عليه السلام) وانما هي صنعت خلال التاريخ وأوجدت لمعاوية مركزاً قوياً ووجد للإِمام مركز ضعف ولولا براعة التضحية وكفاءته الشخصية ورصيده الروحي في القطاعات الشعبية الخاصة الواسعة، لولا ذلك لما استطاع (عليه السلام) ان يقوم بما مرّ به نفسه من حروب داخلية خلال اربع سنوات...
هكذا بدأ الامام بخلافته ودشن عهده، وبدأ الانقسام مع هذا العهد على يد معاوية بن أبي سفيان، واخذ الامام يهيئ المسلمين للقيام بمسؤولياتهم الكبيرة للقيام بدورهم في تصفية الحسابات السابقة، في تصفيتها على مستوى مالي، على المستوى الاقتصادى، على المستوى الاجتماعي على المستوى السياسي والاداري ايضاً، كل ذلك كان يحتاج الى الكفاح والقتال فأخذ يدعو الناس الى القتال وخرجوا إليه فعلاً. لقد درسنا الى هنا علياً مع معاوية بحسب ظروفه الموضوعية، فلا بد وان ندرس الذهنية العامة للمسلمين ايضاً، كيف كان يفسر هذا الخلاف الموجود بين علي ومعاوية.
الذهنية العامة للمسلمين بدأت تفسر هذا الخلاف، بأنه بين خط خلافة راشدة، وبين شخص يحاول الخروج على هذه الخلافة، كانوا ينظرون الى علي بشكل عام على انه هو الخليفة الراشد، الذي يريد ان يحافظ على الاسلام، ويحافظ على خط القرآن في حين ان معاوية يحاول ان يتأمر هذا المفهوم. استطاع أمير المومنين (عليه السلام) ان يثبت هذا الانطباع، بالرغم من كل الظروف الموضوعية التي قلناها، في ذهن القاعدة الشعبية الواسعة، في كل ارجاء العالم الاسلامي، عدا القطر الذي كان يرتبط بمعاوية، وهذه الذهنية هي التي كانت تصبغ المعركة بين علي ومعاوية بطابع الرسالة، كأن تعطيه معنى رسالياً. وكانت تفسر هذه المعركة بأنها معركة بين الجاهلية، بين فكرين، بين هدفين، وليست بين زعامتين وشخصيتين، الا ان الامر تطور الى الأسوأ حيث إن المسلمين بدأوا يشكون شكاً واسع النطاق، بأن المعركة بين امير المؤمنين (عليه السلام) وبين معاوية بن ابي سفيان معركة رسالية.
من الصعب جداً ان نتصور انه كيف يمكن للمسلمين ان يشكوا في ان المعركة القائمة بين امام الورع والتقى والعدالة، وبين شخص خائن جاهلي منحرف عدو رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)كانت معركة رسالية إلا اني لا اشك في ان عدداً كبيراً من المسلمين على مر الزمن في عهد خلافة امير المؤمنين بدأ يشك في ان هذه المعركة أهي رسالية حقيقية او غير رسالية وهنا يجب ان نعرف ان المسلمين الذين شكوا من هم. انهم اولئك الذين عرفناهم عقيب وفاة الرسول (صلى الله علية وآله وسلم)، هم اولئك المسلمون الذين خلفهم الرسول فكانت خير امة اخرجت للناس، على مستوى ايمانهم وطاقتهم الحرارية واشعاعهم وشحنهم من النبي (صلى الله علية وآله وسلم)بشخص المبادئ التي طرحها (صلى الله علية وآله وسلم)، ولكن لم يكن لهم من الوعي العقائدي الراسخ الا شيء قليل، هذا المعنى شرحناه وبيناه وبينا جهاته وقلنا ان الامة لم تكن على مستوى الوعي وإنما كانت على مستوى الطاقة الحرارية، اذن فنحن سوف لن نتوقع فيها ان تبقى مشتعلة، وتبقى على جذوتها وحرارتها بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)، يبقى هذا ايضاً غير منطقي، اذن يجب ان نفكر في ان هذه الطاقة الحرارية قد تضاءلت بدرجة كبيرة وحتى تلك الصبابة من الوعي تلك الجذور من الوعي التي كان رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)قد بدأ بها كي يواصل بعد هذا خلفاؤه المعصومون عملية توعية الامة، حتى تلك البذور قد فتتت، واخفقت ومنع بعضها عن الاثمار، وبقي بعضها الآخر بذوراً منقسمة ايضاً. وحينما نتصور الامة الاسلامية بهذا الشكل، من ناحية اخرى يجب ان نتصور مفهوم المسلمين عن معاوية، نحن الآن ننظر الى معاوية بعد ان استكمل خطه من الدنيا، وبعد ان دخل الكوفة وصعد على منبر علي بن ابي طالب (عليه السلام) وقال اني لم احاربكم لكي تصوموا او تصلوا وانما حاربتكم لان أتأمر علكيم، بعد ان اعلن بكل صراحة ووقاحة عن هدفه، وبعد ان طرح بكل برودة شعار الخليفة المظلوم وشعار الخليفة القتيل، دخل عليه اولاد عثمان بن عفان وقالوا له: لقد جعلنا هذا الامر وتم الامر لك يا امير المؤمنين، فما بالك لا تقبض على قتلة ابينا، قال: أولاً يكفيكم انكم صرتم حكام المسلمين.
