تلخيص أزمة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الثالث
في
أزمة المشاركة
توطئة :ليس ثمة شك في أن المشاركة السياسية تمثل بحق أحد مقومات الحداثة السياسية,ويشير البعض إلى ذلك بقولة : "إن المجتمع التقليدي يفتقر إلى المشاركة , بينما المجتمع الحديث يتمتع بها " .
وعلى الرغم من الاهتمام البالغ بقضية المشاركة السياسية من جانب علماء الاجتماع والسياسة فإنه ليس ثمة اتفاق بين هؤلاء العلماء بصدد مدلول عبارة المشاركة السياسية . فعلى سبيل المثال يعرف هنتجتون المشاركة السياسية بأنها لا تعدو أن تكون : نوعا من النشاط يقوم به المواطنون العاديون بهدف التأثير في عملية صنع القرار الحكومي.
ويعرف أحد الباحثين العرب المشاركة السياسية بأنها : "عملية تطوعية أو رسمية تعبر عن اتجاه عام رشيد وتتضمن سلوكا منظما ومشروعا متواصلا,يعكس إدراك مستنيرا لأبعاد الدور الشعبي في عالم السياسة ويتسلح بالفهم العميق للحقوق والواجبات ,ومن خلال هذه العملية يلعب المواطنون دورا إيجابيا في الحياة السياسية فيما يتصل باختيار القيادة السياسية على كافة المستويات,وتحديد الأهداف العامة,والمساهمة في صنع القرار السياسي,ومتابعة تنفيذه بالمتاح من أساليب الرقابة والمتابعة والتقويم".
ويلاحظ أن القائل بهذا التعريف على قناعة بأن المشاركة السياسية هي عمل إيجابي, وبتالي فهو يرفض الرأي القائل بأن العزلة السياسية تمثل في بعض الأحيان نوعا من المشاركة السياسية .
ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف بين الباحثين بصدد تعريف المشاركة السياسية فإننا نتفق مع الرأي القائل بأن المشاركة تشمل كل ما يلي ؛
1_ مجموعة التصرفات التي من خلالها تنقل الجماهير مطالبها إلى الصفوة الحاكمة .
2_ جملة الجهود التي تبذلها الجماهير بهدف التأثير في سلوك الحكام .
3_ عملية التمثيل البرلماني .
4_ تقلد المناصب السياسية الرسمية .
5_ محاولات تغيير الواقع السياسي
6_ تأليف الكتب ونشر المقالات التي تنصب على معالجة وتقويم أمور المجتمع قاطبة
7_ قراءة الكتب والصحف والمجلات,والاستماع للأذاعات ووكالات الأنباء من تحليلات تتصل بشئون العامة للمجتمع
8_ يرى البعض أن العزلة_حينما تكون تعبيرا عن رفض الواقع السياسي القائم_ تمثل إحدى صور المشاركة السياسية .
أزمة المشاركة :يرى البعض أن التحديث السياسي لابد وأن يتمخض عن ظهور الرغبة في المشاركة السياسية لدى قطاعات أوسع من المواطنين داخل المجتمع الوالج لتوه إلى عالم الحداثة,سواء تمثل مظهر الحداثة في التحول بنظام الدولة من الملكية إلى الجمهورية,أو التخلص من نير الاستعمار والانتقال إلى مرحلة جديدة قوامها الاستقلال .
كما لابد وأن تكون من شأنه ظهور أنماط جديدة للمشاركة السياسية ,فضلا عن تنامي أعداد المتطلعين إلى المشاركة في الحياة السياسية.وهنا تطل أزمة المشاركة برأسها عندما تقوم الصفوة الحاكمة بوضع العراقيل أمام الراغبين في المشاركة السياسية , وتضييق الخناق عليهم , على نحو يؤدي إلى تضاؤل أعداد المشاركين في الحياة السياسية .
وتتمثل أزمة المشاركة السياسية إحدى السمات البارزة في بلدان العالم الثالث ويرتد ذلك إلى ميل القيادات السياسية على تركيز السلطة في قبضتها , وإقامة نظم ديكتاتورية تسلطية,وكان لسان حال تلك الصفوة يقول أنه بما أننا نحن اللذين خلصنا هذا البلد من ربقة المستعمر إذن فهو يعد ملكا خالصا لنا نتصرف به وبمستقبله كيفما أردنا
ويلاحظ أن اغلب الصفوات التي اعتلت سدة الحكم في بلدان العالم الثالث غداة استقلالها قد راحت تجرم قيام الأحزاب السياسية وغيرها من المنظمات اللارسمية,وقد رفضت وجود الاحزاب وأوجدت نظاما للحزب الواحد وهو المتصرف الوحيد بالحياة السياسية ويهيمن على مؤسسات الدولة قاطبة ويمثل في ذات الوقت تكريسا لسيطرة رئيس الدولة الذي هو بطبيعة الحال رئيس الحزب أيضا على مقدرات الأمور داخل المجتمع سيطرة مطلقة.
