المشرق بعد الطوفان : 10 حقائق
مرسل: الاثنين ديسمبر 09, 2013 10:00 pm
يعيش المشرق – وكلّ العالم العربي – حفلة جنون ودماء لم نشاهدها من قبل في تاريخنا. وفي ظلّ الجنون هذا، تعيش الأوساط البديلة – من علمانيين ويساريين وأنركيين ونسويين وناشطين مدنيين واجتماعيين – حالة من التشوّش والضياع، رغم أن المرحلة تستوجب أقصى درجات الوضوح والجدّية. حالة التشوّش تبقى بطبيعة الحال أفضل من الاصطفاف الخجول أو الفخور إلى جانب الطغاة، جزمات العسكر، أو عمائم الإسلاميين، وهو مطبّ وقع فيه عدد كبير ممن ذكرناهم سابقاً.
حالة التشوّش والضياع في أوساط الناشطين المستقلّين واضحة، وخصوصاً في المشرق ومصر حيث تختلط الذرائع الدينية والمشاعر الطائفية بالشعارات السياسيّة بالوقائع الطبقية والأبعاد الدولية لتغذّي أزمة لا يعرف أحد أين تبدأ وأين تنتهي. لذلك، وبهدف تحقيق القليل من الوضوح – نشارك بعض ما توصّلنا إليه من خلاصات، لعلّها تساعد من يقرأ على استنتاج خلاصاته الخاصّة.
1) الجذور الحقيقيّة للأزمة
فهم جذور الأزمة ضروري لكي نفهم كيف ستتطوّر في المستقبل وما هي الحلول المستحيلة والحلول الممكنة. البعض يلجأ إلى تحليل الأحداث، القوى السياسيّة، أو الأجندات الدولية التي أدّت إلى اندلاع الربيع العربي والأزمات التي تلته، إلا أن جذور الأزمة هي في الواقع في مكان آخر. جذور الأزمة تعود بكل بساطة إلى الانهيار الحضاري: الرأسمالية الصناعية تنهار ببطء على وقع معضلة الطاقة التي تغذّيها ومجموعة أخرى من العوامل، وهذا يؤدي إلى تآكل مستويات المعيشة، ازدياد عدد المهمّشين، وانهيار الإجماع السياسي الذي كان يمكن من خلاله لدكتاتور أن يحكم من دون تحدٍّ (اقرأ كيف ساهم ذلك في خلق ظروف الثورة المصرية).
التوقيت له أسباب سياسيّة طبعاً، لكن الجذور اقتصادية وفيزيائيّة، وهذه الظروف لا يمكن تغييرها بتغيير رئيس أو حكومة. نحن نعيش آخر أيام روما، لكن روما هذه المرّة ليست امبراطورية، بل هي كل الحضارة الحديثة. لقد كتبنا حول هذا الموضوع منذ أعوام، لكننا للأسف لم نستطع تخيّل أن آخر أيّام روما ستكون قبيحة لهذه الدرجة.
2) هذا اسمه انهيار
الأزمة إذاً ليست ببساطة أزمة مواجهة بين تيار سياسي وآخر، بل هي أعمق من ذلك بكثير. الانهيار الشامل الذي يشعر به الناس بشكل فطري يعني أن الطروحات التي تعيد النظر بأساس نمط حياتنا وتقترح نمطاً بديلاً – كالطروحات الإسلامية والطائفية والقبليّة – هي الأكثر قدرة على تثبيت وجودها في الشارع. هذا بدوره يعطي الصراع بعداً وجودياً بين أنماط حياة متناقضة في كلّ شيء؛ متناقضة في رؤيتها للدولة والمجتمع والعمل السياسي والحريات وتفاصيل الحياة اليومية والإنسان نفسه.
