- الثلاثاء ديسمبر 10, 2013 1:19 am
#69485
ازدهر الأدب العربي في العصر العباسي ازدهارا خصبا إلى أبعد حدود الخصبة، يدل على ذلك ما يزخر به هذا العصر من طلاب الأدب وباحثي الفكر و القراء الواعين، والخطباء اللامعين، وكل من ينشد المتعة الأدبية و المجالات العلمية، والمذاهب الفكرية و الفلسفية.
ولاريب أن الذي أحل الأدب العربي في تلك المكانة الرفيعة والمنزلة العظمى هو ذلك التمازج والتلقيح الفكري بين الحضارة الوافدة الجديدة والحياة العربية الأصيلة. وقد كان لذلك العنصر الوافد أدب يعتز به، وبيان يحبه، وفكر يتمسك به ولا يرضى عنه بديلا. كما كان العربي الأصيل ينظر إلى أدبه ولغته وبيانه نظرته إلى عرضه الذي يقاتل دونه ويذوذ عنه. وهذا ما سبب حربا ضروسا بين معسكرين، كل منهما له بيانه ولسانه ومنطقه وتفكيره وأسلوب أدائه للمعنى، كما أحدث صراعا أنتج جيلا جديدا في البيان واللسان، والرأي والفكر، والإبداع، والتصوير، والجرس والموسيقى، لم يكن للعربي عهد به من قبل، وربما يعزى ذلك كله إلى الحضارة والعلوم والمعارف الفلسفية التي جاء بها هؤلاء الذين وفدوا على العرب وانضموا إليهم من فرس وغيرهم. لكن هذا العنصر الدخيل لم يعتبر نفسه دخيلا بكل معنى الكلمة كما يحدث للجاليات النازحة التي تضطرها ظروف الحياة إلى الاغتراب، فتظل جامدة في تقاليدها وانطباعاتها. ولم تكن مشاركتهم سطحية وعابرة، ولكنها كانت أشبه بمنافسة الأقران وصراع القوى المتوازنة، ولهذا لم تمض فترة قصيرة من الزمن حتى كان من الفرس كما عند العرب، فحول في الشعر والأدب والرواية والنقد واللسان والبيان، والفصاحة والبلاغة العربية، فكان منهم كبار الشعراء والكتاب والوزراء ورؤساء الدواوين واللغويون البارعون والمتصدرون للتدريس والإفتاء. ونتيجة ذلك زخرت المكتبات العربية فيما بعد بدواوين ومؤلفات في علوم اللسان والمعاجم الضخمة التي خدمت كتاب الله الكريم وسنة رسوله العظيم صلى الله علية وسلم.
لقد كان للفرس دور هام إيجابي في بناء الحضارة العربية الزاهرة، وكان لهم الفضل الأكبر على اللغة العربية والأدب العربي، وكل من جاء بعدهم من الأدباء والشعراء الأعلام. ويظهر ذلك فيما نلمحه من آثار طيبة في تألق شعر المتنبي، وبيان المعري، وبلاغة الشريف الرضي، ومن جرى في مضمارهم ممن نعدهم عنوانا كريما لهذا العصر. وعلى هذا نقول أن العصر العباسي يعتبر محطة كبرى في تاريخ الأدب العربي الزاهر. ففي هذا العصر بلغ المسلمون من العمران و السلطان مالم يبلغوه من قبل ولا من بعد، وأثمرت فيه الفنون الإسلامية، وزهت الآداب العربية، ونقلت العلوم الأجنبية، ونضج العقل فوجد سبيلا إلى البحث ومجالا للتفكير.
