أوهام الليبرالية الجديدة
مرسل: الأحد أغسطس 16, 2009 3:50 am
هل يمكن الانتقال إلى الليبرالية الجديدة في بلد متخلف؟
مناقشة المفاهيم
1
ظهر في العقدين الأخيرين في الولايات المتحدة وبريطانيا مذهب اقتصادي إيديولوجي سمي بـ “الليبرالية الجديدة”. ولعل أهم عنصر جديد في هذا المذهب هو دعواه الإيديولوجية التي تبشر بنموذج جديد للدولة، تمارَس السلطة فيه على أساس مبدأ “الكوفيرنانس” governance، على غرار شركات المساهمة في النظام الرأسمالي ذي التقاليد الأنجلوساكسونية، حيث يمارس حملة الأسهم نوعا من “الرقابة” والتوجيه، عند توزيع الأرباح، بهدف دفع المدراء إلى العمل على تحقيق أقصى قدر من الربح للمؤسسات التي يتولون تسييرها. وهذا النوع من ممارسة السلطة في إطار من الرقابة التي يقوم بها المعنيون بالأمر هو مضمون “الكوفيرنانس”، وهي كلمة إنجليزية مشتقة من govern التي تعني في آن واحد “الحكم” بمعنى ممارسة السلطة (الحكومة government) والرقابة والتوجيهcontrol . وإذن فنموذج “الحكم” الذي تبشر به “الليبرالية الجديدة” يهدف إلى تقليص دور الدولة بحيث تكون مهمتها القيام بالتسيير تحت توجيه ومراقبة أولئك الذين يوازي وضعهم إزاءها وضع حملة الأسهم بالنسبة للمديرين في الشركات الكبرى.
وقبل أن نناقش هذا النموذج نريد أن نطرح مسألة ترجمة كلمة governance -التي استعملت للدلالة على هذا النظام- إلى اللغة العربية. وهذا ليس من أجل “الترجمة” ذاتها، بل من أجل استعمالها هنا كمثال نشرح من خلاله الفكرة التي نصدر عنها في إبداء الرأي في مدى مصداقية أو عدم مصداقية التفكير في الشأن العربي من خلال هذه المفهوم.
2
لقد وردت هذه الكلمة في الورقة التوجيهية لهذه الندوة([أ]) مترجمة بلفظ “الحكم” ووضعت في سياق جعلت فيه في موضع المعطوف عليه مع كلمة “دولة” state، هكذا “الحكم والدولة”، مما يعني أنهما يدلان على معنيين مختلفين. إن القارئ العربي يجد نفسه هنا أمام عبارة لا غبار عليها من حيث الاستعمال اللغوي، فالكلمتان عربيتان أصيلتان، ولكن عطف الواحدة منهما على الأخرى بحرف الواو (الحكم والدولة)، يثير من الالتباس والغموض في ذهن القارئ ما يدفعه إلى التساؤل بينه وبين نفسه: “وما الفرق بين مدلول “الدولة” ومفهوم “الحكم” حتى يوضعان مثل هذا الوضع”؟ إن حرف العطف إنما يستعمل عادة للربط بين المتباينات نوعا من التباين، أما المترادفات والمتواطئات والمتقاربات وما في معنى الجزء والكل مثل “الخبز” و”الطعام”، والعطاء والكرم، والساق والرجل الخ، فلا يدخل بينها حرف العطف إلا في العبارات التي تنتمي إلى الخطاب الأدبي الذي يستعمل المجاز والاستعارة والكناية وما أشبه ذلك.
هذا الإشكال يصبح غير ذي موضوع –ربما- إذا وضعنا إزاء اللفظين المذكورين ما يقابلهما في اللغات الأوربية، وخاصة الإنجليزية Governance and the state. إن القارئ في هذه الحالة إما أن يكون على صلة بالمجال التداولي الذي يستعمل فيه هذان اللفظان في هذه اللغة، وفي هذه الحالة فهو “صاحب الدار” كما يقال، وإما أن لا تكون له علاقة بذلك المجال، وفي هذه الحالة يمكن أن يرجع إلى القواميس الإنجليزية اللغوية، أو المتخصصة، وسيجد من المعاني والشروح ما يزيل الغموض والالتباس.
علام يدل هذا؟
إنه يدل على أن المرجعية العربية بالنسبة للفظتين المذكورتين غير المرجعية الأوروبية. وليس في هذا عيب في اللغة، فكثير من الكلمات المترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية لا يمكن استيعاب معناها إلا بالرجوع بها إلى الحقل الدلالي العربي. نحن هنا إذن أمام ظاهرة اختلاف المرجعية : “الحكم” و”الدولة” كلمتان تدلان في اللغة العربية على معنى، بينما يحيل مقابلهما في اللغات الأوروبية الحديثة إلى معنى آخر مختلف، أو أدق أو أوسع، أفقر أو أغنى الخ.
لفظ “الدولة” في المرجعية العربية من “دال يدول دولة”، ويقال عن الشيء يكون مرة في هذا ومرة في ذاك، فهو يفيد معني التناوب والانتقال من يد إلى أخرى، ومنه تداولُ المال، وتداول السلطة alternance الخ. وقد أخذ هذا اللفظ يشيع بعد انتقال “الأمر” (= الحكم) من الأمويين إلى العباسيين وصار أنصار هؤلاء يقولون : “هذه دولتنا”، أي نوبتنا في ممارسة السلطة. أما اللفظ المقابل له في اللغات الأوربية الحديثة Etat, State فيدل في الاصطلاح السياسي –وهو المقصود هنا- على الهيأة أو المؤسسة التي تدبر الشأن العام في بلد ما، تدبيرا يقوم على النيابة على الجميع في ممارسة السلطة، والمحافظة على النظام، والفصل في المنازعات والحكم بين الناس، واللجوء إلى العنف لتطبيق القانون الخ. وهذا المعنى حديث في اللغة العربية ولكنه صار شائعا مقبولا ومفهوما (إلى درجة ما!).
هذا باختصار عن مصطلح “الدولة”، أما لفظ “الحكم” فهو يشير في العربية إلى معنيين رئيسيين، أحدهما : الفصل في أمر متنازع فيه، ومنه القرار الذي يتخذه القاضي لجعل حد لخصومة أو نزاع الخ، وهذا يقابله في اللغات الأوربية لفظ آخر judgment, jugement, . وثانيهما المنع والردع، ومنه الحَكَمة وهي “ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه يمنعه من مخالفة صاحبه”. ومن هذين المعنيين أخذ معنى “الحُكم” الذي يعني ممارسة السلطة لتدبير الشأن العام والفصل في الخلافات والنزاعات الخ. أما لفظ governance، الذي وضع لفظ “الحكم” كترجمة عربية له هنا، فهو أصلا يفيد -في الإنجليزية- معنى الرقابة والتوجيه والتدبير، وأيضا معنى السيطرة وممارسة السلطة، وهو غير الحكومة بمعنى الجهاز المعروف (وزارة …) gouvernement, government كما أنه لا يدخل في علاقة اشتقاقية مع اللفظ الإنجليزي الذي يفيد “الحكم” بمعنى “حكم القاضي”.
وإذا نحن أردنا أن نحدد صلب الاختلاف بين معنى لفظ “الحكم” كما يتحدد في اللغة العربية ولفظ governance كما يتحدد معناه في الإنجليزية، وفي السياق الذي استعمل في العبارة السابقة التي جمعت بينهما، قلنا: إن هذا الأخير يفيد معنى لا يفيده الآخر: معنى “الرقابة” التي قد تكون من أعلى إلى أسفل، أو من أسفل إلى أعلى. وهذا ما يلح منظرو “الليبرالية الجديدة”، إذ يؤكدون أن المقصود بالـ governance هو الجمع بين الرقابة من أعلى (الدولة) والرقابة من أسفل (منظمات المجتمع المدني الخ). وواضح أن هذا المعنى يستحيل استحضاره استحالة تامة من مجرد تأمل معنى لفظة “الحكم” كما تتحدد في اللغة العربية. من أجل ذلك فأنا أفضل استعمال هذا المصطلح كما ينطق به في مرجعيته الأصلية “كوفيرنانس”، كما هو الشأن في عدد من المصطلحات مثل ليبرالية، ديموقراطية، جغرافية، فينومينولوجية، فلسفة الخ، وذلك إلى أن نهتدي إلى لفظ عربي مناسب.
3
قد يتساءل البعض: ولماذا هذه الاستطرادات اللغوية؟ ألم يكن يكفي إبراز هذا المعنى في البداية والانتقال إلى صلب الموضوع؟
وأجيب : لقد قصدت بها إثارة الانتباه إلى أن موضوع هذه الندوة يطرح مشكلة مماثلة لهذه التي شرحناها بصدد اللفظين : حكم، دولة. فالمطلوب منا في هذا المحور الأول، حسب ما نصت عليه الورقة التوجيهية، هو أن ننظر في “مفهوم “الكوفيرنانس” وتطوره ومساهمته في التنمية والتخفيف من الفقر” في البلاد العربية. وهذا “يقتضي : 1) النظر في مدى تقدم عملية الإصلاح السياسي في العالم العربي بما في ذلك محاولات الدمقرطة وتحرير الاقتصاد. 2) النظر فيما إذا كان ذلك قد ساهم في توسيع دائرة مشاركة الجميع والرفع من درجة الفعالية والمسؤولية والشفافية والتمثيلية في مؤسسات الدولة. 3) رصد الدلالات والمرامي والبرامج الهادفة إلى تحسين أنماط “الكوفيرنانس” في العالم العربي من أجل ضمان تنمية اجتماعية واقتصادية والتقليص من الفقر.
