By صالح العبيسي 333 - الأحد ديسمبر 08, 2013 10:16 pm
- الأحد ديسمبر 08, 2013 10:16 pm
#68998
حقيقة لم يكن المتسائلون عن مصادر تمويل المراكز البحثية "الخاصة" في مصر، من المغرضين، مقدمي النوايا السيئة، الذين يدينون الخلق "لله ف لله".. ولكن السؤال توقف كثيرا عند حدّ الإستفسار البريء، ثم انتقل للإدانة والإستنكار عندما عجز من يوجّه إليهم السؤال عن الإجابة الشافية الكافية عليه.
فالمراكز التي تنتشر في ربوع المحروسة وتتناول بالبحث - كما تدّعي - مجالات الدراسات السياسية والإستراتيجية والإنمائية وحقوق الإنسان وإلخ... ، طرحت ومنذ نشأتها متلازمة أصلية صاحبتها وتسببت في الكثير من التشويش للمتابع لها أو للعاملين بها وهي التمويل.
أعرف بل أجزم بأن عدداً لا بأس به من هذه المراكز أنشأها مديروها وأصحابها كواجهة إجتماعية، حتى يتسنى لهم الإدلاء بتصريحات في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، فيأتي إسم الواحد منهم مسبوقًا بمدير مركز "كذا" للدراسات...، أصحاب هذا النوع من المراكز يتحمّلون عبء إيجار المكان الذي ترفع عليه لافتة بإسم "المركز"، ومرتبات بعض العاملين به، وفي أفضل الأحوال لا يتجاوزون ساعي وموظف "سكرتارية".
وأعجب ما في هذا النوع من المراكز، أن أصحابها لديهم إصرار على أن تمويلاً ما يأتيهم عبر بيع الأبحاث والدراسات من إنتاجهم.. وهذا إن صدقوا فيه، فلا يزيد عن كونه حدث موسمي، وقع مصادفة في حياة مركزهم البحثي المغمور، كإصدار مطبوعة دورية أو غير، أنفقت عليها دولة ما لأغراض ما، أو كنوع من الروتين الذي تقوم به الدول خارج حدودها.
ولكن هذا النمط من المراكز ليس الوحيد.. فهناك المراكز البحثية التي يظهر على العاملين بها وعلى القريبين من العاملين بها، آثار العز المباغت، فهم الهابطون من الطائرات، المحاضرون في المؤتمرات، المموّلون من السفارات، القادرون على تنظيم أفخم الإحتفالات.. تتصدر أخبارهم وسائل الإعلام، وتتشابك دوائر عملهم مع دوائر المنظمات الحقوقية فلا تكاد تفرّق بين العاملين في المجالين، وإن كان المجال الأول يختص بالبحث عن المشكلات والتنقيب عن أسبابها وطرح سبل العلاج أو هكذا يفترض، والثاني يتعلق بالدفاع عن حقوق أصحاب المشكلات، فالندوات والمظاهرات و"التويتات" تجمعهما.
طبعًا هذه المراكز، تتلقى تمويلاً دورياً من منظمات حكومية وغير حكومية غربية، ولا ينكر أصحابها هذا الأمر، ولا القانون يدينه بالمناسبة، وعدم الإدانة القانونية هو ما يمكن الباحثين وهم "نشطاء السبوبة" اليوم، من التبجّح وتحدي مهاجميهم في أن يقدموا ما يدينهم للجهات القانونية.. فالتمويل المشبوه الذي شرّعه القانون، مرتبط بأمرين، الأول هو المعونة الأمريكية والتي يتم تقديمها لمصر منذ أواخر البسعينات ويخصص جزء منها وفقاً لبنود إنفاقها لدعم المنظمات والمراكز المدنية - غير الحكومية-، والثاني هو خطة البيت الأبيض التي بدأت من عام 2005 لإنشاء شبكة من العلاقات بعيدة عن الأنظمة الحاكمة وكانت المراكز البحثية بوابة لهذا، بهدف مزعوم وهو نشر الديمقراطية وتشجيع الأعمال البحثية، وهدف حقيقي هو إعداد عناصر تتصدر المشهد في وسائل الإعلام المحلية وتضمن مصالحه - أي البيت الأبيض- في حالة سقوط الأنظمة التابعة له، ومن خلالهم تستطيع تدمير الدول المعارضة لسياساته ذاتياً، وتغيير أولويات وأبجديات صراع المعارضين مع الأنظمة، ليصبح الخلاف حول قضية الحريات بمفهومها الغربي وديمقرطية الصندوق أكثر مما هو حول التفريط في الإستقلال الوطني وقضايا الأمة المركزية أوغياب خطط التنمية الشاملة والمستقلة وحقوق الفقراء.. والهدفين سواء المزعوم أو الحقيقي ثابتين في تصريحات صقور وحمائم الإدارة الأمريكية.