نحن ننظر الى معاوية بعد ان ارتكب الفظائع وغير احكام الشريعة وأبدع في السنة، ننظر الى معاوية بعد ان استخلف يزيد ابنه على امور المسلمين، وبعد ان قتل مئات من الابرار والاخيار، ننظر الى معاوية بعد ان تكشفت اوضاعه، لكن فلنفرض ان شخصاً ينظر الى معاوية قبل ان تكشف له هذه الاوضاع، لنفترض ان اولئك الاشخاص يعيشون في اطار الامة الاسلامية وقتئذ - ،معاوية ماذا كان يكشف عن اوضاعه وقتئذ على المسلمين، الذين كانوا يدورون في فلك السقيفة، وحكومات السقيفة، ماذا كان من اوراق معاوية مكشوفاً وقتئذ؟ كان معاوية شخصاً قد مارس عمله الاداري والسياسي بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)بأقل من سنة، خرج الى المدينة وذهب الى الشام كعامل عليها، وبقي معاوية هناك مدللاً محترماً معززاً من قبل ابن الخطاب، الذي كان ينظر اليه بشكل عام في المجتمع الاسلامي، بنظرة الاحترام والتقدير، حتى ان عمر بن الخطاب، حينما اراد ان يؤدب ولاته، استثنى معاوية من هذا التأديب، وحينما اراد ان يقاسم اموال ولاته استثنى معاوية من ذلك؟! فمعاوية كان والياً موثوقاً به معززاً من الناحية الاسلامية عند ابن الخطاب، وبعد هذا جاء عثمان فوسع من نطاق ولاية معاوية، وضم اليه عدة بلاد اخرى، اضافة الى الشام، ولم يطرأ أي تغيير في ابن أبي سفيان، فمعاوية لم يكن شخصاً مكشوفاً بل كان شخصاً عنوانه الاجتماعي انه حريص على كرامة الاسلام، وانه هو الشخص الذي استطاع ان يدخل في قلب الخليفة الخشن الذي يعاتب ويعاقب، الذي كان يضرب ابنه بحد الخمر حتى يموت، هذا الخليفة لم يضرب معاوية، ولم يعاقبه، معاوية كان نتيجة الترويجات من قبل الحكام والخلفاء المنحرفين، وكان يتمتع بسمعة طيبة وبمفهوم طيب، هنا دخل الصراع لاول مرة شعار الأخذ بالثأر لدم عثمان، هذا الشعار الذي أخذه معاوية وكان يبدو للبسطاء من الناس وكثير من المغفلين، كان شعاراً له وجهة شرعية، كان يقول بأن عثمان قتل مظلوماً، وعثمان بالرغم من انه خان الامانة من استهزاء بالاسلام، وبالرغم من انه صير الدولة الاسلامية الى دولة عشيرة وقبيلة، وبالرغم من انه ارتكب الجرائم
التي ادنى عقابها القتل، بالرغم من هذا، ابن أبي سفيان يقول: قتل عثمان مظلوماً. وليس هناك من يعرف بأن عثمان يستحق القتل، كثير من الناس البسطاء ايضاً يقولون: عثمان قتل مظلوماً. فلا بد من القصاص، فيا علي ان كنت قادراً فاعطنا قاتليه، وان كنت عاجزاً، فانت عاجز عن ان تطبق احكام الاسلام فاعتزل الحكم لان الخليفة يشترط فيه القدرة على تطبيق احكام الاسلام.
هذا هو الشعار الذي ابرزه معاوية في مقابل الامام (عليه السلام) ، والامام (عليه السلام) في مقابل هذا الشعار لم يكن يريد بأن يصرح بأن عثمان كان جديراً بأن يقتل، او كان يجب ان يقتل، لانه لو صرح بهذا، لتعمق اتهام معاوية وطّور التهمة من قول اعطني، الى قول: انك قتلت عثمان، فبقي شعار معاوية شعاراً مضللاً الى حد كبير.
ثم لا بد وان نلاحظ الجهود والأتعاب والتضحيات التي قام بها المسلمون في كنف علي (عليه السلام) لا ادري هل ان احداً جرّب او لم يجرب هذا الايحاء النفسي، حينما تكون المهمة صعبة على الانسان وثقيلة، حينئذ توسوس له نفسه بالتشكيك في هذه المهمة بمختلف التشكيكات، فحينما يصعب عليه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حينئذ يأخذ بالوسوسة، من قال بأن هذا الرجل مبطل، من قال انه قادر على هذا الكلام من قال ان شروط الامر بالمعروف تامة، وهكذا يوسوس لاجل ان يستريح من هذه المهمة، لأجل ان يلقي عن ظهره هذا العبء الكبير، كل انسان يميل بطبعه الى الدعة، الى الكسل الى الراحة الى الاستقرار، فاذا وضعت امامه مهام كبيرة، حينئذ، اذا وجد مجالاً للشك في هذه المهمة فسوف يكون عنده دافع نفسي الى ان يشك، يشك لاجل ان يريد ان يشك ويشك لاجل انه من مصلحته ان يشك، وهذا كان موجوداً على عهد الامام (عليه السلام) .
