- الثلاثاء ديسمبر 10, 2013 12:09 am
#69460
تحديات استكمال السيادة في كوسوفو
د. عبد الله صالح
أثار إعلان مجموعة المراقبة الدولية في كوسوفو عن انتهاء مهمتها المتعلقة بالإشراف علي استقلال البلاد العديد من القضايا المتعلقة بتداعيات واستحقاقات ما بعد استكمال الاستقلال، ومواقف الدول المختلفة من قضية استقلال كوسوفو، وحصولها علي سيادتها كاملة، وارتباط ذلك بتعقيدات الوضع في البلقان.
وتسود بعض الدول الأوروبية مخاوف أن يشجع استقلال كوسوفو أجزاء أخري من دول أوروبية على المطالبة باستقلالها وانفصالها عن دولها الأصلية، على نحو قد يخلق حالة من عدم الاستقرار والتوتر في أوروبا، ويؤدي لتزايد النزاعات الانفصالية على أساس عرقي وديني في دول، كبلغاريا وإيطاليا، وفي إقليمي أبخازيا وأوسيتيا اللذين يطالبان بالاستقلال عن جورجيا، وتنامي ظهور الانقسام بين الشعوب السلافية عن باقي القارة الأوروبية ، كما قد يؤثر ذلك الأمر في قبرص وإسبانيا التي تعاني حركات انفصالية في إقليم الباسك وإقليم كاتالونيا. وقد يطول التوتر دولا أخرى كاليونان، وسلوفاكيا، ورومانيا بفعل تعدد الديانات والإثنيات، وهو ما قد يجعل قيادة الاتحاد الأوروبي في حالة انقسام، نتيجة تعدد الرؤي، وتشابك المصالح حيال رؤية كل دولة فيه لضرر هذا الانفصال أو ذاك.
بعد أربع سنوات ونصف السنة على إعلان استقلالها عن صربيا من جانب واحد، جاء إعلان مجموعة المراقبة الدولية في كوسوفو إنهاء مهام الإشراف على استقلال البلاد، ليؤكد السيادة الكاملة لكوسوفو على المستويين الداخلي والخارجي، ويفتح الباب أمام المزيد من الاعتراف الدولي بها، بما يؤهلها للانضمام لمنظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، وممارسة دورإقليمي ودولي فاعل.
وكانت مجموعة المراقبة الدولية الخاصة بكوسوفو، التي تتألف من 23 دولة بالاتحاد الأوروبي إلي جانب الولايات المتحدة وتركيا، والتي تضطلع بمهمة مراقبة الأوضاع في كوسوفو منذ عام 2008، قد أعلنت في العاشر من سبتمبر 2012 إنهاءها مهمة الإشراف على استقلال البلاد، الأمر الذي يعني حصولها على سيادتها الكاملة.
ميراث التفكك والانقسام:
عانت كوسوفو ميراثا طويلا من القهر والتنكيل على يد السلطات الصربية، فقد وجد الصرب في ميراث الدولة العثمانية، التي آلت إلي الضعف بعد القوة، فرصة ثمينة وسانحة، فما كادت تنشب حرب البلقان الأولي في عام 1912، حتي قاموا بمحاولتهم لفرض السيطرة على القسم الأكبر الذي خلفه الأتراك، بعد انسحابهم من معظم ما تبقي بأيديهم من شرق أوروبا، بما في ذلك ألبانيا الحالية.
وجاء مؤتمر لندن (1913) لبحث الوضع الجديد في أوروبا، فقرر تقسيم الأراضي ذات الأغلبية المسلمة من السكان الألبان إلي نصفين متساويين: الأول دولة ألبانيا الحالية، والآخر إقليم كوسوفو. وبعد تأسيس يوغوسلافيا الاتحادية، تم التمييز بين نوعين من الوحدات القومية، أولهما: الأمم التي تضم جماعات إثنية، يعيش معظمها داخل الحدود اليوغوسلافية، حيث تم منحها وضع الجمهوريات في إطار الاتحاد الفيدرالي. ثانيهما: الأقليات القومية، وهي التي تمثل جزءا من قومية أكبر تعيش خارج الأراضي اليوغوسلافية، ومنحت وضع مناطق الحكم الذاتي.
وعبر هذه الرؤية عُدت البوسنة والهرسك جمهورية، وأصبحت السادسة بعد سلوفينيا، وصربيا، وكرواتيا، والجبل الأسود، ومقدونيا، بينما حصل إقليم كوسوفو على الحكم الذاتي، ولكنه يتبع جمهورية صربيا. وفي عام 1974، تم توسيع نطاق الحكم الذاتي في الإقليم لتكون علاقته مباشرة بالسلطة الاتحادية، وليس بجمهورية صربيا، مما جعل ألبان كوسوفو يشعرون بالتكافؤ مع باقي الجمهوريات. بيد أن الحكومة الصربية ألغت في عام 1989 الحكم الذاتي الممنوح لكوسوفو، واجتاح الجيش اليوغوسلافي الإقليم عام 1990، مما جعل سكانه يتظاهرون في العام التالي، مطالبين باستفتاء شعبي، ومعلنين استقلالهم من جانب واحد.
وجري في عام 1992 انتخاب إبراهيم راجوفا رئيسا للإقليم، حتي تم توقيع اتفاق دايتون، الذي حسم الوضع في جمهورية البوسنة والهرسك عام 1995، دون الإشارة لألبان كوسوفو، وهو ما زعزع ثقتهم في حل سلمي يمنحهم الاستقلال. وفي عام 1996، بدأ الاشتباك العسكري الهادف لنيل الاستقلال. ومع استمرار المصادمات العسكرية داخل كوسوفو، جاءت مفاوضات رامبوييه في فرنسا، خلال الفترة من 6 إلي 17 فبراير 1999، التي تقرر في نهايتها منح الإقليم حكما ذاتيا مدة ثلاث سنوات، يتم بعدها تحديد مصيره عن طريق الاستفتاء العام. بيد أن رفض بلجراد لهذه الخطة أدي إلي فشل المفاوضات، وهو ما دفع الناتو للتدخل العسكري، وبقيت كوسوفو لثماني سنوات تحت إشراف أممي بموجب قرار مجلس الأمن 1244.