هذا ما نراه في مشهد تحالف الليبرالية والعسكر في مواجهة الإسلاميين في مصر، وحرب الإسلاميين الشيعة مع الإسلاميين السنّة في سوريا، العراق، ولبنان. انتصار أي طرف، ليس بالنسبة للأطراف الأخرى مجرّد انتصار سياسي، بل انتصار وجوديّ يهدّد وجودها ونمط حياتها ومستقبلها بحدّ ذاتها. في ظلّ هذه المواجهات الشاملة، نسأل أنفسنا مرّة جديدة: أين هي الحركات البديلة وما هي الرؤى التي تطرحها في مواجهة هذا العفن الذي يقاتل بعضه بعضاً؟
3) كل عنوان سياسي أو أيدولوجي للأزمة هو هراء
الأزمة ليست مواجهة بين الوطنيين والشيطان الأجنبي الأكبر المستعمر الامبريالي، ليست مواجهة بين الاحتلال الغاشم والمقاومة النبيلة، وليست مجرّد مواجهة بين أنظمة دموية وثورات بيضاء. كل هذه العناوين الأيدولوجية الهرائيّة تحاول إضفاء بُعد تبريري لموت الناس، وهي تفشل في ذلك فشلاً ذريعاً. نحن نعيش مزيج من الصراع على السلطة، تناحر مجموعات أثنية-دينية على نفوذ وثروات متضائلة وعناوين أيدولوجية فارغة، وصراع أجندات دوليّة متصادمة تتنازع بدورها على المزيد من النفوذ والثروات.
هذا لا يعني أن الطغاة وضحاياهم يتساوون، لكنّه يعني ببساطة أنه لا يوجد خيار أبيض وأسود بالمطلق فيما يتعلّق بالاصطفاف مع قوّة سياسية أو أخرى. في الواقع، لا يمكن الاصطفاف مع أيّ قوّة سياسية على الإطلاق. كل القوى السياسية المتصارعة حالياً سيّئة وتتاجر بدماء ضحاياها وتحتفل بدماء أعدائها ولو كانوا أطفالاً. للمفارقة، هذا يعني أيضاً أنه هنالك خيارات سياسيّة وأخلاقيّة صحيحة يمكن الالتزام بها وتوجيه الناس إليها بغضّ النظر عن القوى السياسية الفاسدة. القضيّة المحقّة لا يمكن التخلّي عنها بسبب فساد المدافعين عنها، وإحدى هذه القضايا المحقّة، أنه بين الطغاة والحرّية، الخيار دائماً حرّية.
4) نحن نكره ونقتل بعضنا البعض بأيادينا
يعتقد بعض العلمانيون أن الممارسة العلمانية الصحيحة تقتضي نفي وجود أي بعد طائفي للصراع ورمي مسؤولية أي مجزرة او تفجير أو مزاج طائفي على الاستعمار والخارج. لكن للأسف، الواقع يقول أنه هنالك بعد طائفي للأزمة (خصوصاً في المشرق بين السنّة والشيعة)، تماماً كما يوجد هنالك أبعاد طبقية (الفقراء في مواجهة الطبقة الوسطى المترعرعة في حضن الأنظمة والعسكر)، وإثنية (الأكراد في مواجهة حكم الأسد العنصري في شمال سورية)…ألخ.
لقد قضينا جزءًا لا يستهان به من الأعوام الـ 2000 الأخيرة نضطهد بعضنا بعضاً ونذبح بعضاً بعضاً ونخوض حروباً دورية على بعضنا بعضاً حتى بات تاريخنا تاريخ طوائف تتناقل تاريخ كراهيتها لبعضها البعض من جيل إلى جيل. نحن لا نحتاج للأجنبي لنكره بعضنا ونقتل جيراننا، فنحن بارعون في ذلك. الاعتراف بالبعد الطائفي للنزاع لا يعني الاستسلام للأمر الواقع، بل هو الخطوة الأولى لفهم الواقع واكتشاف كيفية معالجته بدل الغرق في شعارات علمانيّة أيدولوجيّة لا تقدّم ولا تؤخّر بشيء.
5) نحن نعيش حرب المئة عام
بالنسبة للتاريخ، نحن نعيش حرب المئة عام منذ عام 1948 على الأقل، إذ لم يمرّ عشرة أعوام كاملة في المشرق العربي ومصر من دون حرب. لماذا نقول ذلك؟ لأن العديد من الناس تأمل أو تعتقد أنه هنالك أفق لحلّ الأزمة التي يعيشها المشرق قريباً، وخصوصاً أن السياسيّون من الطرفان يردّدون على مسامعنا كل أسبوع أننا اقتربنا من الحسم والنهاية. الحقيقة هي أن الأزمة التي نعيشها هي طويلة جداً، لا نعرف تحديداً متى ستنتهي، ولا نعلم ما إذا كانت انتهت حقاً إن هدأ الوضع بين فترة وأخرى. وهذه الملاحظة تعني أننا يجب أن نغيّر الطريقة التي نقود بها صراعاتنا، وخصوصاً حول النقطتان اللتان سنذكرهما في ما يلي.