العراقيون قدموا من التضحيات شيئاً كثيراً بذلوا اموالهم ونفوسهم ودماءهم في حروب ثلاثة، آلاف من العراقيين ماتوا وقتلوا، عشرات من الاطفال يتموا آلاف من النساء اصبحن ارامل، آلاف من البيوت والعوائل تهدمت، كثير من المدن والقرى غارت عليها جيوش معاوية، كثير من هذه المآسي والويلات حلَّت بهؤلاء المسلمين، نتيجة ماذا ولأجل ماذا، لاجل ان يزداد مالهم، لا، لأجل ان يزداد جاههم، لا، وانما لحساب الرسالة، لحساب الخط، لحساب المجتمع الاسلامي، لاجل هذا الهدف الكبير،وهذا هدف كبير اعز من كل النفوس واعز من كل الدماء واعز من الاموال، لكن نحن يجب ان نقدر موقف هؤلاء الذين ضحوا وبذلوا وقدموا، ثم اصبحوا يشككون لان من مصلحتهم ان يشككو، واصبح الامام يدفعهم فلا يندفعون ، يحركهم، فلا يتحركون، لماذا، لان من مصلحتهم ان يعطوا للمعركة مفهوماً جديداً، وهو ان القصة قصة زعامة علي أو معاوية ، ما بالنا وعلي ومعاوية، اما ان يكون هذا زعيماً واما ان يكون ذلك رعيماً، نحن نقف على الحياد ونتفرج، فاما أن يتم الامر لهذا او لذاك، هذا التعبير بداياته، وهذا التفسير الذي اوحت مصلحة هؤلاء وهؤلاء هو الذي كان يشكل عقبة دون ان يتحركوا دون ان يتحرك هؤلاء من جديد الى خط الجهاد، هذا التعبير هو الذي جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يبكي من على المنبر، وينعي اصحابه الذين ذهبوا، اولئك الذين لم يشكوا في خطه وفيه لحظة اولئك الذين آمنوا به الى آخر لحظة، اولئك الذين كانوا ينظرون اليه كامتداد لرسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)، من قبيل عمار وامثاله، هذا عمار الذي وقف بين الصفين، ووضع سيفه على بطنه، وقال: واللّه انك تعلم لو كان رضاك ان تغمد هذا في بطني حتى أخرجته من ظهري لفعلته، واللّه انك تعلم اني لا اعلم رضا الا في قتال هؤلاء المائعين المنحرفين، كان يبكي لأمثال عمار، لأن عماراً وامثاله كانوا قد ارتفعوا فوق هذه الشكوك، قد طلقوا مصالحهم الشخصية لمصلحة الرسالة، كانوا قد غضوا النظر عن كل الاعتبارات الخاصة في سبيل حماية كيان الاسلام، وفي سبيل اعادة مجد المجتمع الاسلامي ووحدة المجتمع الاسلامي الى هؤلاء.
اصبح هؤلاء الذين كانوا يفكرون في الهموم الكبيرة يفكرون في الهموم الصغيرة، اصبحوا يفكرون في قضاياهم، يجب ان لانعتب عليهم، نحن اسوأ منهم فنحن لم نرتفع لحظة هكذاً، نهبط وهؤلاء ارتفعوا لحظة ثم هبطوا. هؤلاء خرجوا من بلادهم وطلقوا نساءهم واطفالهم واموالهم في سبيل اللّه، وفي سبيل قضية ليس لهم ربح مادي فيها. هؤلاء فعلوا هذا ساعة ثم ادركهم الشيطان، اما نحن لا ندري اذا وقفنا مثل هذا الموقف هل نصمد ولو ساعة او نبقى مكاننا، على أي حال هؤلاء كانوا ثلة، لم يكونوا عمار بن ياسر، هؤلاء بدأ الشك يتسرب الى نفوسهم، بدأوا يشكون في هذا الامام (عليه السلام) الصالح حتى تمنى الموت، لان الامام (عليه السلام) اصبح يحس انه انقطع عن هؤلاء، واصبح منفصلاً عنهم. انهم اصبحوا لا يفهمون اهداف رسالته. ومن أمرّ ما يمكن ان يقاسيه زعيم او قائد ان يعيش في جماعة لا تتفاعل معه فكرياً، ولا تعيش مع اهدافه ولا مع خطه، مع انسان يبذل كل ما لديه في سبيلهم، وهم لا يحسون ان كل هذا في سبيلهم، وانما يشكون فيه، في نيته، هذا هو الامتحان العسير الذي قاساه افضل الصلاة والسلام عليه، لكن بالرغم من كل هذا الامتحان يحاول ان يبث من روحه الكبير في هذا المجتمع المتفتت الذي بدأ يشك، والذي بدأ يتوقف. كان يحاول ان يبث فيهم من روحه الكبير، الى ان خر شهيداً في مسجد الكوفة.
اللّهم اجعلنا ممن ينتصر لدينك.
الا انه لعلاجها وتصفيتها، كان يريد ان يبين للمسلمين ضرورة ان ينظر اليه بوصفه قائماً على الخط، وقيماً على المنهج وأميناً على الرسالة. وعنواناً لدستور جديد، يختلف عن الوضع المنحرف القائم بعد وفاة النبي (صلى الله علية وآله وسلم).
لأجل هذا امتنع عن قبوله الخلافة أول الأمر، فقال لهم فكروا في غيري، واتركوني وزيراً لمن تستخلفونه، فانا لكم وزير خير مني أمير، يعني على مستوى حياة الدعة والكسل، على مستوى الرخاء واليسر، على مستوى الحياة الفارغة من المسؤولية، على مستوى هذه الحياة انا وزير خير مني امير، لاني حينما اكون اميراً سوف ارهقكم، سوف اتعبكم سوف افتح امامكم أبواب مسؤوليات كبرى تجعل ليلكم نهارا، وتجعل نهاركم ليلاً، هذه الهموم التي تجعلكم دائماً وابداً تعيشون مشاكل الامة في كل ارجاء العالم الاسلامي، هذه الهموم التي سوف تدفعكم الى حمل السلاح - من دون حاجة مادية - لاجل تطهير الارض الاسلامية من الانحراف الذي قام عليها...؟
اتركوني وزيراً أكون أفضل لكم على مستوى هذه الحياة مني وانا امير، لأني كوزير لا املك ان ارسم الخط، أو أن أضع المخطط، وانما انصح واشير.
