اثر السياسه في اخلاق المجتمع
مرسل: الثلاثاء ديسمبر 10, 2013 5:40 pm
في الحياة ألغاز يحار الناس في حلها، ومن الكُتَّاب من يُنفق مجهودًا غير قليل في محاولة حلِّ هذه الألغاز؛ فأيهما أسبق في الحياة: الدجاجة أم البيضة؟ ولعل من ألغاز الحياة ما بين سياسة أمة من الأمم وأخلاقها من تفاعُل؛ فهل هي السياسة التي تؤثر في أخلاق الأمة؟ أو أن أخلاق الأمة هي التي توجه سياستها؟ وعندنا أن الأمرين متلازمان تمام التلازم، وأن نظام الحكم في أمة من الأمم، والطريقة التي ينفذ بها هذا النظام ليس إلا ظاهرة من ظاهرات حياة الأمة النفسية، وبالتالي من ظاهرات أخلاقها، ومع ذلك فلطريقة الحكم في الأمم أثر في أخلاق الجيل الذي يخضع لهذه الطريقة، وفي الأجيال التي تتأثر به بطبيعة الحال.
لما انتهت الحرب العظمى الماضية، كانت الفكرة البلشفية التي استولت على نظام الحكم في روسيا تهدد أكثر ممالك أوروبا، فكان أثرها في ألمانيا والنمسا وإيطاليا واضحًا أكثر من وضوحه في فرنسا وإنجلترا، وكانت الثورة تهدد هذه الدول وتقلب نظمها رأسًا على عقب. إذ ذاك قام موسوليني في إيطاليا وجمَع حوله أنصار رأيه في محاربة البلشفية من الفاشست، وزحفوا على روما واستولوا على الحكم فيها، وبدءوا يقيمون نظامًا جديدًا غير النظام الديمقراطي التقليدي الذي كان معروفًا في إيطاليا يومئذ، ومن ذلك الوقت بدأت إيطاليا تتجه في حياتها كلها اتجاهًا جديدًا، وبدأ زعيمها موسوليني يضع لها مُثلًا عليا، ويغرس في نفوس أبنائها آمالًا لم تكن معروفة عندهم من قبل؛ بذلك بدأ الشعب الإيطالي يحس لنفسه بمكانة في العالم غير المكانة المتواضعة التي كانت له قبل الحرب الكبرى وبعدها وإلى أن تولى موسوليني مقاليد الحكم فيه. ووجه هذا الشعور الجديد أخلاق الشعب الإيطالي وجهة جديدة حجبت ما كان فيها من ضعف، وأبرزت ما فيها من قوة، وهيَّأت لإيطاليا أسباب السؤدد، ومكنتها من أن تقف وحدها بعد خمس عشرة سنة من بدء الحكم الفاشستي موقفًا حيَّر العالم كله.
ومثل ألمانيا ليس أقل إثارة للملاحظة من مثل إيطاليا؛ فهذه الأمة التي خرجت هزيمة من الحرب الكبرى، والتي أملى الحلفاء عليها في معاهدة فرساي ما أملوا، قد استطاعت أن تسترد قوتها وكرامتها ومكانتها الدولية في خمس عشرة سنة منذ انتهاء الحرب. هذا بينما بقيت دول غيرها محطمة هشيمة ضعيفة الرجاء في استرداد مكانتها، كل همها أن تتصل بدولة أخرى لتنقذها من المهانة التي هوت إليها.
