- الاثنين ديسمبر 09, 2013 12:32 pm
#69190
هما ثورتان كبيرتان أجتاحتا أجزاءً واسعة من المنطقة التي كانت تُعرف قديماً ببلاد السودان، وأثارتا قلوب الناس وأذهانهم لردح طويل من الزمان، ثم هما فوق ذلك مصدر سر مقيم لكثير من الناس. وجاءت إحداهما في السودان الغربي في الربع الأول من القرن الميلادي الماضي، وجاءت الثانية في السودان الشرقي في الربع الأخير من القرن الماضي، وذلك في نهاية القرن الثالث عشر الهجري، وهما ثورة عثمان دان فوديو بنيجيريا وثورة الإمام المهدي بالسودان، وقد انتصرت الأولى على وثنية الهوسا، وأفضت الى قيام إمبراطورية إسلامية صادقة في السودان الغربي، ثم مهدت لخلق مقاومة منظمة ضد التوغل الأوروبي في غرب إفريقيا، أما الثانية فقد انتصرت على حكم أجنبي ظل يسيطر على البلاد لما يزيد على نصف قرن من الزمان، وأقامت نظاماً إسلامياً خالصاً، وظلت تقاوم التوغل الأوروبي مقاومة عنيفة حتى أوفت عمرها وختمت حياتها على أطراف بقعتها المباركة، وقد تركت الثورتان بعد ذلك آثاراً اجتماعية وسياسية متماثلة على الرغم من اختلاف المناخ الطبيعي والبشري وتباعد المكانين وفاصل الزمن بينهما، ثم هما أعظم ثورتين تقدمهما إفريقيا المسلمة السوداء في عالم الثورات، وعلى صعيد الفكر والدين فقد بدأتا بهدف الإصلاح السلمي لمجتمع المسلمين والعودة به إلى صفائه القديم أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ونبذ المذاهب والطرق الصوفية وكل ما يقسم المسلمين الى طوائف وملل ونحل، والاحتكام المباشر إلى القرآن الكريم والحديث النبوي، وكان اتجاه الثورتين اتجاهاً أممياً في إطار الإسلام، ومن هنا كانت الروح التبشيرية والدعوة إلى نشر الإسلام، وإعلان الجهاد المقدس حتى يعم الإسلام جميع أرجاء الأرض، والواقع أن روح التبشير هذه كانت وليدة البيئة التي ظهرت فيها الدعوتان، لأن الدعوتين ظهرتا على أطراف العالم الإسلامي، وفي وقت كان فيه المسلمون في هذه الاصقاع يعدون العدة للتوغل إلى داخل القارة ونشر دينهم في إفريقيا ذات المناخ الاستوائي، والتي ظلت بعيدة عن تأثير الإسلام وعوامل الحضارة الوافدة من العالم القديم، ففي السودان الغربي كان التجار ودعاة التبشير يدخلون منطقة الغابات الكثيفة فيروجون للتجارة والدين معاً، وكان المسلمون في السودان الشرقي يشقون طريقهم إلى داخل القارة عن طريق جنوب دارفور بعد أن أقفلت سدود أعالي النيل طريق النيل، وقد قدر لهؤلاء أن يقيموا سلطنات إسلامية في بحر الغزال وشرقي الكنغو، وكان من المقرر أن تتجه هذه الحركة جنوباً وشرقاً وغرباً فتعم بذلك وسط القارة لولا الفوضى التي صحبت تجارة الرقيق وتخبط الإدارة المصرية، ثم أهداف السياسة البريطانية التي أوقفت حركة الإسلام وجعلت المنطقة مغلقة، وذلك خدمة للتبشير المسيحي، إلا أن الدعوتين السلميتين قد انقلبتا ولظروف تأريخية إلى ثورتين عارمتين اتخذتا السيف سبيلاً ورفعتا رايات الجهاد المقدس، ثم انقلبتا إلى دولتين يصدق عليهما ما يصدق على الدول وتتحكم فيهما عوامل السياسة والحكم، وهكذا الحركات الدينية دائماً تنقلب موازينها بدافع الحماس والغيرة على الدين، وكذلك مقاومة المعارضين. وتغدو ناراً مؤججة بعد أن كانت نوراً يشع وعلماً يضيء، وقد ولدت الثورتان في مناخ الطرق الصوفية وانعكاساتها المختلفة، وقد لعبت صراعاتهما دوراً كبيراً في مولدهما، فقد كان الشيخ عثمان تابعاً للطريقة القادرية وتربى في كنفها، وكانت هذه الطريقة تعيش في صراع مع الطريقة التيجانية التي يقاسمها النفوذ والقوة، أما الإمام المهدي فقد كان تابعاً للطريقة السمانية المنشقة على نفسها، وقد ذاق مرارة الصراعات الداخلية، وعاش هذه التجربة القاسية ردحاً من الزمن، ولما كبر الرجلان وقاما بدعوتيهما تخلصا من جو الطرق شيئاً فشيئاً، ثم انتهيا إلى أن أعلن أحدهما أنه أمير المؤمنين، بينما أعلن الثاني أنه المهدي المنتظر، منتظر العام والخاص وخليفة سيد المرسلين، وصار كل منهما يأمل أن يجمع العالم تحت قيادته، وأن يقضى على الانقسامات الدينية. وهكذا كانت سيرة أغلب المصلحين المسلمين، إذ كانوا يبدأون نشاطهم الديني في عالم التصوف، غير أن المذاهب مازالت قائمة والطرق الصوفية مازالت بحالها، وها هي الطبول تدق بعنف في المناسبات الدينية إلى جانب الطقوس الإسلامية، وها هم الرجال يرقصون في حلبات المديح.