التربيه
مرسل: الثلاثاء ديسمبر 10, 2013 5:48 pm
التربية مشكلة إنسانية قديمة معقَّدة، لا يكاد الناس يعتقدون أنهم انتهوا فيها إلى رأي حتى تظهر لهم صور جديدة من الحياة تضطرهم إلى العدول عن هذا الرأي أو إلى تعديله، ذلك بأن جوانب هذه المشكلة متعددة تتناول كل ما في الحياة، والأمر يبدو لك جليًّا واضحًا حين تذكر الغرض من التربية والنواحي التي تتناولها، فهناك التربية الروحية، والتربية العقلية، والتربية الاجتماعية، والتربية البدنية، وما يتصل بالوجود الإنساني من شئون.
ولقد تناول الفلاسفة والعلماء والأخلاقيون هذه الجوانب جميعًا، وحدَّد كلٌّ منهم ما يراه الغرض من التربية وطرائقها على الوجه الذي يتفق مع الصورة التي يرسمها لنفسه من الحياة.
وقد شُغِل المفكرون والكتَّاب الأوربيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بهذه المشكلة أكثر مما شُغِل أمثالهم بها في غير هذين القرنين، وسبب ذلك أن أوروبا كانت إبَّان هذين القرنين في حال انتقال سياسي واجتماعي خطير نحو الديموقراطية، فكان لا بد لها من التفكير في مشكلة التربية لتوائم بين حياة الفرد وحياة الجماعة. كان ظل الكنيسة يتقلص، وكانت السلطة المدنية تحل محلها في سياسة الدولة، فلم تبقَ ثمة حاجة بأن تخضع الأسرة ويخضع الفرد للكنيسة بالقدر الذي كانا يخضعان به من قبلُ، وكان سلطان الملوك والأشراف يتراجع على حين كانت الحرية الفردية تتقدم إلى مكان الصدارة من الحياة السياسية والاجتماعية، فلم يكن بدٌّ من أن تتقدم الحرية الفردية إلى هذا المكان، وكان النظام الاقتصادي يمر بمثل هذا التطور، فكانت المبادئ الاشتراكية تنادي بفكرة العدالة الاجتماعية في ظل الحرية، فكان حتمًا أن تتجه العقلية الفردية مثل هذا الاتجاه، وكان طبيعيًّا أن ينادي المفكرون والكتَّاب بتربية الناشئة تربيةً تكفل تمثلها هذه الأفكار والسير في الحياة على هداها.
وأنت حين تقرأ ما كتبه جان جاك روسو في كتابه (إميل أو التربية)، وما كتبه الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر في كتابه (التربية)، وما جاء في كتاب (التربية الاستقلالية) وفي غيره من كتب ذلك العهد، تراه متأثرًا إلى حدٍّ بعيد بهذا التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، متجهًا كله إلى إعداد الفرد لتلقي هذه الأفكار التي سادت ذلك العهد.
ليس معنى هذا أن الآراء والمبادئ التي نودي بها من قبلُ قد قُلِبت كلها رأسًا على عقب، بل بقي كثير منها موضع إيمان الناس خلال الأجيال إلى وقتنا الحاضر، والأمر كذلك فيما يتعلق بالأخلاق بنوع خاص، فلم يَقُلْ أحد يومًا إن الصدق رذيلة أو إن النفاق فضيلة، ولكن التربية تتناول شئونًا كثيرة كما قدمنا، هي التي تنظم سلوكنا في الحياة، والتعليم بعض هذا الشئون ذات الأثر في تنظيم السلوك، لذلك يتعذر فصل التفكير فيها عن التفكير في التربية بصورة مطلقة.
