- الثلاثاء يونيو 02, 2009 3:42 am
#19666
فهد عامر الأحمدي
مازلت أذكر "حصص" السيرة النبوية التي كنا نتعلمها في المدرسة الابتدائية..كانت تثير حماسي ومشاعري لدرجة أسارع لإخبار والدتي فور عودتي بما حصل "اليوم".. كنت أتألم كثيرا لمواقف الاضطهاد والقتل والتعذيب والتجويع التي عانى منها الرسول وصحبه الكرام وأنتظر بشوق انتصارهم في النهاية وانتقامهم من المشركين..وحين اقترب فتح مكة وشارفت القصة على نهايتها توقعت قائمة طويلة من المحاكمات والعقوبات ومواقف الانتقام التي ستتعرض لها قريش ورؤوس الكفر والطغيان..ولكن ما حدث لاحقا أثار حيرتي وارتباكي بالفعل..فبدل العقوبة والأسر والانتقام قال لهم خاتم الأنبياء: "اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لي ولكم" ... !!
هكذا ببساطة..اذهبوا لحريتكم..لا تثريب عليكم اليوم..وفوق هذا: عسى الله أن يغفر لي ولكم!
لم أفهم حينها؛ فالمفروض أن يحدث عكس هذا تماما..رد الفعل البشري والطبيعي هو الانتقام والمحاسبة والأخذ بالثأر..شعرت أن القصة الطويلة لم تنته بالشكل المفترض وأن هناك خطأ في النهاية الدرامية..وحين ذهبت للمنزل لم أخبر والدتي بما حصل "اليوم" من فرط حيرتي وأملي بأن يخبرنا الأستاذ "غدا" بتعديل يتناسب مع معاناة المسلمين الطويلة !
وبطبيعة الحال؛ لم أفهم حينها أن العفو من شيم العظماء، وأن الغفران من صفات الحكماء، وأن المصالحة وسيلة لحقن الدماء..فحتى حين يكون القصاص مشروعا، والثأر مقبولا، لا شيء يعادل ويملك قلوب الناس كالعفو والمسامحة وتجاهل أحقاد الماضي..وهذا في الحقيقة هو مصدر إعجابي (هذه الأيام) بنيلسون مانديلا والمهاتما غاندي، واحتقاري لنابليون وهتلر وجنكيز خان ..
فرغم أن جنكيز وهتلر ونابليون يصنفون تحت خانة "القادة العظماء" إلا أنهم تصرفوا كما يتصرف أي مخلوق بشري يصاب بجنون العظمة..تصرفوا بحسب ما تمليه عليهم الطبيعة البشرية من حب الانتصار وشهوة الثأر وضرورة الانتقام والنتيجة موت ملايين الأبرياء مقابل تخليد اسم سفاح واحد..
ومقابل هؤلاء ابتكر غاندي في الهند المقاومة السلمية لإحراج المستعمر من جهة، وضمان سلامة المدنيين من جهة أخرى..كان ينبذ العنف لانه يولد عنفا أكبر، ويحذر من الانتقام لأنه يطيل سلسلة الثأر والحصار..كان ببساطة يدعو أتباعه إلى عدم التعاون مع السلطات البريطانية بما في ذلك الشراء منهم أو العمل لديهم..وحين يستعمل البريطانيون العنف كان يقف مع اتباعه في طابور طويل لتلقي الضربات بلا حراك حتى يخجل البريطانيون من أنفسهم وتنقل وكالات الأنباء صور ما حدث (وهو التصرف الذي أحرج انجلترا وأكسب غاندي محبة الناس في بريطانيا نفسها) !!
أما نيلسون مانديلا فيعد أسطورة العفو والمصالحة في أيامنا هذه..فقد قاوم الاستيطان بالمقاومة السلمية، والاستعباد بعدم التعاون، والعنصرية بفضح ممارساتها أمام العالم..ورغم أن حزب المؤتمر الوطني الذي كان يرأسه لجأ في البداية للمقاومة المسلحة إلا أن مانديلا ذاته كان يرى في العنف تشويها لصورة المقاومة وتأجيجا لمشاعر المعتدي ناهيك عن خسارة تعاطف العالم..ورغم أن حكومة جنوب أفريقيا العنصرية سجنته في جزيرة روبن لمدة 27 عاما إلا أن عظمته تجسدت فعلا بعد إطلاق سراحه..فبعد انهيار حكم الأقلية البيضاء عام 1994 فاز مانديلا بالانتخابات وخرج من السجن لسدة الحكم مباشرة..وبدل أن ينتقم من الأقلية البيضاء نادى بمشروع العفو والمصالحة ومشاركة البيض في بناء جنوب أفريقيا (وهم الذين سجنوه لثلاثة عقود في جزيرة منعزلة) .. !
والنتيجة التي نراها اليوم "دولة متقدمة" تختفي فيها مظاهر الانتقام وتحافظ على مكتسبات الماضي وتكمل مسيرة التطوير من حيث انتهى البيض ناهيك عن المساواة بين الأديان وحفظ حقوق الجميع في العبادة والاعتقاد (...وهذا بعكس ماحدث في الدول الأفريقية الأخرى التي غرقت في بحر من الدماء والانتقام وتدمير انجازات المستعمر الأبيض وبالتالي احتلال ذيل القائمة في سلم التنمية العالمية) !!
... "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ليس فقط أعظم مبدأ سلمي في التاريخ، بل وأفضل وسيلة لحقن الدماء وإحراج المعتدي وتحويل الجهد البشري من الثأر والانتقام إلى البناء والعمار ...
