العلمانية : أسباب - نشأة - صراع
هذا بحث بسيط قدمته في مادة الفكر العربي السياسي الحديث عن العلمانية ورؤية المجتمع لها أتمنى أن تستفيدوا من هذا البحث
مقدمة
في عالم المصطلحات نجد مصطلح العلمانية الذي أثار عدة تساؤلات حول مفهومه وما المراد به ولهذا نجد أن هناك صراعات حول تحرير مفهوم هذا المصطلح في البلاد الإسلامية , وكذلك صراعات بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية ، حيث أن البعض يعتبره تحييد الدين عن الحياة والبعض الآخر يرى أن العلمانية ما هي إلى كلمة تعني العلم أو ما يعرفونه من تقديم جانب العلم ولكن الأول ينطلق من كون المفهوم تمخض من الصراع الذي شهدته أوروبا بين الكنيسة والعلم التجريبي ولكن الأخير يرى عكس ذلك ، ولذلك نجد أن العلمانية مفهوم واسع تمخضت من رحمها عدة مفاهيم أخرى يرى البعض أنها منصبة حول اللادينيه . وتكمن أهمية البحث في فهم منطلقات العلمانية وكيفية التكيف معها, بحيث يمكن استيعابها وبيان ما تحتويه من أمور هي مدار الصراع بين التيارات , والذي سوف يؤخذ منه وجه التباين ووجه الاختلاف بينهما في النظر إلى هذا المفهوم وذلك من خلال دراسة ما كتب عنها من قبل التيار الديني والتيار المنادي بالعلمانية ورؤية كل تيار، وفي هذا البحث سوف نستخدم المنهج التاريخي لم عرفة الجذور التاريخية للعلمانية وعن كيفية انتشارها وكذلك سوف نستخدم المنهج المقارن للمقارنة بين المفاهيم التي لدى التيار الديني والتيار المنادي بالعلمانية ووجه الاختلاف بينهما ووجه التباين , وسوف يكون البحث مقسم على عدة أبواب :
1. المبحث الأول : نشأة العلمانية
الباب الأول : أسباب نشأة العلمانية وتطورها .
الباب الثاني : تعريف العلمانية من وجهة نظر التيارين .
2. المبحث الثاني : الصراع بين التيار الديني وبين التيار المنادي العلمانية حول المفهوم والتطبيق
الباب الأول : أسباب الصراع بينهما .
الباب الثاني : أوجه التباين بين مفاهيم التيارين حول العلمانية .
3. الخاتمة : أزمة تحرير المصطلحات بين الرفض والقبول
في الخاتمة سوف نستعرض التوصيات التي نتجت عن البحث والرؤية المستقبلية لعملية فهم المصطلح من قبل التيارين .
أسأل الله المولى عزوجل أن يسدد خطاي في هذا البحث , كما أسأله أن يوفقني إلى تحقيق النتائج المرجوة من هذا البحث وأن يجعله مقبولاً أنه ولي ذلك والقادر عليه .
المبحــث الأول
نشأة العلمانية
الباب الأول
أسباب نشأة العلمانية وتطورها
نشأة العلمانية وتبلورت في دهاليز الفكر المسيحي وذلك يعود إلى طغيان رجال الكنيسة على الحياة بكل جوانبها ,وهذا ما ذكره أحد المفكرين في كتابه فقال (ولم تدع الكنيسة جانباً من جوانب الحياة دون أن تمسكه بيد من حديد، وتغلغله بقيودها العاتية، فهيمنت على المجتمع من كل نواحيه الدينية والسياسية والاقتصادية والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها البتة وهذا يبين لنا أنه هناك سيطرة كهنوتية على الفكر ولقد تطورت هذه السيطرة إلى أبعد من ذلك , وهذا مما يراه الرجل المسيحي العادي من تعدي على حقوقه باسم الدين وفي الجانب السياسي يظهر لنا أن دور رجال الكنسية دور كبير جداً وذلك لأن سلطتهم قوية فقد بلغت سلطة البابا الدينية المهيمنة على ذوي السلطة الإدارية والسياسية أوجها، حتى كان باستطاعة البابا أن يتوج الملوك والأباطرة، وأن يخلع تيجانهم إذا نازعوه ورفضوا أوامره، وأن يحرمهم من الدين، وأن يحرم شعوبهم الذين يوالونهم، ولا يستجيبون لأوامر الخلع البابوية , ومن الأمور أيضاً رؤية الكنيسة المتناقضة للتمتع بالحياة من أنها ترفض أي شكل من أشكال التمتع