المملكة اليونانية
مرسل: الاثنين ديسمبر 09, 2013 9:39 am
رأينا أن كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا أقامت في عام 1830 مملكة يونانية مستقلة بمقتضى معاهدة دولية. وقد بدأت هذه الدولة تطورها السياسي من الناحية النظرية على الأقل متقدمة بخطوة على الصرب التي كانت حكومتها الذاتية قد بدأت في ذات العام. والحقيقة أن تاريخ اليونان وحضارتها كان يسبق وضعها السياسي الجديد عكس الصرب ، كما لم تكن معزولة عن اهتمامات المحيط الأوروبي نظرا لموقعها الجغرافي شرقي البحر المتوسط ، ومن هنا كانت ثورة اليونانيين ضد الحكم العثماني أمر يهم مصالح الدول الكبرى . ياضف إلى هذا أن اليونان كانت "تتمتع" بحماية ثلاثة قوى دولية لكل منها ماصلح متعارضة في منطقتي البلقان والبحر المتوسط ، الأمر الذي جعل منها بؤرة لصراع سياسات تلك القوى حيث كان من الممكن إستدراج أي منها للتورط في لامشكلات التي تكون دائما محل خلاف بين القوى السياسية في بلاد اليونان . وقد كان من المقدر منذ البداية أن بريطانيا وهي إحدى القوى الثلاثة الحامية لليونان سوف تسيطر على مقدرات البلاد نظرا لوجود أسطولها في البحر المتوسط والذي من شأنه حسم الأمور في حالة وقوع أزمة .
كان الملك أوثون Othon قد وصل إلى بلاد اليونان في فبراير 1833 واتخذ من ناوبليون Nauplion عاصمة لمملكته حيث لم تكن أحوال أثينا تسمح حتى عام 1835 بأن تكون مقرا للحكم . ولما كان الملك الجديد في الثامنة عشر من عمره فقد اصطحبه وصيا اختاره أبوه لو دفيج ملك بافاريا . ولأن لودفينج كان معني بنجاح ابنه في الحكم قثد اختار له مجموعة من الإداريين والمستشارين على درجة عالية من المهارة . وقام بتعيين الكونت جوزيف فون ارمانزبرج Armansperg رئيسا لمجلس الوصاية المعروف باتجاهاته الليبرالية وخبراته الهائلة في العمل في بافاريا . أما أعضاء المجلس الآخرون باتجاهاته الليبرالية وخبراته الهائلة في العمل في بافاريا. أما أعضاء المجلس الآخرون فكانوا كل من جورج لودفيج فون ماورير Maurer القاضي المعروف واستاذ القانون, والميجور جنرال كارل فون هيدسك Heudack الذي كان يقيم باليونان أثناء حوادث الثورة وكان على علم بمجريات الأمور فيها. وعهد بأمانة المجلس إلى كارل فون آبل Abel, وتم تعيين يوهان جرينر Johann Greiner مستشاراً. وعلى الفور شرع هؤلاء الرجال مع مساعديهم اليونانيين في العمل على تكوين جهاز إداري للدولة فقسموا العمل فيما بينهم حيث اختص هيدسك بشؤون الجيش والبحرية, واختص ماورير بالقانون والكنيسة والتعليم, وآبل بالشؤون الداخلية والخارجية على حين اختص جرينر بالمشكلات الإقتصادية, وكل منهم اختار نماذج من أفضل بلاد أوروبا الغربية تقدماً واستنارة لتطبيقها في بلاد اليونان. وفي هذا الخصوص كان للنموذج النابوليوني في فرنسا شأنه في المحاكاة والتقليد.
وسرعان ما دخل أعضاء مجلس الوصاية في صراع حاد فيما بينهم مما أضر باستقرار أمور البلاد في الداخل. وفي هذا الصراع قام ارمانزبرج في 1834 باستدعاء ماورير, وقلل من نفوذ هيدسك. وفي عام 1835 بلغ أوثون سن الرشد فأصبح ملكاً دون وصاية لكن ارمانزبرج ظل محتفظاً بنفوذه حى عام 1837 حين حل محله شخصية بافارية أخرى ألا وهوة ايجناس فون رودهارد Igans Von Rudhardt, وفي العام نفسه استقبلت اليونان أول رئيس وزراء لها من بين اليونانيين أنفسهم وهو قسطنطين زوجرافوس Zographos.