أفهي القدرة السياسية التي استطاعت أن تبلغ بإيطاليا وبألمانيا هذا المبلغ، بينما قعدت هذه القدرة بغيرهما عن إدراك المكانة التي تطمع في إدراكها، أم أن أخلاق هذه الشعوب هي التي مهدت للمقدرة السياسية السبيل؟ في رأينا أن ثمة تلازمًا وثيقًا بين الأمرين: بين الأخلاق والسياسة، وهذا التلازم يبدو واضحًا في مثل آخر حديث بشكل أوثق اتصالًا بهذين المثلين؛ ذلك مثل الإمبراطورية البريطانية، فقد قيل عن هذه الإمبراطورية أنها هرمت وأصبحت غير قادرة على أن تعمل شيئًا أكثر من الدفاع عن كيانها دفاع الهرم المتدلي إلى الفناء، فلما كانت المشكلة الدولية الأخيرة بين إيطاليا والحبشة، ورأت إنكلترا كيانها كإمبراطورية مهددًا، نهضت نهضة جديدة قوية تدل على أن حيويتها ما تزال قوية متوثبة، وقد دلَّ الشعب الإنكليزي — بما أبداه في مختلف أدوار هذه الأزمة الأخيرة — على أن ما عرف عنه من متانة خلقية وجلد قوي ما يزالان ذوي أثر فعال في حياته السياسية العامة.
هذا التلازم بين السياسة وخلق المجتمع يجعل للسياسة في الأمم القوية الخلق أثرًا يزيد خلقها قوة، وفي الأمم الضعيفة الخلق أثرًا يساير هذا الضعف حتى يغير الله ما بهذه الأمة من ضعف حين تغير ما بنفسها، وعلة ذلك بسيطة واضحة، فإن الأمم القوية الخلق هي التي يحكم فيها الرأي العام على الحاكم والمحكوم جميعًا، فيها تُعتَبر الحكومة وكيلةً عن الشعب مأجورة على وكالتها، فإذا هي حادت عن حدود الوكالة حاسبها الشعب على ذلك حسابًا عسيرًا بالثورة عليها وبإسقاطها، والحكومة في مثل هذه الشعوب تعتبر الثورة حقًّا من حقوق الشعب، فهي تتفاداها بالنظم الديمقراطية.
والحقيقة أن الانتخابات العامة التي تقيم حكومة وتسقط أخرى ليست إلا ثورة منظمة تصالح عليها الملوك مع شعوبهم في الأمم القوية الخلق، فبدل أن تقوم الطوائف صاحبة النفوذ بحرب أهلية تسقط الحكومة أو تنتهي بانتصار الحكومة وبإذعان هذه الطوائف، تواضع أهل هذه الأمم الديمقراطية على تصوير هذه الثورة بصورة أقرب ما يستطاع إلى الهدوء، وهذا هو ما دعا إلى وصف الانتخابات بالحرب الانتخابية وبالمعارك الانتخابية؛ فهي في الواقع حرب بين طائفتين أو عدة طوائف كل واحدة تريد الاستيلاء على الحكم والاستئثار بالأمر، فإذا ما انتهت هذه المعارك بانتصار طائفة؛ تولت الحكم كما لو كانت قد حدثت ثورة دموية بالعنف انتهت إلى انتصار فريق وهزيمة فريق آخر.
هذا ما يحدث في الأمم القوية الخلق، وهو الذي يجعل الحياة الديمقراطية فيها تبقى أبدًا، لا يستطيع أحد أن يعصف بها؛ لأن الذي يعصف بالحياة النيابية يجب أن يكون أقوى أبدًا من الأمة نفسها، أما في الأمم الضعيفة فأثر السياسة في الأخلاق يختلف، بل يتفاوت عن أثرها في الأمم القوية تفاوتًا بيِّنًا؛ في الأمم الضعيفة الخلق تعتبر الأمة الحاكم سيدًا لا وكيلًا مأجورًا، ولذلك تفشو في طوائفها أخلاق المحسوبية والمحاباة والرياء، فإذا قام من أبنائها أشخاص أقوياء الخلق اعتبروا الحاكم وكيلًا عنهم وأردوا محاسبته كوكيل، فثار الحاكم عليهم، فلم يجدوا النصير الذي يستطيع أن يُمكِّنهم من التغلب على الحاكم؛ بل رأوا على العكس من ذلك نظرات اللوم توجه إليهم على أنهم ارتكبوا وزرًا يجب عليهم أن يؤدوا ثمنه، وأن ينالهم جزاؤه.
