الانقلاب على المبادئ
مرسل: الاثنين ديسمبر 09, 2013 5:00 pm
الانقلاب على المبادئ
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أما بعد:
مِن أقسى ما يمكن أن يوجَّه إلى أي شخص أو جماعة أو اتجاه من نقد، هو أن يوصم بغياب المبادئ، وأنهم يدورون حول رؤية مصلحية نفعية لا تستند إلى مبدأ شريف تناضل من أجله وتقدم نفسها مستمسكة به، وأن ما تقوله بلسانها لن تجد له رصيداً على أرض الواقع، وما كان لهذا النقد أن يكون شديداً على النفوس إلا لأن ثمّ إيماناً عميقاً بأهمية المبادئ لدى جميع الناس على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم.
لن تجد صفة الاستمساك بالمبدأ متجلية في أصدق صورها كما هي لدى المنهاج الإسلامي، فمن خصائص هذا المنهاج أنه يقوم على مبادئ وأصول راسخة ثابتة يجب الاستمساك بها، وبقدر ابتعاد أي شخص أو جماعة أو اتجاه عن هذه المبادئ بقدر ما يخلع عن نفسه شرف الانتساب إلى هذا المنهاج، فالانتساب إلى المنهاج الإسلامي يتطلب الاستمساك بعدد من الأصول والثوابت الشرعية، والدعوة إليها، والاجتماع عليها، ولهذه المبادئ تفصيلات كثيرة تجب مراعاتها، كل هذا يجعل المنهاج الإسلامي قائماً على منظومة متكاملة من المبادئ تحكمها أصول وقواعد محكمة.
ويعمّق هذه المبادئ أكثر، وهو مبدأ بحد ذاته، تعظيم الشريعة للصدق والوفاء بالعهد وذم نكث المواثيق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١]، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91].
ولهذا كان للوفاء بالعهد قيمة شرعية عظيمة، وهو أصل شرعي حاضر في السياق الفقهي في كل أبواب الدين، تجده في باب الأسرة كما تجده حاضراً في الجهاد والقتال، وفي باب نظام الحكم، (فالمسلمون على شروطهم)، فلا يجوز نكث العهد تحت أي مسوِّغ مصلحي، ولو كان فيه مصلحة عامة للمسلمين، وقد كان من تعظيم المسلمين لأمر الوفاء بالعهد أن جعلوا الاشتباه بالعهد للكافر الحربي يعطيه حكم العهد فيما يسمى شبهة الأمان، فالحربي حين يظن عن أمر معين أنه عهد وأمان له فلا يجوز التعرض له ولو كان الأمر في حقيقته ليس فيه عهد ولا أمان؛ تعظيماً لشرف هذا العهد.
فخلاصة هذا أن الأحكام في الإسلام تقوم على مبدأ، فما تقوله بلسانك – مما تجيزه الشريعة - ستلزم به بقية أركانك وستلزم شرعاً أن لا يكون الواقع على خلافه، وحين تستحضر هذا جيداً سيفسر لك كثيراً من الاختلافات المعاصرة بين المنهاج الإسلامي وغيره، فالصرامة الشديدة في الاستمساك بالمبادئ تجعل الشخص يراعي مطابقة كلامه لواقعه، وأما من ليس لديه هذه الصرامة فإنه ممكن أن يقدم بلسانه وبقلمه غاية ما يحلو له من مثاليات مدهشة وربما يبالغ فيها ولا يبالي، لأن ثمّ انفصالاً بين التقرير النظري والواقع العملي.