جزء كبير من قوة وتغلغل قادة هذه المراكز أرتبط بتلقيهم دعم مباشر أو غير مباشر، من الجناح المدني في السلطة المصرية في أواخر سنوات حكم مبارك، ممثلًا في نجله "جمال" ورجال الأعمال المحيطين به، بهدف مغازلة الغرب، والترويج لتولّي "جمال" السلطة خلفاً لوالده على أساس أنه داعم للمصالح الغربية، في مواجهة أجهزة الدولة وعلى رأسها الجيش والمخابرات الرافضة لتولّيه السلطة بسبب مشاريعه السياسية وخططه الإقتصادية التي لا تراعي أغلبية الشعب من محدودي الدخل وتمثل خطورة على الأمن القومي.. وعضوية عمرو حمزاوي الباحث في مجال العلوم السياسية والناشط المعروف، في لجنة سياسات الحزب الوطني عام 2004 برئاسة جمال مبارك قبل أن يستقيل، دليل ضمن العشرات نسوقه لتدعيم هذا الطرح.
بين النموذجين اللذين تم طرحهما، سواء من تم تأسيسه بغرض الوجاهة الإجتماعية، أو المعتمد على التمويل الغربي ودعم بعض أجنحة السلطة في فترات زمنية معينة، تأتي المراكز الصغيرة التي تعتمد في تمويلها على إيران، وهي في غالبها ترفع شعارات داعمة للمقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني، في فلسطين أو في لبنان، وتعارض المشاريع الأمريكية التآمرية التقسيمية في البلدان العربية الموالية لإيران، وتوظف باحثيها في هذا الإتجاه، وتصدر مطبوعات تتوافق مع الخط الوطني على إمتداده والذي يبدأ وينتهي بالقضية الفلسطينية، لكن التناقض الرئيسي مع هذه المراكز وما يجعلها لا ترقى لأن تكون مراكز بحثية مهنية وطنية يفضح باحثوها المخططات التي يرصدونها، هو أن "من يدفع للزمَّار حتمًا سيحدد له النغمة التي يعزفها".. فشعاراتها المعادية للغرب الإستعماري تسقط، ومبادئها التي تعارض التدخل الخارجي تتجزأ، وأبحاثها التي تحذر من مخططات شيطانية للبيت الأبيض تتوارى، عندما تتعرّض أحد الدول العربية - التي لا تنضوي تحت عباءة الدولة الفارسية - لمخطط تقسيمي او تآمري، كما حدث في العراق وليبيا، أو في حالة إختلاف المصالح الإيرانية مع المزاج العام للحركة الوطنية المصرية كما هو الحال في الموقف من جماعة الإخوان.
أخيرا.. فإن التعميم، كما تجاهل التوصيف والتصنيف.. خطيئة.. فكان لزاما أن ننبه - منعا للإلتباس - إلي وجود عدد كبير من الباحثين المستقلين أو التابعين لمراكز فقيرة، يعتمدون على التمويل الذاتي أو المحدود، فينتجون أوراقًا بحثية يمتد نفعها جيلا بعد جيل، ويستمد منها كبار كتاب الرأي ملعوماتهم ليملأوا بها فراغات أعمدتهم في أشهر الصحف وأوسعها إنتشارا، غير أن هؤلاء الباحثين كالرهبان يحتاجون إلي أن تطرق وسائل الإعلام المرئية أبوابهم، وتترك لهم المساحة لأن يقدموا تحليلا وافيا لكل الأحداث التاريخية والمعاصرة.
الدولة كذلك ملزمة بالقيام بدور اكبر، سواء بشكل مباشر أو بتعاون مع القطاع الخاص بشرط ضمان المهنية.. فالتجربة أثبتت أن كل ما تم الترويج له طوال العقود الثلاث الأخيرة بخصوص فشل الدولة في إدارة مجال البحث "السياسي"، والتأكيد على أن هذه حقيقة لا مفر منها حتى بإصلاح النظام الحاكم، لم يكن له غرض سوى فتح الباب على مصراعيه دون ضابط لمراكز تعدّ أبحاثها تبعًا لغرض ممولها، لذا جاءت المراكز المموّلة من جهات خارجية في معظمها "سياسية" وليست "علمية".
