مانديلا ودروس المرحلة الانتقالية
مرسل: الأربعاء ديسمبر 11, 2013 4:43 pm
مانديلا ودروس المرحلة الانتقاليةد. بهجت قرني
في العلوم السياسية وحتى في الشؤون العامة هناك نقاش حاد منذ زمن طويل عن دور الفرد بالمقارنة بدور المؤسسات: من له اليد العليا في النهاية؟ هل تسير الأمور حسب أهواء الشخص- القائد أم أن المؤسسات وطبيعتها هي في النهاية من تقوم بتوجيه القرار، ويقوم الفرد في هذه الحالة بالتنفيذ فقط؟
حاول البعض الخروج من هذا المأزق بالقول إن هوية وسلطات صانع القرار تعتمد على نوعية النظام السياسي. في النظم المعروفة أنها ديمقراطية مستتبة، تلعب المؤسسات الدور الرئيسي في جو معروف عنه الفصل بين السلطات المختلفة من تشريعية وقضائية وتنفيذية، ثم هناك المحاسبة والمساءلة من الأجهزة الرقابية، وكذلك الدور النشط لإعلام لا يخشى السلطة التنفيذية ولا يقبل القيود بسهولة.
على العكس في النظم السلطوية، قد توجد هذه السمات ولكن من ناحية الشكل أساساً كذر للرماد في العيون، أما المضمون فهو «شخصنة السلطة» بمعنى سيطرة ما يُعرف باسم «الرئيس الملهم» وكذلك جماعته على معظم الأمور الأساسية، وتصبح القرارات شخصية في النهاية. وعندنا في المنطقة العربية أمثلة واضحة على هذا من صدام حسين أو القذافي، إلى السادات وحتى عبدالناصر أو ياسر عرفات. بعضهم اعتمد على شعبيته الطاغية وحب الجماهير له ليأخذ القرار بمفرده أو بالتعاون مع بعض معاونيه أو حتى أصدقائه المقربين: مثلاً العلاقة الوثيقة بين عبدالناصر ومحمد حسنين هيكل، في وقت لم يتعد منصب هيكل -رسمياً- أن يكون صحفياً.
بالرغم من أن الفرق بين ما يسمى النظم الديمقراطية والسلطوية يعكس أحوال العالم، إلا أنه مبالغ فيه كثيراً. ففي الدول «الديمقراطية» هناك أيضاً في بعض الأحيان ما أسميناه «الرئيس أو القائد الملهم» والذي يستحوذ هو أيضاً ومعاونوه على سلطة القرار. وعند الحديث عن قادة أو شخصيات تاريخية أسهمت فعلاً في صنع التاريخ في بلادها وسيطرت على الجزء الأكبر من سلطة القرار يأتي إلى الذهن ونستون تشرشل في الحربين العالميتين الأولى والثانية في بريطانيا، وديجول في الحرب العالمية الثانية وما بعدها في فرنسا، ومارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في الولايات المتحدة في الثمانينيات والذي يعتقد كثيرون أنه أنهى الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة. وبالرغم من أن نيلسون مانديلا هو من المعاصرين، إلا أنه بكل المعايير ينتمي إلى هذه الفئة مما نسميه «قيادات تاريخية» بسبب إسهامه في تشكيل تاريخ بلده، وحتى التأثير في العالم.
لماذا هذا التأثير العالمي لزعيم يأتي ليس فقط من دولة أفريقية ولكن من مجموعة مهمشة داخل هذه الدولة؟ بل واختفى من المسرح السياسي الفعال في بلده خلال فترة سجن استمرت 27 عاماً؟ وماذا نستطيع نحن في المنطقة العربية أن نتعلم من سلوكياته هذه؟
يأتي تأثير مانديلا العالمي من أنه قاوم أحد أكثر الأنظمة ظلماً وقبحاً في العالم بأسره، ألا وهو نظام الأبارتايد أو التفرقة العنصرية، والذي سمح لأقلية بيضاء بأن تسيطر على الأغلبية السوداء وتعاملها معاملة الأسياد للعبيد، وعلى كل المستويات وليس السياسي فقط: مدارس منفصلة، أتوبيسات منفصلة، طبعاً عدم زواج بين البيض والسود، وكذلك أحياء سكنية مختلفة، وحتى حمامات عامة في الشارع لكل لون. كان أساس هذه التفرقة البغيضة فعلاً لون البشرة وليس مستوى التعليم أو المركز المالي أو حتى الذكاء. بل بالعكس كان لون البشرة يجُبُّ كل شيء. فالرجل الأبيض والمرأة البيضاء هما دائماً في القمة مهما كانت درجة تعليمهما أو حتى مستوى إهدارهما للقانون.