لما تحرجت الأحوال في مصر في آخر عهد المغفور له الخديوي الأول إسماعيل باشا، وازداد تدخل الدول بسبب الدين العام، ألَّفت الحكومة المصرية مجلس نواب اختير من سراة البلاد وأعيانها؛ ليكون إلى جانب الحكومة يعاونها في موقفها الدولي الدقيق، وآن لهذا المجلس أن يجتمع، ووقف رئيسه يريد أن يضع التقاليد البرلمانية، فكان من أول ما ذكره لنواب الأمة أن يجلس المؤيدون منهم للحكومة في مقاعد اليمين من المجلس، وأن يجلس معارضوها في مقاعد اليسار. هنالك تزاحم النواب جميعًا بالمناكب إلى مقاعد اليمين يريد كل واحد منهم أن يكون في أشد المقاعد تأييدًا للحكومة، ولما سئلوا في ذلك أنكروا أن يكون لحكومة الجناب العالي الخديوي معارض، وأنهم جميعًا خدَّام الحكومة. هذه هي قصة يقرؤها المصري ابن اليوم فيعجب، ولكن عجبه لا يبلغ عجب الإنكليزي إذا قرأها؛ فالإنكليزي يخالف صاحبه في الرأي السياسي مخالفة صارخة، ويكون الواحد منهم محافظًا من غلاة المحافظين، والآخر اشتراكيًّا من غلاة الاشتراكيين، ثم لا يغير ذلك من علاقاتهم الشخصية ولا من صداقتهم، وقد يتناقشون وتبلغ بهم الحدة غايتها، ثم لا يكون لذلك أي أثر في معاملاتهم؛ لأن كل واحد منهم يؤمن بأن صاحبه يصدر عن عقيدة صادقة يعتبرها تحقق المصلحة العامة وإن أضرَّت بمصلحته الذاتية، وكفى بالمرء في الحياة فخارًا أن لا يصدر في أعماله إلا عن عقيدة وإيمان.
إذا وجد في أمة ضعيفة عدد من أبنائها يصدرون في أعمالهم عن عقيدة وإيمان، ولا يردهم إهدار مصالحهم عن المضي في العمل بعقيدتهم والدعوة إلى إيمانهم؛ كان هؤلاء النواة التي تُقوِّي من ضعف الأمة وتمتن من خلقها. أما وقد ضربنا المثل بإيطاليا في أول هذا الفصل، فإنه يجب أن نشير إلى أن عقيدة موسوليني وإيمانه بها إلى حد استعداده التضحية بحياته في سبيلها هي التي ثقلت إيطاليا من موقفها الذي كان يهدد وجودها بعد الحرب الماضية مباشرة إلى الموقف الذي تقفه اليوم في السياسة والأخلاق؛ فالشخصية القوية تجذب إليها من يؤمنون بمثل إيمانها، وتدفع إليهم قوةً وبأسًا، وتزيدهم إيمانًا وثباتًا، وما دامت المُثل العليا أكبر قدرًا عند هؤلاء من الحياة ذاتها، وما داموا يعرفون كيف يتمنون الموت صادقين في سبيل عقيدتهم وإيمانهم، فليس يسيرًا أن تتغلب عليهم قوة من القوى.
ونختم هذا البحث بالإشارة إلى ما كان من المهاتما غاندي في الهند وفي العالم بأسره من أثر كبير في السياسة وفي الخلق جميعًا؛ فقد بلغ من أمر هذا الأثر أنه طوَّر حياة الطوائف في الهند، وطوَّر علاقات إنجلترا بها، ومن قبل أن يكون لغاندي هذا الأثر في الهند كان له مثله وأكبر منه في جنوبي أفريقيا.
