ترميم شخصية المدينة العربية .. هل فات الأوان عليه؟
مرسل: الثلاثاء ديسمبر 10, 2013 11:24 pm
ترميم شخصية المدينة العربية .. هل فات الأوان عليه؟
اشترط ابن الربيع ستة شروط لاختيار مكان المدينة: سعة المياه المستعذبة؛ ودوام إمداد الميرة (المؤن وغيرها)؛ واعتدال المكان وجودة الهواء؛ والقرب من المرعى والاحتطاب؛ وتحصين منازلها من الأعداء و(الزعران)؛ وأن يحيط بها سور.
وذكر ابن الربيع ثمانية شروط أخرى يراعيها الحاكم عند تخطيط المدينة: أن يسوق إليها الماء العذب ليشرب أهلها ويسهل تناوله من غير تعسف؛ وأن يقدر طرقها وشوارعها حتى لا تضيق؛ وأن يبني جامعاً للصلاة في وسطها ليتعرف على جميع أهلها؛ وأن يقدر أسواقها بحسب كفايتها لينال سكانها حوائجهم عن قرب؛ وأن يميز بين قبائل ساكنيها فيجعل كل قبيلة في حي، دون جمع بين الأضداد من السكان الذين قد يتخاصموا؛ ويجعل خواصه محيطين به في مساكنهم من كل الجهات؛ وأن يحيط المدينة بسور له أبواب ليمنع المعتدين والدخلاء من اقتحامها؛ وأن ينقل إليها من أهل العلم والصنائع بقدر الحاجة لسكانها حتى يستغنوا عن الخروج لغيرها*1
وبعد ذلك بستة قرون جاء ابن الأزرق ليضع شروطاً إضافية لاختيار مواقع المدن والتخطيط لها في كتابه (بدائع السلك في طبائع الملك)*2. فقال: أن ما تجب مراعاته في أوضاع المدن أصلان مهمّان: دفع الأضرار وجلب المنافع. ثم يذكر أن الأضرار نوعان: أرضية (ودفعها بإدارة سياج الأسوار على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع على هضبة وعرة من الجبل وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلاّ بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف تحصينها) والنوع الثاني من ا لأضرار سماوي ودفعه باختيار المواضع طيبة الهواء لأن ما خبث منه بركوده أو تعفن بمجاورته مياها فاسدة أو منافع متعفنة أو مروجا خبيثة يسرع المرض فيه للحيوان الكائن فيه لا محالة.
ويذكر ابن خلدون في مقدمته نماذج من تلك المدن، فقد وصف (قابس) في تونس بهذا الوصف.
أما المنافع التي تجلبها المدن لسكانها فهي كثيرة منها: الشعور بالأمن والأمان عندما تكون المدينة محصنة وفيها وحولها سكان كثيرون يستطيعون الدفاع عنها وقت الشدة، وحماية المظلوم من الظالم وإنصاف أصحاب الحقوق بتشريع وقضاء عادل وحاكم عادل نزيه لا يحابي الفاسدين بل يضرب على أيديهم بشدة، وتحصيل العلم والمعرفة والكسب الشريف وإفشاء المحبة والصداقة والسلام بين السكان من خلال إشاعة الآداب والفنون التي تلتزم بالأخلاق وهذا كله كانت تحميه عدالة الحكم الإسلامي في فترات طويلة، ويزول بزوال العدالة.
ومن الطبيعي أن تتقدم المعارف والعادات وطرائق البناء والملبس والمأكل الخ، وقد تطور معه فقه المدن. وقد ظهر في الدولة الحفصية فقيه في شؤون المدن كانت تستدعيه الدول المجاورة لوضع قوانين المدن وتنظيم الأسواق وفض الخصومات بين المتخاصمين، وكان يعتمد المذهب المالكي في إعطائه الرأي، وقد وضع كتاباً لا تزال البلديات والمحاكم المدنية تعتمد آراؤه وفتاويه حتى اليوم.
إنه ابن الرامي، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم اللخمي، صاحب كتاب (الإعلان بأحكام البنيان)، وهو كتاب فريد من نوعه أورد فيه ملاحظاته في خصوص القضايا التي تنشب بين الجيران أو المستأجرين وأصحاب البناء والعلاقات بين أصحاب الدكاكين والجوار والمشاكل التي تحدث بينهم، ووضع تلك الملاحظات في مصنف مرموق*3 لا يزال يحتفظ بقيمته رغم مرور سبعة قرون على تأليفه.
كان التنظيم الإسلامي للمدينة يحمي الخصوصية للفرد أولاً ومن ثم يراعي الشريعة ثانياً، فعندما كان يشكو المواطنون من علو المآذن وإمكانية كشف المؤذن عورات الجيران، مُنع من فتح نوافذ في المآذن وتم اختيار المؤذنين العميان ولا زال الكثير من المساجد العراقية تسير على هذا النهج. فكانت قاعدة لا ضرر ولا ضرار هي التي تسير في تنظيم المدن.