لقد قامت الدول الكبرى في اليونان حكماً ملكياً رغم أن اليونانيين كانوا بفضلون كما بدا من أحداث ثورتهم, قيام حكومة دستورية بسلطات تنفيذية مقيدة. غير أن الدول الكبرى وكانت قد وضعت في أولوياتها تأمين النظام والسلام في اليونان وإنهاء حالة الفوضى التي خلفتها الثورات وكانت ترى في وجود ملك يتمتع بسلطات مطلقة بعيداً عن قيود دستورية ما يساعد على تحقيق ذلك الهدف رغم أن تلك الدول كانت تظهر من آن لآخر تقديرها لفكرة الملكية الدستورية. غير أن الذي كان يحول دون وجود حكومة دستورية في اليونان لودفيج الأول بافاريا ووالد ملك اليونان أوثون إذ كان يعارض فكرة الدستور, ويمارس ضغطاً هائلاً على إبنه في الحكم, وأقصى ما كان يمكن أن يسمح به هو الرضوخ لميثاق "وطني" يتضمن حقوقاً محددة للشعب. وفي عام 1835 حين بلغ أوثون سن الرشد كان مجلس الوصاية لا يزال يمارس سلطات مطلقة ويخضع لرقابة الملك لودفيج الذي كان ينفرد بتعيين أعضائه واستدعائهم حسب إرادته. وهكذا كانت أعلى سلطة في أول حكومة يونانية مستقلة "بافارية" الطابع والهوى رغم وجود مجلس وزراء كله من اليونانيين لكن دون أ، تكون له سلطة حقيقية.
وينبغي التأكيد على أن هذه الإدارة الحكومية غير اليونانية حاولت إقامة ما اعتقد أعضاؤها أنه أفضل نظام حكم ممكن في البلاد. وقد تكون هذه الحكومة قد ارتكبت أخطاء وخاصة في الأمور المالية, وقد تكون قد ضيعت مبالغ كبيرة في محاولة منها لوضع اليونان في الإطار الصحيح الذي تتمتع به الدول الأكثر ثروة والكثر تقدماً. لكن أعضاء هذه الحكومة باستثناء ارمانزبرج لم يكونوا مرتشون, وقد بذلوا جهداً كبيراً من أجل تحقيق الأهداف. لكن من وجهة نظلا اليونانيين أنهم أصبحوا والحال كذلك مواطنين لحكومة دولة ضعيفة ألا وهي بافاريا وليس لإحدى الدول الكبرى الحامية لإستقلال بلادهم, وبالتالي لم يكن باستطاعتهم ممارسة فعلي على تلك الحكومة إلا إذا ضمنوا تأييد إحدى الدول الحامية.
على كل حال . . ففي السنوات الأولى من عهد المملكة الجديدة واصل مجلس الوصاية جهوده لوضع أسلوب للإدارة المحلية, وإعداد كنيسة وطنية, وتنظيم شؤون الجيش والبحرية, وإقامة مؤسسات تعليمية ومالية وغير ذلك من مؤسسات الدولة الحديثة. ولكن عند وضع نظام للإدارة المحلية واجه المجلس كثيراً من الصعوبات تماثل تلك التي واجهها ميلوش حاكم الصرب من قبل, ذلك أن أوثون ومستشاريه البافاريين شأن ميلوش كانت لهم مصلحة في كبح جماح المؤسسات التي قد تصبح مصدراً لمعارضة السلطة المركزية, وكانوا يفضلون الأسلوب المركزي في الحكم لأسباب عملية ونظرية وهو الأسلوب الذي قد يؤدي إلى تحطيم الحكومة الذاتية المحلية التي كانت قائمة زمن الحكم العثماني مثلما حدث في الصرب.