من هذا كله يتضح ما بين السياسة والأخلاق من تلازم في الأمم القوية وفي الأمم الضعيفة، وهذا التلازم هو الذي يدعو إلى حيرة من يريدون أن يجعلوا للسياسة أثرها في الأخلاق، وللأخلاق أثرها في الحياة السياسية. والواقع أن في هذه التفرقة كما في كثير من مثلها ما يدعو إلى الوقوع في الخطأ، أما إدراك ما بين الأمرين من تلازم، وإدراك ما بينهما وبين الحياة الاقتصادية والعلمية والحياة العامة إجمالًا من تلازم؛ فهذا الذي ييسر الوقوف على الحقيقة في حياة المجتمع.
لما انتهت الحرب العظمى الماضية، كانت الفكرة البلشفية التي استولت على نظام الحكم في روسيا تهدد أكثر ممالك أوروبا، فكان أثرها في ألمانيا والنمسا وإيطاليا واضحًا أكثر من وضوحه في فرنسا وإنجلترا، وكانت الثورة تهدد هذه الدول وتقلب نظمها رأسًا على عقب. إذ ذاك قام موسوليني في إيطاليا وجمَع حوله أنصار رأيه في محاربة البلشفية من الفاشست، وزحفوا على روما واستولوا على الحكم فيها، وبدءوا يقيمون نظامًا جديدًا غير النظام الديمقراطي التقليدي الذي كان معروفًا في إيطاليا يومئذ، ومن ذلك الوقت بدأت إيطاليا تتجه في حياتها كلها اتجاهًا جديدًا، وبدأ زعيمها موسوليني يضع لها مُثلًا عليا، ويغرس في نفوس أبنائها آمالًا لم تكن معروفة عندهم من قبل؛ بذلك بدأ الشعب الإيطالي يحس لنفسه بمكانة في العالم غير المكانة المتواضعة التي كانت له قبل الحرب الكبرى وبعدها وإلى أن تولى موسوليني مقاليد الحكم فيه. ووجه هذا الشعور الجديد أخلاق الشعب الإيطالي وجهة جديدة حجبت ما كان فيها من ضعف، وأبرزت ما فيها من قوة، وهيَّأت لإيطاليا أسباب السؤدد، ومكنتها من أن تقف وحدها بعد خمس عشرة سنة من بدء الحكم الفاشستي موقفًا حيَّر العالم كله.
ومثل ألمانيا ليس أقل إثارة للملاحظة من مثل إيطاليا؛ فهذه الأمة التي خرجت هزيمة من الحرب الكبرى، والتي أملى الحلفاء عليها في معاهدة فرساي ما أملوا، قد استطاعت أن تسترد قوتها وكرامتها ومكانتها الدولية في خمس عشرة سنة منذ انتهاء الحرب. هذا بينما بقيت دول غيرها محطمة هشيمة ضعيفة الرجاء في استرداد مكانتها، كل همها أن تتصل بدولة أخرى لتنقذها من المهانة التي هوت إليها.
أفهي القدرة السياسية التي استطاعت أن تبلغ بإيطاليا وبألمانيا هذا المبلغ، بينما قعدت هذه القدرة بغيرهما عن إدراك المكانة التي تطمع في إدراكها، أم أن أخلاق هذه الشعوب هي التي مهدت للمقدرة السياسية السبيل؟ في رأينا أن ثمة تلازمًا وثيقًا بين الأمرين: بين الأخلاق والسياسة، وهذا التلازم يبدو واضحًا في مثل آخر حديث بشكل أوثق اتصالًا بهذين المثلين؛ ذلك مثل الإمبراطورية البريطانية، فقد قيل عن هذه الإمبراطورية أنها هرمت وأصبحت غير قادرة على أن تعمل شيئًا أكثر من الدفاع عن كيانها دفاع الهرم المتدلي إلى الفناء، فلما كانت المشكلة الدولية الأخيرة بين إيطاليا والحبشة، ورأت إنكلترا كيانها كإمبراطورية مهددًا، نهضت نهضة جديدة قوية تدل على أن حيويتها ما تزال قوية متوثبة، وقد دلَّ الشعب الإنكليزي — بما أبداه في مختلف أدوار هذه الأزمة الأخيرة — على أن ما عرف عنه من متانة خلقية وجلد قوي ما يزالان ذوي أثر فعال في حياته السياسية العامة.