أنشئت البعثة في يونيو 1999، بمناسبة انتهاء تدخل منظمة حلف شمال الأطلسي في كوسوفو، الذي جاء عقب ارتكاب السلطات الصربية هناك انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، واندلاع اشتباكات بين جيش تحرير كوسوفو والقوات اليوغوسلافية، وقيام هذه القوات اليوغوسلافية بعمليات ترحيل جماعي لألبان كوسوفو. وقد أذن مجلس الأمن، بموجب القرار رقم 1244 المؤرخ في 10 يونيو 1999، للدول الأعضاء بالوجود الأمني الدولي في كوسوفو للحيلولة دون وقوع أعمال عدائية، وتجريد جيش تحرير كوسوفو من السلاح، وتيسير عودة اللاجئين. وطلب أيضا إلي الأمين العام أن ينشئ وجودا مدنيا دوليا في كوسوفو -وهو بعثة الأمم المتحدة للإدارة المؤقتة في كوسوفو- بهدف توفير إدارة مؤقتة لكوسوفو، يمكن في ظلها لشعب كوسوفو أن يحظي باستقلال ذاتي وحكم ذاتي كبير القدر. وانسحبت القوات اليوغوسلافية، وعلق حلف شمال الأطلسي قصفه، ووصلت قوة كوسوفو متعددة الجنسيات بقيادة حلف شمال الأطلسي، وقوامها 50 ألف جندي لتوفير الأمن.
وقد خول مجلس الأمن للبعثة السلطة على إقليم وشعب كوسوفو، بما في ذلك جميع السلطات التشريعية والتنفيذية وإدارة القضاء. وطلب من البعثة أداء الوظائف الإدارية المدنية الأساسية، وتعزيز إقامة دعائم لاستقلال ذاتي كبير القدر، وحكم ذاتي في كوسوفو، وتيسير عملية سياسية ترمي إلى تحديد مستقبل كوسوفو، وتنسيق المعونة الإنسانية والمعونة المقدمة في حالات الكوارث مع جميع الوكالات الدولية، ودعم إعادة بناء الهيكل الأساسي الرئيسي، وحفظ القانون والنظام المدنيين، وتعزيز حقوق الإنسان، وضمان عودة جميع اللاجئين والمشردين إلى ديارهم في كوسوفو عودة آمنة لا تعترضها معوقات.
وفي عام 2006، أجري المبعوث الخاص للأمين العام، الرئيس الفنلندي السابق مارتي أهتساري، مفاوضات بشأن مستقبل كوسوفو، إلا أن حكومتي الأغلبية من أصل ألباني في كوسوفو وصربيا ظلتا على خلاف تام. وقد رفضت صربيا اقتراح التسوية الشاملة الذي قدمه المبعوث لاستقلال كوسوفو تحت إشراف دولي، وواجه انقسامات شديدة في مجلس الأمن.
وكانت الدول الغربية قد تقدمت في الحادي عشر من مايو 2007 بمشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي، يقر بحق إقليم كوسوفو في الاستقلال، وجدد المشروع تأكيد "التزام المجلس تجاه كوسوفو ديمقراطية ومتعددة الأعراق". كما أقر فكرة تعيين مندوب مدني يمثل الاتحاد الأوروبي، ويكون مكلفا بمراقبة تطبيع الأوضاع. وأشار مشروع القرار إلى "الظروف المحددة التي تجعل من كوسوفو حالة خاصة، خصوصا الإطار التاريخي لتفكك يوغوسلافيا بشكل عنيف وغير ودي".
وفي أغسطس 2007، رحب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بالاتفاق على تشكيل مجموعة ثلاثية تتألف من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي والولايات المتحدة، تتولي زمام إجراء المزيد من المفاوضات بشأن مركز كوسوفو في المستقبل، إلا أن الأطراف المعنية لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن.
وفي العاشر من ديسمبر 2007، انتهت المفاوضات طويلة الأمد التي جرت بين صربيا وكوسوفو، الأمر الذي دفع بقادة الإقليم نحو سلسلة من التحركات الدبلوماسية على طريق إعلان الاستقلال، وقررالمشرف الدولي على محادثات الوضع النهائي لكوسوفو، مارتياهتيساري، عدم إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المعنية، وأنه لا بديل عن استقلال الإقليم. وقبيل إعلان كوسوفو استقلالها، عزز الناتو قواته العاملة في الإقليم، ونشر كتيبة من 560 جنديا إيطاليا لتلحق بـ 16 ألف جندي للحلف في الإقليم.
وفي 17 فبراير 2008، اعتمدت الجمعية العامة لبرلمان كوسوفو إعلانا للاستقلال، رغم اعتراضات قوية أبدتها صربيا التي لا تزال تري كوسوفو جزءا من أراضيها غير القابلة للتصرف. وعقب اعتماد سلطات كوسوفو إعلان الاستقلال، وبدء نفاذ الدستور الجديد في 15 يونيو 2008، وطبقا للدستور، تولت سلطات الأغلبية العرقية الألبانية العديد من الحقائب التي شغلتها بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو، ومن بينها الشئون الداخلية والخارجية. كما أجريت تعديلات كبيرة على مهام البعثة، وتم تغيير تشكيلها، حيث انصب الهدف الاستراتيجي الرئيسي لها على تعزيز الأمن والاستقرار، واحترام حقوق الإنسان في كوسوفو عن طريق التعامل مع جميع الطوائف في كوسوفو، ومع القيادة في بريشتينا وبلجراد، ومع جهات فاعلة إقليمية ودولية، ومن بينها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وبعثة الاتحاد الأوروبي لتحقيق سيادة القانون في كوسوفو، وقوة الأمن الدولية في كوسوفو.
تزايد الاعتراف الدولي:
ما إن أعلنت مجموعة المراقبة الدولية في كوسوفو إنهاء مهام الإشراف على استقلال البلاد، حتي تزايد عدد الدول التي اعترفت باستقلال كوسوفو، كما سارع العديد من الدول إلى تأييد هذه الخطوة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حيث وصف الرئيس الامريكي باراك أوباما هذا اليوم بـ "التاريخي " لكوسوفو التي قال إنها أحرزت "تقدما كبيرا". وأشار إلى "أن البلاد قطعت بالفعل شوطا كبيرا، وحققت تقدما بارزا على صعيد الاستقلال وبناء المؤسسات في دولة حديثة متعددة الأعراق تتسم بالشمولية والديمقراطية".