وحينئذ يبقى الوضع الذي كان بعد وفاة النبي (صلى الله علية وآله وسلم)مستمراً، اصروا عليه بان يقبل الخلافة، ففرض عليهم الشروط فقبلوها اجمالاً دون ان يسألوه التوضيح، اعطاهم فكرة عن ان عهده هو عهد منهج جديد للعمل السياسي والاجتماعي والاداري، فقبلوا هذا العهد، وكان هذا سبباً في ان ينظر المسلمون من اللحظة الأولى، الى أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بوصفه نقطة تحول في الخط الذي وجد بعد النبي (صلى الله علية وآله وسلم)، لا بوصفه مجرد خليفة، فانتعشت مع هذا العهد الجديد آمال كثيرة.
وحينما بويع علي (عليه السلام) ، كانت اكثر الصعاب التي واجهها بعد بيعته، هو انشقاق معاوية وتخلف الشام بكامله لابن ابي سفيان عن الانضمام الى بيعته. هذا التناقض، شق المجتمع الاسلامي في الدولة الاسلامية الى شقين، ووجد في كل منهما جهاز سياسي واداري لايعترف بالآخر. ومنذ البدء، كان هناك فوارق موضوعية واضحة، بين وضع علي بن أبي طالب (عليه السلام) السياسي والاداري، ووضع معاوية السياسي والاداري، تجعل هذه الفوارق معاوية، احسن موقفاً واثبت قدماً، واقدر على الاستمرار في خطه من امام الاسلام (عليه السلام) .
هذه الفوارق الموضوعية لم يصنعها الامام (عليه السلام) وانما كانت نتيجة تاريخ:
فأولاً: كان معاوية يستقل باقليم من اقاليم الدولة الاسلامية، ولم يكن لعلي أي رصيد او قاعدة شعبية في ذلك الاقليم على الاطلاق، لأن هذا الاقليم، قد دخل في الاسلام بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)وانعزال علي عن خط العمل، وكان هذا الاقليم، قد دخل ودشن حياته الاسلامية بولاية يزيد أخي معاوية، ثم بعد بولاية معاوية، وعاش الاسلام من منظار آل أبي سفيان، ولم يسمع لعلي (عليه السلام) ، ولم يتفاعل مع الوجود الاسلامي والعقائدي، هذا الامام العظيم لم يكن يملك شعاراً له رصيد او قاعدة شعبية في المجتمع الذي تزعمه معاوية، وحمل لواء الانشقاق فيه، في حين، العكس فان شعار معاوية كان يملك رصيداً قوياً وقاعدة قوية في المجتمع الذي تزعمه الامام (عليه السلام) لأن معاوية، كان يحمل شعار الخليفة القتيل، والمطالبة بدمه والخليفة هذا كان أمير المجتمع الذي تزعمه علي (عليه السلام) ، وكان لهذا الخليفة القتيل اخطبوط في هذا المجتمع وقواعد. وهكذا كان شعار ابن أبي سفيان يلتقي مع وجود قاعدة ورصيد في داخل محتمع أمير المؤمنين (عليه السلام) بينما لم يكن شعار علي يلتقي مع قاعدة ورصيد في داخل مجتمع معاوية.
وثانياً: كانت طبيعة المهمة تميز معاوية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصفه الحاكم الشرعي، والمسؤول عن الأمة الاسلامية كان يريد ان يقضي على هذا الانشقاق الذي وجد في جسم الأمة الاسلامية وذلك بشخصية هؤلاء المنحرفين، واجبارهم بالقوة على انضمامهم الى الخط الشرعي، وكان هذا يستدعي الدخول في الحرب، التي تفرض على علي (عليه السلام) الطلب من العراقي ان يخرج من العراق، تاركاً امنه ووحدته واستقراره، ومعيشته ورخائه، ليحارب اناساً شاميين لم يلتق معهم بعداوة سابقة، وانما فقط بفكرة ان هؤلاء انحرفوا، ولا بد من اعادة ارض الشام للمجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية، فكان موقف علي (عليه السلام) يتطلب ويفترض ويطرح قضية الهجوم. على اناس لا يملكون - في غالبيتهم - الوعي لخطورة تراخيهم على قمع هذا الانحراف، انطلاقاً من عدم استيعابهم لابعاده؟!
في حين ان معاوية بن أبي سفيان، يكتفي من تلك المرحلة، بأن يحافظ على وجوده في الشام، ولم يكن يفكر (مادام أمير المؤمنين) ان يهاجم أمير المؤمنين، وان يحارب العراق ويضم العراق الى مملكته، وانما كان يفكر فقط، في ان يحتفظ بهذا الثغر من الثغور للمسلمين، حتى تتهيأ له الفرص والمناسبات والظروف الموضوعية، بعد ذلك يتآمر على الزعامة المطلقة في كل ارجاء العالم الاسلامي. فمعاوية لم يكن يقول للشامي، اترك استقرارك ووحدتك، واذهب الى العراق محارباً، لأن هذا الشخص خارج عن طاعتي، ولكن كان علي (عليه السلام) يقول هذا للعراقي، لان علياً (عليه السلام) كان يحمل بيده مسؤولية الامة ، ومسؤولية اعادة وحدة المجتمع الاسلامي، بينما كان كل مكسب معاوية وهمّه او قصارى امله، ان يحافظ على هذا الانشقاق ويحافظ على هذه التجزئة التي اوجدها في جسم المجتمع الاسلامي. وشتان بين قضية الهجوم حينما تطرح وقضية الدفاع.
