الواجب الأول: الماوردي - ميكافيلي
مرسل: السبت نوفمبر 07, 2009 1:10 am
بسم الله الرحمن الرحيم
فيما يقوله الناس عن أن قانون العالم هو قانون غاب, لا يعرف المثاليات والأخلاق النبيلة الفاضلة, عالم يسيطر فيه القوي ويحاول بشتى الوسائل أن يحقق أهدافه بأي طريقة, حتى لو كان الثمن التجرد من الإنسانية. وهذا ما قاله ميكافيلي في كتابه ( الأمير ) الذي هو حتى الآن موضع للجدل, ومقولته الشهيرة ( الغاية تبرر الوسيلة ). وفيما يلي سنعرض هذه المسألة, ونرى توافقها أو تعارضها مع الفكر السياسي في الإسلام وسنبدأ بطرح قواعد ميكافيلي يليها آراء الماوردي في السياسة الإسلامية من هذه الناحية.
أولا : أراء ميكافيلي في السيطرة على الحكم :
ميكافيلي الذي عاش يحلم برؤية الوحدة الإيطالية قدم كتابه ( الأمير ) لأمير فلورنسا معتبره كتاب نصح, يوضح فيه أساليب الحكم الصحيحة من وجهة نظره في سبيل توحيد ايطاليا, فبدأ حديثه بأن الأمير الجيد يجب أن يمنع أي شي يمكنه أن يهدد حكمه أو يكون سببًا في زوال سلطانه, فعلية بهذا الصدد أن يخاف من القريب والبعيد, ويخاف في الداخل من شعبة وفي الخارج من الدول الأخرى, وعلية أن يتخلص من حساده وخصومه, ويتخلص من كل من يرى أنه يشكل خطرا على حكمة, وذلك حتى يكون جديرا باللقب الذي يحمله. لذلك فليس عليه أن يهتم بفضائل الأخلاق ومكارمها , فالأمير الذي يريد دوام سلطانه عليه أن يحاول ذلك بشتى الوسائل, دون الالتفات للطريقة التي سيفعل ذلك.
وفي تعامل الأمير مع رعيته يقول ميكافيلي أنه ليس عليه أن يكون طيبا لينا محبوبا لأن ذلك من شأنه أن يزعزع حكمه, حيث إن الشعب سيظل يحبه مادام يحقق مصالحهم. فإذا هو أعرض عنهم سخطوا عليه, لهذا السبب يقول أن عليه أن يكون مهاب الجانب شديد البأس لا يجرؤ على معارضته أحد, فإن الهيبة والخوف دائم, أما المحبة فهي متغيرة مرتبطة بتحقيق المصالح. وكذالك رأيه في الكرم, فإن على الأمير أن يكون بخيلا إذا ما كان كرمه سيؤدي إلى فقره, فإنه مع الفقر سيبتعد عنه من حوله.
وهذا فيه رأيه ما يدعم سلطان الأمير ويديمه لأنه في عالم مليء بالبشر الذين يغلب على طبعهم الشر والحسد والحقد والرياء والنفاق والكذب وحب الذات ودائما ما تكون أعينهم في ما تحمله أيادي غيرهم . ولهذا السبب يرى ميكافيلي أن على الأمير أن لا يهتم بمعاملة شعبه بالأخلاق المثالية, فإذا كان عمل الرذائل من ظلم أو بطش أو حتى إن كان قتله لأبنائه سيدعم سلطانة وحكمة فعلية أن يفعل هذه الأمور.
أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية, فعليه أن ينهج نهج القدماء, فيستخدم أساليب الإنسان والحيوان, فعليه أن يكون أسدا وثعلبا في الوقت نفسه, لأنه إن كان ’سدا فقط لن يعرف ما يمكر له, وإن كان ثعلبا فقط فلن يستطيع غلب الذئاب. ففي سياسته الخارجية عليه أن يكون كالأسد قويا باطشا, وكالثعلب ماكرا منافقا, فلا يراعي ضميره في شيء, لا في وعوده أو عهوده إن رأى أن في نكثها مصلحة له, ويبرر ميكافيلي ذلك بأن الناس ليسوا أخيارا ولا يراعون أحدا ولا يصدقون عهودهم.
هذا ما قدمه ميكافيلي في فصل السياسة عن الأخلاق ولا يزال هذا هو الأمر الذي طالما لجأ إليه الحكام والساسة في تثبيت حكمهم باعتبار أنه الوسيلة الأكثر نفعا.وإذا جئنا لنرى وجهة نظر السياسة الإسلامية في فصل السياسة عن الأخلاق, سنطرح رأي الماوردي بحكم أنه رائد الفكر السياسي الإسلامي.
ثانيا : الماوردي وما كتبه في تعزيز الحكم :
ما قاله الماوردي وكتبه في أكثر من كتاب ينصح به الحكام وبين لهم الطرق والوسائل وقواعد السلوك السياسي التي يستطيع الحاكم إن هو عملها أن يدعم حكمة ويقوم أمور سلطانه. وكان ما كتبة كله مستندا إلى القيم الإسلامية السامية,المستندة بشكل أساسي إلى القرآن الكريم والسنة النبوية, والتي تعد سياسة أخلاقية بعكس ما كان يراها رواد الفكر السياسي الغربي.