6) لا يوجد حلول سحرية
فكرة أن الأزمة مقبلة على حلّ قريب تعود جزئياً إلى الاعتقاد بوجود حلول سحرية، وهذه الحلول قد يكون اسمها “تنحّي الرئيس”، “رئيس جديد”، “الجزمة العسكرية”، “الانتصار الحاسم”، وقد تكون على شكل أيدولوجية نعتقد أنها ستعطي الخلاص النهائي ان اعتنقها جميع الناس في الوقت المناسب (قد تكون الأيدولوجية إسلامية أو علمانيّة).
من المهم أن ندرك أن الأزمة عميقة لدرجة أنه لا يوجد في المرحلة الحالية أي حلول شاملة أو سحرية؛ لن يكون هنالك حزب سياسي أو جيش أو أيدولوجية أو ثورة شعبية مثالية تقوم بتصحيح الأمور بشكل شامل ونهائي ويعيش الجميع من بعدها بسعادة إلى الأبد. هذه نظرة طفوليّة للسياسة يقع فيها للأسف العديد من العلمانيين والحركات البديلة (اسألوا اللبنانيين خصوصاً). السفينة المشرقيّة تغرق، وعزف الكمان خلال هذا الوقت لن يؤدي سوى إلى الإحباط لأن الناشطون سيكتشفون عاجلاً أم آجلاً أن الموسيقى لا تنقذ السفن من غضب البحر.
7) اختيار المعارك بحكمة
الخلاصة السابقة تقودنا إلى خلاصة أكثر أهمّية: العديد من الصراعات التي نخوضها حالياً هي صراعات عبثيّة، ونتائجها قد تُمحى بلحظة واحدة بعد انفجار سيارة مفخخة تعيد عطش الناس للدماء. هذا يعني أن المسرحيّات التي تقوم بها التيارات المدنية من وقت لآخر – وخصوصاً في بيروت مثلاً، هي بالفعل مضيعة للوقت.
كتيارات بديلة علينا توفير طاقتنا ومواردنا واختيار معاركنا بحكمة على ضوء واقع الانهيار، وذلك ممكن عبر طرح أسئلة بسيطة مثل: ما التأثير المباشر لما نقوم به على سير الأمور؟ وما المكسب الذي سيبقى منه بعد استقرار غبار الانهيار؟
ضرورة مقاومة كل السلطات
الانهيار الذي يحصل حالياً يعني أن أولئك الذين يمتلكون المال والسلطة والقوّة سيمتلكون المزيد منها، وأن أولئك الذين لا يمتلكون شيئاً سوف يمتلكون أقلّ مما لا يمتلكوه أساساً. حين نكون في حرب، أي معتوه في الشارع يحمل بندقية يمتلك سلطة أكبر من أي إنسان آخر، والجيوش والميليشيات تستحوذ حينها على سلطات هائلة في مواجهة الناس.
وحين نكون في اضطراب، أي معتوه في الشارع صوته أعلى في الصراخ يمتلك سلطة أكبر بكثير من أي إنسان آخر، والأحزاب والجماعات الطائفية تستحوذ حينها على سلطات هائلة في مواجهة الناس.
وحين نكون في أزمة اقتصادية وبطالة، أي معتوه يمتلك شركة لديه سلطة أكبر بكثير على موظّفيه من أي وقت مضى وحيتان المال وكارتيلات الاقتصاد تستحوذ حينها على سلطات هائلة في مواجهة الناس.
وحين نكون في انهيار، كل ملتحي ومؤمن يمتلك سلطة أعلى بكثير من أي شخص آخر، والجوامع والكنائس والعمائم تستحوذ حينها على سلطات هائلة في مواجهة الناس. هذا هو المشهد.
إن لم نقاوم السلطات، كل سلطة، بعناد، وإن لم نختر تمكين الناس في حياتهم لتحريرهم من الحاجة إلى رجل دين أو مدير شركة أو ضابط في الجيش لتأمين قوتهم وسلامتهم وحياتهم، فهذا يعني أننا مقبلون على حقبة مظلمة جداً من العبودية لجلابيب رجال الدين، لربطات العنق الأنيقة، ولعصي العسكر.