إن البيئة العربية لم تنقلب فجأة، بل بدأ التغير فيها منذ خرجت جيوش الفتح إلى أقطار العالم في الشرق والغرب، ومنذ أخذ الإسلام ينتشر بين غير العرب، ومنذ شرع البدو يتخلون عن سكنى البادية، وينزلون الحاضرة، ومنذ شغف الفاتحون العرب الساميون بالجمال الآري، فتزوجوا الفارسيات والتركيات والروميات ، إلا أن هذا التبدل التدريجي كان قد بلغ مع قيام الدولة العباسية مبلغا لفت الأنظار، وغطى على خصائص الشعر البدوي الأولى. وقد نتج من ذلك احتكاك العرب بغيرهم من الأمم واقتباسهم أمورا كثيرة من أوجه الحضارة المادية ومن أساليب التفكير.ثم إن الموالي الأولين احتفظوا بكثير من أساليب تفكيرهم وعاداتهم في الجدال خاصة ، وأخذوا يتساءلون عن كثير مما في الإسلام من فروض وأحكام وعقائد - بعد الموازنة بينها وبين ما عرفوا في أديانهم القديمة - كالتفريق بين ذات الله وصفاته، والبحث في شأن الجنة والنار، وفي أعمال الإنسان، وهل هو مجبر على أعماله. وهكذا حتى نشأت منذ أواسط العصر الأموي حركة الاعتزال، ثم اتسعت في العصر العباسي اتساعا كبيرا. ولم يضق صدر الإسلام بهذه الحركة، لأنها حركة أصيلة فيه، ولكن أهل الدولة حملوا الأمرعلى ظاهره، فكانوا إذا ضاقوا بخصم سياسي ثم وجدوا عنده شيئا من حرية التفكير، قالوا إنه زنديق، وأخذوه في الظاهر بهذه التهمة بينما هم كانوا في باطنهم ينتقمون من خصومته السياسية.
وكان أبعد الأسباب أثرا في تبدل المجتمع الإسلامي، الزواج بغير العربيات، فقد تبدلت به الحياة البيتية، في المطعم و الملبس و آداب السلوك، وفي نشوء جيل جديد له عمومة عربية وخؤولة فارسية أو رومية أو تركية، وبينما كان العرب الأولون خلصا لا يرون للأمم على العرب فضلا في شيء ، أصبح الجيل الجديد المولد يتعصب أيضا لخؤولته ويرى أن العرب ليسوا أفضل من سواهم في كل شئ. هذه التسوية بين غير العرب وبين العرب هي التي سماها أهل الحمية العربية " الشعوبية". وكان في البيئة العباسية طبقة أثرت في حياة المحدثين تأثيرا عميقا، تلك هي طبقة الجواري، على أن الجواري في العصر العباسي لم يكن يمتهن في خدمة البيوت، بل هناك معلمون ومثقفون يعلمون الجواري أصناف العلوم: كالفقه و الكلام، وأنواع الفنون كالغناء والرقص والشعر، حتى إنهن كن يتخذن للمباهاة والمناظرة، وقد يبلغ ثمن جارية مثل هذه مئات ألوف الدراهم أو الدنانير. وقد كان بعض هؤلاء الجواري شاعرات، ورغب الناس في الزواج بالجواري، فأنجبن الأولاد، وكثيرا ما كان أبناء الجواري أشهر و أقدر من أبناء الحرائر، نعد من هؤلاء المنصور و الرشيد و المأمون و المعتصم إلا أن كثرة الجواري في بيوت الخلفاء و الأمراء، وفي مواقع اللهو، كان أيضا مدعاة إلى الفساد الاجتماعي التي أنت منه البيئة العباسية، ولقد زاد في هذا الفساد نشوء طبقة الغلمان والخصيان.
كما كثر التعرب بين الموالي، وبلغ من إعجابهم بالعرب أنهم كانوا يلفقون لأنفسهم أنسابا عربية، فأبو تمام الرومي أصبح حبيب ابن أوس بن الحارث بن قيس...بن عدي بن عمرو بن الحارث بن طئ بن أدد...بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وهكذا أصبح المسلمون من الترك والفرس و الروم يشعرون شعورا قوميا عربيا، فاللغة العربية أصبحت لغتهم، والتاريخ العربي تاريخهم، والحياة العربية حياتهم.
والعرب في الأصل إلا أقلهم، بدو رحل يحملون عصبياتهم و عداواتهم مع خيامهم، وينتقلون بها من مكان إلى آخر، لايذكرون إلا صلة النسب أو بما هو بمعنى النسب من الولاء والحلف، فدعاهم النزول في الحضر إلى الترف واللهو، وإلى ضياع كثير من محامدهم الأولى، من الفطرة الخيرة، والشجاعة والنجدة، ثم انتشر بينهم كثير من مساوئ المدينة كالشراب والانغماس في اللذات، وتناسي الوفاء، ومسايرة أهل السلطان حقا أو باطلا. وقد كان لسكنى الحضر حسنات أيضا منها: اتساع العمران، واستبحار العلم، وازدهار الفن، وكثرة الأسفار التي سهلت معرفة بعض الأمم بعضا، ومعرفة ماكان عند كل أمة منها من وجوه الحضارة والثقافة.