وثالثاً كان هناك فرق آخر بين معاوية والامام (عليه السلام) وهو ان معاوية، كان يعيش في بلد لم يكن قد نشأت فيه زعامات سياسية طامحة الى الحكم والسلطان من ناحية ولم يكن فيه اناس ذوو سابقة في الاسلام، ممن يرى لنفسه الحق ان يساهم في التخطيط وفي التقدير، وفي حساب الحاكم، وفي رسم الخط، لم يكن هكذا، الشام اسلمت على يد معاوية واخيه، كلهم كانوا نتيجة لإِسلام معاوية ولإِسلام اخي معاوية، ولإِسلام من استخلف معاوية على الشام ولم يكن قد مني بتناقضات من هذا القبيل.
اما علي (عليه السلام) كان يعيش في مدينة الرسول (صلى الله علية وآله وسلم)كان يعيش في حاضرة الاسلام الاولى التي عاش فيها الرسول (صلى الله علية وآله وسلم)وعاش بعد ذلك ابو بكر، وعاش بعد ذلك عمر وعثمان، حتى قتلا، ومن ناحية كان يواجه كثيراً ممن يرون ان من حقهم ان يساهموا في التخطيط ، وان يشتركوا في رسم الخط، كان يواجه علي (عليه السلام) اشخاصاً كانوا يرونه نداً لهم، غاية الامر انه ند افضل، ند مقدم، لكنهم صحابة كما انه هو صحابي عاش مع النبي (صلى الله علية وآله وسلم) وعاشوا مع النبي (صلى الله علية وآله وسلم).
طبعاً اننا نعلم ايضاً، بان خلافة علي كانت بعد وفاة النبي (صلى الله علية وآله وسلم)بعشرين سنة، وهذا معناه، ان ذلك الامتياز الخاص الذي كان يتمتع به امير المؤمنين في عهد الرسول (صلى الله علية وآله وسلم)كالنجم لا يطاول، ذاك الامتياز الخاص كان قد انتهى مفهومه وتضاءل أثره في نفوس المسلمين، الناس عاشوا عشرين سنة يرون علياً مأموماً، يرونه منقاداً، يرونه جندياً بين يدي أمير هذا الاحساس النفسي خلال عشرين سنة اذهب تلك الآثار التي خلفها عهد النبوة، وهكذا كان علي (عليه السلام) يُنظر اليه بشكل عام، عند الصحابة الذين ساهموا في حل الامور وعقدها وكانوا يمشون في خط السقيفة، هؤلاء الصحابة الذين قدموا للاسلام في صدر حياتهم، وكانوا قد قدر لهم بعد هذا ان يمشوا في خط الانحراف وفي خط السقيفة، هؤلاء كانوا ينظرون الى علي الأخ الأكبر، الزبير صحيح كان يخضع لعلي (عليه السلام) لكن كان يخضع له كالاخ الاكبر لا يرى ان اسلامه مستمد منه، هذه الحقيقة الثانية الثابتة التي كانت واضحة على عهد النبي (صلى الله علية وآله وسلم)حُرفت خلال عهد الانحراف، خلال عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولهذا كان الزبير يعترف بأن علياً افضل منه، لكنه لا يرى نفسه مجرد آلة ومجرد تابع يجب ان يؤمر فيطيع، فكان هناك اناس من هذا القبيل، هؤلاء يريدون ان يشتركوا في التخطيط ويشتركوا في رسم الخط، في ظرف هو ادق ظرف وابعده عن عقول هؤلاء القاصرين.
رابعاً كانت توجد هناك الاطماع السياسية والاحزاب السياسية التي تكونت في عهد ابن الخطاب، واستفحلت بعده نتيجة للشورى، هذه الاحزاب السياسية كان يفكر في امرها ويفكر في مستقبلها ويفكر في انه كيف يستفيد اكبر قدر ممكن من الفائدة في خضم هذا التناقض، وهذا بخلاف معاوية لم يكن قد مني بصحابة أجلاء يعاصرونه ويقولون له نحن صحابة كما انت صحابي، بل كل اهل الشام مسلمون نتيجة لاسلامه واسلام اخيه، لم ير احد منهم رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)ولم يسمع احد القرآن الا عن طريق معاوية، اذن كانت حالة الاستسلام في المجتمع الشامي بالنسبة اليه لا يوجد ما يناظرها بالنسبة الى الامام (عليه السلام) في مجتمع المدينة والعراق.
خامساً: كان هناك فرق آخر بين الامام (عليه السلام) ومعاوية، وحاصل هذا الفرق هو ان الامام (عليه السلام) كان يتبنى قضية هي في صالح الاضعف من افراد المجتمع، وكان معاوية يتبنى قضية هي في صالح الاقوى من افراد المجتمع، أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يتبنى الاسلام بما فيه من قضايا العدالة الاجتماعية التي يمثلها النظام الاقتصادي للاسلام، وهذه القضايا لم تكن في صالح الاقوى، بل كانت في صالح الاضعف، ومعاوية كان يمثل الجاهلية بفوارقها وعنفوانها وطبقاتها، وهذا لم يكن في صالح الاضعف بل كان في صالح الاقوى، وذلك انه بعد رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)حينما دخل العراق والشام وبقية البلاد في داخل المجتمع الاسلامي، لم يقدر الخلفاء الذين تزعموا زعامة المسلمين على تذويب التنظيم القبائلي الذي كان موجوداً في هذه البلاد، بل بقي التنظيم القبائلي سائداً وبقي زعيم كل قبيلة هو الشخص الذي يرتبط كهمزة الوصل بين قبيلته وبين السلطان. وهذا التنظيم القبائلي بطبيعته، يخلق جماعة من الزعماء ومن شيوخ هذه القبائل الذين لم يربِّهم الاسلام في المرتبة السابقة ولم يعيشوا ايام النبوة عيشاً صحيحاً مما جعل من هؤلاء طبقة معينة ذات مصالح، وذات اهواء وذات مشاعر في مقابل قواعدها الشعبية مما يوفر لهم اسباب النفوذ والاعتبار.