9) أين قبيلة من لا قبيلة لهم؟
في مراحل تاريخية كهذه، الناس تعود إلى الأساسيات، إلى العائلة والعشيرة والمنطقة والطائفة والحزب والدين. وفيما هي تعتقد بأنها أكثر أمناً بهذه الطريقة، تكون في الواقع تطبق الخناق على سجنها الذي بنته حول نفسها. أما من هم خارج العائلات والطوائف والأديان السائدة ومن هم خارج منطق العصر ككل، ماذا يفعلون بأنفسهم؟ الغجر الذي يعيشون غربة فكرية ونفسية عن عائلاتهم ومجتمعاتهم ولا يستطيعون طأطأة الرأس والمشي مع القطيع، هؤلاء ماذا يفعلون؟
في الواقع، الحلّ في الحالتين يبدأ من المكان نفسه. سواء كنا نتحدّث عن حالة انغلاق الناس في دوّامة تلتهمهم بدل أن تحييهم، أو كنّا نتحدّث عن الغرباء الذي لا يجدون لهم مكان بين ناسهم، هنالك حاجة ماسّة لبناء مساحات بديلة عن المساحات والسجون التي تخلقها الجيوش والطوائف والعشائر والعمائم. نحن بحاجة لفضاءات تتيح للناس التنفّس بدل أن تطبق على أنفاسهم. نحن نحتاج لمساحات تضمن للناس حقوقهم الأساسية من مسكن وغذاء وكرامة وأمن من دون أن يضطروا لتوسّل هذه الأمور من سلطة، سواء كانت السلطة ترتدي بذلة مرقطة أم عباءة قاتمة. نحن بحاجة لمؤسّسات تربوية واجتماعية وصحّية ورياضية وبيئية وسياسية واقتصادية تؤمّن الاستمراريّة المادّية والمعنوية للأوساط البديلة وتؤمّن استمراريّة الفكر الحيّ والثقافة الإنسانيّة التحرّرية التي نريد لأولادنا أن يترعرعوا في ظلّها. وأهم من كلّ ذلك: نحن نحتاج لقبيلة من لا قبيلة لهم، وإلا فسنكون القبيلة التي تنتمي فقط لصفحات منسيّة من التاريخ.
10) لن نحقّق شيئاً من دون رؤيا
التشوّش الذي تعاني منه الحركات والأوساط البديلة يعود لدرجة كبيرة إلى غياب الرؤيا الفكرية والمنهجيّة لواقع العالم اليوم. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتناثر الأيدولوجيات البديلة عن الرأسمالية والليبرالية في مهب الريح، لم يبق هنالك على الساحة سوى الأيدولوجيات الدينية لملأ الفراغ. الأيدولوجيات الدينية لم تقدّم للناس برنامج سياسيّ فحسب، بل قدّمت لهم رؤيا حياتية شاملة للمجتمع ولحياتهم الشخصية على السواء. وهذا ما يحتاجه العالم اليوم.
نحن لا نعاني من أزمة سياسة أو حكم فحسب، بل نعاني من أزمة وجود شاملة تطال كل نواحي حياتنا. نحن ضائعون بين التقدّم التكنولوجي الذي يتيح لنا أن نكون آلهة الكوكب وبين الانهيار الحضاري الصامت الذي يسحقنا تحت أقدام من يمتلكون المال والسلطة. المنظومة التي تقود حياتنا اليوم هي رؤيا قويّة جداً تقول بأنّ العالم والمرأة ومعظم الرجال والأرض ومخلوقاتنا هي ملك يمكن لعدد محدود من الرجال أن يتصرّفوا به لتحقيق الربح والسلطة تحت شعارات برّاقة مثل التقدّم والسعادة. والنتيجة أن هذه المنظومة تسحق الجميع تحت عجلاتها، سواء كانوا فقراء أو نساء أو أطفال أو ملوّنين أو مختلفين أو مهمّشين أو عمّال أو حيوانات أو غابات أو أنهار أو جبال.
لا عجب إذاً بأننا نتخبّط، فنحن لا نمتلك رؤيا تساعدنا على قراءة العالم وفهمه وتوضيح ما نريده منه؛ نحن سائرون بردّات الفعل، نثور هنا وننكفأ هناك من دون هدف واضح أو استراتيجيّة فعّالة.