والحقيقة أن محاولة تطبيق الإدارة المحلية في البلاد كانت قد بدأت بطريقة أو بأخرى زمن ثورة اليونانيين عندما عمل قادة الثورة على تشكيل حكومة قوية لتقود النضال, وحينئذ تم تقسيم المناطق التي كات تحت سيطرة الثوار إلى أقاليم وكل إقليم يقسم إلى مدن وقرى (كوميونات), وعلى كل إقليم يعين إيبارش Eparch (أي والي) وسكرتير عام ورئيس للشرطة. وبمقتضى هذا النظام يصبح من حق كل كوميونة أن تدير شؤونها الخاصة بمعرفتها. غير أن هذا التخطيط الإداري لم يوضع أبداً موضع التنفيذ بسبب اضطراب أحوال البلاد خلال فترة الثورة.
وكانت أول خطوة اتخذت تجاه تنظيم إدارة وطنية قد تمت حكومة كابوديسترياس Capodistrias زمن ثورة الثورة وقد سبق أن ناقشنا رغبته في تكوين حكومة مركزية قوية تنزيا بالقوانين واللوائح مع بقاء جميع الأمور في يد الحكومة. ومن هنا وفي أبريل 1828 صدر قرار بتقسيم شبه جزيرة الموةر (البلوبونيز) إلى سبعة أقسام, وتقسيم مجموعة الجزر إلى ستة أقسام, وكل قسم يقسم إلى أقاليم, وكل إقليم إلى مدن وقرى كل منها يخضع لحكم مجلس محلي. ولما كان كابوديسترياس بحاجة إلى موظفين خبراء ومتعلمين يضمن ولاءهم فقد شغل كل المواقع المحلية برجال يونانيين ولكن من خارج بلاد اليونان بالمعنى الجغرافي, أي من استانبول وجزر أيونيا على سبيل المثال. غير أن هؤلاء الرجال كانوا بطبيعة الحال منفصلين عن السكان المحليين (الأهالي) من واقع سلوكياتهم ومصالحهم واهتماماتهم الشخصية شأن البريشانية بالنسبة لبلاد الصرب.
ولقد استمرت فلسفة الحكم هذه تحت حكم الملك أوثون, إذ كان مجلس الوصاية يرغب شأن كابوديسترياس في مركزة الحكومة مع ارتداء زي قانوني وتبني معايير قانوينة, ففي 1833 تك تقسيم بلاد اليونان إلى عشرة أقاليم (نومارخيات nomarchies), وكل إقليم يقسم إلى مقاطعات (إيبارشيات eparchies), وكل مقاطعة إلى بلديات (ديمات demes). وتقوم الحكومة بتعيين مسئول كل إقليم وكل مقاطعة. أما البلديات فقد تم تنظيمها بحيث تكون السلطة الحقيقية في يد الحكومة المركزية. ويلاحظ أنه حتى بعد إقامة المملكة استمرت حالة الإنفصال بين الحكام والمحكومين قائمة كما كان الحال من قبل. وكما هو معروف كانت قيادة مملكة اليونان في العقد الأول من وجودها "بافاريا" الهوية وتتكون من يونانيين تم استقدامهم من خارج البلاد. وحتى عندما قامت الحكومة المركزية فيما بعد بتعيين المسئولين المحليين في الريف اختارتهم من بين صفوف الشباب المتعلم الذين كانت مصالحهم في الغالب مختلفة عن مصالح الأهالي تماماً حدث في بلاد الصرب.
كما قام مجلس الوصاية بتنظيم شؤون الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية لتكون مستقلة عن البطريركية في استانبول التي كانت تحت سيطرة الباب العالي مباشرة. وكانت هناك محاولة جرت زمن الثورة لتحقيق هذا الاستقلال وخاصة بعد أن أصدر بطريرك استنابول تحت ضغط السلطات العثمانية قرار الحرمان الكنسي ضد الكنيسة اليونانية التي وقفت مع الثورة. وعلى هذا تدهورت الشؤون الكنيسة في اليونان أثناء الثورة شأن أمور أخرى وأصبحت أسيرة الفوضى والإضطراب. ولكن بعودة السلام بدا أن تنظيم الكنيسة أمواً ضرورياً وملحاً. وهنا يأتي دور جورج لودفيج فون ماورير ومجمع الأساقفة (السنودس) في إستقرار الكنيسة اليونانية لتكون مؤسسة ضمن مؤسسات الدولة. ولتحقيق ذلك نجد أن ماورير باعتباره ليبرالياً بروتستانتيا يستعير نموذج وذع الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا, والكنيسة الكاثوليكية في بافاريا وهما مؤسستان تابعتان للدولة.