وقد نبعت مساندة الولايات المتحدة لاستقلال كوسوفو من رغبتها في جعل كوسوفو محمية أمريكية على حدود روسيا، التي رأت في "استقلال" كوسوفو تهديدا لمصالحها، وستتخلي عنها فور انتهاء مهمتها. كما أن الولايات المتحدة التي استغلت انهيار الاتحاد السوفيتي، واستغلت انفرادها بالهيمنة على العالم، كونها القوة العظمي الوحيدة، من أجل إعادة تقسيم العديد من الدول، وتجزئة المجزأ منها لإثارة النعرات والصراعات الدينية والطائفية والعرقية، بما يضمن هيمنتها - الولايات المتحدة - على العالم لعدة عقود قادمة.
من جانب آخر، فإن معظم دول الاتحاد الأوروبي أعلنت دعمها لاستقلال كوسوفو، وحصولها على سيادتها الكاملة، باعتبارها منطقة من مناطق البلقان، التي شملها الاتحاد الأوروبي بوعد ضمها إلى عضويته، فضلا عن وجود بواعث قلق من أن تتردي الأحوال، بحيث تصل إلى حافة الاقتتال مرة أخري، وآمال في أن تسير على خطي الانتعاش والازدهار، لكي تنضم إلى الاتحاد الأوروبي.
على جانب آخر، رفض عديد من الدول إعلان سيادة كوسوفو على أراضيها، وعلى رأسها صربيا، التي لم تعترف بانفصال كوسوفو، ولا تزال تعدها جزءا لا يتجزأ من أراضيها، إضافة إلى دول أخري عديدة، مثل جورجيا والصين التي رفضت الاعتراف بسيادة كوسوفو، خشية أن يشجع الإجراء الحركات الانفصالية على أراضيها. وكذلك الحال بالنسبة لروسيا التي تعارض استقلال كوسوفو، وتقول إنها أعلم بشئون المنطقة، وأنها تدرك ما يمكن أن يعزز الاستقرار أو يزعزعه في أوروبا، وتتخذ لنفسها وجهة نظر تقوم على أساس أن استقلال كوسوفو لا يمكن أن يتم في ظل معارضة صربيا، البلد الأم، لهذا المنحي.
ولكن في الوقت نفسه، فإن روسيا لا تملك أي استثمارات على الأرض في كوسوفو، ولم تنفق أية أموال فيها. كما أن قوات حفظ السلام الروسية سرعان ما تم سحبها لتخفيف النفقات العسكرية الخارجية.
تحديات داخلية وخارجية:
بعد أن استكملت كوسوفو استقلالها، وحصلت على سيادتها الكاملة، باتت تواجه تحديات مهمة، بعضها يتعلق بالإطار الإقليمي والدولي، مثل التعامل مع الدول صاحبة المصالح في الإقليم، خاصة الولايات المتحدة وروسيا، وتحسين علاقاتها بدول الجوار، والبعض الآخر يتعلق بالقضايا الداخلية، مثل تحسين الأوضاع الاقتصادية المتردية، ودمج الأقليات، وفي مقدمتها الأقلية الصربية، والعمل على بناء مجتمع ديمقراطي متعدد الأعراق، تحترم فيه حقوق الإنسان.
يتمثل التحدي الأكبر أمام كوسوفو في التعامل مع الدول صاحبة المصالح في الإقليم، خاصة في ظل الثروات الكثيرة التي يتمتع بها الإقليم، وترغب الدول الكبري في تأمينها لصالحها، وتري أن ذلك حقها المشروع، بعدما ساعدت الإقليم في الحصول على الاستقلال، حيث تعد كوسوفا محل صراع دولي، أمريكي-روسي، وإلى حد ما أوروبي. يتطلب ذلك من النظام الكوسوفي القائم أن يتعامل بحذر مع كافة الأطراف، حفاظا على استقلال دولته الناشئة من جهة، وحتي يضمن وقوف هؤلاء ضد أية محاولات من قبل صربيا لتهديد استقرار وأمن الإقليم من جهة أخري، وفي الوقت نفسه تطوير الإقليم وتحويله إلى دولة قادرة على الحفاظ على سيادة أراضيها دون تدخل من جهات خارجية، مثلها مثل أي دولة مستقلة.
وتدرك الولايات المتحدة جيدا أن صربيا تحتل موقعا مهما في البلقان، وهي على ارتباط تقليدي ثقافي وديني مع روسيا، فضلا عن أنها تمثل خطها الأمامي في البلقان. وبتأثير روسيا، فهي تبتعد عن الاتحاد الأوروبي، وتعارض سياسة الولايات المتحدة في البلقان، وهذا ما يمثل ضررا للمصالح الأمريكية في المنطقة، حيث تريد الولايات المتحدة من دول البلقان أن تكون مجال نفوذ لها، ومركز قوة ضاربة في خاصرة روسيا. ولذلك، كانت أولي الخطوات هي فصل الجبل الأسود عن صربيا، ثم فصل كوسوفا بعد ذلك، حتي تتمكن من تنفيذ مشاريعها في المنطقة دون عرقلة من صربيا بتأثير روسيا.
من الموقف الأمريكي، يأتي موقف الاتحاد الأوروبي. فرغم علم الاتحاد الأوروبي بأن الولايات المتحدة تريد إضعاف صربيا لتضعف نفوذ روسيا في البلقان، ولإزالة أي عائق لنفوذ الولايات المتحدة في البلقان، فإن الاتحاد الأوروبي، يتوقع من فك ارتباط صربيا بروسيا (أو إضعاف هذا الارتباط) أن يستطيع إدخالها الاتحاد الأوروبي مستغلا عداءها للولايات المتحدة في إيجاد توازن مع دول أوروبا الشرقية التي دخلت الاتحاد، وأصبحت تشكل ركائز للولايات المتحدة فيه، مثل بولندا والتشيك.
كما يرغب الاتحاد الأوروبي في الاستفادة من الثروات الكثيرة التي تنعم بها كوسوفو. فرغم أن مساحتها لا تتعدي نحو (11) ألف كيلو متر مربع، فإنها تعد من أخصب المناطق في البلقان وأغناها بالثروة المعدنية. حيث إنه على مستوي الاتحاد اليوغوسلافي السابق، كان هذا الإقليم ينتج وحده ما نسبته 75٪ من الرصاص والزنك، و60٪ من الفضة، و50٪ من النيكل، و20٪ من الذهب، كما تحتوي على 100٪ من احتياطي البسموس، و79٪ من احتياطي الفحم، و61٪ من احتياطي الماغنسيوم، وتوجد في كوسوفا أيضا كميات كبيرة من البوكسيت الحديدي، والجاليوم، والحديد، والنحاس، والزئبق.