الآن تصوروا مجتمعاً اسلامياً تركه الخلفاء المنحرفون وهو يعم بالتقسيمات القبلية بمعنى ان كل قبيلة كانت تخضع ادارياً وسياسياً لزعامة تلك القبيلة التي تشكّل كما قلنا همزة وصل بين القبيلة وبين الحاكم الذي يسهل عليه ان يرشي رؤساء هذه القبائل بقدر الامكان وهذا ما كان يفعله غير علي (عليه السلام) من الحكام وكان عاملاً من عوامل القوة بالنسبة الى معاوية، هذه الظروف الموضوعية لم يصنعها الامام (عليه السلام) وانما هي صنعت خلال التاريخ وأوجدت لمعاوية مركزاً قوياً ووجد للإِمام مركز ضعف ولولا براعة التضحية وكفاءته الشخصية ورصيده الروحي في القطاعات الشعبية الخاصة الواسعة، لولا ذلك لما استطاع (عليه السلام) ان يقوم بما مرّ به نفسه من حروب داخلية خلال اربع سنوات...
هكذا بدأ الامام بخلافته ودشن عهده، وبدأ الانقسام مع هذا العهد على يد معاوية بن أبي سفيان، واخذ الامام يهيئ المسلمين للقيام بمسؤولياتهم الكبيرة للقيام بدورهم في تصفية الحسابات السابقة، في تصفيتها على مستوى مالي، على المستوى الاقتصادى، على المستوى الاجتماعي على المستوى السياسي والاداري ايضاً، كل ذلك كان يحتاج الى الكفاح والقتال فأخذ يدعو الناس الى القتال وخرجوا إليه فعلاً. لقد درسنا الى هنا علياً مع معاوية بحسب ظروفه الموضوعية، فلا بد وان ندرس الذهنية العامة للمسلمين ايضاً، كيف كان يفسر هذا الخلاف الموجود بين علي ومعاوية.
الذهنية العامة للمسلمين بدأت تفسر هذا الخلاف، بأنه بين خط خلافة راشدة، وبين شخص يحاول الخروج على هذه الخلافة، كانوا ينظرون الى علي بشكل عام على انه هو الخليفة الراشد، الذي يريد ان يحافظ على الاسلام، ويحافظ على خط القرآن في حين ان معاوية يحاول ان يتأمر هذا المفهوم. استطاع أمير المومنين (عليه السلام) ان يثبت هذا الانطباع، بالرغم من كل الظروف الموضوعية التي قلناها، في ذهن القاعدة الشعبية الواسعة، في كل ارجاء العالم الاسلامي، عدا القطر الذي كان يرتبط بمعاوية، وهذه الذهنية هي التي كانت تصبغ المعركة بين علي ومعاوية بطابع الرسالة، كأن تعطيه معنى رسالياً. وكانت تفسر هذه المعركة بأنها معركة بين الجاهلية، بين فكرين، بين هدفين، وليست بين زعامتين وشخصيتين، الا ان الامر تطور الى الأسوأ حيث إن المسلمين بدأوا يشكون شكاً واسع النطاق، بأن المعركة بين امير المؤمنين (عليه السلام) وبين معاوية بن ابي سفيان معركة رسالية.
من الصعب جداً ان نتصور انه كيف يمكن للمسلمين ان يشكوا في ان المعركة القائمة بين امام الورع والتقى والعدالة، وبين شخص خائن جاهلي منحرف عدو رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)كانت معركة رسالية إلا اني لا اشك في ان عدداً كبيراً من المسلمين على مر الزمن في عهد خلافة امير المؤمنين بدأ يشك في ان هذه المعركة أهي رسالية حقيقية او غير رسالية وهنا يجب ان نعرف ان المسلمين الذين شكوا من هم. انهم اولئك الذين عرفناهم عقيب وفاة الرسول (صلى الله علية وآله وسلم)، هم اولئك المسلمون الذين خلفهم الرسول فكانت خير امة اخرجت للناس، على مستوى ايمانهم وطاقتهم الحرارية واشعاعهم وشحنهم من النبي (صلى الله علية وآله وسلم)بشخص المبادئ التي طرحها (صلى الله علية وآله وسلم)، ولكن لم يكن لهم من الوعي العقائدي الراسخ الا شيء قليل، هذا المعنى شرحناه وبيناه وبينا جهاته وقلنا ان الامة لم تكن على مستوى الوعي وإنما كانت على مستوى الطاقة الحرارية، اذن فنحن سوف لن نتوقع فيها ان تبقى مشتعلة، وتبقى على جذوتها وحرارتها بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)، يبقى هذا ايضاً غير منطقي، اذن يجب ان نفكر في ان هذه الطاقة الحرارية قد تضاءلت بدرجة كبيرة وحتى تلك الصبابة من الوعي تلك الجذور من الوعي التي كان رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)قد بدأ بها كي يواصل بعد هذا خلفاؤه المعصومون عملية توعية الامة، حتى تلك البذور قد فتتت، واخفقت ومنع بعضها عن الاثمار، وبقي بعضها الآخر بذوراً منقسمة ايضاً. وحينما نتصور الامة الاسلامية بهذا الشكل، من ناحية اخرى يجب ان نتصور مفهوم المسلمين عن معاوية، نحن الآن ننظر الى معاوية بعد ان استكمل خطه من الدنيا، وبعد ان دخل الكوفة وصعد على منبر علي بن ابي طالب (عليه السلام) وقال اني لم احاربكم لكي تصوموا او تصلوا وانما حاربتكم لان أتأمر علكيم، بعد ان اعلن بكل صراحة ووقاحة عن هدفه، وبعد ان طرح بكل برودة شعار الخليفة المظلوم وشعار الخليفة القتيل، دخل عليه اولاد عثمان بن عفان وقالوا له: لقد جعلنا هذا الامر وتم الامر لك يا امير المؤمنين، فما بالك لا تقبض على قتلة ابينا، قال: أولاً يكفيكم انكم صرتم حكام المسلمين.