وعندما صدرت التنظيمات الجديدة للكنيسة اليونانية في 1833 أعلن استقلالها عن بطريركية استانبول, وأصبحت شؤونها تدار بمعرفة مجمع (سنودس) يعين الملك أعضاؤه, ووجه المفارقة هنا أن رأٍس الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية أصبح في الواقع ملكة كاثوليكياً. كما امتدت يد الإصلاح الكنسي لتشمل الأديرة التي كانت أوضاعها في حالة يرثى لها بسبب حوادث الثورة. ومن ذلك أنه تقرر إغلاق الأديرة التي يقل عدد رهبانها عن ستة على تنتقل مملكاتها إلى الحكومة, ويستخدم عائدها في المستقبل للصرف منه على الإحتياجات الكنسية والتعليمية.
على أن هذه الإصلاحات كانت محل جدل كبير ساخن داخلياً وخارجيأً لأكثر من سبب, فلقد قام على تنفيذها قيادات يونانية تؤمن بالعلمانية والأفكار الغربية, ولم تؤيدها بطبيعة الحال العناصر المحافظة في الكنيسة اليونانية, ولأنها تنتهت بوضع ملك كاثوليكي على رأس الكنيسة الأرثوذكسية في البلاد الأمر الذي نتج عنه انشقاق أكثر من بطريرك رفض المثول لها بدعوى أنها فرضت دون التفاوض مع بطريركية استانبول فكانت علامة على قطيعة مع هيئة تعتبر يونانية لأن غالبية أعضائها من اليونانيين. وأكثر من هذا أن روسيا انغمست بعمق في تلك المشكلة للمحافظة على وحدة الأرثوذكسية.
لكن الجرح الذي أحدثته الإصلاحات لم يندمل وظلت الخلافات حوله قائمة ولم يتم التوصل إلى تسوية نهائية بشأنه إلا في عام 1850 حيث وافق بطريرك استانبول بوساطة روسية على الإعتراف بإنفصال الكنيسة اليونانية في مقابل تنازلات قليلة نسبياً. وفي عام 1852 صدر قانون جديد بقيت الكنيسة بمقتضاه تحت رعاية مجمع (سنودس) يرأسه كبير أساقفة أثينا, وبشرط ألا يسري أي قرار تصدره الكنيسة إلا بتوقيع المدعي العام ممثل الحكومة, وبهذا بقيت الكنيسة تابعة لسلطة الحكومة المدنية.
كان الملك أوثون Othon قد وصل إلى بلاد اليونان في فبراير 1833 واتخذ من ناوبليون Nauplion عاصمة لمملكته حيث لم تكن أحوال أثينا تسمح حتى عام 1835 بأن تكون مقرا للحكم . ولما كان الملك الجديد في الثامنة عشر من عمره فقد اصطحبه وصيا اختاره أبوه لو دفيج ملك بافاريا . ولأن لودفينج كان معني بنجاح ابنه في الحكم قثد اختار له مجموعة من الإداريين والمستشارين على درجة عالية من المهارة . وقام بتعيين الكونت جوزيف فون ارمانزبرج Armansperg رئيسا لمجلس الوصاية المعروف باتجاهاته الليبرالية وخبراته الهائلة في العمل في بافاريا . أما أعضاء المجلس الآخرون باتجاهاته الليبرالية وخبراته الهائلة في العمل في بافاريا. أما أعضاء المجلس الآخرون فكانوا كل من جورج لودفيج فون ماورير Maurer القاضي المعروف واستاذ القانون, والميجور جنرال كارل فون هيدسك Heudack الذي كان يقيم باليونان أثناء حوادث الثورة وكان على علم بمجريات الأمور فيها. وعهد بأمانة المجلس إلى كارل فون آبل Abel, وتم تعيين يوهان جرينر Johann Greiner مستشاراً. وعلى الفور شرع هؤلاء الرجال مع مساعديهم اليونانيين في العمل على تكوين جهاز إداري للدولة فقسموا العمل فيما بينهم حيث اختص هيدسك بشؤون الجيش والبحرية, واختص ماورير بالقانون والكنيسة والتعليم, وآبل بالشؤون الداخلية والخارجية على حين اختص جرينر بالمشكلات الإقتصادية, وكل منهم اختار نماذج من أفضل بلاد أوروبا الغربية تقدماً واستنارة لتطبيقها في بلاد اليونان. وفي هذا الخصوص كان للنموذج النابوليوني في فرنسا شأنه في المحاكاة والتقليد.