مازلت أذكر "حصص" السيرة النبوية التي كنا نتعلمها في المدرسة الابتدائية..كانت تثير حماسي ومشاعري لدرجة أسارع لإخبار والدتي فور عودتي بما حصل "اليوم".. كنت أتألم كثيرا لمواقف الاضطهاد والقتل والتعذيب والتجويع التي عانى منها الرسول وصحبه الكرام وأنتظر بشوق انتصارهم في النهاية وانتقامهم من المشركين..وحين اقترب فتح مكة وشارفت القصة على نهايتها توقعت قائمة طويلة من المحاكمات والعقوبات ومواقف الانتقام التي ستتعرض لها قريش ورؤوس الكفر والطغيان..ولكن ما حدث لاحقا أثار حيرتي وارتباكي بالفعل..فبدل العقوبة والأسر والانتقام قال لهم خاتم الأنبياء: "اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لي ولكم" ... !!
هكذا ببساطة..اذهبوا لحريتكم..لا تثريب عليكم اليوم..وفوق هذا: عسى الله أن يغفر لي ولكم!
لم أفهم حينها؛ فالمفروض أن يحدث عكس هذا تماما..رد الفعل البشري والطبيعي هو الانتقام والمحاسبة والأخذ بالثأر..شعرت أن القصة الطويلة لم تنته بالشكل المفترض وأن هناك خطأ في النهاية الدرامية..وحين ذهبت للمنزل لم أخبر والدتي بما حصل "اليوم" من فرط حيرتي وأملي بأن يخبرنا الأستاذ "غدا" بتعديل يتناسب مع معاناة المسلمين الطويلة !
وبطبيعة الحال؛ لم أفهم حينها أن العفو من شيم العظماء، وأن الغفران من صفات الحكماء، وأن المصالحة وسيلة لحقن الدماء..فحتى حين يكون القصاص مشروعا، والثأر مقبولا، لا شيء يعادل ويملك قلوب الناس كالعفو والمسامحة وتجاهل أحقاد الماضي..وهذا في الحقيقة هو مصدر إعجابي (هذه الأيام) بنيلسون مانديلا والمهاتما غاندي، واحتقاري لنابليون وهتلر وجنكيز خان ..
فرغم أن جنكيز وهتلر ونابليون يصنفون تحت خانة "القادة العظماء" إلا أنهم تصرفوا كما يتصرف أي مخلوق بشري يصاب بجنون العظمة..تصرفوا بحسب ما تمليه عليهم الطبيعة البشرية من حب الانتصار وشهوة الثأر وضرورة الانتقام والنتيجة موت ملايين الأبرياء مقابل تخليد اسم سفاح واحد..
ومقابل هؤلاء ابتكر غاندي في الهند المقاومة السلمية لإحراج المستعمر من جهة، وضمان سلامة المدنيين من جهة أخرى..كان ينبذ العنف لانه يولد عنفا أكبر، ويحذر من الانتقام لأنه يطيل سلسلة الثأر والحصار..كان ببساطة يدعو أتباعه إلى عدم التعاون مع السلطات البريطانية بما في ذلك الشراء منهم أو العمل لديهم..وحين يستعمل البريطانيون العنف كان يقف مع اتباعه في طابور طويل لتلقي الضربات بلا حراك حتى يخجل البريطانيون من أنفسهم وتنقل وكالات الأنباء صور ما حدث (وهو التصرف الذي أحرج انجلترا وأكسب غاندي محبة الناس في بريطانيا نفسها) !!
أما نيلسون مانديلا فيعد أسطورة العفو والمصالحة في أيامنا هذه..فقد قاوم الاستيطان بالمقاومة السلمية، والاستعباد بعدم التعاون، والعنصرية بفضح ممارساتها أمام العالم..ورغم أن حزب المؤتمر الوطني الذي كان يرأسه لجأ في البداية للمقاومة المسلحة إلا أن مانديلا ذاته كان يرى في العنف تشويها لصورة المقاومة وتأجيجا لمشاعر المعتدي ناهيك عن خسارة تعاطف العالم..ورغم أن حكومة جنوب أفريقيا العنصرية سجنته في جزيرة روبن لمدة 27 عاما إلا أن عظمته تجسدت فعلا بعد إطلاق سراحه..فبعد انهيار حكم الأقلية البيضاء عام 1994 فاز مانديلا بالانتخابات وخرج من السجن لسدة الحكم مباشرة..وبدل أن ينتقم من الأقلية البيضاء نادى بمشروع العفو والمصالحة ومشاركة البيض في بناء جنوب أفريقيا (وهم الذين سجنوه لثلاثة عقود في جزيرة منعزلة) .. !
والنتيجة التي نراها اليوم "دولة متقدمة" تختفي فيها مظاهر الانتقام وتحافظ على مكتسبات الماضي وتكمل مسيرة التطوير من حيث انتهى البيض ناهيك عن المساواة بين الأديان وحفظ حقوق الجميع في العبادة والاعتقاد (...وهذا بعكس ماحدث في الدول الأفريقية الأخرى التي غرقت في بحر من الدماء والانتقام وتدمير انجازات المستعمر الأبيض وبالتالي احتلال ذيل القائمة في سلم التنمية العالمية) !!
... "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ليس فقط أعظم مبدأ سلمي في التاريخ، بل وأفضل وسيلة لحقن الدماء وإحراج المعتدي وتحويل الجهد البشري من الثأر والانتقام إلى البناء والعمار ...