العالم من بعدنا
مرسل: الاثنين نوفمبر 23, 2009 2:07 pm
“ماذا بعد أن يختفي كل البشر؟”.هذا التساؤل الرهيب في جوهره وتفاصيله قائم في الأساس على قاعدة كَونيَّة بسيطة: كل المخلوقات مآلها للفَناء.
لكن فلنأخذ هذه القاعدة البدهية ولنلوِ أطرافها قليلاً. لنتخيل أن البشر بالذات –دوناً عن كل أشكال الحياة الأخرى- قد اختفوا من هذه الأرض. لنتخيل عالمنا اليوم وقد خلا تماماً من أي ابن آدم. لا يهم إن كان ذلك قد حصل في طرفة عين أو خلال فترة زمنية ما. المهم أننا سنقف عند اللحظة التي لم يعد فيها إنسان واحد على قيد الحياة. والسؤال الذي سنطرحه ليس عن الكيفية التي اختفى بها البشر.. لكنه عن المصير الذي ستواجهه الحضارة التي خلّفوها وراءهم.. عن مظاهر المدنية بأسرها: الطرق والسدود وناطحات السحاب. المساكن والمستشفيات والمصانع. مصادر الطاقة ووسائل الاتصال وحتى الأثاث المنزلي والحيوانات الأليفة. ناهيك عن التراث الفكري بصيَّغه التقليدية والإلكترونية. كيف سيمر العام الأول بلا بشر على هذه (المخلّفات) كلها؟ وإذا كُتِب للحياة –بصورها الأخرى- أن تستمر لألف عام بعد فَناء الناس، فكيف سيكون شكل العالم.. الذي شكَّلَته حضارتُنا.. من بعدنا؟
العالم من دوننا ميت.. حقاً؟!
لوهلة، يبدو إرغام العقل على تصور ثمة مشهد صعباً وقاسياً. أن نتخيل مدناً بأكملها، (نيويورك) أو (لندن)، (القاهرة) أو (جدة)، خاوية على عروشها. بلا ضوضاء ولا زحام ولا ملايين الوجوه والأصوات والروائح البشرية التي تمتزج بها لترسم ملامح الحياة الإنسانية. أن نتخيل ساحة الـ (تايم سكوير) أو ميدان (التحرير) فارغين وصامتين، وشوارع (شانغهاي) و (دبي) بلا أي حركة سيارات عبرها.
النجاح في استحضار هذه الصورة الخيالية سيقودنا لقناعة أوليّة واحدة. تخيُّل أي من هذه الحواضر بلا بشر يدبون على أرضها.. تصوّرها بدون أصوات تخترق سكونها إلا حفيف الشجر، هديل الحمام بالنهار ونباح الكلاب الضالة بالليل سيدفعنا دفعاً لإعلان هذه الأماكن “مُدناً ميتة”. سنعتبرها كذلك بدون أن نلقي بالاً لجزئيتي “الحمام” و “الكلاب” الواردتين بعاليه!
الحقيقة أن النقطة الأولى التي يجدر بنا أن نعيها ونتأقلم معها وقد ارتضينا الخوض في هذه اللعبة التخيلية، وهي النتيجة التي سنخرج بها من هذا الموضوع بأسره، هي مدى هشاشة وهامشية وجودنا البشري. نحن البشر اعتدنا أن نعتبر أنفسنا كـ “محور للوجود” مقابل باقي الكائنات التي تشاركنا الحياة بهذه الأرض. نحن وعبر حضارتنا الصناعية التي أوصلتنا لقمة المدنية قد أسأنا تأويل الكيفية التي (سُخّرت) لنا بها هذه الأرض بمواردها وموجوداتها. حَولنا علاقة الشراكة بيننا وبين هذه العناصر إلى علاقة استنزاف واستهلاك من طرف واحد بصفتنا “كائناً مسيطراً”. والحقيقة المدهشة التي سيأخذنا إليها تصور هذا العالم من بعدنا تتعلق بزيف هذه السيطرة، وبعظمة الخلق واتساع دائرة الحياة التي ستتجاوز وجودنا لتنتعش بل وتتعافى من الأدواء التي صنعناها نحن؛ مبتلعة عبر السنين أي أثر لحضارتنا التي نراها فائقة وعظيمة. العالم من بعدنا سترثه كل أشكال الحياة الأخرى الحيوانية والنباتية. ومخلفات حضارتنا سترتع وتمرح فيها الكائنات المجهرية قبل الكبيرة، هي وكل عوامل الطبيعة الأخرى.