إن شكل الدول والحكومة الذي كان للعرب قبل الإسلام، لم يصلح للامبراطورية الجديدة وللمجتمع الجديد. وكان للبلاد المفتوحة حكومات، فلم يستنكف العرب أن يستفيدوا من اختبار من نزل في تلك البلاد قبلهم من الدول، فاستعانوا بالأنظمة القديمة وبرجال الدولة القديمة.
وبما أن الفرس هم الذين ساعدوا العباسيين على نيل الخلافة لم يكن مستغربا بأن يلقي العباسيون قياد دولتهم إلى الفرس جملة، حتى أصبحت الدولة العباسية فارسية في كل شئ، وحتى أصبح الفرس والخراسانيون خاصة يدعون "أبناء الدولة" فأثار ذلك نقمة العرب والشيعة منهم خاصة على العباسيين.
كان للحياة الاجتماعية والمناخ العام للعصر بما فيه من تقلبات سياسية وتيارات حضارية متداخلة بين الأمة العربية والإسلامية في الأقاليم العربية اللسان، والأخرى ذات الألسنة والثقافات القديمة المتعددة، آثارها في الجو الثقافي العام. لقد نشأ عند العلماء ما عرف بفرعي الثقافة أو العلوم، الثقافة العربية الإسلامية، وعلوم الأوائل أو العلوم الدخيلة الوافدة. وتشمل الثقافة العربية الإسلامية علوم القرآن والحديث واللغة والشعر والتاريخ، وأما علوم الأوائل أو الدخيلة فتشمل الفلسفة والمنطق والفلك والحساب والعلوم الطبيعية والطب كما تشمل بعض الفنون كعلم الموسيقى والتصوير... وما إلى ذلك. وقد كان للخلفاء وبعض الوزراء وعلية القوم دور في توجيه الثقافة والعلوم والآداب وتنشيطها، بما يعقدون من تلك المجالس الأدبية والعلمية في قصورهم. وما يغدقون من الأموال والهبات في سبيل ذلك. كذلك كان للوزراء مجالس للنظر، ومنهم الوزير يحيى بن خالد البرمكي، وكانت مجالس تجمع بين متكلمي الشيعة والخوارج والمعتزلة، وكانت الموضوعات تجمع بين قضايا العصر الفكرية والعقدية والسياسية والاجتماعية والعلمية.
وعلى رأس القضايا التي طرحت في مجالس العلم قضية "خلق القرآن" وقد بلورت هذه القضية الخلاف بين الاتجاهين المتعارضين في الفكر الإسلامي ( المعتزلة وأهل السنة والمحدثين). وأخذت شكلا حادا من الجانبين، وتعدت حدود الجدل والمناظرة إلى ألوان من القهر والمواجهة والتصفية الجسدية، مما أضر بالقضية نفسها ، وتوجهاتها الفكرية، مما عاد على الفكر الإسلامي بردود فعل سلبية، وأوقعته في دوامة من الصراع حتى انتهى به الأمر إلى هذا التراجع والارتداد الذي شهدته العصور التالية، والتي غربت فيها شمس الفكر في ظلام الجهالة والتقليد.
وقد عرف في هذا العصر اتجاه الزهد، ونشأ في البصرة بعض الزهاد والنساك مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ومالك بن دينار. ولم يكن الزهد في هذا العصر مجرد انصراف عن نعيم الحياة وملاذها بل كانت وراءه نزعات فكرية، ومواقف عقدية. ومن شعراء الزهد: محمود الوراق وأبو العتاهية، ويعارض هذا الاتجاه في مظهره الزنادقة المتأثرون ببعض ماجاء في الديانات الأجنبية. وكانت الحيرة الدينية قد لزمت بعض العلماء والمفكرين، ومن شابت العقيدة الإسلامية عندهم شوائب من ديانات الفرس والبراهمة الهنود وبعض الفلسفات. وقد انتشرت في البصرة على الخصوص آراء أصحاب الديانات الثانوية ممن يرون بوجود إلهين. إله النور وإله الظلمة، أو من يعتقدون بآراء زراديشت وماني.