مرت نُظُم التربية في مصر بأطوار مختلفة، كما مرت بأطوار مختلفة في غيرها من البلاد، على أن هذه النظم كانت تستمد أصولها من تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة، ثم كانت تطعم هذه الأصول بما استنبطه مفكروها حتى استقر بها الإسلام، فتأثرت نُظُم التربية فيها بتعاليمه إلى أبعد مدًى، من غير أن تفقد طابعها القومي في كثير من الشئون، واستمر الحال على ذلك قرونًا متوالية، كانت بعضها قرون نهضة وازدهار، وبعضها قرون تدهور وانحلال، على أن الاتجاه فيها جميعًا بقي اتجاهًا شرقيًّا لا يمت إلى الغرب بصلة، حتى كان القرن التاسع عشر، وحتى بدأت صلات مصر بأوروبا تتزايد وتجعل إسماعيل باشا يقول إن بلاده أصبحت كقطعة من أوروبا، عند ذلك بدأت في نُظُم التربية وفي طرائق التفكير، اتجاهاتٌ جديدةٌ لا تزال هي السائدة إلى وقتنا الحاضر.
وهذه النظم الجديدة تتأثر إلى حد كبير بما تتأثر به مثيلاتها في البلاد الأخرى، ذلك أن التطور الذي حدث في هذا القرن العشرين، والذي قرَّب بين أجزاء العالم بواسطة المواصلات السريعة، قد غيَّر وجه العالم إلى حدٍّ بعيد، وقد مزج الشرق والغرب مزجًا لم يكن يدور بخاطر أحد في القرن الماضي، ولم يكن يدور بخاطر (رديارد كبلنج) يوم قال: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. وهذا التطور الذي لا يزال في بدايته سيثير من النتائج والآثار ما لا تستطيع أمة التخلص منه.
وهذا التطور يحملنا على أن نأخذ منه بنصيب كبير في نظم التربية عندنا، فنجعلها نظمًا عملية تساير الوقت، وإن بقيت متأثرة بتاريخنا ومقومات قوميتنا، على أننا يجب أن نصور نحن هذه النظم ولا نكتفي فيها بتقليد غيرنا، حتى لا يكون شأننا عند محاولة هذا التقليد كشأن الغراب في قصة «كليلة ودمنة»، حين أراد أن يقلِّد الحجلة فتخلَّع في مشيته وصار أقبح الطير مشيًا.
وأنا حين أتحدث عن النظم العملية في التربية، ترتسم أمام ذهني التربية البدنية، وكيف تطورت مما كانت عليه إلى ما صارت إليه، وترتسم كذلك أمام ذهني تربيتنا العقلية وما مرت به من أطوار، ولست أريد أن أفيض في القول في هذا الموضوع وما يتصل به، وحسبي أن أنبه إلى أهمية الموضوع ليتولاه المختصون بالبحث، وليقدروا أن التربية في مقدمة ما تنهض الأمم على أساسه نهضةً سليمة القواعد والبنيان.
ولقد تناول الفلاسفة والعلماء والأخلاقيون هذه الجوانب جميعًا، وحدَّد كلٌّ منهم ما يراه الغرض من التربية وطرائقها على الوجه الذي يتفق مع الصورة التي يرسمها لنفسه من الحياة.
وقد شُغِل المفكرون والكتَّاب الأوربيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بهذه المشكلة أكثر مما شُغِل أمثالهم بها في غير هذين القرنين، وسبب ذلك أن أوروبا كانت إبَّان هذين القرنين في حال انتقال سياسي واجتماعي خطير نحو الديموقراطية، فكان لا بد لها من التفكير في مشكلة التربية لتوائم بين حياة الفرد وحياة الجماعة. كان ظل الكنيسة يتقلص، وكانت السلطة المدنية تحل محلها في سياسة الدولة، فلم تبقَ ثمة حاجة بأن تخضع الأسرة ويخضع الفرد للكنيسة بالقدر الذي كانا يخضعان به من قبلُ، وكان سلطان الملوك والأشراف يتراجع على حين كانت الحرية الفردية تتقدم إلى مكان الصدارة من الحياة السياسية والاجتماعية، فلم يكن بدٌّ من أن تتقدم الحرية الفردية إلى هذا المكان، وكان النظام الاقتصادي يمر بمثل هذا التطور، فكانت المبادئ الاشتراكية تنادي بفكرة العدالة الاجتماعية في ظل الحرية، فكان حتمًا أن تتجه العقلية الفردية مثل هذا الاتجاه، وكان طبيعيًّا أن ينادي المفكرون والكتَّاب بتربية الناشئة تربيةً تكفل تمثلها هذه الأفكار والسير في الحياة على هداها.