فإن الماوردي ينصح الحاكم وغيرة من السياسيين بالتمسك بالأخلاق الفاضلة, حيث يقول: ( حق على ذي الإمرة والسلطان أن يهتم بمراعاة أخلاقة, وإصلاح شيمة, لأنها آلة سلطانة, وأساس إمرته ).فيخبر بأنه من أراد أن يدوم له سلطانة, فعلية أن يتحلى بمكارم الأخلاق, وهذا أيضا سيكون سببا في أن يتبعه الرعية في هذه الأخلاق, لأن الناس على دين ملوكهم. وقد نهى الماوردي أيضا عن التكبر, وعن قبول المدح من المنافقين, لأن من يستند على المنافقين سيخسر الناصحين المخلصين.
وينصح أيضا بالتزام الصمت قدر الإمكان, فإن أضر السلطان للكلام فعلية أن يتريث ويمعن في التفكير لأنه سيكون محط الأنظار, وأنه مهما يقول فلن يستطيع التراجع عن قوله. ويذكره أيضا بأنه علية أن لا يفشي سره ولا يبين مكنون صدره في وجهه, فلا يكون كتابا مفتوحا يعرف ما بداخله من النظرة الخارجية له, لأن ذلك كما يقول الماوردي أدعى لتحقيق الأهداف.
وأيضا مما دعا له الماوردي الحاكم, بأن يكون صادقا لا كاذب, لأنه أليق به وأعلى مكانةً وقاماً. ولكن أستثنى من ذلك ما يكون من خداعا وحيلة في الحروب والمعارك فإنه قد قال الرسول - صلى الله علية وسلم- : "الحرب خدعه".
ويحث بعد ذلك الحاكم على استعمال أسلوب الترغيب والترهيب, ويقول بأنه في أي حالة من الحالتين السابقتين على الحاكم إن ينفذ أقوالة, فلا يزيد فيها ولا ينقص, بحيث تتماشى أفعالة مع أقوالة. ويطالبه بتجنب الغضب وأن لا يتخذ قراراً وهو في حالة غير جيده كي لا يتحمل عواقب وخيمة, بسبب قرار غاضب, لأن الغضب دائما يبعد عن طريق الصواب, ويخالط القرارات ببعض الزلل. وعلى الحاكم أيضا أن يعرف كيف يكون لينا ورحميا في المواقف المؤثرة التي تحتاج تعاطفا ورحمة. وكيف يكون غليظا قاسيا حاد الصوت في المواقف التي تحتاج أن يكون فيها حزما وجزما, ليحقق المصلحة المرجوة من ذلك الأمر في تحقيق العدل ودرء الفساد.
ومن ذلك نرى أن القسوة عند الماوردي مرفوضة, كما أن الرحمة مطلوبة بدون أن يبالغ فيها, كي لا تنقلب وتصبح مضره بدل أن تكون نافعة. فقد قيل أن كل شيء يزيد عن حدة ينقلب إلى ضده. وهذا هو الأمر الذي ركز علية الماوردي العدل والاعتدال, حيث اعتبره أساس الحكم ومقوم للدولة, فبالعدل تستقيم الأمور. وعلى الحاكم أيضا أن يعتدل في إنفاقه من أموال الدولة فهو مؤتمن عليها, وعليه بهذا الصدد أن يضعها في المواضع التي وضحها الشارع له. وعليه أيضا أن لا يكون بخيلا في الإنفاق منها, ولا مسرفا فيها.
وأما النقطة التي والقاعدة الذهبية التي كررها هذا المفكر أكثر من مره وتقريبا في كل كتبه هي الشورى, فقد كان يركز عليها دائما موضحا أهميتها, ومحذرا من الاستبداد السياسي برأي الحاكم ولا يحكم رأيه وحده في الأمور المصيرية خاصةً. لأنه كما يقول : ( من استغنى برأيه ضل, ومن اكتفى بعقلة زل ), فرأي الجماعة أفضل من رأي الشخص المنفرد.
وكما اختلف الماوردي مع ميكافيلي في النقاط السابقة فقد اختلف أيضا في مسألة الوفاء في العهد والوعد, فالماوردي يحذر الحاكم من أن يخلف بعهده فهو أمر مشين بالناس عامة, فكيف هو إذّا كان قد صدر من حاكم؟
ويرى الماوردي أنه على الحاكم أن يجد في الاستخبار عن حال رعيته ومسلك موظفيه ومرؤوسيه, ويجب أن يخصص لهذا العمل الأمين الصادق الكفء المخلص, ليعرف ما يدور حوله على حقيقته, بطريقة يستطيع بها إن يصلح ما اعوج في سلطانة. وعليه أن يعرف أيضا ما يحدث في البلدان المجاورة, ويتقصى عن أحوالها لأنها ستؤثر على حكمة أن تم استغلال أحد مواقفه أو أحد الأوضاع الحاصلة ضده.
وبهذا نختم هذه المناظرة المختزلة بين المفكر ميكافيلي الذي يفصل السياسة عن الأخلاق, وبين الفكر السياسي الإسلامي الذي يعتبر الأخلاق فيه أحد مقوماته التي لا تنفصل عنه.