وقد كان لهذه الاتجاهات الخارجة على الأصول الدينية الإسلامية الثابثة آثارها في آداب العصر شعره ونثره، سلبا أو إيجابا، فقد تناقلتها الكتب وعرضت للآراء بالشرح والرد والتعقيب والتجريح، كما ظهرت آثارها في الشعر بأنماط متباينة. وقد أثرى النشاط الثقافي والعلمي زيادة على هذا، ما نقل من الكتب عن الأمم المختلفة من فرس ويونان وهنود، وأشهر النقلة والمترجمين سرجيس بن إلياس الرومي، ويحيى أبو يوحنا البطريق وإسحاق بن حنين. وكثرت الترجمة وازدهرت في عصر المأمون لاهتمامه بالثقافات الأجنبية وضرورة نقل علوم الأمم الأخرى وبخاصة علم اليونان، وترجمت في عصره والعصور التالية عشرات بل مئات الكتب التي أفادت الثقافة الإسلامية، مما أسهم في تقدم العلوم العقلية والطبيعية والهندسية والفلك والرياضيات بل وساعدت كثيرا في تطور وازدهار العلوم الشرعية. كما لعب علم التاريخ دورا هاما في التعرف على الأمم السابقة من فرس ويونان ومصريين وعرب قدماء. وكان تاريخ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمة ما ألف في هذا العلم، وجمع ابن إسحاق سفرا كبيرا، ضمنه كثير من الحقائق إلى بعض المرويات، التي وقف أمامها العلماء موقف الانتقاد والتقويم.
ومن العلوم التي ظهرت آثارها وبدأت تأخذ مكانها في الفكر الإسلامي، علم الفلسفة على يد فيلسوف العرب، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي الذي عاصر المأمون ببغداد، ويعد واحدا من أكبر المفكرين والحكماء، وترجم للمأمون والمعتصم عدة كتب عن اليونانية. واتصل بالمعتزلة فاضطهد أيام المتوكل وتوفي بعد سنة 256هـ .
أما عن اللغة والأدب، فقد استوجب معرفة تفسير القرآن، وتفهم معانيه، معرفة اللغة وبخاصة ممن دخلوا الإسلام من الشعوب الغير العربية واستعربوا، من هنا أقبل الفرس وغيرهم على تعلم اللغة العربية. وبدأت دراسات ضبط الإعراب وتقويم التراكيب والأساليب بنشأة علم النحو. وظهرت في النحو مدرستان تنتميان إلى المدينتين الكبيرتين: البصرة والكوفة. إحداهما هي مدرسة أو مذهب البصريين، ويقوم على القياس ويعتمد المنطق في أحكام القياس، على رأسه سيبويه، والآخر مذهب الكوفيين ويقوم على السماع والتسليم بما ينطق به العرب ما دام صحيحا حتى ولو لم يخضع للقياس، وعلى رأسهم الكساني.
وبعد انتقال كثير من علماء المدرستين إلى بغداد، نشأ اتجاه ثالث توفيقي عماده الأخذ بكل من الجانبين وعرف بمذهب البغداديين.
ولاشك أن هذا النشاط اللغوي أثر في اتجاهات أخرى، كاتجاه جمع الشعر القديم للاستشهاد به، أو للتأديب، وتقويم اللسان، وقد كان بعض العلماء ينصحون الشعراء المولدين بحفظ كثير من الشعر، ومنه ما عرف عن نصح خلف الأحمر لتلميذه أبي نواس الحسن بن هانئ بحفظ الشعر القديم ومحاولة بناء شعر على نسقه.
وحرص بعض رواد الأدب واللغة على جمع كثير من النماذج الممتازة وعرضها وبيان جوانبها اللغوية والبيانية فيما ألفوه من الكتب المعنية بهذا الجانب، والتي اعتبرت من بعد من عدة الأديب، كالبيان والتبيين، وعيون الأخبار، وأدب الكاتب، والكامل. كما جمعت مختارات من شعر القدماء والمحدثين ليقف عليها الناشئة في الأدب والشعر ويتأدب بها، وليأخذوا بما فيها من المعاني والحكم وصنعة الكلام.
ومن هذه المجموعات: المفضليات، والأصمعيات، وحماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، يضاف إليها جمهرة القريشي، والنوادر لأبي القالي فيما بعد. وخلاصة القول أن مظاهر الحياة الحضارية قد اتسعت أمام العرب في العصر العباسي، بفضل تأثرهم واحتكاكهم بشعوب الأمم الأخرى، وقد أدى ذلك إلى امتزاج المعارف وتنوعها، وقد تجلت هته المظاهر في العادات الجديدة التي أصبحت تطغى في الحياة اليومية للعرب كالمأكل و الملبس. فكان لابد لهذا التحضر والازدهار في مظاهر الحياة الاجتماعية والاتساع في المعرفة، أن يكون له انعكاس على الحياة الأدبية وخاصة الشعر.