مما تقدم، نلحظ أن شخصية المدينة العربية كانت تنطلق من ثوابت مستمدة من الروح الإسلامية وخصوصية المجتمع العربي بمختلف أبعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية.
ماذا يمكن أن يفعله المجتمع الآن لاستعادة شخصية المدينة العربية؟
قد يكون السؤال غريباً، أو يكون قد قفز عن أسئلة أخرى تسبقه، مثل: هل فقدت المدينة العربية شخصيتها؟ أم أن السكان راضون بما هم فيه من سكن مختلط في عمارات عالية ذات شقق كثيرة يختلط فيها السكان في المصاعد والسلالم وغيرها، مما يصعب من خلاله المطالبة بالعودة لنموذج قد يستحيل إعادته! وسؤالٌ آخر قد يسبق السؤال الأول: هل يريد الناس فعلاً تمييز مدنهم العربية بمميزات معينة؟ وما هي تلك المميزات؟ وكيف يمكن تحقيقها؟
ما الذي يثير اهتمامنا في أس شخصية المدينة العربية؟
إن أكثر ما نهتم به في إثارة هذا الموضوع هو أنسنة (جعلها إنسانية) المدينة، وهذا تمييز عن الجانب الحيواني الذي تتركز فيه الشهوات والتقاتل لأخذ ما للغير واستحواذه. فإن كانت المتطلبات الفردية للإنسان المتمدن تتمثل في العمل والصحة والسكن والتعليم، فكل يوم تزيد عندنا نسب المتعطلين عن العمل وتزداد مشاكل السكن والصحة والتعليم. وإذا أخرجنا الإنسان من ذاتيته ليصبح مواطناً عموميا (Polis) فهذا يستدعي تحسين وتطوير الجوانب السياسية في التشاور مع المواطنين في شأنهم العام.*4
وقد تكون النشاطات الأيديولوجية عامة بشكلها المعروف، تبحث شؤون بلاد أو شعب، لكنها قفزت عن شؤون المدن التي هي أساس المجتمعات العامة، من هنا لو أصبح لكل مدينة برلمان يحشد ذوي الاختصاص لمناقشة واقع ومستقبل مدنهم، اجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا، لكان ذلك يسهل على الحكومات وضع خططها العامة، وحتى لا يكون هذا البرلمان عبئاً إضافياً مادياً، ليُبلغ أعضاؤه بأنه لا أجور لهم!
فالحديث عن مدينة في مكان ما سيختلف بكل تأكيد عن مدينة أخرى في مكان آخر، ولا يفهم شؤون أي مدينة إلا أبناؤها..
اشترط ابن الربيع ستة شروط لاختيار مكان المدينة: سعة المياه المستعذبة؛ ودوام إمداد الميرة (المؤن وغيرها)؛ واعتدال المكان وجودة الهواء؛ والقرب من المرعى والاحتطاب؛ وتحصين منازلها من الأعداء و(الزعران)؛ وأن يحيط بها سور.
وذكر ابن الربيع ثمانية شروط أخرى يراعيها الحاكم عند تخطيط المدينة: أن يسوق إليها الماء العذب ليشرب أهلها ويسهل تناوله من غير تعسف؛ وأن يقدر طرقها وشوارعها حتى لا تضيق؛ وأن يبني جامعاً للصلاة في وسطها ليتعرف على جميع أهلها؛ وأن يقدر أسواقها بحسب كفايتها لينال سكانها حوائجهم عن قرب؛ وأن يميز بين قبائل ساكنيها فيجعل كل قبيلة في حي، دون جمع بين الأضداد من السكان الذين قد يتخاصموا؛ ويجعل خواصه محيطين به في مساكنهم من كل الجهات؛ وأن يحيط المدينة بسور له أبواب ليمنع المعتدين والدخلاء من اقتحامها؛ وأن ينقل إليها من أهل العلم والصنائع بقدر الحاجة لسكانها حتى يستغنوا عن الخروج لغيرها*1
وبعد ذلك بستة قرون جاء ابن الأزرق ليضع شروطاً إضافية لاختيار مواقع المدن والتخطيط لها في كتابه (بدائع السلك في طبائع الملك)*2. فقال: أن ما تجب مراعاته في أوضاع المدن أصلان مهمّان: دفع الأضرار وجلب المنافع. ثم يذكر أن الأضرار نوعان: أرضية (ودفعها بإدارة سياج الأسوار على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع على هضبة وعرة من الجبل وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلاّ بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف تحصينها) والنوع الثاني من ا لأضرار سماوي ودفعه باختيار المواضع طيبة الهواء لأن ما خبث منه بركوده أو تعفن بمجاورته مياها فاسدة أو منافع متعفنة أو مروجا خبيثة يسرع المرض فيه للحيوان الكائن فيه لا محالة.
ويذكر ابن خلدون في مقدمته نماذج من تلك المدن، فقد وصف (قابس) في تونس بهذا الوصف.