هذا التلازم بين السياسة وخلق المجتمع يجعل للسياسة في الأمم القوية الخلق أثرًا يزيد خلقها قوة، وفي الأمم الضعيفة الخلق أثرًا يساير هذا الضعف حتى يغير الله ما بهذه الأمة من ضعف حين تغير ما بنفسها، وعلة ذلك بسيطة واضحة، فإن الأمم القوية الخلق هي التي يحكم فيها الرأي العام على الحاكم والمحكوم جميعًا، فيها تُعتَبر الحكومة وكيلةً عن الشعب مأجورة على وكالتها، فإذا هي حادت عن حدود الوكالة حاسبها الشعب على ذلك حسابًا عسيرًا بالثورة عليها وبإسقاطها، والحكومة في مثل هذه الشعوب تعتبر الثورة حقًّا من حقوق الشعب، فهي تتفاداها بالنظم الديمقراطية.
والحقيقة أن الانتخابات العامة التي تقيم حكومة وتسقط أخرى ليست إلا ثورة منظمة تصالح عليها الملوك مع شعوبهم في الأمم القوية الخلق، فبدل أن تقوم الطوائف صاحبة النفوذ بحرب أهلية تسقط الحكومة أو تنتهي بانتصار الحكومة وبإذعان هذه الطوائف، تواضع أهل هذه الأمم الديمقراطية على تصوير هذه الثورة بصورة أقرب ما يستطاع إلى الهدوء، وهذا هو ما دعا إلى وصف الانتخابات بالحرب الانتخابية وبالمعارك الانتخابية؛ فهي في الواقع حرب بين طائفتين أو عدة طوائف كل واحدة تريد الاستيلاء على الحكم والاستئثار بالأمر، فإذا ما انتهت هذه المعارك بانتصار طائفة؛ تولت الحكم كما لو كانت قد حدثت ثورة دموية بالعنف انتهت إلى انتصار فريق وهزيمة فريق آخر.
هذا ما يحدث في الأمم القوية الخلق، وهو الذي يجعل الحياة الديمقراطية فيها تبقى أبدًا، لا يستطيع أحد أن يعصف بها؛ لأن الذي يعصف بالحياة النيابية يجب أن يكون أقوى أبدًا من الأمة نفسها، أما في الأمم الضعيفة فأثر السياسة في الأخلاق يختلف، بل يتفاوت عن أثرها في الأمم القوية تفاوتًا بيِّنًا؛ في الأمم الضعيفة الخلق تعتبر الأمة الحاكم سيدًا لا وكيلًا مأجورًا، ولذلك تفشو في طوائفها أخلاق المحسوبية والمحاباة والرياء، فإذا قام من أبنائها أشخاص أقوياء الخلق اعتبروا الحاكم وكيلًا عنهم وأردوا محاسبته كوكيل، فثار الحاكم عليهم، فلم يجدوا النصير الذي يستطيع أن يُمكِّنهم من التغلب على الحاكم؛ بل رأوا على العكس من ذلك نظرات اللوم توجه إليهم على أنهم ارتكبوا وزرًا يجب عليهم أن يؤدوا ثمنه، وأن ينالهم جزاؤه.