لنضرب مثالاً يوضح هذا الاختلاف:
من المسائل المعاصرة التي تثير اختلافاً واتهاماً لأحكام الإسلام: حكم قتل الأسير، ومعروف أن جمهور الفقهاء يرون جواز قتل الأسير، وهذا ينافي القانون الدولي المعاصر الذي يجرّم هذا الفعل، وقد أوقع هذا كثيراً من الناس بل ومن الفقهاء أحياناً، في إشكال عن كيفية دفع الحرج عن الفقه الإسلامي في تقرير هذا الحكم الذي يراه العالم الغربي جريمة وانتهاكاً لحقوق الإنسان، فأصبح الكثير يقرر حرمة قتل الأسير مطلقاً رضوخاً لضغط هذه المرحلة، ولو حاكمنا هذه المسألة إلى أصل قيام المنهاج الإسلامي على المبدأ لزال هذا الإشكال تماماً، وهو أن القوى الغربية لا إشكال لديها في أن توقِّع على أي معاهدة، وأن تحشد الإعلام كله في سبيل تجريم قتل الأسير، لأن هذا لن يتجاوز مساحة الورق والكلام، وأما حين تحتاج إلى قتل الأسير وترى أنه محقق لمصلحتها فإنها ستقوم بذلك ولن تجد في ذلك أي غضاضة، ولهذا تجد أن قتل الأسرى سمة ثابتة لكل الحروب المعاصرة مع اتفاقهم على تجريمه وتوقيعهم على معاهدات بخصوصه لقناعتهم بأن مصلحتهم تقتضي هذا، وأما التوقيع فمن مصلحتهم أن يفعلوه أيضاً لتحسين صورتهم وإظهارهم بصورة المدافع عن حقوق الإنسان.. هذه الازدواجية بين الواقع والتنظير لا يمكن أن تقع في الفقه الإسلامي، فلو كان قتل الأسير محرماً لما جاز بأي حال من الأحوال ولو كانت المصلحة تقتضيه، لأن القضية مبدأ وأصل لا يخرم لأجل المصلحة، وأما حين نقول إنه جائز، فليس معنى هذا أنه يجب قتله مطلقاً، إنما يكون أمراً مصلحياً، وحين يتم الاتفاق والتعاهد على منعه فيجب الوفاء بذلك ولا يجوز انتهاكه.
هذا استطراد في مثال واحد يجلي خاصية المبدأ في المنهاج الإسلامي.
هذه الخاصية لا بد أن يكون لها أثرها البارز على الاتجاهات والتيارات والأشخاص التي تنتسب إلى الإسلام في حالتنا المعاصرة، وبقدر ما يكون ثمّ صدق في الانتساب بقدر ما تتعمق هذه الصفة في نفوسهم، ولهذا فمن الظاهر أن الوفاء بالعهد والاستمساك بالمواثيق والمبادئ هو في الإسلاميين أقوى مما لدى غيرهم، وأن نقض العهود ونكث العقود هو في الإسلاميين أقل من غيرهم، وهذه نتيجة طبيعية لمتانة الأصل الذي ينتسبون إليه وعمق تأثيره في النفوس.
كما أن الانتساب إلى الإسلام يجعل الشخص خاضعاً للرقابة عليه ومحاكمته إلى المرجعية التي ينتسب إليها، فهو لا يملك هذه المرجعية أو يحتكرها، فحين يدّعي الانتساب إليها فإنه يضع نفسه تحت طائلة النقد والتقويم، ويجعل أفعاله وأقواله محكومة بمدى انسجامها مع مرجعيته بما يعمق من قوة المبادئ وصلابة العهود.