ولاريب أن الذي أحل الأدب العربي في تلك المكانة الرفيعة والمنزلة العظمى هو ذلك التمازج والتلقيح الفكري بين الحضارة الوافدة الجديدة والحياة العربية الأصيلة. وقد كان لذلك العنصر الوافد أدب يعتز به، وبيان يحبه، وفكر يتمسك به ولا يرضى عنه بديلا. كما كان العربي الأصيل ينظر إلى أدبه ولغته وبيانه نظرته إلى عرضه الذي يقاتل دونه ويذوذ عنه. وهذا ما سبب حربا ضروسا بين معسكرين، كل منهما له بيانه ولسانه ومنطقه وتفكيره وأسلوب أدائه للمعنى، كما أحدث صراعا أنتج جيلا جديدا في البيان واللسان، والرأي والفكر، والإبداع، والتصوير، والجرس والموسيقى، لم يكن للعربي عهد به من قبل، وربما يعزى ذلك كله إلى الحضارة والعلوم والمعارف الفلسفية التي جاء بها هؤلاء الذين وفدوا على العرب وانضموا إليهم من فرس وغيرهم. لكن هذا العنصر الدخيل لم يعتبر نفسه دخيلا بكل معنى الكلمة كما يحدث للجاليات النازحة التي تضطرها ظروف الحياة إلى الاغتراب، فتظل جامدة في تقاليدها وانطباعاتها. ولم تكن مشاركتهم سطحية وعابرة، ولكنها كانت أشبه بمنافسة الأقران وصراع القوى المتوازنة، ولهذا لم تمض فترة قصيرة من الزمن حتى كان من الفرس كما عند العرب، فحول في الشعر والأدب والرواية والنقد واللسان والبيان، والفصاحة والبلاغة العربية، فكان منهم كبار الشعراء والكتاب والوزراء ورؤساء الدواوين واللغويون البارعون والمتصدرون للتدريس والإفتاء. ونتيجة ذلك زخرت المكتبات العربية فيما بعد بدواوين ومؤلفات في علوم اللسان والمعاجم الضخمة التي خدمت كتاب الله الكريم وسنة رسوله العظيم صلى الله علية وسلم.
لقد كان للفرس دور هام إيجابي في بناء الحضارة العربية الزاهرة، وكان لهم الفضل الأكبر على اللغة العربية والأدب العربي، وكل من جاء بعدهم من الأدباء والشعراء الأعلام. ويظهر ذلك فيما نلمحه من آثار طيبة في تألق شعر المتنبي، وبيان المعري، وبلاغة الشريف الرضي، ومن جرى في مضمارهم ممن نعدهم عنوانا كريما لهذا العصر. وعلى هذا نقول أن العصر العباسي يعتبر محطة كبرى في تاريخ الأدب العربي الزاهر. ففي هذا العصر بلغ المسلمون من العمران و السلطان مالم يبلغوه من قبل ولا من بعد، وأثمرت فيه الفنون الإسلامية، وزهت الآداب العربية، ونقلت العلوم الأجنبية، ونضج العقل فوجد سبيلا إلى البحث ومجالا للتفكير.
إن البيئة العربية لم تنقلب فجأة، بل بدأ التغير فيها منذ خرجت جيوش الفتح إلى أقطار العالم في الشرق والغرب، ومنذ أخذ الإسلام ينتشر بين غير العرب، ومنذ شرع البدو يتخلون عن سكنى البادية، وينزلون الحاضرة، ومنذ شغف الفاتحون العرب الساميون بالجمال الآري، فتزوجوا الفارسيات والتركيات والروميات ، إلا أن هذا التبدل التدريجي كان قد بلغ مع قيام الدولة العباسية مبلغا لفت الأنظار، وغطى على خصائص الشعر البدوي الأولى. وقد نتج من ذلك احتكاك العرب بغيرهم من الأمم واقتباسهم أمورا كثيرة من أوجه الحضارة المادية ومن أساليب التفكير.ثم إن الموالي الأولين احتفظوا بكثير من أساليب تفكيرهم وعاداتهم في الجدال خاصة ، وأخذوا يتساءلون عن كثير مما في الإسلام من فروض وأحكام وعقائد - بعد الموازنة بينها وبين ما عرفوا في أديانهم القديمة - كالتفريق بين ذات الله وصفاته، والبحث في شأن الجنة والنار، وفي أعمال الإنسان، وهل هو مجبر على أعماله. وهكذا حتى نشأت منذ أواسط العصر الأموي حركة الاعتزال، ثم اتسعت في العصر العباسي اتساعا كبيرا. ولم يضق صدر الإسلام بهذه الحركة، لأنها حركة أصيلة فيه، ولكن أهل الدولة حملوا الأمرعلى ظاهره، فكانوا إذا ضاقوا بخصم سياسي ثم وجدوا عنده شيئا من حرية التفكير، قالوا إنه زنديق، وأخذوه في الظاهر بهذه التهمة بينما هم كانوا في باطنهم ينتقمون من خصومته السياسية.