وسرعان ما دخل أعضاء مجلس الوصاية في صراع حاد فيما بينهم مما أضر باستقرار أمور البلاد في الداخل. وفي هذا الصراع قام ارمانزبرج في 1834 باستدعاء ماورير, وقلل من نفوذ هيدسك. وفي عام 1835 بلغ أوثون سن الرشد فأصبح ملكاً دون وصاية لكن ارمانزبرج ظل محتفظاً بنفوذه حى عام 1837 حين حل محله شخصية بافارية أخرى ألا وهوة ايجناس فون رودهارد Igans Von Rudhardt, وفي العام نفسه استقبلت اليونان أول رئيس وزراء لها من بين اليونانيين أنفسهم وهو قسطنطين زوجرافوس Zographos.
لقد قامت الدول الكبرى في اليونان حكماً ملكياً رغم أن اليونانيين كانوا بفضلون كما بدا من أحداث ثورتهم, قيام حكومة دستورية بسلطات تنفيذية مقيدة. غير أن الدول الكبرى وكانت قد وضعت في أولوياتها تأمين النظام والسلام في اليونان وإنهاء حالة الفوضى التي خلفتها الثورات وكانت ترى في وجود ملك يتمتع بسلطات مطلقة بعيداً عن قيود دستورية ما يساعد على تحقيق ذلك الهدف رغم أن تلك الدول كانت تظهر من آن لآخر تقديرها لفكرة الملكية الدستورية. غير أن الذي كان يحول دون وجود حكومة دستورية في اليونان لودفيج الأول بافاريا ووالد ملك اليونان أوثون إذ كان يعارض فكرة الدستور, ويمارس ضغطاً هائلاً على إبنه في الحكم, وأقصى ما كان يمكن أن يسمح به هو الرضوخ لميثاق "وطني" يتضمن حقوقاً محددة للشعب. وفي عام 1835 حين بلغ أوثون سن الرشد كان مجلس الوصاية لا يزال يمارس سلطات مطلقة ويخضع لرقابة الملك لودفيج الذي كان ينفرد بتعيين أعضائه واستدعائهم حسب إرادته. وهكذا كانت أعلى سلطة في أول حكومة يونانية مستقلة "بافارية" الطابع والهوى رغم وجود مجلس وزراء كله من اليونانيين لكن دون أ، تكون له سلطة حقيقية.
وينبغي التأكيد على أن هذه الإدارة الحكومية غير اليونانية حاولت إقامة ما اعتقد أعضاؤها أنه أفضل نظام حكم ممكن في البلاد. وقد تكون هذه الحكومة قد ارتكبت أخطاء وخاصة في الأمور المالية, وقد تكون قد ضيعت مبالغ كبيرة في محاولة منها لوضع اليونان في الإطار الصحيح الذي تتمتع به الدول الأكثر ثروة والكثر تقدماً. لكن أعضاء هذه الحكومة باستثناء ارمانزبرج لم يكونوا مرتشون, وقد بذلوا جهداً كبيراً من أجل تحقيق الأهداف. لكن من وجهة نظلا اليونانيين أنهم أصبحوا والحال كذلك مواطنين لحكومة دولة ضعيفة ألا وهي بافاريا وليس لإحدى الدول الكبرى الحامية لإستقلال بلادهم, وبالتالي لم يكن باستطاعتهم ممارسة فعلي على تلك الحكومة إلا إذا ضمنوا تأييد إحدى الدول الحامية.