وكما يقال: فبضدها تتميز الأشياء، فإدراك عمق المبادئ في المنهاج الإسلامي سيتضح حين تقارن هذا بأصحاب التوجّهات الفكرية الأخرى التي تنتسب لمرجعيات ثقافية مختلفة، وكيف يقع الانقلاب على المبادئ والتنكر للأصول بسبب المصالح أو بسبب الخصومات؟ فمن يعيش طول عمره يبشر بحقوق الإنسان يقف شامخ الرأس مدافعاً عن قتل الأبرياء من الناس لمجرد أنهم يخالفونه فكرياً، ومن يصيح في كل محفل بالديمقراطية وضرورتها وأنها خلاص للشعوب من الظلم والاستبداد وأنها حق للأكثرية، تتبخر كل هذه المفاهيم ويبارك كل عدوان عليها حين تكون نتيجة هذه الديمقراطية تحقيق مكاسب للإسلاميين، فما يكتبه من سنوات وما أثقل به كاهل الأثير من عقود يمكن أن ينقضه في لحظة معينة حين تكون النتيجة غير مرضية له وخادشة لشعوره، ومن يقيم الدنيا ولا يقعدها لأجل التحقيق مع كاتب جراء آراء تخالف النظام فيشعر أن هذا انتهاك لحقوق الإنسان ودمار للحرث والنسل، هو نفسه يقف محرضاً على إغلاق القنوات وسد منافذ التعبير كلها عن اتجاه كامل لمجرد أنهم ليسوا متفقين معه في الرؤية العلمانية!
هنا يظهر الفرق بين صاحب المبدأ الذي يتخذ قراراته من ضوء إيمانه بمبدئه بغض النظر عن صواب هذا المبدأ، وبين من ينقلب على مبادئه لأنه لا يريد أن يطبقها على مخالفيه، فبغضه لمخالفيه أكثر من حبه لمبادئه، ووفاؤه للعداء معهم أعظم من وفائه لمنطلقاته.
ونحن هنا نتحدث عن المثقفين والمفكرين الذين يفترض أن يكونوا أقرب لمبادئهم وأكثر حميّة لها، وأما القوى السياسية فانتهاكها للمبادئ أصرخ من أن يحتاج إلى بيان، بل حقيقة المبادئ التي ترفعها كثير من القوى السياسية هي أنها وسيلة ومطية للمصالح الضيقة.
كما نتحدث هنا عن انقلاب على أصول كلية ومنطلقات تشكل العمود الفقري لهذه الاتجاهات، ومع ذلك ينقلبون عليها، فهم لا ينقلبون على مسألة جزئية أو قضية تقديرية في بنائهم الفكري، بل ينقلبون على الأساس الفكري الذي ينطلقون منه.
هذه المبادئ المنقلبة تعطي التيار الإسلامي دروساً عدة يجب أن تكون في محط اهتمامه وعنايته، من أهمها: ضرورة التواصي على الاستمساك بالمبادئ الإسلامية التي ننتسب إليها، وأن لا يكون نقض الآخرين لعهودهم سبباً لمقابلتهم بالمثل، فهي مبدأ وليس مكافأة لأحد.
وأيضاً: ضرورة الاحتكام في هذا إلى مبادئنا نحن، فنحاكَم إلى مبادئنا وليس إلى مبادئ غيرنا، فحين نذم الآخرين على انقلابهم على مبادئهم لا يصح أن نسلم لهم بهذه المبادئ حتى لا نشاركهم في جناية الانقلاب، لأننا نحاسبهم على مبادئهم لا مبادئنا، فحين ننكر على الليبرالي أنه أصبح يجيز تقييد الحريات الفكرية، لا يصح أن نقول نحن إننا لا نقيد الحريات الفكرية حتى يكون نقدنا منسجماً، فنقدنا ليس لرأيه في تقييد الحريات، بل لكذبه وخداعه حين يقرر شيئاً ثم ينقضه في أرض الواقع.
ولهذا ننتقد الدول الغربية التي قيدت حريات المسلمين في العبادة والحجاب لأنها متناقضة مع أساسها الفكري في الحريات الليبرالية، فهو انقلاب على المبادئ، ولا يصح أن نجعل هذا سبباً لأن نقبل نحن حرية التبرج والفساد حتى لا ننتقد الآخرين بما لا نفعل، لأننا هنا نحاكمهم إلى مبادئهم لا مبادئنا، وعليهم أن يحاكموننا إلى مبادئنا لا مبادئهم.