وكان أبعد الأسباب أثرا في تبدل المجتمع الإسلامي، الزواج بغير العربيات، فقد تبدلت به الحياة البيتية، في المطعم و الملبس و آداب السلوك، وفي نشوء جيل جديد له عمومة عربية وخؤولة فارسية أو رومية أو تركية، وبينما كان العرب الأولون خلصا لا يرون للأمم على العرب فضلا في شيء ، أصبح الجيل الجديد المولد يتعصب أيضا لخؤولته ويرى أن العرب ليسوا أفضل من سواهم في كل شئ. هذه التسوية بين غير العرب وبين العرب هي التي سماها أهل الحمية العربية " الشعوبية". وكان في البيئة العباسية طبقة أثرت في حياة المحدثين تأثيرا عميقا، تلك هي طبقة الجواري، على أن الجواري في العصر العباسي لم يكن يمتهن في خدمة البيوت، بل هناك معلمون ومثقفون يعلمون الجواري أصناف العلوم: كالفقه و الكلام، وأنواع الفنون كالغناء والرقص والشعر، حتى إنهن كن يتخذن للمباهاة والمناظرة، وقد يبلغ ثمن جارية مثل هذه مئات ألوف الدراهم أو الدنانير. وقد كان بعض هؤلاء الجواري شاعرات، ورغب الناس في الزواج بالجواري، فأنجبن الأولاد، وكثيرا ما كان أبناء الجواري أشهر و أقدر من أبناء الحرائر، نعد من هؤلاء المنصور و الرشيد و المأمون و المعتصم إلا أن كثرة الجواري في بيوت الخلفاء و الأمراء، وفي مواقع اللهو، كان أيضا مدعاة إلى الفساد الاجتماعي التي أنت منه البيئة العباسية، ولقد زاد في هذا الفساد نشوء طبقة الغلمان والخصيان.
كما كثر التعرب بين الموالي، وبلغ من إعجابهم بالعرب أنهم كانوا يلفقون لأنفسهم أنسابا عربية، فأبو تمام الرومي أصبح حبيب ابن أوس بن الحارث بن قيس...بن عدي بن عمرو بن الحارث بن طئ بن أدد...بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وهكذا أصبح المسلمون من الترك والفرس و الروم يشعرون شعورا قوميا عربيا، فاللغة العربية أصبحت لغتهم، والتاريخ العربي تاريخهم، والحياة العربية حياتهم.
والعرب في الأصل إلا أقلهم، بدو رحل يحملون عصبياتهم و عداواتهم مع خيامهم، وينتقلون بها من مكان إلى آخر، لايذكرون إلا صلة النسب أو بما هو بمعنى النسب من الولاء والحلف، فدعاهم النزول في الحضر إلى الترف واللهو، وإلى ضياع كثير من محامدهم الأولى، من الفطرة الخيرة، والشجاعة والنجدة، ثم انتشر بينهم كثير من مساوئ المدينة كالشراب والانغماس في اللذات، وتناسي الوفاء، ومسايرة أهل السلطان حقا أو باطلا. وقد كان لسكنى الحضر حسنات أيضا منها: اتساع العمران، واستبحار العلم، وازدهار الفن، وكثرة الأسفار التي سهلت معرفة بعض الأمم بعضا، ومعرفة ماكان عند كل أمة منها من وجوه الحضارة والثقافة.