نحن ننظر الى معاوية بعد ان ارتكب الفظائع وغير احكام الشريعة وأبدع في السنة، ننظر الى معاوية بعد ان استخلف يزيد ابنه على امور المسلمين، وبعد ان قتل مئات من الابرار والاخيار، ننظر الى معاوية بعد ان تكشفت اوضاعه، لكن فلنفرض ان شخصاً ينظر الى معاوية قبل ان تكشف له هذه الاوضاع، لنفترض ان اولئك الاشخاص يعيشون في اطار الامة الاسلامية وقتئذ - ،معاوية ماذا كان يكشف عن اوضاعه وقتئذ على المسلمين، الذين كانوا يدورون في فلك السقيفة، وحكومات السقيفة، ماذا كان من اوراق معاوية مكشوفاً وقتئذ؟ كان معاوية شخصاً قد مارس عمله الاداري والسياسي بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)بأقل من سنة، خرج الى المدينة وذهب الى الشام كعامل عليها، وبقي معاوية هناك مدللاً محترماً معززاً من قبل ابن الخطاب، الذي كان ينظر اليه بشكل عام في المجتمع الاسلامي، بنظرة الاحترام والتقدير، حتى ان عمر بن الخطاب، حينما اراد ان يؤدب ولاته، استثنى معاوية من هذا التأديب، وحينما اراد ان يقاسم اموال ولاته استثنى معاوية من ذلك؟! فمعاوية كان والياً موثوقاً به معززاً من الناحية الاسلامية عند ابن الخطاب، وبعد هذا جاء عثمان فوسع من نطاق ولاية معاوية، وضم اليه عدة بلاد اخرى، اضافة الى الشام، ولم يطرأ أي تغيير في ابن أبي سفيان، فمعاوية لم يكن شخصاً مكشوفاً بل كان شخصاً عنوانه الاجتماعي انه حريص على كرامة الاسلام، وانه هو الشخص الذي استطاع ان يدخل في قلب الخليفة الخشن الذي يعاتب ويعاقب، الذي كان يضرب ابنه بحد الخمر حتى يموت، هذا الخليفة لم يضرب معاوية، ولم يعاقبه، معاوية كان نتيجة الترويجات من قبل الحكام والخلفاء المنحرفين، وكان يتمتع بسمعة طيبة وبمفهوم طيب، هنا دخل الصراع لاول مرة شعار الأخذ بالثأر لدم عثمان، هذا الشعار الذي أخذه معاوية وكان يبدو للبسطاء من الناس وكثير من المغفلين، كان شعاراً له وجهة شرعية، كان يقول بأن عثمان قتل مظلوماً، وعثمان بالرغم من انه خان الامانة من استهزاء بالاسلام، وبالرغم من انه صير الدولة الاسلامية الى دولة عشيرة وقبيلة، وبالرغم من انه ارتكب الجرائم
التي ادنى عقابها القتل، بالرغم من هذا، ابن أبي سفيان يقول: قتل عثمان مظلوماً. وليس هناك من يعرف بأن عثمان يستحق القتل، كثير من الناس البسطاء ايضاً يقولون: عثمان قتل مظلوماً. فلا بد من القصاص، فيا علي ان كنت قادراً فاعطنا قاتليه، وان كنت عاجزاً، فانت عاجز عن ان تطبق احكام الاسلام فاعتزل الحكم لان الخليفة يشترط فيه القدرة على تطبيق احكام الاسلام.
هذا هو الشعار الذي ابرزه معاوية في مقابل الامام (عليه السلام) ، والامام (عليه السلام) في مقابل هذا الشعار لم يكن يريد بأن يصرح بأن عثمان كان جديراً بأن يقتل، او كان يجب ان يقتل، لانه لو صرح بهذا، لتعمق اتهام معاوية وطّور التهمة من قول اعطني، الى قول: انك قتلت عثمان، فبقي شعار معاوية شعاراً مضللاً الى حد كبير.