:: مجلة البيان العدد 314 شوال 1434هـ، أغسطس - سبتمبر 2013م.
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أما بعد:
مِن أقسى ما يمكن أن يوجَّه إلى أي شخص أو جماعة أو اتجاه من نقد، هو أن يوصم بغياب المبادئ، وأنهم يدورون حول رؤية مصلحية نفعية لا تستند إلى مبدأ شريف تناضل من أجله وتقدم نفسها مستمسكة به، وأن ما تقوله بلسانها لن تجد له رصيداً على أرض الواقع، وما كان لهذا النقد أن يكون شديداً على النفوس إلا لأن ثمّ إيماناً عميقاً بأهمية المبادئ لدى جميع الناس على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم.
لن تجد صفة الاستمساك بالمبدأ متجلية في أصدق صورها كما هي لدى المنهاج الإسلامي، فمن خصائص هذا المنهاج أنه يقوم على مبادئ وأصول راسخة ثابتة يجب الاستمساك بها، وبقدر ابتعاد أي شخص أو جماعة أو اتجاه عن هذه المبادئ بقدر ما يخلع عن نفسه شرف الانتساب إلى هذا المنهاج، فالانتساب إلى المنهاج الإسلامي يتطلب الاستمساك بعدد من الأصول والثوابت الشرعية، والدعوة إليها، والاجتماع عليها، ولهذه المبادئ تفصيلات كثيرة تجب مراعاتها، كل هذا يجعل المنهاج الإسلامي قائماً على منظومة متكاملة من المبادئ تحكمها أصول وقواعد محكمة.
ويعمّق هذه المبادئ أكثر، وهو مبدأ بحد ذاته، تعظيم الشريعة للصدق والوفاء بالعهد وذم نكث المواثيق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١]، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91].
ولهذا كان للوفاء بالعهد قيمة شرعية عظيمة، وهو أصل شرعي حاضر في السياق الفقهي في كل أبواب الدين، تجده في باب الأسرة كما تجده حاضراً في الجهاد والقتال، وفي باب نظام الحكم، (فالمسلمون على شروطهم)، فلا يجوز نكث العهد تحت أي مسوِّغ مصلحي، ولو كان فيه مصلحة عامة للمسلمين، وقد كان من تعظيم المسلمين لأمر الوفاء بالعهد أن جعلوا الاشتباه بالعهد للكافر الحربي يعطيه حكم العهد فيما يسمى شبهة الأمان، فالحربي حين يظن عن أمر معين أنه عهد وأمان له فلا يجوز التعرض له ولو كان الأمر في حقيقته ليس فيه عهد ولا أمان؛ تعظيماً لشرف هذا العهد.
فخلاصة هذا أن الأحكام في الإسلام تقوم على مبدأ، فما تقوله بلسانك – مما تجيزه الشريعة - ستلزم به بقية أركانك وستلزم شرعاً أن لا يكون الواقع على خلافه، وحين تستحضر هذا جيداً سيفسر لك كثيراً من الاختلافات المعاصرة بين المنهاج الإسلامي وغيره، فالصرامة الشديدة في الاستمساك بالمبادئ تجعل الشخص يراعي مطابقة كلامه لواقعه، وأما من ليس لديه هذه الصرامة فإنه ممكن أن يقدم بلسانه وبقلمه غاية ما يحلو له من مثاليات مدهشة وربما يبالغ فيها ولا يبالي، لأن ثمّ انفصالاً بين التقرير النظري والواقع العملي.