لما تحرجت الأحوال في مصر في آخر عهد المغفور له الخديوي الأول إسماعيل باشا، وازداد تدخل الدول بسبب الدين العام، ألَّفت الحكومة المصرية مجلس نواب اختير من سراة البلاد وأعيانها؛ ليكون إلى جانب الحكومة يعاونها في موقفها الدولي الدقيق، وآن لهذا المجلس أن يجتمع، ووقف رئيسه يريد أن يضع التقاليد البرلمانية، فكان من أول ما ذكره لنواب الأمة أن يجلس المؤيدون منهم للحكومة في مقاعد اليمين من المجلس، وأن يجلس معارضوها في مقاعد اليسار. هنالك تزاحم النواب جميعًا بالمناكب إلى مقاعد اليمين يريد كل واحد منهم أن يكون في أشد المقاعد تأييدًا للحكومة، ولما سئلوا في ذلك أنكروا أن يكون لحكومة الجناب العالي الخديوي معارض، وأنهم جميعًا خدَّام الحكومة. هذه هي قصة يقرؤها المصري ابن اليوم فيعجب، ولكن عجبه لا يبلغ عجب الإنكليزي إذا قرأها؛ فالإنكليزي يخالف صاحبه في الرأي السياسي مخالفة صارخة، ويكون الواحد منهم محافظًا من غلاة المحافظين، والآخر اشتراكيًّا من غلاة الاشتراكيين، ثم لا يغير ذلك من علاقاتهم الشخصية ولا من صداقتهم، وقد يتناقشون وتبلغ بهم الحدة غايتها، ثم لا يكون لذلك أي أثر في معاملاتهم؛ لأن كل واحد منهم يؤمن بأن صاحبه يصدر عن عقيدة صادقة يعتبرها تحقق المصلحة العامة وإن أضرَّت بمصلحته الذاتية، وكفى بالمرء في الحياة فخارًا أن لا يصدر في أعماله إلا عن عقيدة وإيمان.
إذا وجد في أمة ضعيفة عدد من أبنائها يصدرون في أعمالهم عن عقيدة وإيمان، ولا يردهم إهدار مصالحهم عن المضي في العمل بعقيدتهم والدعوة إلى إيمانهم؛ كان هؤلاء النواة التي تُقوِّي من ضعف الأمة وتمتن من خلقها. أما وقد ضربنا المثل بإيطاليا في أول هذا الفصل، فإنه يجب أن نشير إلى أن عقيدة موسوليني وإيمانه بها إلى حد استعداده التضحية بحياته في سبيلها هي التي ثقلت إيطاليا من موقفها الذي كان يهدد وجودها بعد الحرب الماضية مباشرة إلى الموقف الذي تقفه اليوم في السياسة والأخلاق؛ فالشخصية القوية تجذب إليها من يؤمنون بمثل إيمانها، وتدفع إليهم قوةً وبأسًا، وتزيدهم إيمانًا وثباتًا، وما دامت المُثل العليا أكبر قدرًا عند هؤلاء من الحياة ذاتها، وما داموا يعرفون كيف يتمنون الموت صادقين في سبيل عقيدتهم وإيمانهم، فليس يسيرًا أن تتغلب عليهم قوة من القوى.
ونختم هذا البحث بالإشارة إلى ما كان من المهاتما غاندي في الهند وفي العالم بأسره من أثر كبير في السياسة وفي الخلق جميعًا؛ فقد بلغ من أمر هذا الأثر أنه طوَّر حياة الطوائف في الهند، وطوَّر علاقات إنجلترا بها، ومن قبل أن يكون لغاندي هذا الأثر في الهند كان له مثله وأكبر منه في جنوبي أفريقيا.
من هذا كله يتضح ما بين السياسة والأخلاق من تلازم في الأمم القوية وفي الأمم الضعيفة، وهذا التلازم هو الذي يدعو إلى حيرة من يريدون أن يجعلوا للسياسة أثرها في الأخلاق، وللأخلاق أثرها في الحياة السياسية. والواقع أن في هذه التفرقة كما في كثير من مثلها ما يدعو إلى الوقوع في الخطأ، أما إدراك ما بين الأمرين من تلازم، وإدراك ما بينهما وبين الحياة الاقتصادية والعلمية والحياة العامة إجمالًا من تلازم؛ فهذا الذي ييسر الوقوف على الحقيقة في حياة المجتمع.