بالحياة ؛ وفي الوقت نفسه تجدها هي من تتمتع بالحياة وهذا ما أوجد لدى العامة شعور سيء تجاه الكنيسة . ومن المعلوم أن الكنيسة بدورها التسلطي نادت إلى إلغاء دور العقل والتسليم بما تقوله الكنيسة والاعتقاد بصحة قولها وأنه معصوم من الخطأ, ومما نتج عن إلغاء دور العقل من حرب على العلم ونفي العلماء ورميهم بالهرطقة ومن ثم قتلهم ومما يذكر عن بعض المفكرين الذين عاشوا التجربة إذ يقول ديكارت : وصف المرحلة التي سيطرت الكنيسة فيها على الحياة العامة بأنها مرحلة ضنك ، وقهر وعبودية فنادى بحرق الدين وإلغائه وإحلال العقل محلة , ويقول فولتير اُسمي الديانة المسيحية ( بالكائن الوضيع ) ووصفها بأنها عقيدة متناقضة سفاكة للدماء ، ينتصر لها الجلادون ، وتحيط بهم عصبة من الأشرار , كل ذلك أدى في نهاية الأمر إلى نشؤ ثورة على هذا الفكر التسلطي الذي كان يحتكر السياسية والحياة في بوتقة واحده ألا وهي الكنيسة فالكهان كانوا ممن يدعون الثقافة ويريدون أن يكونون وعي المجموع الاجتماعي و يهيكلون مبادئه , هذه الثورة كانت هي الثورة العلمانية التي قامت على إنها الفكر التسلطي الشمولي للكنيسة ,وبدأ حياة جديدة يكون فيها الدين متنحياً عن الجانب السياسي والجوانب الأخرى وتراجع في النتيجة دور الدين من الساحة الفكرية والإيمانية الفعالة والمؤثرة ، وتراجعت بنفس الوقت حاجة المجتمع لذلك التأثير بوجود الدولة القوية القادرة ، ومن المؤثرات التي شاركت في تحييد دور الثيوقراطية في أوروبا , هي المعاهدات التي قامت وأرست قواعد الدولة القومية منها معاهدة و ستفاليا عام 1648م وكذلك الثورة الفرنسية في علم 1789م التي كانــت تحمل شعار الحرية والمساواة والإخاء , وكان من أهم أهدافها تغيير الوضع السائد من التسلط الكنسي بشتى الوسائل , وبعد ذلك أخذت التجربة تنقل إلى البلدان الأوروبية وتجاوزت بعد ذلك أوروبا , وقبل ذلك وبعده كان هناك أدوار لبعض المفكرين من أمثال جان جاك روسو الذي يعد كتابه العقد الاجتماعي إنجيل الثورة في عام 1778م وكذلك وليم جودين له في العدالة السياسية 1793م , وهذا كله يدل على أنه هناك صراع مرير خاضته البورجوازية في أوربا ضد سلطات الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع وبعد ذلك كانت البرجوازية هي في النهاية المنتصرة . وبعد ذلك نرى أنها انتقلت إلى المنطقة العربية , حيث أننا نرى بعض الدعوات إلى العلمانية ونرى بعض التطبيقات لها في بعض الدول العربية , والحقيقة أن بداية دخول مفهوم العلمانية إلى المنطقة العربية كان في القرن التاسع عشر وكان ذلك عن طريق البعثات العربية إلى الدول الغربية , فرأوا ما عليهم من تقدم وحضارة وسلوك وقارنوا وضعهم وما هم عليه من تخلف وأن بعض الأعمال التسلطية تكون بغطاء ديني ورأوا أنه لابد أن يكون هناك تغيير للواقع ومن أمثلة هؤلاء رفاعة الطهطاوي الذي كان يذكر ما رآه من تقدم وحضارة في بلاد الغرب ومقارنته بالأوضاع السائد في ذلك الوقت ولقد قدم رؤية سياسية علمانية تعطي تقدم وحضارة يحفظ الحريات ويصون العدالة والمساواة ويساوي بين المواطنين , وغيــرهم مـن النهضويون العرب سواء كانوا من الجيل الأول كخيري الدين التونسي أو من أتى بعدهم كأمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومن جاء كذلك بعدهم ، فصـار لهؤلاء دعـوات مسموعـة ولهم منابر يكتبون فيها وكانوا جميعهم يركزون على التجديد في النمط الحياة السائد والرغبة في مسايرة الغرب في تقدمهم و اقتفاء أثرهم في تطورهم لكن مع رؤية إلى الخصوصية التي تتميز بها المنطقة العربية , ولذلك أن الحركة الإصلاحية العربية قامت