وبدورها، ترغب موسكو، من خلال معارضتها للاستقلال التام كوسوفو، في استعادة نفوذها في المنطقة، لذلك تعمل على عرقلة أو تأجيل دخول أي دولة من دول المنطقة في الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو. والموقف الروسي المعلن يساند الموقف الصربي المتمسك بعدم التخلي عن كوسوفو. وبالإضافة إلى ذلك، تبرز الروابط المصلحية في أن روسيا تريد الاحتفاظ بموطئ قدم لها في أوروبا الشرقية، تحاول من خلاله فك الحصار الذي يطوقها يوما بعد يوم، من خلال اتساع النفوذ الأمريكي في المنطقة، وانضمام أوروبا الشرقية إلى الناتو.
أما الروابط القومية، فتتمثل في كون الصرب والروس ينحدرون من قومية واحدة هي القومية "السلافية"، واللغة الروسية قريبة في مفرداتها من اللغة الصربية، في حين ينحدر مسلمو كوسوفا من القومية الألبانية. وأخيرا، تخشي روسيا من تكرار ما حدث في كوسوفا معها.
ومن جانب آخر، فإن دمج الأقلية الصربية في كوسوفو يشكل معضلة كبيرة، حيث تشكل هذه الأقلية نحو 7٪ من السكان، وتطالب بالانفصال عن كوسوفو. وهناك تقسيم جغرافي بصفوف الصرب الكوسوفيين، فبعضهم يعيش في مناطق نائية بعيدة مترامية في وسط وجنوبي كوسوفو، وعليهم أن يتعلموا، بل هم تعلموا من الآن إلى حد ما كيفية العثور على طرق، من شأنها أن تعينهم على احتواء الغالبية الألبانية، وهم يدركون أن تحقيق التكامل والاندماج هو أمر صعب المنال، وإن تحقق فسيستغرق وقتا. أما الآخرون، وهم نحو 40٪ يعيشون شمال مدينة ميتسافيتسا المقسمة، فهم مصرون على عدم الخضوع للمؤسسات الألبانية، والبقاء في ظل السيادة الصربية، وهناك تحد كبير في إقناعهم بالاندماج مع ألبان كوسوفو.
ومن هذه التحديات أيضا تحسين العلاقات مع صربيا، والاعتراف بأن السلام والعلاقات الطيبة مع دول الجوار أمر ضروري من أجل تحقيق الاستقرار في منطقة البلقان، وتعزيز فرص قبول صربيا في المجتمع الأوروبي، حيث يشترط الاتحاد الأوروبي، لقبول انضمام صربيا، أن تتخذ خطوات جادة لتحسين علاقاتها مع كوسوفو.
وفي الواقع، فإن رؤية الأطراف المختلفة لوضع الأقلية الصربية تختلف باختلاف نظرتها لوضع إقليم كوسوفو في مجموعه. فصربيا تحاول إحباط أي مساع لدمج هذه الأقلية داخل المجتمع الألباني. ويري الاتحاد الأوروبي ضرورة عودة اللاجئين الصرب، وفتح حوار داخلي بين الأغلبية الألبانية والأقلية الصربية لإشراك الصرب في المؤسسات الحكومية والرسمية الكوسوفية بهدف الوصول إلى بناء مجتمع ديمقراطي متعدد الأعراق، تحترم فيه حقوق الإنسان والأقليات المختلفة، وبعد ذلك فقط يمكن الدخول في التسوية النهائية للإقليم. بينما تري الولايات المتحدة أن الأفضل للأقلية الصربية بكوسوفو أن تشارك في المؤسسات الحكومية والرسمية الكوسوفية، وبناء مستقبلهم داخل كوسوفو، وعدم الاستجابة للخداع الصربي من حكومة بلجراد.
ومن أهم التحديات التي تواجهها كوسوفو، أيضا، إعادة بناء الاقتصاد، ومعالجة مشكلة البطالة التي تواجهها وسط ركود يشمل العالم بأسره، وعقب موجة من الصراعات الإقليمية، فضلا عن الحاجة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية، واجتذاب الشركات العاملة في مجال الزراعة، والتعدين، والتصنيع، والسياحة، والطاقة النظيفة، وغيرها من المجالات.
وعلى الرغم من تمتع كوسوفا بأرض خصبة، تستطيع من خلالها زراعة وإنتاج كافة احتياجاتها الغذائية، فإن معظم هذه الأراضي لم تستغل بعد، نظرا للظروف غير المستقرة، التي مرت بها كوسوفا، والتي دفعت الكثيرين للهجرة والعمل في الخارج. كما أن معظم المعادن والثروات الطبيعية الأخري التي تمتلكها كوسوفو لم تستثمر حتي الآن، حيث تعمدت حكومة بلجراد الصربية عدم النهوض باقتصاد كوسوفا، الذي كان تابعا إقليميا لها، أثناء فترة احتلاله (1912 - 1999)، وحرصت على الاستفادة من المواد الخام الأولية التي تحتوي عليها كوسوفو، وتصنيعها في صربيا، ثم تصديرها مرة أخري إلى كوسوفو أو غيرها من الدول، وهو ما جعل اقتصاد كوسوفو يرتبط بالاقتصاد الصربي في كثير من شئونه. فكوسوفو تصدر 4٪ فقط من إجمالي ما تستورده. وحتي اليوم، فإن اتجاهات التصنيع المحدودة داخل كوسوفو تركز على الصناعات الاستهلاكية فقط.
وبناء على كل هذا، فإن ثمة تحديات هائلة تواجه اقتصاد أحدث وأفقر دولة أوروبية، نظرا لافتقادها قاعدة اقتصادية سليمة، الأمر الذي يمكن أن يدفعها إلى الاعتماد على القروض الدولية، والمساعدات الخارجية لفترات طويلة مستقبلا، خاصة أن الأوضاع الاقتصادية بالإقليم تتفاقم في ظل بطالة تعدت 50٪ من قوة العمل الرئيسية.
لقد أصبح استقلال كوسوفو أمرا واقعا، نال دعم واعتراف قوي دولية ذات ثقل. لكن التحدي الآن هو أن تثبت كوسوفو أنها دولة ديمقراطية ذات سيادة، قائمة على التعدد، موحدة تقوم على المواطنة للجميع، أوروبية القيم والمؤسسات، ذات علاقات إقليمية، خاصة مع صربيا، ذات اقتصاد حر، بعيدة عن التبعية، مفتوحة أمام الاستثمارات، مستغلة لمواردها المحدودة، عضو بالمؤسسات الدولية، وهو ما سوف يتضح خلال الفترة المقبلة.