ففي زائير _ على سبيل المثال_اعتلى موبوتوسيسيكو سدة الحكم في البلاد عام 1965 إثر انقلاب عسكري ثم ما برح أن ألغى سائر الأحزاب القائمة وقتذاك وظلت زائير بلا أحزاب إلى عام 1970 عندما قام موبوتو بتأسيس حزب الحركة الشعبية,ولقد ظل حرب الحركة الشعبية ومن فوق موبوتو محتكرا للحياة السياسية الزائيرية , ومهيمنا على مقدرات المجتمع منذ عام 1970 حتى عام 1997 عندما تمت الإطاحة بالرئيس الزائيري من خلال عملية عسكرية تزعمها لوران كابيلا الرئيس السابق الذي غي أسم الدولة من زائير إلى الكونجو الديمقراطية.
ومن الأمثلة أيضا نجد تونس أن الحبيب بورقيبة (أحد قادة الجيش) قد تمكن في عام 1957 من الإطاحة بحكم الباى و إعتلاء سدة الحكم في البلاد منذ يوليو في ذات العام , ثم ما برح أن أنشاء ما يعرف بالحزب الدستوري الاشتراكي لكي يسيطر من خلاله على مظاهر الحكم بحيث لم تكن هناك فواصل بين أجهزة الحزب وأجهزة الدولة , وقد ظلت الأوضاع قائمة حتى حلول عقد الثمانينات حيث بدأت البلاد تجربة تعددية حزبية شكلية .
وفي الجزائر لم تكن الأمور مختلفة عن نظيرتها في تونس , حيث ارتكز النظام الجزائري منذ الاستقلال عام 1962 على دعامتين هما :
1_ تعاظم اختصاصات وصلاحيات رئيس الدولة,حيث راح بن بلا_ أول رئيس جزائري_ يجمع في قبضته مناصب رئيس الدولة ورئيس الحكومة والأمين العام للحزب الحاكم, بالإضافة إلى وزارات الداخلية والمالية والإعلام . وقد استمر هذا الوضع خلال عهد خلفه بومدين,وكذا الشطر الأكبر من عهد الشاذلي بن جديد الذي انتهى مع بداية عقد السبعينيات
2_ الحزب الواحد ممثلا في جبهة التحرير الوطني .
وهكذا فإن البيئة السياسية في البلدان الأفريقية ظلت سنين طوال _ حسب قول البعض _ بيئة الحزب الواحد ,حيث يقبض الحزب على السلطة , ويظل قابضا عليها بغض النظر عن شرعية ذلك . إن الحزب في أفريقيا _حسب هذا الرأي_ هو المؤسسة السياسية الفعلية العليا المهيمنة, أما المجلس التشريعي فلا يبدو في كثير من الأحيان أكثر من واجهة شكلية ليست ذات قيمة حقيقية, وإذا كان المجلس التشريعي في أوربا و أمريكا هو ميدان للحوار الحزبي, فإنه في أفريقيا مجرد نموذج مصغر للحزب الحاكم يضم صفوته, ويمثل ميدانا لمناقشتها التشكيلية والمتفق عليها سلفا في أوراقة ذلك الحزب .
ونظام الحزب الواحد لم يقتصر وجوده على الدول الأفريقية المذكورة سلفا إذ فضلا عن الأمثلة المتقدمة فقد عرفت نظيرات لها في كل من مصر عبد الناصر , والسودان النميري , وزامبيا كاوندا , سوريا الأسد , والعراق حسن البكر وصدام , إلى غير ذلك من عديد من الأمثلة أخرى.
لقد ظلت غالبية صفوات العالم الثالث في سبيل إحكام قبضتها على لجام الحكم في بلادها تتمسك بنظام الحزب الواحد.
وتشير الملاحظة إلى أن نظم الحزب الواحد كانت تشيع أجواء إرهابية قمعية داخل أروقة الحياة السياسية لبلدانها, حيث كانت الأقلية المسيطرة على الحزب تلجأ إلى أساليب الطرد والتطهير لكي تتخلص من المعارضة داخل صفوف الحزب.