على كل حال . . ففي السنوات الأولى من عهد المملكة الجديدة واصل مجلس الوصاية جهوده لوضع أسلوب للإدارة المحلية, وإعداد كنيسة وطنية, وتنظيم شؤون الجيش والبحرية, وإقامة مؤسسات تعليمية ومالية وغير ذلك من مؤسسات الدولة الحديثة. ولكن عند وضع نظام للإدارة المحلية واجه المجلس كثيراً من الصعوبات تماثل تلك التي واجهها ميلوش حاكم الصرب من قبل, ذلك أن أوثون ومستشاريه البافاريين شأن ميلوش كانت لهم مصلحة في كبح جماح المؤسسات التي قد تصبح مصدراً لمعارضة السلطة المركزية, وكانوا يفضلون الأسلوب المركزي في الحكم لأسباب عملية ونظرية وهو الأسلوب الذي قد يؤدي إلى تحطيم الحكومة الذاتية المحلية التي كانت قائمة زمن الحكم العثماني مثلما حدث في الصرب.
والحقيقة أن محاولة تطبيق الإدارة المحلية في البلاد كانت قد بدأت بطريقة أو بأخرى زمن ثورة اليونانيين عندما عمل قادة الثورة على تشكيل حكومة قوية لتقود النضال, وحينئذ تم تقسيم المناطق التي كات تحت سيطرة الثوار إلى أقاليم وكل إقليم يقسم إلى مدن وقرى (كوميونات), وعلى كل إقليم يعين إيبارش Eparch (أي والي) وسكرتير عام ورئيس للشرطة. وبمقتضى هذا النظام يصبح من حق كل كوميونة أن تدير شؤونها الخاصة بمعرفتها. غير أن هذا التخطيط الإداري لم يوضع أبداً موضع التنفيذ بسبب اضطراب أحوال البلاد خلال فترة الثورة.
وكانت أول خطوة اتخذت تجاه تنظيم إدارة وطنية قد تمت حكومة كابوديسترياس Capodistrias زمن ثورة الثورة وقد سبق أن ناقشنا رغبته في تكوين حكومة مركزية قوية تنزيا بالقوانين واللوائح مع بقاء جميع الأمور في يد الحكومة. ومن هنا وفي أبريل 1828 صدر قرار بتقسيم شبه جزيرة الموةر (البلوبونيز) إلى سبعة أقسام, وتقسيم مجموعة الجزر إلى ستة أقسام, وكل قسم يقسم إلى أقاليم, وكل إقليم إلى مدن وقرى كل منها يخضع لحكم مجلس محلي. ولما كان كابوديسترياس بحاجة إلى موظفين خبراء ومتعلمين يضمن ولاءهم فقد شغل كل المواقع المحلية برجال يونانيين ولكن من خارج بلاد اليونان بالمعنى الجغرافي, أي من استانبول وجزر أيونيا على سبيل المثال. غير أن هؤلاء الرجال كانوا بطبيعة الحال منفصلين عن السكان المحليين (الأهالي) من واقع سلوكياتهم ومصالحهم واهتماماتهم الشخصية شأن البريشانية بالنسبة لبلاد الصرب.
ولقد استمرت فلسفة الحكم هذه تحت حكم الملك أوثون, إذ كان مجلس الوصاية يرغب شأن كابوديسترياس في مركزة الحكومة مع ارتداء زي قانوني وتبني معايير قانوينة, ففي 1833 تك تقسيم بلاد اليونان إلى عشرة أقاليم (نومارخيات nomarchies), وكل إقليم يقسم إلى مقاطعات (إيبارشيات eparchies), وكل مقاطعة إلى بلديات (ديمات demes). وتقوم الحكومة بتعيين مسئول كل إقليم وكل مقاطعة. أما البلديات فقد تم تنظيمها بحيث تكون السلطة الحقيقية في يد الحكومة المركزية. ويلاحظ أنه حتى بعد إقامة المملكة استمرت حالة الإنفصال بين الحكام والمحكومين قائمة كما كان الحال من قبل. وكما هو معروف كانت قيادة مملكة اليونان في العقد الأول من وجودها "بافاريا" الهوية وتتكون من يونانيين تم استقدامهم من خارج البلاد. وحتى عندما قامت الحكومة المركزية فيما بعد بتعيين المسئولين المحليين في الريف اختارتهم من بين صفوف الشباب المتعلم الذين كانت مصالحهم في الغالب مختلفة عن مصالح الأهالي تماماً حدث في بلاد الصرب.