بالتجديد في الفكر السياسي وإعطاء مصطلحات جديدة من على سبيل المثال الدستور والبرلمان وغيرها من المصطلحات التي أخذت من الفكر السياسي الليبرالي الحديث والتي نقلت إلينا عن طريقهم , وكل ذلك الانتشار للفكر العلماني التنويري الذي أتى بعد انتهاء الخلافة العثمانية الذي يرى البعض أنها كانت مصدر للحيلولة دون التقدم ، وهناك من يرى أن البداية كانت مع الحملة الفرنسية على مصر 1798م والبعثات والإرساليات التي قام بها محمد علي ؛ حيث يقول أحد الكتاب : تبدو ولادة المتنور العربي وكأنها تتفق وتتناسب مع مرحلة تاريخية، تميزت بمحاولات بناء الدولة الحديثة. وإذا اعتبرنا بروز محمد علي في مصر وإيفاده البعثات العلمية إلى أوروبا، ثم بروز المتنورين السوريين واللبنانيين حول منتصف القرن الماضي، كعلامات دالة على بدايات هذه النهضة. فإن انقطاع هذه المرحلة التاريخية يمكن تأريخه بعام 1881 عام التدخل الإنكليزي في مصر والفرنسي في تونس. إن معالجتنا هذه تتجه نحو جعل النهضة مرحلة محددة من التاريخ والمشاريع، وقد تطلبت وأسهمت ببروز المتنور ـ المثقف العربي وفقاً لمقتضياتها.
الباب الثاني
تعريف العلمانية من وجهة نظر التيار الديني و التيار المنادي بالعلـــمانية
تعريف العلمانية يأخذ أكثر من شكل وذلك بحسب فهم ماهية العلمانية , وقد تعني العلمانية في معناها أنها ترجمة لكلمة (سيكولاريزم secularism ) ولقد عرف معجم أكسفورد معناها فأورد:( هي العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لابد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى) , وقد تنسب ترجمة العلمانية إلى العلم وذلك لكون العلم يُمثل ضد الكنسية التي كانت ضد العلم لكن ذلك غير صحيح لأن العلمانية في ترجمة لا تعني العلم أبدا لكن هذا الفهم أتى من رؤية البعض للسياق الغربي المسيحي ونظرته للعلم , وفي ترجمة أصل المصطلح الذي يترجم كذلك إلى ( سيكولاريتي Secularity ) وهي تعني لا ديني وفي المعجم الدولي الثالث في ترجمة كلمة secularism أنها تعني اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص، يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية، يجب أن لا تتدخل في الحكومة أو استبعاد هذه الاعتبارات، استبعادا مقصودا، فهي تعني مثلا السياسة اللادينية البحتة في الحكومة". "وهي نظام اجتماعي في الأخلاق، مؤسـس على فكـرة وجوب قيـام القيـم السلوكية والخلقية، على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي، دون النــظر إلى الدين". , وهناك من يرى أن تعريف العلمانية أنها تعني فصل الدين عن الدولة أو بمعــنى أصح فصل الدين عن الحياة , وهي كذلك فصل القيم الإنسانية و الدينية عن الحياة في جانيها العام والخاص ونزع القداسة عن الإنسان وما حوله بحيث يتحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية يوظفها الأقوى لحسابه , بينما يرى البعض أن هذا الفهم لمعنى العلمانية فهم يعتريه القصور ، لذا نجد أن البعض يرى أن هناك إشكالية في الفهم ويحدد المعنى بقوله ليست العلمانية هي ببساطة تعني الفصل بين الدين والدولة كما نفهم للوهلة الأولى أو كما يوهمنا الفريق المضاد لتشغيل الدين في الحياة وكما يصدِّقه المتدينون غفلة، بل هي الفصل بين العقيدة - أية عقيدة – والدولة , وهي للتوضيح ليست فقط استقلالية الدولة عن تأثير الدين، بل أيضا استقلالية الدين عن تأثير الدولة, وإذا كان يحلو للمؤمنين بالعلمانية تذكيرنا دائما بأننا في الدولة العصرية تحكمنا الوضعية فعلينا أن نذكرهم بأن الدين أيضا في الدولة العلمانية الحقيقية له كيانه المستقل الذي يجب