إن شكل الدول والحكومة الذي كان للعرب قبل الإسلام، لم يصلح للامبراطورية الجديدة وللمجتمع الجديد. وكان للبلاد المفتوحة حكومات، فلم يستنكف العرب أن يستفيدوا من اختبار من نزل في تلك البلاد قبلهم من الدول، فاستعانوا بالأنظمة القديمة وبرجال الدولة القديمة.
وبما أن الفرس هم الذين ساعدوا العباسيين على نيل الخلافة لم يكن مستغربا بأن يلقي العباسيون قياد دولتهم إلى الفرس جملة، حتى أصبحت الدولة العباسية فارسية في كل شئ، وحتى أصبح الفرس والخراسانيون خاصة يدعون "أبناء الدولة" فأثار ذلك نقمة العرب والشيعة منهم خاصة على العباسيين.
كان للحياة الاجتماعية والمناخ العام للعصر بما فيه من تقلبات سياسية وتيارات حضارية متداخلة بين الأمة العربية والإسلامية في الأقاليم العربية اللسان، والأخرى ذات الألسنة والثقافات القديمة المتعددة، آثارها في الجو الثقافي العام. لقد نشأ عند العلماء ما عرف بفرعي الثقافة أو العلوم، الثقافة العربية الإسلامية، وعلوم الأوائل أو العلوم الدخيلة الوافدة. وتشمل الثقافة العربية الإسلامية علوم القرآن والحديث واللغة والشعر والتاريخ، وأما علوم الأوائل أو الدخيلة فتشمل الفلسفة والمنطق والفلك والحساب والعلوم الطبيعية والطب كما تشمل بعض الفنون كعلم الموسيقى والتصوير... وما إلى ذلك. وقد كان للخلفاء وبعض الوزراء وعلية القوم دور في توجيه الثقافة والعلوم والآداب وتنشيطها، بما يعقدون من تلك المجالس الأدبية والعلمية في قصورهم. وما يغدقون من الأموال والهبات في سبيل ذلك. كذلك كان للوزراء مجالس للنظر، ومنهم الوزير يحيى بن خالد البرمكي، وكانت مجالس تجمع بين متكلمي الشيعة والخوارج والمعتزلة، وكانت الموضوعات تجمع بين قضايا العصر الفكرية والعقدية والسياسية والاجتماعية والعلمية.
وعلى رأس القضايا التي طرحت في مجالس العلم قضية "خلق القرآن" وقد بلورت هذه القضية الخلاف بين الاتجاهين المتعارضين في الفكر الإسلامي ( المعتزلة وأهل السنة والمحدثين). وأخذت شكلا حادا من الجانبين، وتعدت حدود الجدل والمناظرة إلى ألوان من القهر والمواجهة والتصفية الجسدية، مما أضر بالقضية نفسها ، وتوجهاتها الفكرية، مما عاد على الفكر الإسلامي بردود فعل سلبية، وأوقعته في دوامة من الصراع حتى انتهى به الأمر إلى هذا التراجع والارتداد الذي شهدته العصور التالية، والتي غربت فيها شمس الفكر في ظلام الجهالة والتقليد.
وقد عرف في هذا العصر اتجاه الزهد، ونشأ في البصرة بعض الزهاد والنساك مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ومالك بن دينار. ولم يكن الزهد في هذا العصر مجرد انصراف عن نعيم الحياة وملاذها بل كانت وراءه نزعات فكرية، ومواقف عقدية. ومن شعراء الزهد: محمود الوراق وأبو العتاهية، ويعارض هذا الاتجاه في مظهره الزنادقة المتأثرون ببعض ماجاء في الديانات الأجنبية. وكانت الحيرة الدينية قد لزمت بعض العلماء والمفكرين، ومن شابت العقيدة الإسلامية عندهم شوائب من ديانات الفرس والبراهمة الهنود وبعض الفلسفات. وقد انتشرت في البصرة على الخصوص آراء أصحاب الديانات الثانوية ممن يرون بوجود إلهين. إله النور وإله الظلمة، أو من يعتقدون بآراء زراديشت وماني.