وعلى أساس هذه المقاصد تعرِّف الورقة التوجيهية مفهوم “الكوفيرنانس” بكونه : “يحيل إلى عملية ممارسة السلطة بالمعنى الشامل للكلمة، فهو يضم ليس فقط الحكومة التي تتألف من مؤسسات وفاعلين مكلفين بممارسة السلطة، بل يشمل أيضا عناصر مماثلة تنتمي إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني. إن مفهوم “الكوفيرنانس” يراد به الإمساك بظاهرة معقدة، قوامها آليات ومؤسسات وفاعلين في الدولة وسوق ومحيط اجتماعي، وأنواع التداخل القائمة بين جميع هذه العناصر، كل ذاك في مقاربة شمولية ومنهجية. و”الكوفيرنانس” الصالح يتميز بخصائص أساسية مثل الشفافية والمسؤولية والفعالية والمشاركة العامة وحكم القانون. إنه الحرص بدون هوادة على أن تسود هذه الخصائص الأساسية المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي”.
وواضح أن المرجعية المباشرة في هذا التصور لـ “الكوفيرنانس” هي النظرية الاقتصادية المعروفة بـ “الليبرالية الجديدة” Neo-liberalism، كما أبرزنا مضمونها في الفقرة الأولى من هذه المداخلة. وقد أثارت هذه النظرية، وتثير، جدلا واسعا بين الاقتصاديين حول مدى صدقها وصلاحيتها مما لا شأن لنا به هنا. وما نريده نحن من الإشارة إليها أمران: أولهما أنها هي نفسها النظرية التي تطبق بصورة أو أخرى في العالم العربي بتوصية من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والتي تشكل الخوصصة والانفتاح أبرز مظاهرها. ثانيهما أن المهمة التي رسمتها الورقة التوجيهية لهذه الندوة هي : تقويم عملية تطبيق هذه النظرية ونتائجها في العالم العربي بالمقارنة مع “أنماط الدولة” التي عرفتها الأقطار العربية في العقود الأخيرة. ومعلوم أن هذه الأنماط صنفان: 1) صنف يستوحي أو يطبق “النظام الرأسمالي”، أساس الليبرالية الجديدة هذه، إما منذ البداية (الاستقلال) كالمغرب ودول الخليج… وإما منذ تدشين اختيار “الانفتاح” في الثمانينات من القرن الماضي كمصر. 2) وصنف ظل يستوحي أو يطبق “النظام الاشتراكي” منذ فترة ازدهار الفكر الاشتراكي في العالم العربي (الستينات من القرن الماضي بصفة خاصة)، كالجزائر ثم سورية والعراق وليبيا…
يتعلق الأمر إذن بتجربتين مختلفتين تستند كل منهما إلى نظريتين متباينتين بل متناقضتين في كثير من أسسهما وتطلعاتهما. والمهمة التي يمكن أن أدعي إمكانية القيام بها هنا تقع خارج المجال التطبيقي وخارج البحث الميداني، فذلك ما ليس من اختصاصي. ومع ذلك، فإذا نحن أخذنا بعين الاعتبار الحالة العامة في العالم العربي، كما تصفها الأدبيات الاقتصادية والسياسية الراهنة، جاز القول إن أيا من التجربتين لم تحقق الأهداف التنموية المرجوة منها، وإذن يجب البحث في أسباب فشلهما معا. يمكن أن يقال إن “التجارب الاشتراكية” التي استوحتها بعض الدول العربية قد فشلت أيضا في مواطنها (الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي على العموم)، وهذا صحيح، ولكن هذا الحكم لا ينسحب على التجارب الأخرى التي سلكت منهجا آخر في تطبيق النظرية الاشتراكية كالدول الإسكندنافية، كما لا ينطبق على إنجازات الأحزاب الاشتراكية في البلدان الأوروبية الأخرى، في مجال الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي وتعويضات البطالة وغير ذلك مما يندرج في أهداف الاشتراكية.
ونحن لا نريد أن نصل إلى نتيجة تقرر أن الفشل ليس هو فشل النظرية بل فشل التطبيق، فهذا كلام عام، وهو موضوع آخر ليس من اختصاصنا الخوض فيه. ما نريد طرحه هنا شيء آخر يفصح عنه السؤال التالي: هل من الممكن تطبيق نظرية، نبعتْ من وضع معين، في وضع آخر مختلف؟
هذا السؤال، طرح في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، من منظور “ماركسي” في العالم الثالث عموما، طرح بصيغة : “هل يمكن الانتقال إلى الاشتراكية في بلد متخلف؟”. ونحن نعتقد أنه لا شيء يمنع من طرح هذا السؤال نفسه اليوم بصدد “الليبرالية الجديدة”، فنقول: “هل يمكن الانتقال إلى الليبرالية الجديدة في بلد متخلف؟”. وما يجعل طرح هذا السؤال مشروعا هو أن الأمر يتعلق ببنيتين إيديولوجيتين، متشابهتين من حيث التركيب، وإن كانتا متناقضتين من حيث الاتجاه، كما يتبين من الجدول التالي الذي نورد فيه المفاهيم الرئيسية والمتقابلة، تقابل تضاد في البنيتين، (بدون ترتيب مقصود):
الإيديولوجيا الماركسية النظام العالمي الجديد
الاشتراكية الليبرالية
لاستقلال الاقتصادي الاندماج في السوق العالمية
الاستقلال الوطني العولمة
القومية الأقليات
حقوق الشعوب حقوق الإنسان
التأميم الخوصصة
اقتصاد الدولة نهاية الدولة
تدخل الدولة نهاية السياسة
حرق المراحل نهاية التاريخ
صراع الطبقات صراع الحضارات
الجماهير الكادحة المجتمع المدني
التنمية المستقلة - التصنيع التنمية المستدامة/ البشرية
القضاء على الاستغلال التقليص من الفقر
الدولة الكوفيرنانس
الإيديولوجيا الثقافة
المقاومة الإرهاب
4
من النظر إلى هذا الجدول يتبين أن “الكوفيرنانس” يقع بديلا عن “الدولة”، و”الفقر” مكان “الاستغلال” وهكذا. وبما أن الإيديولوجيا الأولى أسبق زمنا من الثانية في العالم العربي خلال المرحلة موضوع الحديث هنا، (الخمسينات/الثمانينات من القرن الماضي)، فإن “محاسبة الدولة” في العالم العربي، سواء كانت من هذا النمط أو ذاك، على ما أنجزته في “مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية والحد من الفقر” الخ، معناه في الحقيقة محاكمة إنجازات الإيديولوجيا الأولى بواسطة وعود الثانية (محاسبة مضامين عناصر العمود الأول من الجدول بواسطة مقابلها في العمود الثاني)! والمشكلة الأساسية في هذه المحاكمة ليست في الاختيار الإيديولوجي الذي يمكن التعبير عنه بهذا السؤال: من يحق له أن يحاكم من؟ بل المشكلة في الحقيقة سابقة لمثل هذا السؤال، إنها نفس المشكلة التي حللناها في بداية هذه المداخلة عندما كنا بصدد مناقشة الطريقة التي تتم بها الترجمة عندنا في معظم الأحيان، كما هو الحال في ترجمة لفظ governance بـ “الحكم”. أقصد بذلك الترجمة/النقل من المعجم بدل الرجوع إلى المرجعيات الخاصة باللفظ الذي يراد ترجمته واللفظ الذي يراد وضعه كمقابل له.
إن نقل البنيات الإيديولوجية من مرجعياتها الأصلية إلى فضاء آخر مباين، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتاريخيا، لا يختلف في شيء عن نقل لفظة/مصطلح من لغة إلى أخرى. إن الأمر يتطلب اعتبار خصوصية الطرفين كليهما. ولكي أوضح فكرتي أكثر أطرح الأسئلة التالية: ما علاقة البنيتين الإيديولوجيتين المذكورتين بالعالم العربي؟ هل خرجت إحداهما، أو كلتاهما، من جوف الوضع العربي؟ هل كانت الأرض العربية حبلى بهما؟
الجواب معروف! لقد وردت –أو استوردت- البنية الإيديولوجية الأولى إلى العالم العربي، ابتداء من منتصف الخمسينات بكيفية خاصة، فتبنى بعض أقطاره بعض عناصرها لبعض الوقت… وبمجرد ما انحلت عراها في موطنها ودخلت في عالم “كان” وردت، وترد على العالم العربي، البنية الأخرى، بنية الليبرالية الجديدة، وهاهي معظم أقطاره تتبنى بعض عناصرها! وفي كلتا الحالتين واجه العالم العربي ويواجه مشكلة التعامل مع هذا “الوارد”. إنها مشكلة عملية معقدة تفرعت عنها عدة مشاكل عملية ونظرية!