كرّس مانديلا حياته لهزيمة هذا النظام الهمجي، ودفع الثمن غالياً من سجن وتشريد والبعد عن الأسرة، بل إنه فقد ابنه وزوجة ابنه بسبب تفشي مرض الإيدز وعدم قدرته على توفير العناية اللازمة لهما في الوقت المناسب.
بسبب الالتزام بمبادئ عالمية مثل مقاومة التفرقة والظلم كمؤسسات، ثم التضحية بحريته وحتى حياة أسرته التزاماً بهذه المبادئ، أصبح مانديلا رمزاً عالمياً، ولكن هل له أهمية بالنسبة للوضع العربي الحالي في مرحلته الانتقالية ذات التكاليف الاقتصادية والإنسانية العالية؟
أول ما يأتي إلى الذهن، بالإضافة للإصرار على المبدأ والدفاع عنه، هو أن يترفَّع الزعيم عن مستوى الثأر، من الأقلية البيضاء بل يحاول دمجها في جنوب أفريقيا الجديدة، وقد جهد بكل قوة لإصلاح بعض هؤلاء البيض وطمأنتهم وقال كلمته المشهورة «نحن ضد نظام غير إنساني وليس ضد أفراد». وعندما حاول بعض الزعماء والجماهير السوداء إطلاق العنان لعواطفهم والانتقام وتخليص الحق، اعترض مانديلا عن هذا بل ودافع عن أعداء الأمس.
ثانياً، أرسى مبدأ ما يُعرف الآن بالعدالة الانتقالية، وهي كيفية التوفيق بين حصول المظلومين (السود) على حقوقهم ووضع حد للمهانة والذل اللذين استمرا لمئات السنين، وفي نفس الوقت بقاء معظم هذه الأقلية البيضاء وإدارة البلاد مستفيداً من خبرتهم الطويلة، فتم إنشاء ما يُعرف بـ«لجان الحقيقة» حيث يتم التحقيق مع معظم الظالمين من الأقلية البيضاء، وعندما يُدانون يعترفون بجرائمهم ويتم تعويض أبناء الأغلبية السوداء عن معاناتهم مع اعتذار علني. والاعتذار له أهميته لأنه يؤسس للندية بين الجانبين.
ثالثاً، لم يقدم مانديلا أي تنازلات بالنسبة لإصراره على التنفيذ الفوري لعودة حقوق الأغلبية السوداء، وخاصة الحقوق السياسية، وعندما تم هذا وأصبح هو أول رئيس أسود منتخب لجنوب أفريقيا، أصر على أن يشاركه الحكم دي كليرك، آخر رئيس وزراء أبيض في جنوب أفريقيا قبل التحول الكبير، وبالتالي أظهر للجميع أن إيمانه بأن عملية المصالحة الوطنية ليست حبراً على ورق، وإنما هي ممارسة وسلوك، بل وأرسى لهذا السلوك دعائم صلبة لدولة جديدة وقوية، فلنقارن مثلاً بين ما حدث في جنوب أفريقيا في بداية التسعينيات وما حدث ويحدث بين شمال السودان وجنوبه، رغم عدم وجود نظام التفرقة العنصرية المهينة بين الجانبين. قيادة مانديلا إذن كانت حاسمة، ويبدو أن الدول في بداية نشأتها يكون عنصر القيادة فيها هو الأهم حتى تقوم المؤسسات وتقوى. لقد استحق مانديلا إذن جائزة نوبل.