أما المنافع التي تجلبها المدن لسكانها فهي كثيرة منها: الشعور بالأمن والأمان عندما تكون المدينة محصنة وفيها وحولها سكان كثيرون يستطيعون الدفاع عنها وقت الشدة، وحماية المظلوم من الظالم وإنصاف أصحاب الحقوق بتشريع وقضاء عادل وحاكم عادل نزيه لا يحابي الفاسدين بل يضرب على أيديهم بشدة، وتحصيل العلم والمعرفة والكسب الشريف وإفشاء المحبة والصداقة والسلام بين السكان من خلال إشاعة الآداب والفنون التي تلتزم بالأخلاق وهذا كله كانت تحميه عدالة الحكم الإسلامي في فترات طويلة، ويزول بزوال العدالة.
ومن الطبيعي أن تتقدم المعارف والعادات وطرائق البناء والملبس والمأكل الخ، وقد تطور معه فقه المدن. وقد ظهر في الدولة الحفصية فقيه في شؤون المدن كانت تستدعيه الدول المجاورة لوضع قوانين المدن وتنظيم الأسواق وفض الخصومات بين المتخاصمين، وكان يعتمد المذهب المالكي في إعطائه الرأي، وقد وضع كتاباً لا تزال البلديات والمحاكم المدنية تعتمد آراؤه وفتاويه حتى اليوم.
إنه ابن الرامي، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم اللخمي، صاحب كتاب (الإعلان بأحكام البنيان)، وهو كتاب فريد من نوعه أورد فيه ملاحظاته في خصوص القضايا التي تنشب بين الجيران أو المستأجرين وأصحاب البناء والعلاقات بين أصحاب الدكاكين والجوار والمشاكل التي تحدث بينهم، ووضع تلك الملاحظات في مصنف مرموق*3 لا يزال يحتفظ بقيمته رغم مرور سبعة قرون على تأليفه.
كان التنظيم الإسلامي للمدينة يحمي الخصوصية للفرد أولاً ومن ثم يراعي الشريعة ثانياً، فعندما كان يشكو المواطنون من علو المآذن وإمكانية كشف المؤذن عورات الجيران، مُنع من فتح نوافذ في المآذن وتم اختيار المؤذنين العميان ولا زال الكثير من المساجد العراقية تسير على هذا النهج. فكانت قاعدة لا ضرر ولا ضرار هي التي تسير في تنظيم المدن.
مما تقدم، نلحظ أن شخصية المدينة العربية كانت تنطلق من ثوابت مستمدة من الروح الإسلامية وخصوصية المجتمع العربي بمختلف أبعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية.
ماذا يمكن أن يفعله المجتمع الآن لاستعادة شخصية المدينة العربية؟
قد يكون السؤال غريباً، أو يكون قد قفز عن أسئلة أخرى تسبقه، مثل: هل فقدت المدينة العربية شخصيتها؟ أم أن السكان راضون بما هم فيه من سكن مختلط في عمارات عالية ذات شقق كثيرة يختلط فيها السكان في المصاعد والسلالم وغيرها، مما يصعب من خلاله المطالبة بالعودة لنموذج قد يستحيل إعادته! وسؤالٌ آخر قد يسبق السؤال الأول: هل يريد الناس فعلاً تمييز مدنهم العربية بمميزات معينة؟ وما هي تلك المميزات؟ وكيف يمكن تحقيقها؟
ما الذي يثير اهتمامنا في أس شخصية المدينة العربية؟
إن أكثر ما نهتم به في إثارة هذا الموضوع هو أنسنة (جعلها إنسانية) المدينة، وهذا تمييز عن الجانب الحيواني الذي تتركز فيه الشهوات والتقاتل لأخذ ما للغير واستحواذه. فإن كانت المتطلبات الفردية للإنسان المتمدن تتمثل في العمل والصحة والسكن والتعليم، فكل يوم تزيد عندنا نسب المتعطلين عن العمل وتزداد مشاكل السكن والصحة والتعليم. وإذا أخرجنا الإنسان من ذاتيته ليصبح مواطناً عموميا (Polis) فهذا يستدعي تحسين وتطوير الجوانب السياسية في التشاور مع المواطنين في شأنهم العام.*4
وقد تكون النشاطات الأيديولوجية عامة بشكلها المعروف، تبحث شؤون بلاد أو شعب، لكنها قفزت عن شؤون المدن التي هي أساس المجتمعات العامة، من هنا لو أصبح لكل مدينة برلمان يحشد ذوي الاختصاص لمناقشة واقع ومستقبل مدنهم، اجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا، لكان ذلك يسهل على الحكومات وضع خططها العامة، وحتى لا يكون هذا البرلمان عبئاً إضافياً مادياً، ليُبلغ أعضاؤه بأنه لا أجور لهم!
فالحديث عن مدينة في مكان ما سيختلف بكل تأكيد عن مدينة أخرى في مكان آخر، ولا يفهم شؤون أي مدينة إلا أبناؤها..