لنذكر ببعض المعطيات التاريخية:
تنتمي البنية الأولى إلى الماركسية، ومعروف أنه بناء على تحليل الاقتصاد الرأسمالي، كما كان في القرن التاسع عشر، استنتج كارل ماركس (ويجب أن لا ننسي أنه محلل اقتصادي قبل كل شيء)، أن تناقضات هذا النظام ستؤدي في النهاية –عبر صراع البروليتاريا مع البرجوازية- إلى قيام النظام الشيوعي في الأقطار الأكثر تصنيعا، وهي أوروبا في ذلك الوقت وعلى رأسها ألمانيا. فكان من شروط قيام الثورة الاشتراكية عنده –الثورة التي كان يرى أنها ستقضي على الاستغلال والفقر- هو تطور قوى الإنتاج الصناعية والتكنولوجية إلى أعلى مستوى في أوروبا كلها، الشيء الذي سيزيد من حجم الطبقة العاملة الأوربية ويعمق من وعيها بوضعيتها، فتصبح بذلك البلدان الأوربية كلها –أو الرئيسة منها على الأقل- تعيش “الوضع الثوري” من خلال “اتحاد الطبقة العاملة” فيها داخل حركة ثورية “عالمية” واحدة، غايتها القضاء على الطبقات المستغلة وبالتالي على الاستغلال والفقر، وصولا إلى “تلاشي الدولة” التي لن تعود الحاجة بها قائمة في “مجتمع لا-طبقي”. المهم أن قيام الاشتراكية يتوقف في نظر ماركس وصديقه إنجليز على توفر شرطين أساسين: بلوغ أوربا أعلى درجة من التصنيع من جهة، واتحاد العمال في الأقطار الأوروبية كلها من جهة أخرى. وكان هذا الشرطان يوفران الأداة والحماية: فبالتصنيع الراقي المتقدم وشموله للأقطار الأوروبية قاطبة –وهي وحدها التي كانت صناعية- يزداد حجم الطبقة العاملة ويتعمق وعيها ونضالها وبالتالي تنفجر تناقضات الرأسمالية. وباتحاد العمال على صعيد أوروبا بل على الصعيد “العالمي” تتوفر الحماية لمسلسل إقامة الاشتراكية : الحماية الداخلية والخارجية، من خصمها النظام الرأسمالي الذي سيكون حينئذ في حالة احتضار..!
ليس من مهمتنا هنا مناقشة هذه النظرية، فهي ككل نظرية إنما تستمد مصداقيتها من كونها تعبر عن الواقع الملموس أو عن مظهر أساسي من مظاهره، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الماركسية كانت كذلك بالفعل في أوروبا النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أما نجاح هذه النظرية أو تلك فيتوقف أكثر على قدرتها على ملاءمة أدواتها المنهجية ورؤاها الاستشرافية مع تطور الواقع وتغير مجرى التاريخ. وقد عرفت الماركسية نمطين من التطور مختلفين تماما: ففي الأقطار الأوربية المتقدمة بقيتالماركسية منسجمة مع مقدماتها تراقب اتجاه التطور وتلائم تحليلها معه، وذلك من خلال أحزاب ومفكري “الاشتراكية الديموقراطية” بكل تلويناتها. وقد سلكت في نضالها من أجل تحقيق الاشتراكية أسلوب الضغط الديموقراطي، فساهمت في إجراء تحولات اقتصادية أساسية (القطاع العام مثلا) وحققت مكاسب ومنجزات اجتماعية وسياسية و”إنسانية” على درجة كبيرة من الأهمية…
وعلى العكس من ذلك تماماما حصل في روسيا حيثتحولت الماركسية إلى لينينية. لقد اتجه الزعيم العماليالروسي لينين بالماركسية اتجاها مختلفا، بل متناقضا مع مقدماتها، فقرر أنه يمكن بناء الاشتراكية في بلد واحد، وأكثر من ذلك كان هذا البلد “الواحد” –روسيا- في وضع متخلف كثيرا على درجة التقدم الصناعي التي بلغتها أوربا. ومع تطور الطموحات نحو الهيمنة داخل أوروبا نفسها والتنافس على المستعمرات الخ، تحول الصراع فيهامن صراع اجتماعي داخل القارة إلى صراع سياسي وإستراتيجي بين الرأسمالية و”الاشتراكية الديموقراطية” معا في أوربا، وبين الشيوعية السوفيتية في روسيا والأحزاب المرتبطة بها في أوروبا وخارجها، الصراع الذي تطور إلى حرب باردة بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تزامن مع هذا الصراع، بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، صراع آخر بين دول أوربا الاستعمارية وبين مستعمراتها في آسيا وإفريقيا. وفي إطار التداخل بين الصراعين انتقلت الأفكار الاشتراكية والحركات الشيوعية إلى العالم العربي من جهة، وحصل التقاء في المصالح بين حركات التحرر الوطني في كثير من الأقطار العربية وبين المعسكر الشيوعي من جهة أخرى، مما جعل العالم العربي ككل يعاني من نتائج الحرب الباردة على صعيد النظام السياسي والاقتصادي كما على صعيد الفكر والإيديولوجيا، وذلك شيء ما زال عالقا بالأذهان فلا داعي لتفصيل القول فيه.
5
لنعد إذن إلى ذلك السؤال الإشكالي الذي ذكرناه قبل، والذي عانى منه الفكر العربي اليساري في الستينات والسبعيناتخاصة، وقد طرح كما قلنا بالشكل التالي: “كيف يمكن الانتقال إلى الاشتراكية في بلد متخلف”؟
وما يهمنا اليوم من هذا السؤال الإشكالي هو أنه يعبر عن الشعور بكون المعادلة التي كانت تطرحها قضية “الاشتراكية في العالم الثالث”، معادلة مستحيلة الحل، وذلك للتناقض القائم بين طرفيها: الاشتراكية لا تقوم حسب ماركس إلا في مجتمع بلغ درجة عالية من التصنيع، والاشتراكية هنا تعني “ابتداء التصنيع” وفي نفس الوقت “وضع نهاية للاستغلال”، أي القضاء على الفقر باجتثاث أسبابه ومكوناته. هذا بينما العالم العربي هو في مجمله “بلد متخلف”، بعيد جدا من مستوى التصنيع الذي يتطلبه قيام الاشتراكية فيه.
لنؤكد مرة أخرى أن ما نريده من استرجاع هذه المعطيات، التي قد يعتبرها البعض ميتة (وكل المعطيات الجديدة ستصبح في يوم من الأيام ميتة)، هو أن التقصير أو الفشل -أو كيفما كان الاسم الذي نفضله- الذي يمكن أن ننسبه إلى نمط الدولة القائم على “الاشتراكية” أو “الاقتصاد الموجه” أو “التأميمات” أو ما شئنا من الأسماء التي يمكن أن نسمي بها “نموذج دولة جمال عبد الناصر في مصر” ونسخه في أقطار عربية أخرى. إن ما نريده من هذا التذكير هو تقرير ما يلي:
1) إن التجربة التي خاضها هذا النمط من الدولة كانت تجربة منقولة من بيئة مختلفة.
2) إن هذه التجربة لم تتم تبيئتها بشكل ملائم.
3) إنها تمت في ظروف الحرب الباردة، فحاربها الاستعمار والمعسكر الرأسمالي الإمبريالي كله.
4) إن مساعدة المعسكر السوفيتي لها كانت خاضعة لحساباته هو وليس لحاجتها هي.
5) إن ما حققته على صعيد التنمية والتقليص من الفقر كان دون المطلوب بكثير.
6) إن الأقطار العربية الأخرى التي لم تنخرط في تلك التجربة والتي بقيت مخلصة للنظام الرأسمالي الليبرالي تابعة له لم تحقق نتائج أفضل، لا على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولا على صعيد التقليص من الفقر. (ما عدا دول الخليج التي حققت بفضل عائدات النفط “تنمية” على مستوى الوجاهة والمظاهر الاستهلاكية، وبعيدا عن الشفافية والاستقامة و”الكوفيرنانس” وكل ما تنادي به “الليبرالية الجديدة”.
6
والآن ماذا يمكن أن نقول عن هذه الأخيرة، أعني “الليبرالية الجديدة”؟
إن أول ما يجب إبرازه، بعيدا عن أي حكم من أحكام القيمة- هو أن وضع العالم العربي إزاءها شبيه تماما بوضعه بالأمس إزاء الماركسية. ذلك:
1) أنها بنية إيديولوجية تمثل أرقى ما أفرزته الرأسمالية في موطنها، تماما كما كانت الماركسية في وقتها.
2) أن نقل هذه البنية الإيديولوجية أو أجزاء منها إلى العالم العربي يتم في ظروف ما يسمى بـ”العولمة” و”النظام العالمي الجديد” و”صراع الحضارات” الخ، والتأثير السلبي الذي تمارسه هذه الظروف على العالم العربي لا يختلف في جوهره عن التأثير السلبي الذي مارسته عليه الحرب الباردة بالأمس. ويكفي أن نشير إلى تدمير العراق والحصار المضروب عليه منذ أحد عشر عاما.
3) أن وضع القضية الفلسطينية لم يتغير رغم التنازلات التي قدمها العرب والفلسطينيون أنفسهم، ورغم احتكامهم إلى أمريكا وإعلان اعتمادهم عل الغرب الخ. ولا نعتقد أن تغييرا حقيقيا في الشرق الأوسط في اتجاه التنمية يمكن أن يحصل بدون حل القضية الفلسطينية. فالتغيير الإيجابي في إطار هذا النموذج الليبرالي أو ذاك يتطلب الاستقرار الذي يبعث على الطمانينة والثقة.
4) أن مساندة الغرب للأنظمة العربية التي تعادي الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية وتحاربها ما زالت مساندة قوية ومتواصلة لأنها محكومة باستمرار حاجتها إلى النفط، وليس بإيمانها بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والشعوب الخ.