في العلوم السياسية وحتى في الشؤون العامة هناك نقاش حاد منذ زمن طويل عن دور الفرد بالمقارنة بدور المؤسسات: من له اليد العليا في النهاية؟ هل تسير الأمور حسب أهواء الشخص- القائد أم أن المؤسسات وطبيعتها هي في النهاية من تقوم بتوجيه القرار، ويقوم الفرد في هذه الحالة بالتنفيذ فقط؟
حاول البعض الخروج من هذا المأزق بالقول إن هوية وسلطات صانع القرار تعتمد على نوعية النظام السياسي. في النظم المعروفة أنها ديمقراطية مستتبة، تلعب المؤسسات الدور الرئيسي في جو معروف عنه الفصل بين السلطات المختلفة من تشريعية وقضائية وتنفيذية، ثم هناك المحاسبة والمساءلة من الأجهزة الرقابية، وكذلك الدور النشط لإعلام لا يخشى السلطة التنفيذية ولا يقبل القيود بسهولة.
على العكس في النظم السلطوية، قد توجد هذه السمات ولكن من ناحية الشكل أساساً كذر للرماد في العيون، أما المضمون فهو «شخصنة السلطة» بمعنى سيطرة ما يُعرف باسم «الرئيس الملهم» وكذلك جماعته على معظم الأمور الأساسية، وتصبح القرارات شخصية في النهاية. وعندنا في المنطقة العربية أمثلة واضحة على هذا من صدام حسين أو القذافي، إلى السادات وحتى عبدالناصر أو ياسر عرفات. بعضهم اعتمد على شعبيته الطاغية وحب الجماهير له ليأخذ القرار بمفرده أو بالتعاون مع بعض معاونيه أو حتى أصدقائه المقربين: مثلاً العلاقة الوثيقة بين عبدالناصر ومحمد حسنين هيكل، في وقت لم يتعد منصب هيكل -رسمياً- أن يكون صحفياً.
بالرغم من أن الفرق بين ما يسمى النظم الديمقراطية والسلطوية يعكس أحوال العالم، إلا أنه مبالغ فيه كثيراً. ففي الدول «الديمقراطية» هناك أيضاً في بعض الأحيان ما أسميناه «الرئيس أو القائد الملهم» والذي يستحوذ هو أيضاً ومعاونوه على سلطة القرار. وعند الحديث عن قادة أو شخصيات تاريخية أسهمت فعلاً في صنع التاريخ في بلادها وسيطرت على الجزء الأكبر من سلطة القرار يأتي إلى الذهن ونستون تشرشل في الحربين العالميتين الأولى والثانية في بريطانيا، وديجول في الحرب العالمية الثانية وما بعدها في فرنسا، ومارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في الولايات المتحدة في الثمانينيات والذي يعتقد كثيرون أنه أنهى الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة. وبالرغم من أن نيلسون مانديلا هو من المعاصرين، إلا أنه بكل المعايير ينتمي إلى هذه الفئة مما نسميه «قيادات تاريخية» بسبب إسهامه في تشكيل تاريخ بلده، وحتى التأثير في العالم.
لماذا هذا التأثير العالمي لزعيم يأتي ليس فقط من دولة أفريقية ولكن من مجموعة مهمشة داخل هذه الدولة؟ بل واختفى من المسرح السياسي الفعال في بلده خلال فترة سجن استمرت 27 عاماً؟ وماذا نستطيع نحن في المنطقة العربية أن نتعلم من سلوكياته هذه؟
يأتي تأثير مانديلا العالمي من أنه قاوم أحد أكثر الأنظمة ظلماً وقبحاً في العالم بأسره، ألا وهو نظام الأبارتايد أو التفرقة العنصرية، والذي سمح لأقلية بيضاء بأن تسيطر على الأغلبية السوداء وتعاملها معاملة الأسياد للعبيد، وعلى كل المستويات وليس السياسي فقط: مدارس منفصلة، أتوبيسات منفصلة، طبعاً عدم زواج بين البيض والسود، وكذلك أحياء سكنية مختلفة، وحتى حمامات عامة في الشارع لكل لون. كان أساس هذه التفرقة البغيضة فعلاً لون البشرة وليس مستوى التعليم أو المركز المالي أو حتى الذكاء. بل بالعكس كان لون البشرة يجُبُّ كل شيء. فالرجل الأبيض والمرأة البيضاء هما دائماً في القمة مهما كانت درجة تعليمهما أو حتى مستوى إهدارهما للقانون.