ألاّ يخضع لسلطة الدولة وجبروتها، وإذا لم تحسم الدولة أمر علاقتها بالمؤسسة الدينية بين الإخضاع والتحرير، وإذا ما أصرت الدولة على أن تكون المجالس العليا والهيئات الدينية تابعة لها وخاضعة لأمرها فهذا على الأرجح ليس نظاما علمانيا وضعيا , وهناك من يذكر تفصيلات في التعريف وإشكالياته , فقد اختلف الكثيرين من المفكرين والفلاسفة العرب في تعريف العلمانية , فكل منهم عرفها طبقا لمؤيد ومعارض، على سبيل المثال يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويـرى استبداله بفكـرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة", في حـين يرى د.وحيد عبد المجيد الباحث المصري أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية -منهج عمل - وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئـون الدينية، ويميـز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطًا، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا-أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين و السياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد والأدب) وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية,ويقف د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة- و كذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبي وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزًا على العلم والتجربة المادية , وقد يوضح البعض معنى أخرى ذلك أنها (دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم ) , ويعرفها كذلك البعض بتعريف يكون فيه نوع من التجديد في الخطاب بقولهم أنها نموذجا حياتيا يقوم على إحلال القوى المادية والطبيعية محل الإله في نموذجنا الإدراكي للحياة ومنهج تعاملنا معها .
المبحث الثاني
الصراع بين التيار الديني وبين التيار المنادي بالعلمانية حول المفهوم والتطبيق
الباب الأول
أسباب الصراع بينهما
من الواضح لأي مطلع على مفهوم العلمانية وتعاريفها يجد أن هناك صراع حول ماهية المفهوم مما يؤدي إلى فهم خاطئ بين الطرفين , و يكون هناك عدم قبول للرأي الآخر مع معارضه شديد قد تصل في بعض الأحيان إلى التهجم وإلى ما ذلك , فنجد أن البعض في التعريفات السابقة يرى في العلمانية أنها شر محض وأنها انفلات من الدين , وبناء على ذلك عرفت العلمانية بأنها فصل تام للدين عن الحياة , وذلك لأنهم يرون أن من أتى بهذه المفاهيم والمصطلحات هو أناس قد انبهروا بثقافة غربية كفرية وجاءوا بها لكي يطبقونها كما هي ولهذا كانت رؤيتهم عدائية , لذلك هم يرونها أنها هجمة عدائية من الغرب فيذكر أحدهم ويقول لما اتصلت هذه الأمة بالأمم الأخرى ذات الأنماط الحضارية المختلفة، فإن هذه الأمة قد تأثرت بكيد أعدائها من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والملاحدة حتى أصبح المتأثرون بفكر أولئك الأعداء أمة داخل الأمة الإسلامية , وهذا الفكر الذي يعرف بتيار "العلمانية" ذلك المصطلح الغربي الذي يوحي ظاهره أن طريقة الحياة التي يدعو إليها تعتمد على العلم وتتخذه سنداً لهـا ليخدع الناس بصواب الفكرة واستقامتها , حتى انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العـلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره، وقد أوصلهم ذلك إلى البعد عن الدين بعداً واضحاً وكذلك يرى البعض كما قلنا سابقاً بإنبهار البعض بالثقافة الغربية لذلك يذكرون أنه من العجيب الذي لا يوجد له تفسير مقنع هو انتقال الدعوة العلمانية من المجتمعات الأوروبية التي عانت من طغيان الكنيسة وتحريفها إلى مجتمعات