5) أن شعار “الكوفيرنانس” الذي تنادي به الليبرالية الجديدة وما يرافقه من دعوة إلى اعتماد الشفافية والمسؤولية والاستقامة والجد في العمل الخ، شعار يؤسسه تصور للدولة “كـ “شركة مساهمة”، لها مدراء (الحكومة) ومساهمون (حملة الأسهم وجمعيات المجتمع المدني الخ)؛ والهدف هو التقليص من دور الدولة، وهذا إن كان معقولا ومقبولا في مجتمع مستقر ومتطور في بنياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فهو موضوع تساؤل ملح في مجتمع غير مستقر متماوج الخ.
6) أن هذه النظرية تنسى وتتجاهل العمال والمستخدمين، تماما كما أهملت الماركسية شأن الفئات الاجتماعية الأخرى، كشرائح الطبقة المتوسطة مثلا. وهي إذ تجعل هدفها الرئيسي تحقيق أقصى ما يمكن من الربح من أجل استقطاب الاستثمارات تنسى أن ذلك لا يمكن أن يكون إلا على حساب الشرائح المتوسطة التي تزداد فقرا، وبالتالي فالنتيجة لن تكون “التخفيف” من الفقر بل تعميمه.
7) أن الليبرالية الجديدة تتحرك في إطار عام يسمى العولمة. وردود الفعل التي نشاهدها في كل مناسبة ضد العولمة في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وفي أقطار أخرى متقدمة مصنعة، دليل على أن الليبرالية الجديدة والعولمة معا قد بدأتا تفرزان نقيضهما، في عقر دارهما!
وأخيرا وليس آخرا، فإن الشرط الضروري الذي من شأنه أن يؤسس نظريا على الأقل مصداقية هذا النمط من “الدولة” الذي تدعو إليه الليبرالية الجديدة، هو وجود شركات تستحوذ على القسط الأكبر من الاقتصاد، أعني وجود نظام رأسمالي وطني متطور، تماما كما كان الشرط الضروري الذي كان يؤسس، من الناحية النظرية، قيام الاشتراكية من منظور ماركسية ماركس وإنجلز، هو وجود بروليتاريا متطورة! والعالم العربي الذي لم يوفر شرط الاشتراكية بالأمس ليس قادرا اليوم على توفير شرط الليبرالية الجديدة.
7
هذه الملاحظات المتحفظة لها ما يبررها في الواقع العربي الراهن. ودون الدخول في التفاصيل يمكن أن نسجل المعطيات التالية، وهي ذات دلالة خاصة فيما نحن بصدده.
1- معروف أن المغرب، مثلا، لم يخض في أي وقت من الأوقات، منذ استقلاله، أية تجربة مستوحاة من الاشتراكية، بل بالعكس لقد بقي “ابنا مخلصا” للمعسكر الرأسمالي مرتبطا به تابعا له. والقطاع الخاص فيه بقي مفتوحا على الجميع، مغاربة وأجانب. أما القطاع العام فلم يكن نتيجة تأميمات بل هو، في جزء منه، موروث من دولة الحماية الفرنسية، وفي جزء آخر من عمل الدولة التي اضطرت، أمام ضعف الرأسمالية الوطنية، إلى النيابة عنها والقيام بمهمتها. ومنذ سنة 1980 دخل المغرب في مسلسل إعادة الهيكلة الذي فرضه صندوق النقد الدولي، الشيء الذي جعله يعرض تماما عن بذل ما ينبغي من الجهد لمحو الأمية وتعميم التعليم وتوسيع الخدمات الصحية والاجتماعية الخ، مما جعله يحتل في السنوات الأخيرة مرتبة 125 على سلم التنمية البشرية، المرتبة التي وضعته في مؤخرة القافلة.
2- أما جمهورية مصر العربية التي تبنت “الاشتراكية” (أو اقتصاد الدولة أو الاقتصاد الموجه) والتي تمت فيها إنجازات في مجال التصنيع والتعليم والخدمات الاجتماعية، فقد عدلت عن تلك الطريق قبل عشرين سنة وسارت في طريق الانفتاح، طريق الليبرالية، ومع ذلك فيبدو أن ما حققه الانفتاح خلال العشرين سنة الماضية، في مجال التنمية البشرية، لم يتجاوز ما حققته “الاشتراكية” في السنوات العشرين التي سبقته.
3- أما ما يشاهد اليوم في تونس من تقدم على مستوى التنمية البشرية والتقليص من الفقر فلا يمكن تفسيره بدون استحضار المجهودات المتواصلة التي كانت تنتمي إلى نوع من “الاختيار الاشتراكي” ركز على التنمية البشرية خلال الستينات والسبعينات.
يمكن استعراض تجارب مختلف الأقطار العربية، فهي تندرج بصورة أو أخرى في هذه النماذج الثلاثة (إذا نحن استثنينا دول الخليج التي لا يمكن إدخالها في الحساب لكون اقتصادها اقتصادا ريعيا تماما)، والنتيجة لن تختلف كثيرا عما قررناه، وهو أن المشكلة ليست في اختيار هذا النظام أو ذلك من النظم المتوفرة في “السوق”، وإنما المشكلة هي في كون ما خرج من جوف الوضع الاقتصادي المتقدم (تكنولوجيا وعلميا) لا يمكن أن يثمر نفس الثمار إذا هو نقل نقلا بـ “المفتاح” إلى وضع آخر متخلف، لا يتحمله أو لا يقدر على حمله. وإذا أضفنا إلى ذلك الدور السلبي، بل التخريبي، الذي يلعبه العامل الخارجي المتمثل في هيمنة الغرب سياسيا واقتصاديا، دولا وشركات، وسياسات الحماية التي يتبعها، إضافة إلى المنافسة العربية/ العربية التي يفرضها تشابه المنتوج (الفلاحي أو الصناعي الخ) أدركنا مدى تعقد المشكل الذي نحن بصدده، مشكل التنمية والتقليص من الفقر.
8
وبعيدا عن الكلام بلغة الحلول الجاهزة، أو الاختيارات الإيديولوجية المسبقة، يمكن القول إنه ما لم تبن التنمية على مبدأ “التجديد من الداخل” فلن تكون لها النتائج المتوخاة. و”التجديد من الداخل” يتطلب نوعا من الكتلة التاريخية بين جميع العناصر والأطراف : بين الدولة والمجتمع، بين المجتمع والفرد، بين القديم والجديد، بين التقليدي والعصري، بين التراثي والحداثي، بين الريف والمدينة الخ.
والحاجة إلى كتلة تاريخية من هذا النوع تبررها ثلاثة معطيات خطيرة في الوضع العربي الراهن تعوق التقدم بل تجعل التنمية المطلوبة متعذرة إن لم تكن مستحيلة :
هناك من جهة الهوة العميقة التي تفصل بين ما هو قروي وما هو مدني، بين ما هو قروي في الأرياف والمدن، وما هو مدني في المدن والأرياف، في الاقتصاد والاجتماع والفكر والثقافة. وهي هوة تكرس عملية إعادة إنتاج متواصلة لظاهرة اتساع الشقة بين نخبة مشدودة إلى الغرب ونخبة مكبلة بالماضي، نخبة مغتربة وأخرى منغلقة، نخبة تقرأ الماضي في المستقبل وأخرى تقرأ المستقبل في الماضي…
وهناك من جهة ثانية غياب التنسيق الجاد، والتضامن المتواصل والتكامل المتنامي، بين الأقطار العربية. والحاجة إلى التنسيق والتضامن والتكامل لم تعد قضية ترف إيديولوجي بل هي اليوم، في عالم العولمة، ضرورة وجودية. إن “الكتلة الإقليمية العربية” هي كتلة تاريخية بمعنيين: فمن جهة هي ضرورية لتغلب الدولة القطرية العربية على مشاكلها الخاصة، وهي أيضا ضرورية للوقوف في وجه المنافسة والهيمنة داخل العولمة.
ومن جهة ثالثة ليس في أي قطر عربي قوة مهيمنة، هيمنة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، قادرة موضوعيا وذاتيا على “النيابة” عن الباقي في تحقيق التنمية والتقدم. إن شرط الاشتراكية كان هو هيمنة الطبقة العاملة، وشرط الليبرالية هو هيمنة الطبقة الرأسمالية. وحيثما تغيب إمكانية هيمنة هذه الطبقة أو تلك تصبح إمكانية تعميم مشروعها الإيديولوجي حلما مستحيل التحقيق. والنتيجة أن الكتلة التاريخية التي تؤجل فيها المشاريع الإيديولوجية الفئوية الطبقية لفائدة المصلحة الوطنية، مصلحة الجميع، هي المخرج الوحيد في نظرنا من الوضع الذي يسود المنطقة العربية حاليا: وضع التفتت والحيرة وغياب أي مشروع للمستقبل. إن الليبرالية الجديدة والقديمة على السواء ليست -بسبب من طبيعتها ذاتها- مشروعا للمستقبل، بل هي دوما “مشروع الحاضر”. ومن المؤكد أن ميولاتها وتوجهاتها ستتغير بمجرد ما تلمس أن الحاضر آخذ في التغير. أليست تقوم فلسفيا على مذهب التجريبية empirism، وأخلاقيا على مذهب المنفعة . pragmatism
……………………………………………..