الرؤية لا تعني بالضرورة أيدولوجية مغلقة، بل يمكن أن تكون مجموعة من المبادىء التي تنير نظرتنا للحياة والكون والإنسان وتعبّد رؤيا استراتيجيّة للعمل كما طرحنا في مشروع الجذور مثلاً
حالة التشوّش والضياع في أوساط الناشطين المستقلّين واضحة، وخصوصاً في المشرق ومصر حيث تختلط الذرائع الدينية والمشاعر الطائفية بالشعارات السياسيّة بالوقائع الطبقية والأبعاد الدولية لتغذّي أزمة لا يعرف أحد أين تبدأ وأين تنتهي. لذلك، وبهدف تحقيق القليل من الوضوح – نشارك بعض ما توصّلنا إليه من خلاصات، لعلّها تساعد من يقرأ على استنتاج خلاصاته الخاصّة.
1) الجذور الحقيقيّة للأزمة
فهم جذور الأزمة ضروري لكي نفهم كيف ستتطوّر في المستقبل وما هي الحلول المستحيلة والحلول الممكنة. البعض يلجأ إلى تحليل الأحداث، القوى السياسيّة، أو الأجندات الدولية التي أدّت إلى اندلاع الربيع العربي والأزمات التي تلته، إلا أن جذور الأزمة هي في الواقع في مكان آخر. جذور الأزمة تعود بكل بساطة إلى الانهيار الحضاري: الرأسمالية الصناعية تنهار ببطء على وقع معضلة الطاقة التي تغذّيها ومجموعة أخرى من العوامل، وهذا يؤدي إلى تآكل مستويات المعيشة، ازدياد عدد المهمّشين، وانهيار الإجماع السياسي الذي كان يمكن من خلاله لدكتاتور أن يحكم من دون تحدٍّ (اقرأ كيف ساهم ذلك في خلق ظروف الثورة المصرية).
التوقيت له أسباب سياسيّة طبعاً، لكن الجذور اقتصادية وفيزيائيّة، وهذه الظروف لا يمكن تغييرها بتغيير رئيس أو حكومة. نحن نعيش آخر أيام روما، لكن روما هذه المرّة ليست امبراطورية، بل هي كل الحضارة الحديثة. لقد كتبنا حول هذا الموضوع منذ أعوام، لكننا للأسف لم نستطع تخيّل أن آخر أيّام روما ستكون قبيحة لهذه الدرجة.
2) هذا اسمه انهيار
الأزمة إذاً ليست ببساطة أزمة مواجهة بين تيار سياسي وآخر، بل هي أعمق من ذلك بكثير. الانهيار الشامل الذي يشعر به الناس بشكل فطري يعني أن الطروحات التي تعيد النظر بأساس نمط حياتنا وتقترح نمطاً بديلاً – كالطروحات الإسلامية والطائفية والقبليّة – هي الأكثر قدرة على تثبيت وجودها في الشارع. هذا بدوره يعطي الصراع بعداً وجودياً بين أنماط حياة متناقضة في كلّ شيء؛ متناقضة في رؤيتها للدولة والمجتمع والعمل السياسي والحريات وتفاصيل الحياة اليومية والإنسان نفسه.
هذا ما نراه في مشهد تحالف الليبرالية والعسكر في مواجهة الإسلاميين في مصر، وحرب الإسلاميين الشيعة مع الإسلاميين السنّة في سوريا، العراق، ولبنان. انتصار أي طرف، ليس بالنسبة للأطراف الأخرى مجرّد انتصار سياسي، بل انتصار وجوديّ يهدّد وجودها ونمط حياتها ومستقبلها بحدّ ذاتها. في ظلّ هذه المواجهات الشاملة، نسأل أنفسنا مرّة جديدة: أين هي الحركات البديلة وما هي الرؤى التي تطرحها في مواجهة هذا العفن الذي يقاتل بعضه بعضاً؟
3) كل عنوان سياسي أو أيدولوجي للأزمة هو هراء
الأزمة ليست مواجهة بين الوطنيين والشيطان الأجنبي الأكبر المستعمر الامبريالي، ليست مواجهة بين الاحتلال الغاشم والمقاومة النبيلة، وليست مجرّد مواجهة بين أنظمة دموية وثورات بيضاء. كل هذه العناوين الأيدولوجية الهرائيّة تحاول إضفاء بُعد تبريري لموت الناس، وهي تفشل في ذلك فشلاً ذريعاً. نحن نعيش مزيج من الصراع على السلطة، تناحر مجموعات أثنية-دينية على نفوذ وثروات متضائلة وعناوين أيدولوجية فارغة، وصراع أجندات دوليّة متصادمة تتنازع بدورها على المزيد من النفوذ والثروات.