وقد كان لهذه الاتجاهات الخارجة على الأصول الدينية الإسلامية الثابثة آثارها في آداب العصر شعره ونثره، سلبا أو إيجابا، فقد تناقلتها الكتب وعرضت للآراء بالشرح والرد والتعقيب والتجريح، كما ظهرت آثارها في الشعر بأنماط متباينة. وقد أثرى النشاط الثقافي والعلمي زيادة على هذا، ما نقل من الكتب عن الأمم المختلفة من فرس ويونان وهنود، وأشهر النقلة والمترجمين سرجيس بن إلياس الرومي، ويحيى أبو يوحنا البطريق وإسحاق بن حنين. وكثرت الترجمة وازدهرت في عصر المأمون لاهتمامه بالثقافات الأجنبية وضرورة نقل علوم الأمم الأخرى وبخاصة علم اليونان، وترجمت في عصره والعصور التالية عشرات بل مئات الكتب التي أفادت الثقافة الإسلامية، مما أسهم في تقدم العلوم العقلية والطبيعية والهندسية والفلك والرياضيات بل وساعدت كثيرا في تطور وازدهار العلوم الشرعية. كما لعب علم التاريخ دورا هاما في التعرف على الأمم السابقة من فرس ويونان ومصريين وعرب قدماء. وكان تاريخ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمة ما ألف في هذا العلم، وجمع ابن إسحاق سفرا كبيرا، ضمنه كثير من الحقائق إلى بعض المرويات، التي وقف أمامها العلماء موقف الانتقاد والتقويم.
ومن العلوم التي ظهرت آثارها وبدأت تأخذ مكانها في الفكر الإسلامي، علم الفلسفة على يد فيلسوف العرب، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي الذي عاصر المأمون ببغداد، ويعد واحدا من أكبر المفكرين والحكماء، وترجم للمأمون والمعتصم عدة كتب عن اليونانية. واتصل بالمعتزلة فاضطهد أيام المتوكل وتوفي بعد سنة 256هـ .
أما عن اللغة والأدب، فقد استوجب معرفة تفسير القرآن، وتفهم معانيه، معرفة اللغة وبخاصة ممن دخلوا الإسلام من الشعوب الغير العربية واستعربوا، من هنا أقبل الفرس وغيرهم على تعلم اللغة العربية. وبدأت دراسات ضبط الإعراب وتقويم التراكيب والأساليب بنشأة علم النحو. وظهرت في النحو مدرستان تنتميان إلى المدينتين الكبيرتين: البصرة والكوفة. إحداهما هي مدرسة أو مذهب البصريين، ويقوم على القياس ويعتمد المنطق في أحكام القياس، على رأسه سيبويه، والآخر مذهب الكوفيين ويقوم على السماع والتسليم بما ينطق به العرب ما دام صحيحا حتى ولو لم يخضع للقياس، وعلى رأسهم الكساني.
وبعد انتقال كثير من علماء المدرستين إلى بغداد، نشأ اتجاه ثالث توفيقي عماده الأخذ بكل من الجانبين وعرف بمذهب البغداديين.
ولاشك أن هذا النشاط اللغوي أثر في اتجاهات أخرى، كاتجاه جمع الشعر القديم للاستشهاد به، أو للتأديب، وتقويم اللسان، وقد كان بعض العلماء ينصحون الشعراء المولدين بحفظ كثير من الشعر، ومنه ما عرف عن نصح خلف الأحمر لتلميذه أبي نواس الحسن بن هانئ بحفظ الشعر القديم ومحاولة بناء شعر على نسقه.
وحرص بعض رواد الأدب واللغة على جمع كثير من النماذج الممتازة وعرضها وبيان جوانبها اللغوية والبيانية فيما ألفوه من الكتب المعنية بهذا الجانب، والتي اعتبرت من بعد من عدة الأديب، كالبيان والتبيين، وعيون الأخبار، وأدب الكاتب، والكامل. كما جمعت مختارات من شعر القدماء والمحدثين ليقف عليها الناشئة في الأدب والشعر ويتأدب بها، وليأخذوا بما فيها من المعاني والحكم وصنعة الكلام.
ومن هذه المجموعات: المفضليات، والأصمعيات، وحماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، يضاف إليها جمهرة القريشي، والنوادر لأبي القالي فيما بعد. وخلاصة القول أن مظاهر الحياة الحضارية قد اتسعت أمام العرب في العصر العباسي، بفضل تأثرهم واحتكاكهم بشعوب الأمم الأخرى، وقد أدى ذلك إلى امتزاج المعارف وتنوعها، وقد تجلت هته المظاهر في العادات الجديدة التي أصبحت تطغى في الحياة اليومية للعرب كالمأكل و الملبس. فكان لابد لهذا التحضر والازدهار في مظاهر الحياة الاجتماعية والاتساع في المعرفة، أن يكون له انعكاس على الحياة الأدبية وخاصة الشعر.