وهكذا فقد خاضت غالبية جماهير العالم الثالث تجربتها السياسية الأولى _ غداة الاستقلال _ داخل حظيرة نظم الحزب الواحد , في رحاب حياة سياسية قوامها التآمر . والتجسس , والإرهاب , والتنكيل , والقمع , فعاشت تلك الجماهير أجواء سياسية مفعمة بالخوف والذعر من عالم السياسة , من الساسة, ومن كل ما هو سياسي.
وفي ظل تلك الأجواء كان من الطبيعي أن تنفر الجماهير من المشاركة السياسية, وبتالي تشيع قيم السلبية واللامبالاة والاغتراب في صفوف الرعايا,لكي تتدني وتتقلص وتتضاءل معدلات مشاركتهم في الحياة السياسية ,فتحت تأثير الخوف يتردد الأفراد كثيرا في الإقبال على الحياة السياسية, إذ يقتنع المرء بأن خوضه عالم السياسة سيعرضه للإهانة في شخصه , وللضرر في مصالحه, وذلك انطلقا من تصوره للسلطة السياسية على أنها مجرد أداة للقمع في يد الصفوة الحاكمة, ولذا يجنح الفرد إلى السلبية السياسية المنجية. وكأنه يردد القول العربي القديم" إن السلطان من لا يعرف السلطان , وصاحب السلطة كراكب الأسد الناس منه في خوف وهو من الأسد أخوف" وغير ذلك من الأقوال المحذرة من سوء عواقب السياسة.
وعلى الرغم من اتجاه العديد من بلدان العالم الثالث خلال العقدين الأخيرين إلى الأخذ بنظم التعددية الحزبية إلا أن الصفوات الحاكمة داخل الكثير من هذه البلدان لا تسمح للقوى والجماعات السياسية ذات الثقل الجماهيري بإنشاء أحزاب تعتبر عنها خوفا من أن يؤدي ذلك إلى زعزعة حكم الصفوة.
ولعل من أوضح الأمثلة على ما تقدم تجربة التعددية الحزبية المصرية المعاصرة , والتي تشهد منذ ولادتها_في أواخر عقد السبعينيات_ حالة ما سيطرة حزب الصفوة الحاكمة (الحزب الوطني) شبه المطلقة على المجلس التشريعي (مجلس الشعب ) وسائر المجالس الشعبية والمحلية, وتكاد الأحزاب في مصر هياكل شكلية ليس لها دور سوى إضفاء واجهة تعددية على واقع النظام بما يزال يخضع_من الناحية الواقعية_ لجل تقاليد وممارسات نظم الحزب الواحد. إذ تشير جميع الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد في ظل التعددية الحزبية الوليدة( بدءا من عام 1984 وحتى يومنا هذا) لم تتسم لا بالحيادية ولا بالنزاهة , حيث كانت كافة إمكانات الدولة تسخر لصالح مرشحي الحزب الوطني, وذلك فضلا عن ما شهدت الانتخابات من تزوير لحساب ذلك الحزب,لكي ينتهي الأمر بالسيطرة شبة المطلقة للحزب الوطني على مقدرات الحياة السياسية المصرية, والحق أن التعددية الحزبية في العالم الثالث هي مجرد تجميل لنظم تقوم على حزب واحد وتكريس لها.
وأما التجربة التعددية الجزائرية والتي كانت في نهاية عقد الثمانينات, وقد اتسمت تلك التجربة بالجدية حيث أفسح المجال في ظلها لكافة القوى السياسية في البلاد أن تنتظم في أحزاب تعبر عن توجهاتها, غير أن الصفوة الحاكمة البلاد كانت تعتقد أن حزبها (حزب جبهة التحرير) قادرة على الفوز في أية انتخابات حتى ولو كانت نزيهة وحقيقية, إذ أسفرت نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات عن انتصار ساحق لأحد الأحزاب الإسلامية وهو حزب ( الجبهة الإسلامية للإنقاذ ) الأمر الذي أفقد العسكريين الجزائريين صوابهم فراحوا يسارعون إلى إلغاء الانتخابات , وعدم الاعتراف بنتيجتها , وحل الجبهة الإسلامية للإنقاذ , واعتبارها كيانا غير شرعي, لذا أيقن الشعب الجزائري أنة لا سبيل إلى زحزحة الصفوة الحاكمة إلا بالعنف, ومازالت الجزائر تعاني حتى يومنا هذا وهذا الصراع جعل استقرار الجزائر في مهب الريح, ولعل هذا ما يوضح لنا الترابط والتداخل والتشابك بين أزمة المشاركة من جهة , وأزمة الشرعية , وأزمة الاستقرار السياسي من جهة أخرى .