حقيقة لم يكن المتسائلون عن مصادر تمويل المراكز البحثية "الخاصة" في مصر، من المغرضين، مقدمي النوايا السيئة، الذين يدينون الخلق "لله ف لله".. ولكن السؤال توقف كثيرا عند حدّ الإستفسار البريء، ثم انتقل للإدانة والإستنكار عندما عجز من يوجّه إليهم السؤال عن الإجابة الشافية الكافية عليه.
فالمراكز التي تنتشر في ربوع المحروسة وتتناول بالبحث - كما تدّعي - مجالات الدراسات السياسية والإستراتيجية والإنمائية وحقوق الإنسان وإلخ... ، طرحت ومنذ نشأتها متلازمة أصلية صاحبتها وتسببت في الكثير من التشويش للمتابع لها أو للعاملين بها وهي التمويل.
أعرف بل أجزم بأن عدداً لا بأس به من هذه المراكز أنشأها مديروها وأصحابها كواجهة إجتماعية، حتى يتسنى لهم الإدلاء بتصريحات في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، فيأتي إسم الواحد منهم مسبوقًا بمدير مركز "كذا" للدراسات...، أصحاب هذا النوع من المراكز يتحمّلون عبء إيجار المكان الذي ترفع عليه لافتة بإسم "المركز"، ومرتبات بعض العاملين به، وفي أفضل الأحوال لا يتجاوزون ساعي وموظف "سكرتارية".
وأعجب ما في هذا النوع من المراكز، أن أصحابها لديهم إصرار على أن تمويلاً ما يأتيهم عبر بيع الأبحاث والدراسات من إنتاجهم.. وهذا إن صدقوا فيه، فلا يزيد عن كونه حدث موسمي، وقع مصادفة في حياة مركزهم البحثي المغمور، كإصدار مطبوعة دورية أو غير، أنفقت عليها دولة ما لأغراض ما، أو كنوع من الروتين الذي تقوم به الدول خارج حدودها.
ولكن هذا النمط من المراكز ليس الوحيد.. فهناك المراكز البحثية التي يظهر على العاملين بها وعلى القريبين من العاملين بها، آثار العز المباغت، فهم الهابطون من الطائرات، المحاضرون في المؤتمرات، المموّلون من السفارات، القادرون على تنظيم أفخم الإحتفالات.. تتصدر أخبارهم وسائل الإعلام، وتتشابك دوائر عملهم مع دوائر المنظمات الحقوقية فلا تكاد تفرّق بين العاملين في المجالين، وإن كان المجال الأول يختص بالبحث عن المشكلات والتنقيب عن أسبابها وطرح سبل العلاج أو هكذا يفترض، والثاني يتعلق بالدفاع عن حقوق أصحاب المشكلات، فالندوات والمظاهرات و"التويتات" تجمعهما.
طبعًا هذه المراكز، تتلقى تمويلاً دورياً من منظمات حكومية وغير حكومية غربية، ولا ينكر أصحابها هذا الأمر، ولا القانون يدينه بالمناسبة، وعدم الإدانة القانونية هو ما يمكن الباحثين وهم "نشطاء السبوبة" اليوم، من التبجّح وتحدي مهاجميهم في أن يقدموا ما يدينهم للجهات القانونية.. فالتمويل المشبوه الذي شرّعه القانون، مرتبط بأمرين، الأول هو المعونة الأمريكية والتي يتم تقديمها لمصر منذ أواخر البسعينات ويخصص جزء منها وفقاً لبنود إنفاقها لدعم المنظمات والمراكز المدنية - غير الحكومية-، والثاني هو خطة البيت الأبيض التي بدأت من عام 2005 لإنشاء شبكة من العلاقات بعيدة عن الأنظمة الحاكمة وكانت المراكز البحثية بوابة لهذا، بهدف مزعوم وهو نشر الديمقراطية وتشجيع الأعمال البحثية، وهدف حقيقي هو إعداد عناصر تتصدر المشهد في وسائل الإعلام المحلية وتضمن مصالحه - أي البيت الأبيض- في حالة سقوط الأنظمة التابعة له، ومن خلالهم تستطيع تدمير الدول المعارضة لسياساته ذاتياً، وتغيير أولويات وأبجديات صراع المعارضين مع الأنظمة، ليصبح الخلاف حول قضية الحريات بمفهومها الغربي وديمقرطية الصندوق أكثر مما هو حول التفريط في الإستقلال الوطني وقضايا الأمة المركزية أوغياب خطط التنمية الشاملة والمستقلة وحقوق الفقراء.. والهدفين سواء المزعوم أو الحقيقي ثابتين في تصريحات صقور وحمائم الإدارة الأمريكية.