هذا لا يعني أن الطغاة وضحاياهم يتساوون، لكنّه يعني ببساطة أنه لا يوجد خيار أبيض وأسود بالمطلق فيما يتعلّق بالاصطفاف مع قوّة سياسية أو أخرى. في الواقع، لا يمكن الاصطفاف مع أيّ قوّة سياسية على الإطلاق. كل القوى السياسية المتصارعة حالياً سيّئة وتتاجر بدماء ضحاياها وتحتفل بدماء أعدائها ولو كانوا أطفالاً. للمفارقة، هذا يعني أيضاً أنه هنالك خيارات سياسيّة وأخلاقيّة صحيحة يمكن الالتزام بها وتوجيه الناس إليها بغضّ النظر عن القوى السياسية الفاسدة. القضيّة المحقّة لا يمكن التخلّي عنها بسبب فساد المدافعين عنها، وإحدى هذه القضايا المحقّة، أنه بين الطغاة والحرّية، الخيار دائماً حرّية.
4) نحن نكره ونقتل بعضنا البعض بأيادينا
يعتقد بعض العلمانيون أن الممارسة العلمانية الصحيحة تقتضي نفي وجود أي بعد طائفي للصراع ورمي مسؤولية أي مجزرة او تفجير أو مزاج طائفي على الاستعمار والخارج. لكن للأسف، الواقع يقول أنه هنالك بعد طائفي للأزمة (خصوصاً في المشرق بين السنّة والشيعة)، تماماً كما يوجد هنالك أبعاد طبقية (الفقراء في مواجهة الطبقة الوسطى المترعرعة في حضن الأنظمة والعسكر)، وإثنية (الأكراد في مواجهة حكم الأسد العنصري في شمال سورية)…ألخ.
لقد قضينا جزءًا لا يستهان به من الأعوام الـ 2000 الأخيرة نضطهد بعضنا بعضاً ونذبح بعضاً بعضاً ونخوض حروباً دورية على بعضنا بعضاً حتى بات تاريخنا تاريخ طوائف تتناقل تاريخ كراهيتها لبعضها البعض من جيل إلى جيل. نحن لا نحتاج للأجنبي لنكره بعضنا ونقتل جيراننا، فنحن بارعون في ذلك. الاعتراف بالبعد الطائفي للنزاع لا يعني الاستسلام للأمر الواقع، بل هو الخطوة الأولى لفهم الواقع واكتشاف كيفية معالجته بدل الغرق في شعارات علمانيّة أيدولوجيّة لا تقدّم ولا تؤخّر بشيء.
5) نحن نعيش حرب المئة عام
بالنسبة للتاريخ، نحن نعيش حرب المئة عام منذ عام 1948 على الأقل، إذ لم يمرّ عشرة أعوام كاملة في المشرق العربي ومصر من دون حرب. لماذا نقول ذلك؟ لأن العديد من الناس تأمل أو تعتقد أنه هنالك أفق لحلّ الأزمة التي يعيشها المشرق قريباً، وخصوصاً أن السياسيّون من الطرفان يردّدون على مسامعنا كل أسبوع أننا اقتربنا من الحسم والنهاية. الحقيقة هي أن الأزمة التي نعيشها هي طويلة جداً، لا نعرف تحديداً متى ستنتهي، ولا نعلم ما إذا كانت انتهت حقاً إن هدأ الوضع بين فترة وأخرى. وهذه الملاحظة تعني أننا يجب أن نغيّر الطريقة التي نقود بها صراعاتنا، وخصوصاً حول النقطتان اللتان سنذكرهما في ما يلي.