1- ندوة “الحكم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومكافحة الفقر” التي عقدتها الإيسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة) بالقاهرة ما بين 11-13 نوفمبر 2001
………………………………………………
محمد عابد الجابري يدرس الفلسفة والفكر الإسلامي بكلية الآداب ،جامعة محمد الخامس الرباط، منذ 1967
مناقشة المفاهيم
1
ظهر في العقدين الأخيرين في الولايات المتحدة وبريطانيا مذهب اقتصادي إيديولوجي سمي بـ “الليبرالية الجديدة”. ولعل أهم عنصر جديد في هذا المذهب هو دعواه الإيديولوجية التي تبشر بنموذج جديد للدولة، تمارَس السلطة فيه على أساس مبدأ “الكوفيرنانس” governance، على غرار شركات المساهمة في النظام الرأسمالي ذي التقاليد الأنجلوساكسونية، حيث يمارس حملة الأسهم نوعا من “الرقابة” والتوجيه، عند توزيع الأرباح، بهدف دفع المدراء إلى العمل على تحقيق أقصى قدر من الربح للمؤسسات التي يتولون تسييرها. وهذا النوع من ممارسة السلطة في إطار من الرقابة التي يقوم بها المعنيون بالأمر هو مضمون “الكوفيرنانس”، وهي كلمة إنجليزية مشتقة من govern التي تعني في آن واحد “الحكم” بمعنى ممارسة السلطة (الحكومة government) والرقابة والتوجيهcontrol . وإذن فنموذج “الحكم” الذي تبشر به “الليبرالية الجديدة” يهدف إلى تقليص دور الدولة بحيث تكون مهمتها القيام بالتسيير تحت توجيه ومراقبة أولئك الذين يوازي وضعهم إزاءها وضع حملة الأسهم بالنسبة للمديرين في الشركات الكبرى.
وقبل أن نناقش هذا النموذج نريد أن نطرح مسألة ترجمة كلمة governance -التي استعملت للدلالة على هذا النظام- إلى اللغة العربية. وهذا ليس من أجل “الترجمة” ذاتها، بل من أجل استعمالها هنا كمثال نشرح من خلاله الفكرة التي نصدر عنها في إبداء الرأي في مدى مصداقية أو عدم مصداقية التفكير في الشأن العربي من خلال هذه المفهوم.
2
لقد وردت هذه الكلمة في الورقة التوجيهية لهذه الندوة([أ]) مترجمة بلفظ “الحكم” ووضعت في سياق جعلت فيه في موضع المعطوف عليه مع كلمة “دولة” state، هكذا “الحكم والدولة”، مما يعني أنهما يدلان على معنيين مختلفين. إن القارئ العربي يجد نفسه هنا أمام عبارة لا غبار عليها من حيث الاستعمال اللغوي، فالكلمتان عربيتان أصيلتان، ولكن عطف الواحدة منهما على الأخرى بحرف الواو (الحكم والدولة)، يثير من الالتباس والغموض في ذهن القارئ ما يدفعه إلى التساؤل بينه وبين نفسه: “وما الفرق بين مدلول “الدولة” ومفهوم “الحكم” حتى يوضعان مثل هذا الوضع”؟ إن حرف العطف إنما يستعمل عادة للربط بين المتباينات نوعا من التباين، أما المترادفات والمتواطئات والمتقاربات وما في معنى الجزء والكل مثل “الخبز” و”الطعام”، والعطاء والكرم، والساق والرجل الخ، فلا يدخل بينها حرف العطف إلا في العبارات التي تنتمي إلى الخطاب الأدبي الذي يستعمل المجاز والاستعارة والكناية وما أشبه ذلك.
هذا الإشكال يصبح غير ذي موضوع –ربما- إذا وضعنا إزاء اللفظين المذكورين ما يقابلهما في اللغات الأوربية، وخاصة الإنجليزية Governance and the state. إن القارئ في هذه الحالة إما أن يكون على صلة بالمجال التداولي الذي يستعمل فيه هذان اللفظان في هذه اللغة، وفي هذه الحالة فهو “صاحب الدار” كما يقال، وإما أن لا تكون له علاقة بذلك المجال، وفي هذه الحالة يمكن أن يرجع إلى القواميس الإنجليزية اللغوية، أو المتخصصة، وسيجد من المعاني والشروح ما يزيل الغموض والالتباس.
علام يدل هذا؟
إنه يدل على أن المرجعية العربية بالنسبة للفظتين المذكورتين غير المرجعية الأوروبية. وليس في هذا عيب في اللغة، فكثير من الكلمات المترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية لا يمكن استيعاب معناها إلا بالرجوع بها إلى الحقل الدلالي العربي. نحن هنا إذن أمام ظاهرة اختلاف المرجعية : “الحكم” و”الدولة” كلمتان تدلان في اللغة العربية على معنى، بينما يحيل مقابلهما في اللغات الأوروبية الحديثة إلى معنى آخر مختلف، أو أدق أو أوسع، أفقر أو أغنى الخ.
لفظ “الدولة” في المرجعية العربية من “دال يدول دولة”، ويقال عن الشيء يكون مرة في هذا ومرة في ذاك، فهو يفيد معني التناوب والانتقال من يد إلى أخرى، ومنه تداولُ المال، وتداول السلطة alternance الخ. وقد أخذ هذا اللفظ يشيع بعد انتقال “الأمر” (= الحكم) من الأمويين إلى العباسيين وصار أنصار هؤلاء يقولون : “هذه دولتنا”، أي نوبتنا في ممارسة السلطة. أما اللفظ المقابل له في اللغات الأوربية الحديثة Etat, State فيدل في الاصطلاح السياسي –وهو المقصود هنا- على الهيأة أو المؤسسة التي تدبر الشأن العام في بلد ما، تدبيرا يقوم على النيابة على الجميع في ممارسة السلطة، والمحافظة على النظام، والفصل في المنازعات والحكم بين الناس، واللجوء إلى العنف لتطبيق القانون الخ. وهذا المعنى حديث في اللغة العربية ولكنه صار شائعا مقبولا ومفهوما (إلى درجة ما!).
هذا باختصار عن مصطلح “الدولة”، أما لفظ “الحكم” فهو يشير في العربية إلى معنيين رئيسيين، أحدهما : الفصل في أمر متنازع فيه، ومنه القرار الذي يتخذه القاضي لجعل حد لخصومة أو نزاع الخ، وهذا يقابله في اللغات الأوربية لفظ آخر judgment, jugement, . وثانيهما المنع والردع، ومنه الحَكَمة وهي “ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه يمنعه من مخالفة صاحبه”. ومن هذين المعنيين أخذ معنى “الحُكم” الذي يعني ممارسة السلطة لتدبير الشأن العام والفصل في الخلافات والنزاعات الخ. أما لفظ governance، الذي وضع لفظ “الحكم” كترجمة عربية له هنا، فهو أصلا يفيد -في الإنجليزية- معنى الرقابة والتوجيه والتدبير، وأيضا معنى السيطرة وممارسة السلطة، وهو غير الحكومة بمعنى الجهاز المعروف (وزارة …) gouvernement, government كما أنه لا يدخل في علاقة اشتقاقية مع اللفظ الإنجليزي الذي يفيد “الحكم” بمعنى “حكم القاضي”.
وإذا نحن أردنا أن نحدد صلب الاختلاف بين معنى لفظ “الحكم” كما يتحدد في اللغة العربية ولفظ governance كما يتحدد معناه في الإنجليزية، وفي السياق الذي استعمل في العبارة السابقة التي جمعت بينهما، قلنا: إن هذا الأخير يفيد معنى لا يفيده الآخر: معنى “الرقابة” التي قد تكون من أعلى إلى أسفل، أو من أسفل إلى أعلى. وهذا ما يلح منظرو “الليبرالية الجديدة”، إذ يؤكدون أن المقصود بالـ governance هو الجمع بين الرقابة من أعلى (الدولة) والرقابة من أسفل (منظمات المجتمع المدني الخ). وواضح أن هذا المعنى يستحيل استحضاره استحالة تامة من مجرد تأمل معنى لفظة “الحكم” كما تتحدد في اللغة العربية. من أجل ذلك فأنا أفضل استعمال هذا المصطلح كما ينطق به في مرجعيته الأصلية “كوفيرنانس”، كما هو الشأن في عدد من المصطلحات مثل ليبرالية، ديموقراطية، جغرافية، فينومينولوجية، فلسفة الخ، وذلك إلى أن نهتدي إلى لفظ عربي مناسب.
3
قد يتساءل البعض: ولماذا هذه الاستطرادات اللغوية؟ ألم يكن يكفي إبراز هذا المعنى في البداية والانتقال إلى صلب الموضوع؟
وأجيب : لقد قصدت بها إثارة الانتباه إلى أن موضوع هذه الندوة يطرح مشكلة مماثلة لهذه التي شرحناها بصدد اللفظين : حكم، دولة. فالمطلوب منا في هذا المحور الأول، حسب ما نصت عليه الورقة التوجيهية، هو أن ننظر في “مفهوم “الكوفيرنانس” وتطوره ومساهمته في التنمية والتخفيف من الفقر” في البلاد العربية. وهذا “يقتضي : 1) النظر في مدى تقدم عملية الإصلاح السياسي في العالم العربي بما في ذلك محاولات الدمقرطة وتحرير الاقتصاد. 2) النظر فيما إذا كان ذلك قد ساهم في توسيع دائرة مشاركة الجميع والرفع من درجة الفعالية والمسؤولية والشفافية والتمثيلية في مؤسسات الدولة. 3) رصد الدلالات والمرامي والبرامج الهادفة إلى تحسين أنماط “الكوفيرنانس” في العالم العربي من أجل ضمان تنمية اجتماعية واقتصادية والتقليص من الفقر.