تعريف الكاتب:
باحث في العلوم السياسية
د. عبد الله صالح
أثار إعلان مجموعة المراقبة الدولية في كوسوفو عن انتهاء مهمتها المتعلقة بالإشراف علي استقلال البلاد العديد من القضايا المتعلقة بتداعيات واستحقاقات ما بعد استكمال الاستقلال، ومواقف الدول المختلفة من قضية استقلال كوسوفو، وحصولها علي سيادتها كاملة، وارتباط ذلك بتعقيدات الوضع في البلقان.
وتسود بعض الدول الأوروبية مخاوف أن يشجع استقلال كوسوفو أجزاء أخري من دول أوروبية على المطالبة باستقلالها وانفصالها عن دولها الأصلية، على نحو قد يخلق حالة من عدم الاستقرار والتوتر في أوروبا، ويؤدي لتزايد النزاعات الانفصالية على أساس عرقي وديني في دول، كبلغاريا وإيطاليا، وفي إقليمي أبخازيا وأوسيتيا اللذين يطالبان بالاستقلال عن جورجيا، وتنامي ظهور الانقسام بين الشعوب السلافية عن باقي القارة الأوروبية ، كما قد يؤثر ذلك الأمر في قبرص وإسبانيا التي تعاني حركات انفصالية في إقليم الباسك وإقليم كاتالونيا. وقد يطول التوتر دولا أخرى كاليونان، وسلوفاكيا، ورومانيا بفعل تعدد الديانات والإثنيات، وهو ما قد يجعل قيادة الاتحاد الأوروبي في حالة انقسام، نتيجة تعدد الرؤي، وتشابك المصالح حيال رؤية كل دولة فيه لضرر هذا الانفصال أو ذاك.
بعد أربع سنوات ونصف السنة على إعلان استقلالها عن صربيا من جانب واحد، جاء إعلان مجموعة المراقبة الدولية في كوسوفو إنهاء مهام الإشراف على استقلال البلاد، ليؤكد السيادة الكاملة لكوسوفو على المستويين الداخلي والخارجي، ويفتح الباب أمام المزيد من الاعتراف الدولي بها، بما يؤهلها للانضمام لمنظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، وممارسة دورإقليمي ودولي فاعل.
وكانت مجموعة المراقبة الدولية الخاصة بكوسوفو، التي تتألف من 23 دولة بالاتحاد الأوروبي إلي جانب الولايات المتحدة وتركيا، والتي تضطلع بمهمة مراقبة الأوضاع في كوسوفو منذ عام 2008، قد أعلنت في العاشر من سبتمبر 2012 إنهاءها مهمة الإشراف على استقلال البلاد، الأمر الذي يعني حصولها على سيادتها الكاملة.
ميراث التفكك والانقسام:
عانت كوسوفو ميراثا طويلا من القهر والتنكيل على يد السلطات الصربية، فقد وجد الصرب في ميراث الدولة العثمانية، التي آلت إلي الضعف بعد القوة، فرصة ثمينة وسانحة، فما كادت تنشب حرب البلقان الأولي في عام 1912، حتي قاموا بمحاولتهم لفرض السيطرة على القسم الأكبر الذي خلفه الأتراك، بعد انسحابهم من معظم ما تبقي بأيديهم من شرق أوروبا، بما في ذلك ألبانيا الحالية.
وجاء مؤتمر لندن (1913) لبحث الوضع الجديد في أوروبا، فقرر تقسيم الأراضي ذات الأغلبية المسلمة من السكان الألبان إلي نصفين متساويين: الأول دولة ألبانيا الحالية، والآخر إقليم كوسوفو. وبعد تأسيس يوغوسلافيا الاتحادية، تم التمييز بين نوعين من الوحدات القومية، أولهما: الأمم التي تضم جماعات إثنية، يعيش معظمها داخل الحدود اليوغوسلافية، حيث تم منحها وضع الجمهوريات في إطار الاتحاد الفيدرالي. ثانيهما: الأقليات القومية، وهي التي تمثل جزءا من قومية أكبر تعيش خارج الأراضي اليوغوسلافية، ومنحت وضع مناطق الحكم الذاتي.
وعبر هذه الرؤية عُدت البوسنة والهرسك جمهورية، وأصبحت السادسة بعد سلوفينيا، وصربيا، وكرواتيا، والجبل الأسود، ومقدونيا، بينما حصل إقليم كوسوفو على الحكم الذاتي، ولكنه يتبع جمهورية صربيا. وفي عام 1974، تم توسيع نطاق الحكم الذاتي في الإقليم لتكون علاقته مباشرة بالسلطة الاتحادية، وليس بجمهورية صربيا، مما جعل ألبان كوسوفو يشعرون بالتكافؤ مع باقي الجمهوريات. بيد أن الحكومة الصربية ألغت في عام 1989 الحكم الذاتي الممنوح لكوسوفو، واجتاح الجيش اليوغوسلافي الإقليم عام 1990، مما جعل سكانه يتظاهرون في العام التالي، مطالبين باستفتاء شعبي، ومعلنين استقلالهم من جانب واحد.
وجري في عام 1992 انتخاب إبراهيم راجوفا رئيسا للإقليم، حتي تم توقيع اتفاق دايتون، الذي حسم الوضع في جمهورية البوسنة والهرسك عام 1995، دون الإشارة لألبان كوسوفو، وهو ما زعزع ثقتهم في حل سلمي يمنحهم الاستقلال. وفي عام 1996، بدأ الاشتباك العسكري الهادف لنيل الاستقلال. ومع استمرار المصادمات العسكرية داخل كوسوفو، جاءت مفاوضات رامبوييه في فرنسا، خلال الفترة من 6 إلي 17 فبراير 1999، التي تقرر في نهايتها منح الإقليم حكما ذاتيا مدة ثلاث سنوات، يتم بعدها تحديد مصيره عن طريق الاستفتاء العام. بيد أن رفض بلجراد لهذه الخطة أدي إلي فشل المفاوضات، وهو ما دفع الناتو للتدخل العسكري، وبقيت كوسوفو لثماني سنوات تحت إشراف أممي بموجب قرار مجلس الأمن 1244.