ثم لا بد وان نلاحظ الجهود والأتعاب والتضحيات التي قام بها المسلمون في كنف علي (عليه السلام) لا ادري هل ان احداً جرّب او لم يجرب هذا الايحاء النفسي، حينما تكون المهمة صعبة على الانسان وثقيلة، حينئذ توسوس له نفسه بالتشكيك في هذه المهمة بمختلف التشكيكات، فحينما يصعب عليه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حينئذ يأخذ بالوسوسة، من قال بأن هذا الرجل مبطل، من قال انه قادر على هذا الكلام من قال ان شروط الامر بالمعروف تامة، وهكذا يوسوس لاجل ان يستريح من هذه المهمة، لأجل ان يلقي عن ظهره هذا العبء الكبير، كل انسان يميل بطبعه الى الدعة، الى الكسل الى الراحة الى الاستقرار، فاذا وضعت امامه مهام كبيرة، حينئذ، اذا وجد مجالاً للشك في هذه المهمة فسوف يكون عنده دافع نفسي الى ان يشك، يشك لاجل ان يريد ان يشك ويشك لاجل انه من مصلحته ان يشك، وهذا كان موجوداً على عهد الامام (عليه السلام) .
العراقيون قدموا من التضحيات شيئاً كثيراً بذلوا اموالهم ونفوسهم ودماءهم في حروب ثلاثة، آلاف من العراقيين ماتوا وقتلوا، عشرات من الاطفال يتموا آلاف من النساء اصبحن ارامل، آلاف من البيوت والعوائل تهدمت، كثير من المدن والقرى غارت عليها جيوش معاوية، كثير من هذه المآسي والويلات حلَّت بهؤلاء المسلمين، نتيجة ماذا ولأجل ماذا، لاجل ان يزداد مالهم، لا، لأجل ان يزداد جاههم، لا، وانما لحساب الرسالة، لحساب الخط، لحساب المجتمع الاسلامي، لاجل هذا الهدف الكبير،وهذا هدف كبير اعز من كل النفوس واعز من كل الدماء واعز من الاموال، لكن نحن يجب ان نقدر موقف هؤلاء الذين ضحوا وبذلوا وقدموا، ثم اصبحوا يشككون لان من مصلحتهم ان يشككو، واصبح الامام يدفعهم فلا يندفعون ، يحركهم، فلا يتحركون، لماذا، لان من مصلحتهم ان يعطوا للمعركة مفهوماً جديداً، وهو ان القصة قصة زعامة علي أو معاوية ، ما بالنا وعلي ومعاوية، اما ان يكون هذا زعيماً واما ان يكون ذلك رعيماً، نحن نقف على الحياد ونتفرج، فاما أن يتم الامر لهذا او لذاك، هذا التعبير بداياته، وهذا التفسير الذي اوحت مصلحة هؤلاء وهؤلاء هو الذي كان يشكل عقبة دون ان يتحركوا دون ان يتحرك هؤلاء من جديد الى خط الجهاد، هذا التعبير هو الذي جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يبكي من على المنبر، وينعي اصحابه الذين ذهبوا، اولئك الذين لم يشكوا في خطه وفيه لحظة اولئك الذين آمنوا به الى آخر لحظة، اولئك الذين كانوا ينظرون اليه كامتداد لرسول اللّه (صلى الله علية وآله وسلم)، من قبيل عمار وامثاله، هذا عمار الذي وقف بين الصفين، ووضع سيفه على بطنه، وقال: واللّه انك تعلم لو كان رضاك ان تغمد هذا في بطني حتى أخرجته من ظهري لفعلته، واللّه انك تعلم اني لا اعلم رضا الا في قتال هؤلاء المائعين المنحرفين، كان يبكي لأمثال عمار، لأن عماراً وامثاله كانوا قد ارتفعوا فوق هذه الشكوك، قد طلقوا مصالحهم الشخصية لمصلحة الرسالة، كانوا قد غضوا النظر عن كل الاعتبارات الخاصة في سبيل حماية كيان الاسلام، وفي سبيل اعادة مجد المجتمع الاسلامي ووحدة المجتمع الاسلامي الى هؤلاء.
اصبح هؤلاء الذين كانوا يفكرون في الهموم الكبيرة يفكرون في الهموم الصغيرة، اصبحوا يفكرون في قضاياهم، يجب ان لانعتب عليهم، نحن اسوأ منهم فنحن لم نرتفع لحظة هكذاً، نهبط وهؤلاء ارتفعوا لحظة ثم هبطوا. هؤلاء خرجوا من بلادهم وطلقوا نساءهم واطفالهم واموالهم في سبيل اللّه، وفي سبيل قضية ليس لهم ربح مادي فيها. هؤلاء فعلوا هذا ساعة ثم ادركهم الشيطان، اما نحن لا ندري اذا وقفنا مثل هذا الموقف هل نصمد ولو ساعة او نبقى مكاننا، على أي حال هؤلاء كانوا ثلة، لم يكونوا عمار بن ياسر، هؤلاء بدأ الشك يتسرب الى نفوسهم، بدأوا يشكون في هذا الامام (عليه السلام) الصالح حتى تمنى الموت، لان الامام (عليه السلام) اصبح يحس انه انقطع عن هؤلاء، واصبح منفصلاً عنهم. انهم اصبحوا لا يفهمون اهداف رسالته. ومن أمرّ ما يمكن ان يقاسيه زعيم او قائد ان يعيش في جماعة لا تتفاعل معه فكرياً، ولا تعيش مع اهدافه ولا مع خطه، مع انسان يبذل كل ما لديه في سبيلهم، وهم لا يحسون ان كل هذا في سبيلهم، وانما يشكون فيه، في نيته، هذا هو الامتحان العسير الذي قاساه افضل الصلاة والسلام عليه، لكن بالرغم من كل هذا الامتحان يحاول ان يبث من روحه الكبير في هذا المجتمع المتفتت الذي بدأ يشك، والذي بدأ يتوقف. كان يحاول ان يبث فيهم من روحه الكبير، الى ان خر شهيداً في مسجد الكوفة.
اللّهم اجعلنا ممن ينتصر لدينك.