وعلى أساس هذه المقاصد تعرِّف الورقة التوجيهية مفهوم “الكوفيرنانس” بكونه : “يحيل إلى عملية ممارسة السلطة بالمعنى الشامل للكلمة، فهو يضم ليس فقط الحكومة التي تتألف من مؤسسات وفاعلين مكلفين بممارسة السلطة، بل يشمل أيضا عناصر مماثلة تنتمي إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني. إن مفهوم “الكوفيرنانس” يراد به الإمساك بظاهرة معقدة، قوامها آليات ومؤسسات وفاعلين في الدولة وسوق ومحيط اجتماعي، وأنواع التداخل القائمة بين جميع هذه العناصر، كل ذاك في مقاربة شمولية ومنهجية. و”الكوفيرنانس” الصالح يتميز بخصائص أساسية مثل الشفافية والمسؤولية والفعالية والمشاركة العامة وحكم القانون. إنه الحرص بدون هوادة على أن تسود هذه الخصائص الأساسية المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي”.
وواضح أن المرجعية المباشرة في هذا التصور لـ “الكوفيرنانس” هي النظرية الاقتصادية المعروفة بـ “الليبرالية الجديدة” Neo-liberalism، كما أبرزنا مضمونها في الفقرة الأولى من هذه المداخلة. وقد أثارت هذه النظرية، وتثير، جدلا واسعا بين الاقتصاديين حول مدى صدقها وصلاحيتها مما لا شأن لنا به هنا. وما نريده نحن من الإشارة إليها أمران: أولهما أنها هي نفسها النظرية التي تطبق بصورة أو أخرى في العالم العربي بتوصية من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والتي تشكل الخوصصة والانفتاح أبرز مظاهرها. ثانيهما أن المهمة التي رسمتها الورقة التوجيهية لهذه الندوة هي : تقويم عملية تطبيق هذه النظرية ونتائجها في العالم العربي بالمقارنة مع “أنماط الدولة” التي عرفتها الأقطار العربية في العقود الأخيرة. ومعلوم أن هذه الأنماط صنفان: 1) صنف يستوحي أو يطبق “النظام الرأسمالي”، أساس الليبرالية الجديدة هذه، إما منذ البداية (الاستقلال) كالمغرب ودول الخليج… وإما منذ تدشين اختيار “الانفتاح” في الثمانينات من القرن الماضي كمصر. 2) وصنف ظل يستوحي أو يطبق “النظام الاشتراكي” منذ فترة ازدهار الفكر الاشتراكي في العالم العربي (الستينات من القرن الماضي بصفة خاصة)، كالجزائر ثم سورية والعراق وليبيا…
يتعلق الأمر إذن بتجربتين مختلفتين تستند كل منهما إلى نظريتين متباينتين بل متناقضتين في كثير من أسسهما وتطلعاتهما. والمهمة التي يمكن أن أدعي إمكانية القيام بها هنا تقع خارج المجال التطبيقي وخارج البحث الميداني، فذلك ما ليس من اختصاصي. ومع ذلك، فإذا نحن أخذنا بعين الاعتبار الحالة العامة في العالم العربي، كما تصفها الأدبيات الاقتصادية والسياسية الراهنة، جاز القول إن أيا من التجربتين لم تحقق الأهداف التنموية المرجوة منها، وإذن يجب البحث في أسباب فشلهما معا. يمكن أن يقال إن “التجارب الاشتراكية” التي استوحتها بعض الدول العربية قد فشلت أيضا في مواطنها (الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي على العموم)، وهذا صحيح، ولكن هذا الحكم لا ينسحب على التجارب الأخرى التي سلكت منهجا آخر في تطبيق النظرية الاشتراكية كالدول الإسكندنافية، كما لا ينطبق على إنجازات الأحزاب الاشتراكية في البلدان الأوروبية الأخرى، في مجال الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي وتعويضات البطالة وغير ذلك مما يندرج في أهداف الاشتراكية.
ونحن لا نريد أن نصل إلى نتيجة تقرر أن الفشل ليس هو فشل النظرية بل فشل التطبيق، فهذا كلام عام، وهو موضوع آخر ليس من اختصاصنا الخوض فيه. ما نريد طرحه هنا شيء آخر يفصح عنه السؤال التالي: هل من الممكن تطبيق نظرية، نبعتْ من وضع معين، في وضع آخر مختلف؟
هذا السؤال، طرح في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، من منظور “ماركسي” في العالم الثالث عموما، طرح بصيغة : “هل يمكن الانتقال إلى الاشتراكية في بلد متخلف؟”. ونحن نعتقد أنه لا شيء يمنع من طرح هذا السؤال نفسه اليوم بصدد “الليبرالية الجديدة”، فنقول: “هل يمكن الانتقال إلى الليبرالية الجديدة في بلد متخلف؟”. وما يجعل طرح هذا السؤال مشروعا هو أن الأمر يتعلق ببنيتين إيديولوجيتين، متشابهتين من حيث التركيب، وإن كانتا متناقضتين من حيث الاتجاه، كما يتبين من الجدول التالي الذي نورد فيه المفاهيم الرئيسية والمتقابلة، تقابل تضاد في البنيتين، (بدون ترتيب مقصود):
الإيديولوجيا الماركسية النظام العالمي الجديد
الاشتراكية الليبرالية
لاستقلال الاقتصادي الاندماج في السوق العالمية
الاستقلال الوطني العولمة
القومية الأقليات
حقوق الشعوب حقوق الإنسان
التأميم الخوصصة
اقتصاد الدولة نهاية الدولة
تدخل الدولة نهاية السياسة
حرق المراحل نهاية التاريخ
صراع الطبقات صراع الحضارات
الجماهير الكادحة المجتمع المدني
التنمية المستقلة - التصنيع التنمية المستدامة/ البشرية
القضاء على الاستغلال التقليص من الفقر
الدولة الكوفيرنانس
الإيديولوجيا الثقافة
المقاومة الإرهاب
4
من النظر إلى هذا الجدول يتبين أن “الكوفيرنانس” يقع بديلا عن “الدولة”، و”الفقر” مكان “الاستغلال” وهكذا. وبما أن الإيديولوجيا الأولى أسبق زمنا من الثانية في العالم العربي خلال المرحلة موضوع الحديث هنا، (الخمسينات/الثمانينات من القرن الماضي)، فإن “محاسبة الدولة” في العالم العربي، سواء كانت من هذا النمط أو ذاك، على ما أنجزته في “مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية والحد من الفقر” الخ، معناه في الحقيقة محاكمة إنجازات الإيديولوجيا الأولى بواسطة وعود الثانية (محاسبة مضامين عناصر العمود الأول من الجدول بواسطة مقابلها في العمود الثاني)! والمشكلة الأساسية في هذه المحاكمة ليست في الاختيار الإيديولوجي الذي يمكن التعبير عنه بهذا السؤال: من يحق له أن يحاكم من؟ بل المشكلة في الحقيقة سابقة لمثل هذا السؤال، إنها نفس المشكلة التي حللناها في بداية هذه المداخلة عندما كنا بصدد مناقشة الطريقة التي تتم بها الترجمة عندنا في معظم الأحيان، كما هو الحال في ترجمة لفظ governance بـ “الحكم”. أقصد بذلك الترجمة/النقل من المعجم بدل الرجوع إلى المرجعيات الخاصة باللفظ الذي يراد ترجمته واللفظ الذي يراد وضعه كمقابل له.
إن نقل البنيات الإيديولوجية من مرجعياتها الأصلية إلى فضاء آخر مباين، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتاريخيا، لا يختلف في شيء عن نقل لفظة/مصطلح من لغة إلى أخرى. إن الأمر يتطلب اعتبار خصوصية الطرفين كليهما. ولكي أوضح فكرتي أكثر أطرح الأسئلة التالية: ما علاقة البنيتين الإيديولوجيتين المذكورتين بالعالم العربي؟ هل خرجت إحداهما، أو كلتاهما، من جوف الوضع العربي؟ هل كانت الأرض العربية حبلى بهما؟
الجواب معروف! لقد وردت –أو استوردت- البنية الإيديولوجية الأولى إلى العالم العربي، ابتداء من منتصف الخمسينات بكيفية خاصة، فتبنى بعض أقطاره بعض عناصرها لبعض الوقت… وبمجرد ما انحلت عراها في موطنها ودخلت في عالم “كان” وردت، وترد على العالم العربي، البنية الأخرى، بنية الليبرالية الجديدة، وهاهي معظم أقطاره تتبنى بعض عناصرها! وفي كلتا الحالتين واجه العالم العربي ويواجه مشكلة التعامل مع هذا “الوارد”. إنها مشكلة عملية معقدة تفرعت عنها عدة مشاكل عملية ونظرية!