المسلمين , الذين نقلوا العلمانية ليسوا سوا مجموعة صغيرة من أبناء المسلمين الذين اتصلوا بالأوروبيين في فترات لاحقة فرأوا ما هم عليه من تقدم علمي وتقني هائل في أعقاب تركهم لدينهم فظنوا أن سبيل نهضة المسلمين وتقدمهم هو ذات السبيل التي سلكته أوروبا , وكذلك رؤية التيار الديني للمنادين بتطبيق العلمانية على أنهم يفرضون رؤية غربية على واقع مسلم له خصوصيته وهذا ما ذكره أحدهم فقال : فالأصل لدى العلمانيين أن يبقى الطابع الغربي سائدا غالبا، على عاداتنا وتقاليدنا في المأكل، والملبس، والزينة، والمسكن، والعلاقة بين الرجال والنساء، ونحوها ضاربين عرض الحائط بما قيد الله به الفرد المسلم والمجتمع المسلم من أحكام الحلال والحرام , وجميع الرؤى التي تنبع من التيار الديني المحافظ جميعها متفقة على أن العلمانية عقيدة معاصرة تتبنى المنهج اللاديني في الحياة وأنها تتعارض مع مبادئ الإسلام وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ما يجعل لديهم تصور أن من ينادي بالعلمانية هو شخص يريد أن يزعزع الثوابت المسلم بها الغير مختلف فيها ويريد بديل لها في النظام الحياتي للبشرية , لذلك كانت المجابهات القوية بيـن التيار الدينـي والتيار المنادي بالعلمانية الذي يرفض جميع التصورات التي توجد عند التيار الديني , و الرؤى التي تزيد كذلك من التصور الذي يجعل من التيار الديني أن يكون رافضاً لفكرة العلمانية , هي أن العلمانية في نظرهم أنها منقسمة من علمانية جزئية تريد تحييد الدين عن الأمور السياسية وغيرها وأن الدين يقتصر على الأمور التي تتعلق بالعبادة , وعلمانية شاملة تريد أن تلغي الدين عن كافة الأمور الحياتية , وكذلك قد تعقد مقارنات بين العلمانية والإسلام في أمور الحياة من اقتصاد ونظام للحكم وغيره وذلك على ضوء الكم المعرفي الذي لدى التيار الديني حول مفهوم العلمانية . أما الاتجاهات المنادية بالعلمانية تنقسم إلى عدة أقسام منها ما ينطبق مع ما قاله التيار الديني بأنه يفصل الدين عن الحياة ومنها ما يكون في الوسط وهو يعتبر الدين شكلي ولا دخل له في النظام السياسي ومنها ما يعتبر أن الدين شيء أساسي لكن النظام السياسي لا يخضع له من الناحية المؤسسية , ولكن في رؤية التيار الديني لها أنها سواء , وهذا ما جعل القسم الأخير إلى المطالبة بإعادة تعريف العلمانية وأن ما يطرحه التيار الديني يشوبه الكثير من المغالطات وأن ذلك هو السبب في التخلف الذي نعيش فيه , لذلك كان الرؤية لدى التيار المنادي بالعلمانية أن العلمانية في تطبيقها ليست بالمعنى الحرفي لها بل أنها تعني أن الكيان السيـاسي لا يتعـرض لضغوط دينية أين كانت هذه الضغوط و أن الدين كـذلك لا يخضـع للسياسـة ويكـون مستقـل عنها , ولكن هناك من الأشخاص من المنادين بالعلمانية يريدون أن يطبقوا العلمانية كما هي أي فصل الدين عن الحياة وذلك بتباعهم المنهج الماركسي الذي يرى أن الدين هو أفيون الشعوب ولا بد من إزاحته عن الطريق وهذا ما تم تطبيقه في الدولة التركية الحديثة والصين الاتحاد السوفييتي , وكل تيار يريد أن يقد النموذج الأفضل والذي يعبر عن أنه قادر على تحقيق السعادة للشعوب مع إقصاء للتيار الآخر . فالصراع كما رأينا يكمن في الأساس في طريقة الحكم ويأتي بعد ذلك النظام الاقتصادي في الدولة و بعد يأتي كذلك النظام الاجتماعي والحقيقة أن كل تيار يكون لديه تيارات من الداخل مما يكون صراعات داخلية في نفس التيار فالتيار الديني مكون من عدة مذاهب فقهية وعقدية كذلك التيار المنادي بالعلمانية نجد أنه يكون فيه عدة اتجاهات مما يؤدي إلى وجود عدة صيغ لتكوين أي نظام .