جزء كبير من قوة وتغلغل قادة هذه المراكز أرتبط بتلقيهم دعم مباشر أو غير مباشر، من الجناح المدني في السلطة المصرية في أواخر سنوات حكم مبارك، ممثلًا في نجله "جمال" ورجال الأعمال المحيطين به، بهدف مغازلة الغرب، والترويج لتولّي "جمال" السلطة خلفاً لوالده على أساس أنه داعم للمصالح الغربية، في مواجهة أجهزة الدولة وعلى رأسها الجيش والمخابرات الرافضة لتولّيه السلطة بسبب مشاريعه السياسية وخططه الإقتصادية التي لا تراعي أغلبية الشعب من محدودي الدخل وتمثل خطورة على الأمن القومي.. وعضوية عمرو حمزاوي الباحث في مجال العلوم السياسية والناشط المعروف، في لجنة سياسات الحزب الوطني عام 2004 برئاسة جمال مبارك قبل أن يستقيل، دليل ضمن العشرات نسوقه لتدعيم هذا الطرح.
بين النموذجين اللذين تم طرحهما، سواء من تم تأسيسه بغرض الوجاهة الإجتماعية، أو المعتمد على التمويل الغربي ودعم بعض أجنحة السلطة في فترات زمنية معينة، تأتي المراكز الصغيرة التي تعتمد في تمويلها على إيران، وهي في غالبها ترفع شعارات داعمة للمقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني، في فلسطين أو في لبنان، وتعارض المشاريع الأمريكية التآمرية التقسيمية في البلدان العربية الموالية لإيران، وتوظف باحثيها في هذا الإتجاه، وتصدر مطبوعات تتوافق مع الخط الوطني على إمتداده والذي يبدأ وينتهي بالقضية الفلسطينية، لكن التناقض الرئيسي مع هذه المراكز وما يجعلها لا ترقى لأن تكون مراكز بحثية مهنية وطنية يفضح باحثوها المخططات التي يرصدونها، هو أن "من يدفع للزمَّار حتمًا سيحدد له النغمة التي يعزفها".. فشعاراتها المعادية للغرب الإستعماري تسقط، ومبادئها التي تعارض التدخل الخارجي تتجزأ، وأبحاثها التي تحذر من مخططات شيطانية للبيت الأبيض تتوارى، عندما تتعرّض أحد الدول العربية - التي لا تنضوي تحت عباءة الدولة الفارسية - لمخطط تقسيمي او تآمري، كما حدث في العراق وليبيا، أو في حالة إختلاف المصالح الإيرانية مع المزاج العام للحركة الوطنية المصرية كما هو الحال في الموقف من جماعة الإخوان.
أخيرا.. فإن التعميم، كما تجاهل التوصيف والتصنيف.. خطيئة.. فكان لزاما أن ننبه - منعا للإلتباس - إلي وجود عدد كبير من الباحثين المستقلين أو التابعين لمراكز فقيرة، يعتمدون على التمويل الذاتي أو المحدود، فينتجون أوراقًا بحثية يمتد نفعها جيلا بعد جيل، ويستمد منها كبار كتاب الرأي ملعوماتهم ليملأوا بها فراغات أعمدتهم في أشهر الصحف وأوسعها إنتشارا، غير أن هؤلاء الباحثين كالرهبان يحتاجون إلي أن تطرق وسائل الإعلام المرئية أبوابهم، وتترك لهم المساحة لأن يقدموا تحليلا وافيا لكل الأحداث التاريخية والمعاصرة.
الدولة كذلك ملزمة بالقيام بدور اكبر، سواء بشكل مباشر أو بتعاون مع القطاع الخاص بشرط ضمان المهنية.. فالتجربة أثبتت أن كل ما تم الترويج له طوال العقود الثلاث الأخيرة بخصوص فشل الدولة في إدارة مجال البحث "السياسي"، والتأكيد على أن هذه حقيقة لا مفر منها حتى بإصلاح النظام الحاكم، لم يكن له غرض سوى فتح الباب على مصراعيه دون ضابط لمراكز تعدّ أبحاثها تبعًا لغرض ممولها، لذا جاءت المراكز المموّلة من جهات خارجية في معظمها "سياسية" وليست "علمية".