أنشئت البعثة في يونيو 1999، بمناسبة انتهاء تدخل منظمة حلف شمال الأطلسي في كوسوفو، الذي جاء عقب ارتكاب السلطات الصربية هناك انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، واندلاع اشتباكات بين جيش تحرير كوسوفو والقوات اليوغوسلافية، وقيام هذه القوات اليوغوسلافية بعمليات ترحيل جماعي لألبان كوسوفو. وقد أذن مجلس الأمن، بموجب القرار رقم 1244 المؤرخ في 10 يونيو 1999، للدول الأعضاء بالوجود الأمني الدولي في كوسوفو للحيلولة دون وقوع أعمال عدائية، وتجريد جيش تحرير كوسوفو من السلاح، وتيسير عودة اللاجئين. وطلب أيضا إلي الأمين العام أن ينشئ وجودا مدنيا دوليا في كوسوفو -وهو بعثة الأمم المتحدة للإدارة المؤقتة في كوسوفو- بهدف توفير إدارة مؤقتة لكوسوفو، يمكن في ظلها لشعب كوسوفو أن يحظي باستقلال ذاتي وحكم ذاتي كبير القدر. وانسحبت القوات اليوغوسلافية، وعلق حلف شمال الأطلسي قصفه، ووصلت قوة كوسوفو متعددة الجنسيات بقيادة حلف شمال الأطلسي، وقوامها 50 ألف جندي لتوفير الأمن.
وقد خول مجلس الأمن للبعثة السلطة على إقليم وشعب كوسوفو، بما في ذلك جميع السلطات التشريعية والتنفيذية وإدارة القضاء. وطلب من البعثة أداء الوظائف الإدارية المدنية الأساسية، وتعزيز إقامة دعائم لاستقلال ذاتي كبير القدر، وحكم ذاتي في كوسوفو، وتيسير عملية سياسية ترمي إلى تحديد مستقبل كوسوفو، وتنسيق المعونة الإنسانية والمعونة المقدمة في حالات الكوارث مع جميع الوكالات الدولية، ودعم إعادة بناء الهيكل الأساسي الرئيسي، وحفظ القانون والنظام المدنيين، وتعزيز حقوق الإنسان، وضمان عودة جميع اللاجئين والمشردين إلى ديارهم في كوسوفو عودة آمنة لا تعترضها معوقات.
وفي عام 2006، أجري المبعوث الخاص للأمين العام، الرئيس الفنلندي السابق مارتي أهتساري، مفاوضات بشأن مستقبل كوسوفو، إلا أن حكومتي الأغلبية من أصل ألباني في كوسوفو وصربيا ظلتا على خلاف تام. وقد رفضت صربيا اقتراح التسوية الشاملة الذي قدمه المبعوث لاستقلال كوسوفو تحت إشراف دولي، وواجه انقسامات شديدة في مجلس الأمن.
وكانت الدول الغربية قد تقدمت في الحادي عشر من مايو 2007 بمشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي، يقر بحق إقليم كوسوفو في الاستقلال، وجدد المشروع تأكيد "التزام المجلس تجاه كوسوفو ديمقراطية ومتعددة الأعراق". كما أقر فكرة تعيين مندوب مدني يمثل الاتحاد الأوروبي، ويكون مكلفا بمراقبة تطبيع الأوضاع. وأشار مشروع القرار إلى "الظروف المحددة التي تجعل من كوسوفو حالة خاصة، خصوصا الإطار التاريخي لتفكك يوغوسلافيا بشكل عنيف وغير ودي".
وفي أغسطس 2007، رحب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بالاتفاق على تشكيل مجموعة ثلاثية تتألف من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي والولايات المتحدة، تتولي زمام إجراء المزيد من المفاوضات بشأن مركز كوسوفو في المستقبل، إلا أن الأطراف المعنية لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن.
وفي العاشر من ديسمبر 2007، انتهت المفاوضات طويلة الأمد التي جرت بين صربيا وكوسوفو، الأمر الذي دفع بقادة الإقليم نحو سلسلة من التحركات الدبلوماسية على طريق إعلان الاستقلال، وقررالمشرف الدولي على محادثات الوضع النهائي لكوسوفو، مارتياهتيساري، عدم إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المعنية، وأنه لا بديل عن استقلال الإقليم. وقبيل إعلان كوسوفو استقلالها، عزز الناتو قواته العاملة في الإقليم، ونشر كتيبة من 560 جنديا إيطاليا لتلحق بـ 16 ألف جندي للحلف في الإقليم.
وفي 17 فبراير 2008، اعتمدت الجمعية العامة لبرلمان كوسوفو إعلانا للاستقلال، رغم اعتراضات قوية أبدتها صربيا التي لا تزال تري كوسوفو جزءا من أراضيها غير القابلة للتصرف. وعقب اعتماد سلطات كوسوفو إعلان الاستقلال، وبدء نفاذ الدستور الجديد في 15 يونيو 2008، وطبقا للدستور، تولت سلطات الأغلبية العرقية الألبانية العديد من الحقائب التي شغلتها بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو، ومن بينها الشئون الداخلية والخارجية. كما أجريت تعديلات كبيرة على مهام البعثة، وتم تغيير تشكيلها، حيث انصب الهدف الاستراتيجي الرئيسي لها على تعزيز الأمن والاستقرار، واحترام حقوق الإنسان في كوسوفو عن طريق التعامل مع جميع الطوائف في كوسوفو، ومع القيادة في بريشتينا وبلجراد، ومع جهات فاعلة إقليمية ودولية، ومن بينها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وبعثة الاتحاد الأوروبي لتحقيق سيادة القانون في كوسوفو، وقوة الأمن الدولية في كوسوفو.
تزايد الاعتراف الدولي:
ما إن أعلنت مجموعة المراقبة الدولية في كوسوفو إنهاء مهام الإشراف على استقلال البلاد، حتي تزايد عدد الدول التي اعترفت باستقلال كوسوفو، كما سارع العديد من الدول إلى تأييد هذه الخطوة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حيث وصف الرئيس الامريكي باراك أوباما هذا اليوم بـ "التاريخي " لكوسوفو التي قال إنها أحرزت "تقدما كبيرا". وأشار إلى "أن البلاد قطعت بالفعل شوطا كبيرا، وحققت تقدما بارزا على صعيد الاستقلال وبناء المؤسسات في دولة حديثة متعددة الأعراق تتسم بالشمولية والديمقراطية".
وقد نبعت مساندة الولايات المتحدة لاستقلال كوسوفو من رغبتها في جعل كوسوفو محمية أمريكية على حدود روسيا، التي رأت في "استقلال" كوسوفو تهديدا لمصالحها، وستتخلي عنها فور انتهاء مهمتها. كما أن الولايات المتحدة التي استغلت انهيار الاتحاد السوفيتي، واستغلت انفرادها بالهيمنة على العالم، كونها القوة العظمي الوحيدة، من أجل إعادة تقسيم العديد من الدول، وتجزئة المجزأ منها لإثارة النعرات والصراعات الدينية والطائفية والعرقية، بما يضمن هيمنتها - الولايات المتحدة - على العالم لعدة عقود قادمة.