وأنت حين تقرأ ما كتبه جان جاك روسو في كتابه (إميل أو التربية)، وما كتبه الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر في كتابه (التربية)، وما جاء في كتاب (التربية الاستقلالية) وفي غيره من كتب ذلك العهد، تراه متأثرًا إلى حدٍّ بعيد بهذا التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، متجهًا كله إلى إعداد الفرد لتلقي هذه الأفكار التي سادت ذلك العهد.
ليس معنى هذا أن الآراء والمبادئ التي نودي بها من قبلُ قد قُلِبت كلها رأسًا على عقب، بل بقي كثير منها موضع إيمان الناس خلال الأجيال إلى وقتنا الحاضر، والأمر كذلك فيما يتعلق بالأخلاق بنوع خاص، فلم يَقُلْ أحد يومًا إن الصدق رذيلة أو إن النفاق فضيلة، ولكن التربية تتناول شئونًا كثيرة كما قدمنا، هي التي تنظم سلوكنا في الحياة، والتعليم بعض هذا الشئون ذات الأثر في تنظيم السلوك، لذلك يتعذر فصل التفكير فيها عن التفكير في التربية بصورة مطلقة.
مرت نُظُم التربية في مصر بأطوار مختلفة، كما مرت بأطوار مختلفة في غيرها من البلاد، على أن هذه النظم كانت تستمد أصولها من تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة، ثم كانت تطعم هذه الأصول بما استنبطه مفكروها حتى استقر بها الإسلام، فتأثرت نُظُم التربية فيها بتعاليمه إلى أبعد مدًى، من غير أن تفقد طابعها القومي في كثير من الشئون، واستمر الحال على ذلك قرونًا متوالية، كانت بعضها قرون نهضة وازدهار، وبعضها قرون تدهور وانحلال، على أن الاتجاه فيها جميعًا بقي اتجاهًا شرقيًّا لا يمت إلى الغرب بصلة، حتى كان القرن التاسع عشر، وحتى بدأت صلات مصر بأوروبا تتزايد وتجعل إسماعيل باشا يقول إن بلاده أصبحت كقطعة من أوروبا، عند ذلك بدأت في نُظُم التربية وفي طرائق التفكير، اتجاهاتٌ جديدةٌ لا تزال هي السائدة إلى وقتنا الحاضر.
وهذه النظم الجديدة تتأثر إلى حد كبير بما تتأثر به مثيلاتها في البلاد الأخرى، ذلك أن التطور الذي حدث في هذا القرن العشرين، والذي قرَّب بين أجزاء العالم بواسطة المواصلات السريعة، قد غيَّر وجه العالم إلى حدٍّ بعيد، وقد مزج الشرق والغرب مزجًا لم يكن يدور بخاطر أحد في القرن الماضي، ولم يكن يدور بخاطر (رديارد كبلنج) يوم قال: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. وهذا التطور الذي لا يزال في بدايته سيثير من النتائج والآثار ما لا تستطيع أمة التخلص منه.
وهذا التطور يحملنا على أن نأخذ منه بنصيب كبير في نظم التربية عندنا، فنجعلها نظمًا عملية تساير الوقت، وإن بقيت متأثرة بتاريخنا ومقومات قوميتنا، على أننا يجب أن نصور نحن هذه النظم ولا نكتفي فيها بتقليد غيرنا، حتى لا يكون شأننا عند محاولة هذا التقليد كشأن الغراب في قصة «كليلة ودمنة»، حين أراد أن يقلِّد الحجلة فتخلَّع في مشيته وصار أقبح الطير مشيًا.
وأنا حين أتحدث عن النظم العملية في التربية، ترتسم أمام ذهني التربية البدنية، وكيف تطورت مما كانت عليه إلى ما صارت إليه، وترتسم كذلك أمام ذهني تربيتنا العقلية وما مرت به من أطوار، ولست أريد أن أفيض في القول في هذا الموضوع وما يتصل به، وحسبي أن أنبه إلى أهمية الموضوع ليتولاه المختصون بالبحث، وليقدروا أن التربية في مقدمة ما تنهض الأمم على أساسه نهضةً سليمة القواعد والبنيان.