على أية حال فإننا بصدد أزمة المشاركة وتأسيسها على ما تقدم نرى أن النظم الحزبية التي أنشأتها يد الصفوات الحاكمة في بلدان العالم الثالث _ غداة الاستقلال_ وما صاحب تلك النظم من أجواء سياسية إرهابية كانت هي السبب الرئيسي وراء تجدر أزمة المشاركة السياسية داخل تلك البلدان.
ويضاف إلى ذلك كأسباب للازمة أن الجماعات الساعية للمشاركة قد تنتظم في منظمات سياسية تنظر إليها الصفوة باعتبارها منظمات غير مشروعة , فتعتمد إلى تشويه صورتها , والحط من شأن وسائلها , والتشكيك في حقيقة أهدافها , ومن ثم اعتقال زعمائها ومطاردة أعضائها ومؤيديها. لذا تلجأ الصفوة الحاكمة إلى تصفية تلك الجماعات واعتبارها منظمات غير شرعية , ولعل أوضح الأمثلة موقف الصفوات الحاكمة في كل من مصر وسوريا وتونس وليبيا و المغرب من جماعة الأخوان المسلمين , وسائر منظماتها .
وثمة أسباب أخرى _بالإضافة للأسباب المشار إليها سلفا_
أولاً : ارتفاع نسبة الأمية داخل أغلب بلدان العالم الثالث, فعلى سبيل المثال نجد أن نسبة الأمية الإجمالية في باكستان – حسب إحصائيات البنك الولي عام 1990- قد بلغت 65% من إجمالي عدد السكان ,وفي الصومال حوالي 76%, وفي مصر حوالي 52% أي أكثر من نصف السكان.
وهذه الأمية في قطاعات واسعة من سكان الدولة وهذا يسبب تدني في معدلات المشاركة للجماهير في الحياة السياسية ,إذ أن الأمية تعني عدم إالمام الفرد بالكتابة و القراءة, وبالتالي فلا ينتظر منه أن يكون على دراية بحقوقه وواجباته لاسيما السياسية منها .لذا تجد اللامبالاة السياسية , وتظاهرة الامتثال التام للسلطة القائمة , والانصياع التام لأوامرها مهما كانت , وعدم الاكتراث بالنشاط السياسي. وكانت هذه الفئة من الناس تتحكم بمسائلها إلى القول العامي"أدي العيش لخبازيه ولو يأكلوا نصه"فهنيئا للخبازين في مجتمع من السلبيين واللامبالين .
ثانياً : استشراء الفقر وشيوع الفاقة داخل قطاعات واسعة من سكان بلدان العالم الثالث, فعلى سبيل المثال نجد أن متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي في موزنبيق –حسب إحصائيات البنك الولي لعام 1992- بلغ 80 دولار فقط, وفي بنجلادش 210 دولار , وفي باكستان 380 دولار , وفي مصر 600 دولار , ونضيف إلى ما تقدم من ما تعانيه أغلب بلدان العالم الثالث سوء بالغ في توزيع الموارد , إذ كما سبق وأن أشرنا نجد أن جل موارد في أغلب بلدان العالم الثالث يكون مرتكزا في يد طبقة قليلة العدد, في حين تعاني الغالبية العظمى من السكان قسوة الفقر ومرارة القحط .
وهكذا فبفعل ندرة الموارد وسوء توزيعها من الجهة الأخرى ترزح غالبية السكان تحت وطأة الفقر, فالمشاركة السياسية تعتبر عن الفقر رفاهية والأفضل لهم العمل للحصول على لقمة العيش وترك المشاركة السياسية للأغنياء , هنا كذلك يبدو التداخل بين أزمتي المشاركة والتوزيع , الأمر الذي يؤكد صحة المقولة , التي قوامها أن ظاهرة التخلف السياسي- ما هي - في النهاية- إلا محصلة لجملة أزمات متداخلة ومتشابكة , تؤدي كل منها إلى الأخرى بطريقة أو بآخر.
____________________________________________________________________
أسم الطالب / منصور اللميع مفرج أبوثنين السبيعي
الرقم الجامعي/ 428105764
الرقم التسلسلي/ 58