6) لا يوجد حلول سحرية
فكرة أن الأزمة مقبلة على حلّ قريب تعود جزئياً إلى الاعتقاد بوجود حلول سحرية، وهذه الحلول قد يكون اسمها “تنحّي الرئيس”، “رئيس جديد”، “الجزمة العسكرية”، “الانتصار الحاسم”، وقد تكون على شكل أيدولوجية نعتقد أنها ستعطي الخلاص النهائي ان اعتنقها جميع الناس في الوقت المناسب (قد تكون الأيدولوجية إسلامية أو علمانيّة).
من المهم أن ندرك أن الأزمة عميقة لدرجة أنه لا يوجد في المرحلة الحالية أي حلول شاملة أو سحرية؛ لن يكون هنالك حزب سياسي أو جيش أو أيدولوجية أو ثورة شعبية مثالية تقوم بتصحيح الأمور بشكل شامل ونهائي ويعيش الجميع من بعدها بسعادة إلى الأبد. هذه نظرة طفوليّة للسياسة يقع فيها للأسف العديد من العلمانيين والحركات البديلة (اسألوا اللبنانيين خصوصاً). السفينة المشرقيّة تغرق، وعزف الكمان خلال هذا الوقت لن يؤدي سوى إلى الإحباط لأن الناشطون سيكتشفون عاجلاً أم آجلاً أن الموسيقى لا تنقذ السفن من غضب البحر.
7) اختيار المعارك بحكمة
الخلاصة السابقة تقودنا إلى خلاصة أكثر أهمّية: العديد من الصراعات التي نخوضها حالياً هي صراعات عبثيّة، ونتائجها قد تُمحى بلحظة واحدة بعد انفجار سيارة مفخخة تعيد عطش الناس للدماء. هذا يعني أن المسرحيّات التي تقوم بها التيارات المدنية من وقت لآخر – وخصوصاً في بيروت مثلاً، هي بالفعل مضيعة للوقت.
كتيارات بديلة علينا توفير طاقتنا ومواردنا واختيار معاركنا بحكمة على ضوء واقع الانهيار، وذلك ممكن عبر طرح أسئلة بسيطة مثل: ما التأثير المباشر لما نقوم به على سير الأمور؟ وما المكسب الذي سيبقى منه بعد استقرار غبار الانهيار؟
ضرورة مقاومة كل السلطات
الانهيار الذي يحصل حالياً يعني أن أولئك الذين يمتلكون المال والسلطة والقوّة سيمتلكون المزيد منها، وأن أولئك الذين لا يمتلكون شيئاً سوف يمتلكون أقلّ مما لا يمتلكوه أساساً. حين نكون في حرب، أي معتوه في الشارع يحمل بندقية يمتلك سلطة أكبر من أي إنسان آخر، والجيوش والميليشيات تستحوذ حينها على سلطات هائلة في مواجهة الناس.
وحين نكون في اضطراب، أي معتوه في الشارع صوته أعلى في الصراخ يمتلك سلطة أكبر بكثير من أي إنسان آخر، والأحزاب والجماعات الطائفية تستحوذ حينها على سلطات هائلة في مواجهة الناس.
وحين نكون في أزمة اقتصادية وبطالة، أي معتوه يمتلك شركة لديه سلطة أكبر بكثير على موظّفيه من أي وقت مضى وحيتان المال وكارتيلات الاقتصاد تستحوذ حينها على سلطات هائلة في مواجهة الناس.
وحين نكون في انهيار، كل ملتحي ومؤمن يمتلك سلطة أعلى بكثير من أي شخص آخر، والجوامع والكنائس والعمائم تستحوذ حينها على سلطات هائلة في مواجهة الناس. هذا هو المشهد.
إن لم نقاوم السلطات، كل سلطة، بعناد، وإن لم نختر تمكين الناس في حياتهم لتحريرهم من الحاجة إلى رجل دين أو مدير شركة أو ضابط في الجيش لتأمين قوتهم وسلامتهم وحياتهم، فهذا يعني أننا مقبلون على حقبة مظلمة جداً من العبودية لجلابيب رجال الدين، لربطات العنق الأنيقة، ولعصي العسكر.