لنذكر ببعض المعطيات التاريخية:
تنتمي البنية الأولى إلى الماركسية، ومعروف أنه بناء على تحليل الاقتصاد الرأسمالي، كما كان في القرن التاسع عشر، استنتج كارل ماركس (ويجب أن لا ننسي أنه محلل اقتصادي قبل كل شيء)، أن تناقضات هذا النظام ستؤدي في النهاية –عبر صراع البروليتاريا مع البرجوازية- إلى قيام النظام الشيوعي في الأقطار الأكثر تصنيعا، وهي أوروبا في ذلك الوقت وعلى رأسها ألمانيا. فكان من شروط قيام الثورة الاشتراكية عنده –الثورة التي كان يرى أنها ستقضي على الاستغلال والفقر- هو تطور قوى الإنتاج الصناعية والتكنولوجية إلى أعلى مستوى في أوروبا كلها، الشيء الذي سيزيد من حجم الطبقة العاملة الأوربية ويعمق من وعيها بوضعيتها، فتصبح بذلك البلدان الأوربية كلها –أو الرئيسة منها على الأقل- تعيش “الوضع الثوري” من خلال “اتحاد الطبقة العاملة” فيها داخل حركة ثورية “عالمية” واحدة، غايتها القضاء على الطبقات المستغلة وبالتالي على الاستغلال والفقر، وصولا إلى “تلاشي الدولة” التي لن تعود الحاجة بها قائمة في “مجتمع لا-طبقي”. المهم أن قيام الاشتراكية يتوقف في نظر ماركس وصديقه إنجليز على توفر شرطين أساسين: بلوغ أوربا أعلى درجة من التصنيع من جهة، واتحاد العمال في الأقطار الأوروبية كلها من جهة أخرى. وكان هذا الشرطان يوفران الأداة والحماية: فبالتصنيع الراقي المتقدم وشموله للأقطار الأوروبية قاطبة –وهي وحدها التي كانت صناعية- يزداد حجم الطبقة العاملة ويتعمق وعيها ونضالها وبالتالي تنفجر تناقضات الرأسمالية. وباتحاد العمال على صعيد أوروبا بل على الصعيد “العالمي” تتوفر الحماية لمسلسل إقامة الاشتراكية : الحماية الداخلية والخارجية، من خصمها النظام الرأسمالي الذي سيكون حينئذ في حالة احتضار..!
ليس من مهمتنا هنا مناقشة هذه النظرية، فهي ككل نظرية إنما تستمد مصداقيتها من كونها تعبر عن الواقع الملموس أو عن مظهر أساسي من مظاهره، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الماركسية كانت كذلك بالفعل في أوروبا النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أما نجاح هذه النظرية أو تلك فيتوقف أكثر على قدرتها على ملاءمة أدواتها المنهجية ورؤاها الاستشرافية مع تطور الواقع وتغير مجرى التاريخ. وقد عرفت الماركسية نمطين من التطور مختلفين تماما: ففي الأقطار الأوربية المتقدمة بقيتالماركسية منسجمة مع مقدماتها تراقب اتجاه التطور وتلائم تحليلها معه، وذلك من خلال أحزاب ومفكري “الاشتراكية الديموقراطية” بكل تلويناتها. وقد سلكت في نضالها من أجل تحقيق الاشتراكية أسلوب الضغط الديموقراطي، فساهمت في إجراء تحولات اقتصادية أساسية (القطاع العام مثلا) وحققت مكاسب ومنجزات اجتماعية وسياسية و”إنسانية” على درجة كبيرة من الأهمية…
وعلى العكس من ذلك تماماما حصل في روسيا حيثتحولت الماركسية إلى لينينية. لقد اتجه الزعيم العماليالروسي لينين بالماركسية اتجاها مختلفا، بل متناقضا مع مقدماتها، فقرر أنه يمكن بناء الاشتراكية في بلد واحد، وأكثر من ذلك كان هذا البلد “الواحد” –روسيا- في وضع متخلف كثيرا على درجة التقدم الصناعي التي بلغتها أوربا. ومع تطور الطموحات نحو الهيمنة داخل أوروبا نفسها والتنافس على المستعمرات الخ، تحول الصراع فيهامن صراع اجتماعي داخل القارة إلى صراع سياسي وإستراتيجي بين الرأسمالية و”الاشتراكية الديموقراطية” معا في أوربا، وبين الشيوعية السوفيتية في روسيا والأحزاب المرتبطة بها في أوروبا وخارجها، الصراع الذي تطور إلى حرب باردة بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تزامن مع هذا الصراع، بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، صراع آخر بين دول أوربا الاستعمارية وبين مستعمراتها في آسيا وإفريقيا. وفي إطار التداخل بين الصراعين انتقلت الأفكار الاشتراكية والحركات الشيوعية إلى العالم العربي من جهة، وحصل التقاء في المصالح بين حركات التحرر الوطني في كثير من الأقطار العربية وبين المعسكر الشيوعي من جهة أخرى، مما جعل العالم العربي ككل يعاني من نتائج الحرب الباردة على صعيد النظام السياسي والاقتصادي كما على صعيد الفكر والإيديولوجيا، وذلك شيء ما زال عالقا بالأذهان فلا داعي لتفصيل القول فيه.
5
لنعد إذن إلى ذلك السؤال الإشكالي الذي ذكرناه قبل، والذي عانى منه الفكر العربي اليساري في الستينات والسبعيناتخاصة، وقد طرح كما قلنا بالشكل التالي: “كيف يمكن الانتقال إلى الاشتراكية في بلد متخلف”؟
وما يهمنا اليوم من هذا السؤال الإشكالي هو أنه يعبر عن الشعور بكون المعادلة التي كانت تطرحها قضية “الاشتراكية في العالم الثالث”، معادلة مستحيلة الحل، وذلك للتناقض القائم بين طرفيها: الاشتراكية لا تقوم حسب ماركس إلا في مجتمع بلغ درجة عالية من التصنيع، والاشتراكية هنا تعني “ابتداء التصنيع” وفي نفس الوقت “وضع نهاية للاستغلال”، أي القضاء على الفقر باجتثاث أسبابه ومكوناته. هذا بينما العالم العربي هو في مجمله “بلد متخلف”، بعيد جدا من مستوى التصنيع الذي يتطلبه قيام الاشتراكية فيه.
لنؤكد مرة أخرى أن ما نريده من استرجاع هذه المعطيات، التي قد يعتبرها البعض ميتة (وكل المعطيات الجديدة ستصبح في يوم من الأيام ميتة)، هو أن التقصير أو الفشل -أو كيفما كان الاسم الذي نفضله- الذي يمكن أن ننسبه إلى نمط الدولة القائم على “الاشتراكية” أو “الاقتصاد الموجه” أو “التأميمات” أو ما شئنا من الأسماء التي يمكن أن نسمي بها “نموذج دولة جمال عبد الناصر في مصر” ونسخه في أقطار عربية أخرى. إن ما نريده من هذا التذكير هو تقرير ما يلي:
1) إن التجربة التي خاضها هذا النمط من الدولة كانت تجربة منقولة من بيئة مختلفة.
2) إن هذه التجربة لم تتم تبيئتها بشكل ملائم.
3) إنها تمت في ظروف الحرب الباردة، فحاربها الاستعمار والمعسكر الرأسمالي الإمبريالي كله.
4) إن مساعدة المعسكر السوفيتي لها كانت خاضعة لحساباته هو وليس لحاجتها هي.
5) إن ما حققته على صعيد التنمية والتقليص من الفقر كان دون المطلوب بكثير.
6) إن الأقطار العربية الأخرى التي لم تنخرط في تلك التجربة والتي بقيت مخلصة للنظام الرأسمالي الليبرالي تابعة له لم تحقق نتائج أفضل، لا على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولا على صعيد التقليص من الفقر. (ما عدا دول الخليج التي حققت بفضل عائدات النفط “تنمية” على مستوى الوجاهة والمظاهر الاستهلاكية، وبعيدا عن الشفافية والاستقامة و”الكوفيرنانس” وكل ما تنادي به “الليبرالية الجديدة”.
6
والآن ماذا يمكن أن نقول عن هذه الأخيرة، أعني “الليبرالية الجديدة”؟
إن أول ما يجب إبرازه، بعيدا عن أي حكم من أحكام القيمة- هو أن وضع العالم العربي إزاءها شبيه تماما بوضعه بالأمس إزاء الماركسية. ذلك:
1) أنها بنية إيديولوجية تمثل أرقى ما أفرزته الرأسمالية في موطنها، تماما كما كانت الماركسية في وقتها.
2) أن نقل هذه البنية الإيديولوجية أو أجزاء منها إلى العالم العربي يتم في ظروف ما يسمى بـ”العولمة” و”النظام العالمي الجديد” و”صراع الحضارات” الخ، والتأثير السلبي الذي تمارسه هذه الظروف على العالم العربي لا يختلف في جوهره عن التأثير السلبي الذي مارسته عليه الحرب الباردة بالأمس. ويكفي أن نشير إلى تدمير العراق والحصار المضروب عليه منذ أحد عشر عاما.
3) أن وضع القضية الفلسطينية لم يتغير رغم التنازلات التي قدمها العرب والفلسطينيون أنفسهم، ورغم احتكامهم إلى أمريكا وإعلان اعتمادهم عل الغرب الخ. ولا نعتقد أن تغييرا حقيقيا في الشرق الأوسط في اتجاه التنمية يمكن أن يحصل بدون حل القضية الفلسطينية. فالتغيير الإيجابي في إطار هذا النموذج الليبرالي أو ذاك يتطلب الاستقرار الذي يبعث على الطمانينة والثقة.
4) أن مساندة الغرب للأنظمة العربية التي تعادي الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية وتحاربها ما زالت مساندة قوية ومتواصلة لأنها محكومة باستمرار حاجتها إلى النفط، وليس بإيمانها بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والشعوب الخ.