من جانب آخر، فإن معظم دول الاتحاد الأوروبي أعلنت دعمها لاستقلال كوسوفو، وحصولها على سيادتها الكاملة، باعتبارها منطقة من مناطق البلقان، التي شملها الاتحاد الأوروبي بوعد ضمها إلى عضويته، فضلا عن وجود بواعث قلق من أن تتردي الأحوال، بحيث تصل إلى حافة الاقتتال مرة أخري، وآمال في أن تسير على خطي الانتعاش والازدهار، لكي تنضم إلى الاتحاد الأوروبي.
على جانب آخر، رفض عديد من الدول إعلان سيادة كوسوفو على أراضيها، وعلى رأسها صربيا، التي لم تعترف بانفصال كوسوفو، ولا تزال تعدها جزءا لا يتجزأ من أراضيها، إضافة إلى دول أخري عديدة، مثل جورجيا والصين التي رفضت الاعتراف بسيادة كوسوفو، خشية أن يشجع الإجراء الحركات الانفصالية على أراضيها. وكذلك الحال بالنسبة لروسيا التي تعارض استقلال كوسوفو، وتقول إنها أعلم بشئون المنطقة، وأنها تدرك ما يمكن أن يعزز الاستقرار أو يزعزعه في أوروبا، وتتخذ لنفسها وجهة نظر تقوم على أساس أن استقلال كوسوفو لا يمكن أن يتم في ظل معارضة صربيا، البلد الأم، لهذا المنحي.
ولكن في الوقت نفسه، فإن روسيا لا تملك أي استثمارات على الأرض في كوسوفو، ولم تنفق أية أموال فيها. كما أن قوات حفظ السلام الروسية سرعان ما تم سحبها لتخفيف النفقات العسكرية الخارجية.
تحديات داخلية وخارجية:
بعد أن استكملت كوسوفو استقلالها، وحصلت على سيادتها الكاملة، باتت تواجه تحديات مهمة، بعضها يتعلق بالإطار الإقليمي والدولي، مثل التعامل مع الدول صاحبة المصالح في الإقليم، خاصة الولايات المتحدة وروسيا، وتحسين علاقاتها بدول الجوار، والبعض الآخر يتعلق بالقضايا الداخلية، مثل تحسين الأوضاع الاقتصادية المتردية، ودمج الأقليات، وفي مقدمتها الأقلية الصربية، والعمل على بناء مجتمع ديمقراطي متعدد الأعراق، تحترم فيه حقوق الإنسان.
يتمثل التحدي الأكبر أمام كوسوفو في التعامل مع الدول صاحبة المصالح في الإقليم، خاصة في ظل الثروات الكثيرة التي يتمتع بها الإقليم، وترغب الدول الكبري في تأمينها لصالحها، وتري أن ذلك حقها المشروع، بعدما ساعدت الإقليم في الحصول على الاستقلال، حيث تعد كوسوفا محل صراع دولي، أمريكي-روسي، وإلى حد ما أوروبي. يتطلب ذلك من النظام الكوسوفي القائم أن يتعامل بحذر مع كافة الأطراف، حفاظا على استقلال دولته الناشئة من جهة، وحتي يضمن وقوف هؤلاء ضد أية محاولات من قبل صربيا لتهديد استقرار وأمن الإقليم من جهة أخري، وفي الوقت نفسه تطوير الإقليم وتحويله إلى دولة قادرة على الحفاظ على سيادة أراضيها دون تدخل من جهات خارجية، مثلها مثل أي دولة مستقلة.
وتدرك الولايات المتحدة جيدا أن صربيا تحتل موقعا مهما في البلقان، وهي على ارتباط تقليدي ثقافي وديني مع روسيا، فضلا عن أنها تمثل خطها الأمامي في البلقان. وبتأثير روسيا، فهي تبتعد عن الاتحاد الأوروبي، وتعارض سياسة الولايات المتحدة في البلقان، وهذا ما يمثل ضررا للمصالح الأمريكية في المنطقة، حيث تريد الولايات المتحدة من دول البلقان أن تكون مجال نفوذ لها، ومركز قوة ضاربة في خاصرة روسيا. ولذلك، كانت أولي الخطوات هي فصل الجبل الأسود عن صربيا، ثم فصل كوسوفا بعد ذلك، حتي تتمكن من تنفيذ مشاريعها في المنطقة دون عرقلة من صربيا بتأثير روسيا.
من الموقف الأمريكي، يأتي موقف الاتحاد الأوروبي. فرغم علم الاتحاد الأوروبي بأن الولايات المتحدة تريد إضعاف صربيا لتضعف نفوذ روسيا في البلقان، ولإزالة أي عائق لنفوذ الولايات المتحدة في البلقان، فإن الاتحاد الأوروبي، يتوقع من فك ارتباط صربيا بروسيا (أو إضعاف هذا الارتباط) أن يستطيع إدخالها الاتحاد الأوروبي مستغلا عداءها للولايات المتحدة في إيجاد توازن مع دول أوروبا الشرقية التي دخلت الاتحاد، وأصبحت تشكل ركائز للولايات المتحدة فيه، مثل بولندا والتشيك.
كما يرغب الاتحاد الأوروبي في الاستفادة من الثروات الكثيرة التي تنعم بها كوسوفو. فرغم أن مساحتها لا تتعدي نحو (11) ألف كيلو متر مربع، فإنها تعد من أخصب المناطق في البلقان وأغناها بالثروة المعدنية. حيث إنه على مستوي الاتحاد اليوغوسلافي السابق، كان هذا الإقليم ينتج وحده ما نسبته 75٪ من الرصاص والزنك، و60٪ من الفضة، و50٪ من النيكل، و20٪ من الذهب، كما تحتوي على 100٪ من احتياطي البسموس، و79٪ من احتياطي الفحم، و61٪ من احتياطي الماغنسيوم، وتوجد في كوسوفا أيضا كميات كبيرة من البوكسيت الحديدي، والجاليوم، والحديد، والنحاس، والزئبق.