لنضرب مثالاً يوضح هذا الاختلاف:
من المسائل المعاصرة التي تثير اختلافاً واتهاماً لأحكام الإسلام: حكم قتل الأسير، ومعروف أن جمهور الفقهاء يرون جواز قتل الأسير، وهذا ينافي القانون الدولي المعاصر الذي يجرّم هذا الفعل، وقد أوقع هذا كثيراً من الناس بل ومن الفقهاء أحياناً، في إشكال عن كيفية دفع الحرج عن الفقه الإسلامي في تقرير هذا الحكم الذي يراه العالم الغربي جريمة وانتهاكاً لحقوق الإنسان، فأصبح الكثير يقرر حرمة قتل الأسير مطلقاً رضوخاً لضغط هذه المرحلة، ولو حاكمنا هذه المسألة إلى أصل قيام المنهاج الإسلامي على المبدأ لزال هذا الإشكال تماماً، وهو أن القوى الغربية لا إشكال لديها في أن توقِّع على أي معاهدة، وأن تحشد الإعلام كله في سبيل تجريم قتل الأسير، لأن هذا لن يتجاوز مساحة الورق والكلام، وأما حين تحتاج إلى قتل الأسير وترى أنه محقق لمصلحتها فإنها ستقوم بذلك ولن تجد في ذلك أي غضاضة، ولهذا تجد أن قتل الأسرى سمة ثابتة لكل الحروب المعاصرة مع اتفاقهم على تجريمه وتوقيعهم على معاهدات بخصوصه لقناعتهم بأن مصلحتهم تقتضي هذا، وأما التوقيع فمن مصلحتهم أن يفعلوه أيضاً لتحسين صورتهم وإظهارهم بصورة المدافع عن حقوق الإنسان.. هذه الازدواجية بين الواقع والتنظير لا يمكن أن تقع في الفقه الإسلامي، فلو كان قتل الأسير محرماً لما جاز بأي حال من الأحوال ولو كانت المصلحة تقتضيه، لأن القضية مبدأ وأصل لا يخرم لأجل المصلحة، وأما حين نقول إنه جائز، فليس معنى هذا أنه يجب قتله مطلقاً، إنما يكون أمراً مصلحياً، وحين يتم الاتفاق والتعاهد على منعه فيجب الوفاء بذلك ولا يجوز انتهاكه.
هذا استطراد في مثال واحد يجلي خاصية المبدأ في المنهاج الإسلامي.
هذه الخاصية لا بد أن يكون لها أثرها البارز على الاتجاهات والتيارات والأشخاص التي تنتسب إلى الإسلام في حالتنا المعاصرة، وبقدر ما يكون ثمّ صدق في الانتساب بقدر ما تتعمق هذه الصفة في نفوسهم، ولهذا فمن الظاهر أن الوفاء بالعهد والاستمساك بالمواثيق والمبادئ هو في الإسلاميين أقوى مما لدى غيرهم، وأن نقض العهود ونكث العقود هو في الإسلاميين أقل من غيرهم، وهذه نتيجة طبيعية لمتانة الأصل الذي ينتسبون إليه وعمق تأثيره في النفوس.
كما أن الانتساب إلى الإسلام يجعل الشخص خاضعاً للرقابة عليه ومحاكمته إلى المرجعية التي ينتسب إليها، فهو لا يملك هذه المرجعية أو يحتكرها، فحين يدّعي الانتساب إليها فإنه يضع نفسه تحت طائلة النقد والتقويم، ويجعل أفعاله وأقواله محكومة بمدى انسجامها مع مرجعيته بما يعمق من قوة المبادئ وصلابة العهود.