9) أين قبيلة من لا قبيلة لهم؟
في مراحل تاريخية كهذه، الناس تعود إلى الأساسيات، إلى العائلة والعشيرة والمنطقة والطائفة والحزب والدين. وفيما هي تعتقد بأنها أكثر أمناً بهذه الطريقة، تكون في الواقع تطبق الخناق على سجنها الذي بنته حول نفسها. أما من هم خارج العائلات والطوائف والأديان السائدة ومن هم خارج منطق العصر ككل، ماذا يفعلون بأنفسهم؟ الغجر الذي يعيشون غربة فكرية ونفسية عن عائلاتهم ومجتمعاتهم ولا يستطيعون طأطأة الرأس والمشي مع القطيع، هؤلاء ماذا يفعلون؟
في الواقع، الحلّ في الحالتين يبدأ من المكان نفسه. سواء كنا نتحدّث عن حالة انغلاق الناس في دوّامة تلتهمهم بدل أن تحييهم، أو كنّا نتحدّث عن الغرباء الذي لا يجدون لهم مكان بين ناسهم، هنالك حاجة ماسّة لبناء مساحات بديلة عن المساحات والسجون التي تخلقها الجيوش والطوائف والعشائر والعمائم. نحن بحاجة لفضاءات تتيح للناس التنفّس بدل أن تطبق على أنفاسهم. نحن نحتاج لمساحات تضمن للناس حقوقهم الأساسية من مسكن وغذاء وكرامة وأمن من دون أن يضطروا لتوسّل هذه الأمور من سلطة، سواء كانت السلطة ترتدي بذلة مرقطة أم عباءة قاتمة. نحن بحاجة لمؤسّسات تربوية واجتماعية وصحّية ورياضية وبيئية وسياسية واقتصادية تؤمّن الاستمراريّة المادّية والمعنوية للأوساط البديلة وتؤمّن استمراريّة الفكر الحيّ والثقافة الإنسانيّة التحرّرية التي نريد لأولادنا أن يترعرعوا في ظلّها. وأهم من كلّ ذلك: نحن نحتاج لقبيلة من لا قبيلة لهم، وإلا فسنكون القبيلة التي تنتمي فقط لصفحات منسيّة من التاريخ.
10) لن نحقّق شيئاً من دون رؤيا
التشوّش الذي تعاني منه الحركات والأوساط البديلة يعود لدرجة كبيرة إلى غياب الرؤيا الفكرية والمنهجيّة لواقع العالم اليوم. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتناثر الأيدولوجيات البديلة عن الرأسمالية والليبرالية في مهب الريح، لم يبق هنالك على الساحة سوى الأيدولوجيات الدينية لملأ الفراغ. الأيدولوجيات الدينية لم تقدّم للناس برنامج سياسيّ فحسب، بل قدّمت لهم رؤيا حياتية شاملة للمجتمع ولحياتهم الشخصية على السواء. وهذا ما يحتاجه العالم اليوم.
نحن لا نعاني من أزمة سياسة أو حكم فحسب، بل نعاني من أزمة وجود شاملة تطال كل نواحي حياتنا. نحن ضائعون بين التقدّم التكنولوجي الذي يتيح لنا أن نكون آلهة الكوكب وبين الانهيار الحضاري الصامت الذي يسحقنا تحت أقدام من يمتلكون المال والسلطة. المنظومة التي تقود حياتنا اليوم هي رؤيا قويّة جداً تقول بأنّ العالم والمرأة ومعظم الرجال والأرض ومخلوقاتنا هي ملك يمكن لعدد محدود من الرجال أن يتصرّفوا به لتحقيق الربح والسلطة تحت شعارات برّاقة مثل التقدّم والسعادة. والنتيجة أن هذه المنظومة تسحق الجميع تحت عجلاتها، سواء كانوا فقراء أو نساء أو أطفال أو ملوّنين أو مختلفين أو مهمّشين أو عمّال أو حيوانات أو غابات أو أنهار أو جبال.
لا عجب إذاً بأننا نتخبّط، فنحن لا نمتلك رؤيا تساعدنا على قراءة العالم وفهمه وتوضيح ما نريده منه؛ نحن سائرون بردّات الفعل، نثور هنا وننكفأ هناك من دون هدف واضح أو استراتيجيّة فعّالة.
الرؤية لا تعني بالضرورة أيدولوجية مغلقة، بل يمكن أن تكون مجموعة من المبادىء التي تنير نظرتنا للحياة والكون والإنسان وتعبّد رؤيا استراتيجيّة للعمل كما طرحنا في مشروع الجذور مثلاً