وبدورها، ترغب موسكو، من خلال معارضتها للاستقلال التام كوسوفو، في استعادة نفوذها في المنطقة، لذلك تعمل على عرقلة أو تأجيل دخول أي دولة من دول المنطقة في الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو. والموقف الروسي المعلن يساند الموقف الصربي المتمسك بعدم التخلي عن كوسوفو. وبالإضافة إلى ذلك، تبرز الروابط المصلحية في أن روسيا تريد الاحتفاظ بموطئ قدم لها في أوروبا الشرقية، تحاول من خلاله فك الحصار الذي يطوقها يوما بعد يوم، من خلال اتساع النفوذ الأمريكي في المنطقة، وانضمام أوروبا الشرقية إلى الناتو.
أما الروابط القومية، فتتمثل في كون الصرب والروس ينحدرون من قومية واحدة هي القومية "السلافية"، واللغة الروسية قريبة في مفرداتها من اللغة الصربية، في حين ينحدر مسلمو كوسوفا من القومية الألبانية. وأخيرا، تخشي روسيا من تكرار ما حدث في كوسوفا معها.
ومن جانب آخر، فإن دمج الأقلية الصربية في كوسوفو يشكل معضلة كبيرة، حيث تشكل هذه الأقلية نحو 7٪ من السكان، وتطالب بالانفصال عن كوسوفو. وهناك تقسيم جغرافي بصفوف الصرب الكوسوفيين، فبعضهم يعيش في مناطق نائية بعيدة مترامية في وسط وجنوبي كوسوفو، وعليهم أن يتعلموا، بل هم تعلموا من الآن إلى حد ما كيفية العثور على طرق، من شأنها أن تعينهم على احتواء الغالبية الألبانية، وهم يدركون أن تحقيق التكامل والاندماج هو أمر صعب المنال، وإن تحقق فسيستغرق وقتا. أما الآخرون، وهم نحو 40٪ يعيشون شمال مدينة ميتسافيتسا المقسمة، فهم مصرون على عدم الخضوع للمؤسسات الألبانية، والبقاء في ظل السيادة الصربية، وهناك تحد كبير في إقناعهم بالاندماج مع ألبان كوسوفو.
ومن هذه التحديات أيضا تحسين العلاقات مع صربيا، والاعتراف بأن السلام والعلاقات الطيبة مع دول الجوار أمر ضروري من أجل تحقيق الاستقرار في منطقة البلقان، وتعزيز فرص قبول صربيا في المجتمع الأوروبي، حيث يشترط الاتحاد الأوروبي، لقبول انضمام صربيا، أن تتخذ خطوات جادة لتحسين علاقاتها مع كوسوفو.
وفي الواقع، فإن رؤية الأطراف المختلفة لوضع الأقلية الصربية تختلف باختلاف نظرتها لوضع إقليم كوسوفو في مجموعه. فصربيا تحاول إحباط أي مساع لدمج هذه الأقلية داخل المجتمع الألباني. ويري الاتحاد الأوروبي ضرورة عودة اللاجئين الصرب، وفتح حوار داخلي بين الأغلبية الألبانية والأقلية الصربية لإشراك الصرب في المؤسسات الحكومية والرسمية الكوسوفية بهدف الوصول إلى بناء مجتمع ديمقراطي متعدد الأعراق، تحترم فيه حقوق الإنسان والأقليات المختلفة، وبعد ذلك فقط يمكن الدخول في التسوية النهائية للإقليم. بينما تري الولايات المتحدة أن الأفضل للأقلية الصربية بكوسوفو أن تشارك في المؤسسات الحكومية والرسمية الكوسوفية، وبناء مستقبلهم داخل كوسوفو، وعدم الاستجابة للخداع الصربي من حكومة بلجراد.
ومن أهم التحديات التي تواجهها كوسوفو، أيضا، إعادة بناء الاقتصاد، ومعالجة مشكلة البطالة التي تواجهها وسط ركود يشمل العالم بأسره، وعقب موجة من الصراعات الإقليمية، فضلا عن الحاجة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية، واجتذاب الشركات العاملة في مجال الزراعة، والتعدين، والتصنيع، والسياحة، والطاقة النظيفة، وغيرها من المجالات.
وعلى الرغم من تمتع كوسوفا بأرض خصبة، تستطيع من خلالها زراعة وإنتاج كافة احتياجاتها الغذائية، فإن معظم هذه الأراضي لم تستغل بعد، نظرا للظروف غير المستقرة، التي مرت بها كوسوفا، والتي دفعت الكثيرين للهجرة والعمل في الخارج. كما أن معظم المعادن والثروات الطبيعية الأخري التي تمتلكها كوسوفو لم تستثمر حتي الآن، حيث تعمدت حكومة بلجراد الصربية عدم النهوض باقتصاد كوسوفا، الذي كان تابعا إقليميا لها، أثناء فترة احتلاله (1912 - 1999)، وحرصت على الاستفادة من المواد الخام الأولية التي تحتوي عليها كوسوفو، وتصنيعها في صربيا، ثم تصديرها مرة أخري إلى كوسوفو أو غيرها من الدول، وهو ما جعل اقتصاد كوسوفو يرتبط بالاقتصاد الصربي في كثير من شئونه. فكوسوفو تصدر 4٪ فقط من إجمالي ما تستورده. وحتي اليوم، فإن اتجاهات التصنيع المحدودة داخل كوسوفو تركز على الصناعات الاستهلاكية فقط.
وبناء على كل هذا، فإن ثمة تحديات هائلة تواجه اقتصاد أحدث وأفقر دولة أوروبية، نظرا لافتقادها قاعدة اقتصادية سليمة، الأمر الذي يمكن أن يدفعها إلى الاعتماد على القروض الدولية، والمساعدات الخارجية لفترات طويلة مستقبلا، خاصة أن الأوضاع الاقتصادية بالإقليم تتفاقم في ظل بطالة تعدت 50٪ من قوة العمل الرئيسية.
لقد أصبح استقلال كوسوفو أمرا واقعا، نال دعم واعتراف قوي دولية ذات ثقل. لكن التحدي الآن هو أن تثبت كوسوفو أنها دولة ديمقراطية ذات سيادة، قائمة على التعدد، موحدة تقوم على المواطنة للجميع، أوروبية القيم والمؤسسات، ذات علاقات إقليمية، خاصة مع صربيا، ذات اقتصاد حر، بعيدة عن التبعية، مفتوحة أمام الاستثمارات، مستغلة لمواردها المحدودة، عضو بالمؤسسات الدولية، وهو ما سوف يتضح خلال الفترة المقبلة.
تعريف الكاتب:
باحث في العلوم السياسية