الباب الثاني
أوجه التباين بين مفاهيم التيارين حول العلمانية
في ظل الصراع القائم بين التيار الديني والتيار العلماني حول المفهوم والتطبيق نرى في التيارين تيار وسط معتدل يؤصل روح التواصل مع جميع التيارات والتوجهات الراغبة في تحقيق التقدم والنهضة فلذلك نرى من التيار الديني أن العلمانية حل لمشكلة لبنان وأنه يجب أن ننتقي ما ينفعنا وما يكون متوافق مع مصالحنا , فالتوافق بين التيارين في مفهوم العلمانية وتطبيقها في أمور كثيرة منها في السياسة ومنها في العلوم الأخرى , حيث أنه تم الاتفاق على تفعيل المنهج التجريبي في التوصل إلى الحقائق المادية مع الإيمان بالحقائق الثابتة في العلوم من دون وجود أي اعتراض إلا من حالات متطرفة , فوجود دعوة إلى التعامل مع المصطلح وفق المعطيات المطروحة هي أبرز التوافق بين التيارين ,ولذلك هناك توافق في الرأي حول مسـألة أن العلمـانية ليست نموذج جاهز للتطبيق وأن كذلك الدين لا يمكن الإنفكاك عنه , ونرى في العالم نماذج علمانية دينية في نفس الوقت ؛ وفي عالمنا العربي نجد من ينتمي إلى التيار الديني وهو علماني ومنهم من هو علماني ينتمي إلى التيار الديني , فهذه الانتماءات كانت نتيجة لفهم العلمانية فهم صحيح وأنها الآن يجب أن تبرز وتفهم لأن العالم يعيش في ظل العلمانية حيث أن تكوين الدول على أساس علماني وليس على أساس ديني وهذا يجعل التعايش في ظل المصطلح ممكننا , والأمر الآخر أن التيارين يتفقان على نجاح العلمانية في الدول الغربية, وكذلك من التباين في وجهات النظر الدعوة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان ؛ فنحن نرى هذه الدعوة تكرس مفهوم العلمانية الصحيحة التي لا تعارض الدين لكن ترسخ المواطنة في المجتمعات ولذلك نرى في مصر وجود حزب الإخوان المسلمين وهم يمثلون التيار الديني وفي الكويت دخول الإسلاميين في مجلس الأمة , فأوجه التباين كثيرة بين التيارين في فهم المصطلح وتنصب جميعها حول خدمة المجتمعات ولكن حينما يأتي التطرف يكون هناك الاختلاف بينهم .
الخاتمة
أزمة فهم المصطلح بين الغلو والإجحاف
إن الأزمة التي نعيشها في واقعنا العربي والتي تجاوزها الغرب منذ أمد بعيد هي أزمة فهم المصطلح الجديد و الذي قد يكون أتى من الغرب , فهذه الأزمة ولدت لدينا محاربه لما هو جديد وكذلك فرض الجديد على الواقع دون معرفة احتياجات الواقع , ففي مصطلح العلمانية والذي تأرجح فيه أقوال وأفعال التيار الديني والتيار المنادي به من نسف لكل ما جاءت به وكذلك فرض النموذج العلماني الذي يدعو إلى فصل الدين عن الحياة في مجتمعات مسلمة يغلبها الطابع المحافظ مما يؤدي في نهاية الأمر إلى صراع وعدم تقدم وقلة المبادرة , وكل هذا بسبب الفهم الخاطئ للمصطلح , ومما توصلت إليه في هذا البحث أن سبب هذه الأزمة وهذا الصراع هو عدم التوضيح الكامل في بداية نقل هذا المصطلح للمجتمعات العربية والمسلمة مع وجود حالة مناوئه للغرب وكذلك كما قلنا في السابق فرض المصطلح كما هو ؛ وفي مقابل ذلك عدم التنازل لفهم المصطلح وبذلك أوصي بتكوين رابطة ثقـافية تعني بتحـرير المصطلحـات وتقديمه في قالب يناسب هذه المجتمعات وهذه الرابطة تكون مكونه من علماء دين وعلماء سياسية ومثقفين مهتمين بأمور المصطلحات وما يأتي من الغرب من أمور تنفع المجتمعات وتطورها وتوضيحها حتى يزال اللبس القائم بين التيارين ويكون لها أعمال تتبناها الدول والمؤسسات التعليمية التي ينطلق معها الفكر الرشيد ويكون هناك مؤلفات وندوات ومحاضرات تدعم هذا التوجه الذي يرسخ هذا الأمر .