كما قام مجلس الوصاية بتنظيم شؤون الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية لتكون مستقلة عن البطريركية في استانبول التي كانت تحت سيطرة الباب العالي مباشرة. وكانت هناك محاولة جرت زمن الثورة لتحقيق هذا الاستقلال وخاصة بعد أن أصدر بطريرك استنابول تحت ضغط السلطات العثمانية قرار الحرمان الكنسي ضد الكنيسة اليونانية التي وقفت مع الثورة. وعلى هذا تدهورت الشؤون الكنيسة في اليونان أثناء الثورة شأن أمور أخرى وأصبحت أسيرة الفوضى والإضطراب. ولكن بعودة السلام بدا أن تنظيم الكنيسة أمواً ضرورياً وملحاً. وهنا يأتي دور جورج لودفيج فون ماورير ومجمع الأساقفة (السنودس) في إستقرار الكنيسة اليونانية لتكون مؤسسة ضمن مؤسسات الدولة. ولتحقيق ذلك نجد أن ماورير باعتباره ليبرالياً بروتستانتيا يستعير نموذج وذع الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا, والكنيسة الكاثوليكية في بافاريا وهما مؤسستان تابعتان للدولة.
وعندما صدرت التنظيمات الجديدة للكنيسة اليونانية في 1833 أعلن استقلالها عن بطريركية استانبول, وأصبحت شؤونها تدار بمعرفة مجمع (سنودس) يعين الملك أعضاؤه, ووجه المفارقة هنا أن رأٍس الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية أصبح في الواقع ملكة كاثوليكياً. كما امتدت يد الإصلاح الكنسي لتشمل الأديرة التي كانت أوضاعها في حالة يرثى لها بسبب حوادث الثورة. ومن ذلك أنه تقرر إغلاق الأديرة التي يقل عدد رهبانها عن ستة على تنتقل مملكاتها إلى الحكومة, ويستخدم عائدها في المستقبل للصرف منه على الإحتياجات الكنسية والتعليمية.
على أن هذه الإصلاحات كانت محل جدل كبير ساخن داخلياً وخارجيأً لأكثر من سبب, فلقد قام على تنفيذها قيادات يونانية تؤمن بالعلمانية والأفكار الغربية, ولم تؤيدها بطبيعة الحال العناصر المحافظة في الكنيسة اليونانية, ولأنها تنتهت بوضع ملك كاثوليكي على رأس الكنيسة الأرثوذكسية في البلاد الأمر الذي نتج عنه انشقاق أكثر من بطريرك رفض المثول لها بدعوى أنها فرضت دون التفاوض مع بطريركية استانبول فكانت علامة على قطيعة مع هيئة تعتبر يونانية لأن غالبية أعضائها من اليونانيين. وأكثر من هذا أن روسيا انغمست بعمق في تلك المشكلة للمحافظة على وحدة الأرثوذكسية.
لكن الجرح الذي أحدثته الإصلاحات لم يندمل وظلت الخلافات حوله قائمة ولم يتم التوصل إلى تسوية نهائية بشأنه إلا في عام 1850 حيث وافق بطريرك استانبول بوساطة روسية على الإعتراف بإنفصال الكنيسة اليونانية في مقابل تنازلات قليلة نسبياً. وفي عام 1852 صدر قانون جديد بقيت الكنيسة بمقتضاه تحت رعاية مجمع (سنودس) يرأسه كبير أساقفة أثينا, وبشرط ألا يسري أي قرار تصدره الكنيسة إلا بتوقيع المدعي العام ممثل الحكومة, وبهذا بقيت الكنيسة تابعة لسلطة الحكومة المدنية.