كرّس مانديلا حياته لهزيمة هذا النظام الهمجي، ودفع الثمن غالياً من سجن وتشريد والبعد عن الأسرة، بل إنه فقد ابنه وزوجة ابنه بسبب تفشي مرض الإيدز وعدم قدرته على توفير العناية اللازمة لهما في الوقت المناسب.
بسبب الالتزام بمبادئ عالمية مثل مقاومة التفرقة والظلم كمؤسسات، ثم التضحية بحريته وحتى حياة أسرته التزاماً بهذه المبادئ، أصبح مانديلا رمزاً عالمياً، ولكن هل له أهمية بالنسبة للوضع العربي الحالي في مرحلته الانتقالية ذات التكاليف الاقتصادية والإنسانية العالية؟
أول ما يأتي إلى الذهن، بالإضافة للإصرار على المبدأ والدفاع عنه، هو أن يترفَّع الزعيم عن مستوى الثأر، من الأقلية البيضاء بل يحاول دمجها في جنوب أفريقيا الجديدة، وقد جهد بكل قوة لإصلاح بعض هؤلاء البيض وطمأنتهم وقال كلمته المشهورة «نحن ضد نظام غير إنساني وليس ضد أفراد». وعندما حاول بعض الزعماء والجماهير السوداء إطلاق العنان لعواطفهم والانتقام وتخليص الحق، اعترض مانديلا عن هذا بل ودافع عن أعداء الأمس.
ثانياً، أرسى مبدأ ما يُعرف الآن بالعدالة الانتقالية، وهي كيفية التوفيق بين حصول المظلومين (السود) على حقوقهم ووضع حد للمهانة والذل اللذين استمرا لمئات السنين، وفي نفس الوقت بقاء معظم هذه الأقلية البيضاء وإدارة البلاد مستفيداً من خبرتهم الطويلة، فتم إنشاء ما يُعرف بـ«لجان الحقيقة» حيث يتم التحقيق مع معظم الظالمين من الأقلية البيضاء، وعندما يُدانون يعترفون بجرائمهم ويتم تعويض أبناء الأغلبية السوداء عن معاناتهم مع اعتذار علني. والاعتذار له أهميته لأنه يؤسس للندية بين الجانبين.
ثالثاً، لم يقدم مانديلا أي تنازلات بالنسبة لإصراره على التنفيذ الفوري لعودة حقوق الأغلبية السوداء، وخاصة الحقوق السياسية، وعندما تم هذا وأصبح هو أول رئيس أسود منتخب لجنوب أفريقيا، أصر على أن يشاركه الحكم دي كليرك، آخر رئيس وزراء أبيض في جنوب أفريقيا قبل التحول الكبير، وبالتالي أظهر للجميع أن إيمانه بأن عملية المصالحة الوطنية ليست حبراً على ورق، وإنما هي ممارسة وسلوك، بل وأرسى لهذا السلوك دعائم صلبة لدولة جديدة وقوية، فلنقارن مثلاً بين ما حدث في جنوب أفريقيا في بداية التسعينيات وما حدث ويحدث بين شمال السودان وجنوبه، رغم عدم وجود نظام التفرقة العنصرية المهينة بين الجانبين. قيادة مانديلا إذن كانت حاسمة، ويبدو أن الدول في بداية نشأتها يكون عنصر القيادة فيها هو الأهم حتى تقوم المؤسسات وتقوى. لقد استحق مانديلا إذن جائزة نوبل.