وكما يقال: فبضدها تتميز الأشياء، فإدراك عمق المبادئ في المنهاج الإسلامي سيتضح حين تقارن هذا بأصحاب التوجّهات الفكرية الأخرى التي تنتسب لمرجعيات ثقافية مختلفة، وكيف يقع الانقلاب على المبادئ والتنكر للأصول بسبب المصالح أو بسبب الخصومات؟ فمن يعيش طول عمره يبشر بحقوق الإنسان يقف شامخ الرأس مدافعاً عن قتل الأبرياء من الناس لمجرد أنهم يخالفونه فكرياً، ومن يصيح في كل محفل بالديمقراطية وضرورتها وأنها خلاص للشعوب من الظلم والاستبداد وأنها حق للأكثرية، تتبخر كل هذه المفاهيم ويبارك كل عدوان عليها حين تكون نتيجة هذه الديمقراطية تحقيق مكاسب للإسلاميين، فما يكتبه من سنوات وما أثقل به كاهل الأثير من عقود يمكن أن ينقضه في لحظة معينة حين تكون النتيجة غير مرضية له وخادشة لشعوره، ومن يقيم الدنيا ولا يقعدها لأجل التحقيق مع كاتب جراء آراء تخالف النظام فيشعر أن هذا انتهاك لحقوق الإنسان ودمار للحرث والنسل، هو نفسه يقف محرضاً على إغلاق القنوات وسد منافذ التعبير كلها عن اتجاه كامل لمجرد أنهم ليسوا متفقين معه في الرؤية العلمانية!
هنا يظهر الفرق بين صاحب المبدأ الذي يتخذ قراراته من ضوء إيمانه بمبدئه بغض النظر عن صواب هذا المبدأ، وبين من ينقلب على مبادئه لأنه لا يريد أن يطبقها على مخالفيه، فبغضه لمخالفيه أكثر من حبه لمبادئه، ووفاؤه للعداء معهم أعظم من وفائه لمنطلقاته.
ونحن هنا نتحدث عن المثقفين والمفكرين الذين يفترض أن يكونوا أقرب لمبادئهم وأكثر حميّة لها، وأما القوى السياسية فانتهاكها للمبادئ أصرخ من أن يحتاج إلى بيان، بل حقيقة المبادئ التي ترفعها كثير من القوى السياسية هي أنها وسيلة ومطية للمصالح الضيقة.
كما نتحدث هنا عن انقلاب على أصول كلية ومنطلقات تشكل العمود الفقري لهذه الاتجاهات، ومع ذلك ينقلبون عليها، فهم لا ينقلبون على مسألة جزئية أو قضية تقديرية في بنائهم الفكري، بل ينقلبون على الأساس الفكري الذي ينطلقون منه.
هذه المبادئ المنقلبة تعطي التيار الإسلامي دروساً عدة يجب أن تكون في محط اهتمامه وعنايته، من أهمها: ضرورة التواصي على الاستمساك بالمبادئ الإسلامية التي ننتسب إليها، وأن لا يكون نقض الآخرين لعهودهم سبباً لمقابلتهم بالمثل، فهي مبدأ وليس مكافأة لأحد.
وأيضاً: ضرورة الاحتكام في هذا إلى مبادئنا نحن، فنحاكَم إلى مبادئنا وليس إلى مبادئ غيرنا، فحين نذم الآخرين على انقلابهم على مبادئهم لا يصح أن نسلم لهم بهذه المبادئ حتى لا نشاركهم في جناية الانقلاب، لأننا نحاسبهم على مبادئهم لا مبادئنا، فحين ننكر على الليبرالي أنه أصبح يجيز تقييد الحريات الفكرية، لا يصح أن نقول نحن إننا لا نقيد الحريات الفكرية حتى يكون نقدنا منسجماً، فنقدنا ليس لرأيه في تقييد الحريات، بل لكذبه وخداعه حين يقرر شيئاً ثم ينقضه في أرض الواقع.
ولهذا ننتقد الدول الغربية التي قيدت حريات المسلمين في العبادة والحجاب لأنها متناقضة مع أساسها الفكري في الحريات الليبرالية، فهو انقلاب على المبادئ، ولا يصح أن نجعل هذا سبباً لأن نقبل نحن حرية التبرج والفساد حتى لا ننتقد الآخرين بما لا نفعل، لأننا هنا نحاكمهم إلى مبادئهم لا مبادئنا، وعليهم أن يحاكموننا إلى مبادئنا لا مبادئهم.
:: مجلة البيان العدد 314 شوال 1434هـ، أغسطس - سبتمبر 2013م.