5) أن شعار “الكوفيرنانس” الذي تنادي به الليبرالية الجديدة وما يرافقه من دعوة إلى اعتماد الشفافية والمسؤولية والاستقامة والجد في العمل الخ، شعار يؤسسه تصور للدولة “كـ “شركة مساهمة”، لها مدراء (الحكومة) ومساهمون (حملة الأسهم وجمعيات المجتمع المدني الخ)؛ والهدف هو التقليص من دور الدولة، وهذا إن كان معقولا ومقبولا في مجتمع مستقر ومتطور في بنياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فهو موضوع تساؤل ملح في مجتمع غير مستقر متماوج الخ.
6) أن هذه النظرية تنسى وتتجاهل العمال والمستخدمين، تماما كما أهملت الماركسية شأن الفئات الاجتماعية الأخرى، كشرائح الطبقة المتوسطة مثلا. وهي إذ تجعل هدفها الرئيسي تحقيق أقصى ما يمكن من الربح من أجل استقطاب الاستثمارات تنسى أن ذلك لا يمكن أن يكون إلا على حساب الشرائح المتوسطة التي تزداد فقرا، وبالتالي فالنتيجة لن تكون “التخفيف” من الفقر بل تعميمه.
7) أن الليبرالية الجديدة تتحرك في إطار عام يسمى العولمة. وردود الفعل التي نشاهدها في كل مناسبة ضد العولمة في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وفي أقطار أخرى متقدمة مصنعة، دليل على أن الليبرالية الجديدة والعولمة معا قد بدأتا تفرزان نقيضهما، في عقر دارهما!
وأخيرا وليس آخرا، فإن الشرط الضروري الذي من شأنه أن يؤسس نظريا على الأقل مصداقية هذا النمط من “الدولة” الذي تدعو إليه الليبرالية الجديدة، هو وجود شركات تستحوذ على القسط الأكبر من الاقتصاد، أعني وجود نظام رأسمالي وطني متطور، تماما كما كان الشرط الضروري الذي كان يؤسس، من الناحية النظرية، قيام الاشتراكية من منظور ماركسية ماركس وإنجلز، هو وجود بروليتاريا متطورة! والعالم العربي الذي لم يوفر شرط الاشتراكية بالأمس ليس قادرا اليوم على توفير شرط الليبرالية الجديدة.
7
هذه الملاحظات المتحفظة لها ما يبررها في الواقع العربي الراهن. ودون الدخول في التفاصيل يمكن أن نسجل المعطيات التالية، وهي ذات دلالة خاصة فيما نحن بصدده.
1- معروف أن المغرب، مثلا، لم يخض في أي وقت من الأوقات، منذ استقلاله، أية تجربة مستوحاة من الاشتراكية، بل بالعكس لقد بقي “ابنا مخلصا” للمعسكر الرأسمالي مرتبطا به تابعا له. والقطاع الخاص فيه بقي مفتوحا على الجميع، مغاربة وأجانب. أما القطاع العام فلم يكن نتيجة تأميمات بل هو، في جزء منه، موروث من دولة الحماية الفرنسية، وفي جزء آخر من عمل الدولة التي اضطرت، أمام ضعف الرأسمالية الوطنية، إلى النيابة عنها والقيام بمهمتها. ومنذ سنة 1980 دخل المغرب في مسلسل إعادة الهيكلة الذي فرضه صندوق النقد الدولي، الشيء الذي جعله يعرض تماما عن بذل ما ينبغي من الجهد لمحو الأمية وتعميم التعليم وتوسيع الخدمات الصحية والاجتماعية الخ، مما جعله يحتل في السنوات الأخيرة مرتبة 125 على سلم التنمية البشرية، المرتبة التي وضعته في مؤخرة القافلة.
2- أما جمهورية مصر العربية التي تبنت “الاشتراكية” (أو اقتصاد الدولة أو الاقتصاد الموجه) والتي تمت فيها إنجازات في مجال التصنيع والتعليم والخدمات الاجتماعية، فقد عدلت عن تلك الطريق قبل عشرين سنة وسارت في طريق الانفتاح، طريق الليبرالية، ومع ذلك فيبدو أن ما حققه الانفتاح خلال العشرين سنة الماضية، في مجال التنمية البشرية، لم يتجاوز ما حققته “الاشتراكية” في السنوات العشرين التي سبقته.
3- أما ما يشاهد اليوم في تونس من تقدم على مستوى التنمية البشرية والتقليص من الفقر فلا يمكن تفسيره بدون استحضار المجهودات المتواصلة التي كانت تنتمي إلى نوع من “الاختيار الاشتراكي” ركز على التنمية البشرية خلال الستينات والسبعينات.
يمكن استعراض تجارب مختلف الأقطار العربية، فهي تندرج بصورة أو أخرى في هذه النماذج الثلاثة (إذا نحن استثنينا دول الخليج التي لا يمكن إدخالها في الحساب لكون اقتصادها اقتصادا ريعيا تماما)، والنتيجة لن تختلف كثيرا عما قررناه، وهو أن المشكلة ليست في اختيار هذا النظام أو ذلك من النظم المتوفرة في “السوق”، وإنما المشكلة هي في كون ما خرج من جوف الوضع الاقتصادي المتقدم (تكنولوجيا وعلميا) لا يمكن أن يثمر نفس الثمار إذا هو نقل نقلا بـ “المفتاح” إلى وضع آخر متخلف، لا يتحمله أو لا يقدر على حمله. وإذا أضفنا إلى ذلك الدور السلبي، بل التخريبي، الذي يلعبه العامل الخارجي المتمثل في هيمنة الغرب سياسيا واقتصاديا، دولا وشركات، وسياسات الحماية التي يتبعها، إضافة إلى المنافسة العربية/ العربية التي يفرضها تشابه المنتوج (الفلاحي أو الصناعي الخ) أدركنا مدى تعقد المشكل الذي نحن بصدده، مشكل التنمية والتقليص من الفقر.
8
وبعيدا عن الكلام بلغة الحلول الجاهزة، أو الاختيارات الإيديولوجية المسبقة، يمكن القول إنه ما لم تبن التنمية على مبدأ “التجديد من الداخل” فلن تكون لها النتائج المتوخاة. و”التجديد من الداخل” يتطلب نوعا من الكتلة التاريخية بين جميع العناصر والأطراف : بين الدولة والمجتمع، بين المجتمع والفرد، بين القديم والجديد، بين التقليدي والعصري، بين التراثي والحداثي، بين الريف والمدينة الخ.
والحاجة إلى كتلة تاريخية من هذا النوع تبررها ثلاثة معطيات خطيرة في الوضع العربي الراهن تعوق التقدم بل تجعل التنمية المطلوبة متعذرة إن لم تكن مستحيلة :
هناك من جهة الهوة العميقة التي تفصل بين ما هو قروي وما هو مدني، بين ما هو قروي في الأرياف والمدن، وما هو مدني في المدن والأرياف، في الاقتصاد والاجتماع والفكر والثقافة. وهي هوة تكرس عملية إعادة إنتاج متواصلة لظاهرة اتساع الشقة بين نخبة مشدودة إلى الغرب ونخبة مكبلة بالماضي، نخبة مغتربة وأخرى منغلقة، نخبة تقرأ الماضي في المستقبل وأخرى تقرأ المستقبل في الماضي…
وهناك من جهة ثانية غياب التنسيق الجاد، والتضامن المتواصل والتكامل المتنامي، بين الأقطار العربية. والحاجة إلى التنسيق والتضامن والتكامل لم تعد قضية ترف إيديولوجي بل هي اليوم، في عالم العولمة، ضرورة وجودية. إن “الكتلة الإقليمية العربية” هي كتلة تاريخية بمعنيين: فمن جهة هي ضرورية لتغلب الدولة القطرية العربية على مشاكلها الخاصة، وهي أيضا ضرورية للوقوف في وجه المنافسة والهيمنة داخل العولمة.
ومن جهة ثالثة ليس في أي قطر عربي قوة مهيمنة، هيمنة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، قادرة موضوعيا وذاتيا على “النيابة” عن الباقي في تحقيق التنمية والتقدم. إن شرط الاشتراكية كان هو هيمنة الطبقة العاملة، وشرط الليبرالية هو هيمنة الطبقة الرأسمالية. وحيثما تغيب إمكانية هيمنة هذه الطبقة أو تلك تصبح إمكانية تعميم مشروعها الإيديولوجي حلما مستحيل التحقيق. والنتيجة أن الكتلة التاريخية التي تؤجل فيها المشاريع الإيديولوجية الفئوية الطبقية لفائدة المصلحة الوطنية، مصلحة الجميع، هي المخرج الوحيد في نظرنا من الوضع الذي يسود المنطقة العربية حاليا: وضع التفتت والحيرة وغياب أي مشروع للمستقبل. إن الليبرالية الجديدة والقديمة على السواء ليست -بسبب من طبيعتها ذاتها- مشروعا للمستقبل، بل هي دوما “مشروع الحاضر”. ومن المؤكد أن ميولاتها وتوجهاتها ستتغير بمجرد ما تلمس أن الحاضر آخذ في التغير. أليست تقوم فلسفيا على مذهب التجريبية empirism، وأخلاقيا على مذهب المنفعة . pragmatism
……………………………………………..
1- ندوة “الحكم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومكافحة الفقر” التي عقدتها الإيسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة) بالقاهرة ما بين 11-13 نوفمبر 2001
………………………………………………
محمد عابد الجابري يدرس الفلسفة والفكر الإسلامي بكلية الآداب ،جامعة محمد الخامس الرباط، منذ 1967