الإنسان خلال تاريخه على هذه الأرض قد أوجد، دوناً عن سائر المخلوقات، علامة فارقة بين ماهو (طبيعي) وماهو (صناعي). الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تجاوز مرحلة (التكيّف) مع الظروف الطبيعية إلى (التمرد) عليها وتحديها. والإنسان كان الكائن الذي لوى ذراع البيئة وعناصرها وطغى بحضارته على توازنها فأخلَّ به.
ما سيحصل، في حال اختفاء الإنسان، هو عودة للحالة الأولى.. قبل ظهوره. الغابات والمحيطات والصحاري ستدير ذاتها بذاتها كما خُلقت لتفعل منذ ملايين السنين. وفي اليوم الذي يختفي في البشري الأخير، فإن الحياة الفطرية ستتولى الزمام.. وستبدأ في تنظيف المشهد!
اليوم الأول بعد اختفاء البشر
المتانة المزيفة للحضارة البشرية ستنكشف خلال الساعات الأولى لغياب الإنسان عن الساحة. فحضارتنا بكل تعقيدها وعظمتها الظاهرية هي في الواقع حضارة اصطناعية.. استمرارها قائم على الصيانة المتواصلة. وبانتفاء هذه الصيانة والحماية ضد العوامل (الطبيعية)، فإن معالم وجودنا ستقع في يد العدم. وستكون مجرد مسألة وقت لتنهار الواحدة تلو الأخرى.
لنفهم الصورة أكثر فإننا سننتقي مدينة كبرى ما.. لتكن (نيويورك) أو (القاهرة). مظاهر المدنية الأبرز في أي من هذه الحواضر تتمثل في شبكات الربط الكهربائي والاتصال والطرق. هناك أيضاً البنى التحتية الخاصة بالمياه والصرف الصحي، وأنفاق القطارات تحت الأرض. ثم المنظومة العمرانية التي تقوم فوقها: ملايين البيوت والمتاجر والمصانع والمستشفيات، ومحطات التكرير والتوليد. وملايين الأطنان من المواد الأولية والمستصنعة التي تدخل في تركيب أضعافها من الآليات والمستحضرات. كل هذه وغيرها تعتمد كلياً على المُشغّل الآدمي، وبغيابه فإنها ستتوقف عن العمل.. إنما ليس فورياً.
خلال البضع ساعات الأولى لغياب البشر لن يتغير المشهد العام بشكل جذري. المحطات ستستمر في تغذية المدن بالكهرباء. المصابيح التي تُركت مضاءة ستبقى كذلك ومثلها إشارات المرور ولوحات الإعلانات وشاشات التلفاز التي لن تنقل سوى مشهد انقطاع الإرسال. سيبدو الكوكب كما لو أنه منزل هائل هجره سكانه بغتة.
للسخرية.. فإن الوحيدين الذين سيفتقدوننا خلال ساعات غيابنا الأولى هم الحيوانات الأليفة والداجنة التي روضها الإنسان عبر آلاف السنين لتصبح معتمدة عليه في مأواها وغذائها. ومعها أيضاً ستستأخِرُنا الحيوانات المتوحشة المأسورة في الحدائق. هذه الكائنات كلها سيعضها الجوع وستحاول الخروج من البيوت والحظائر بحثاً عن الطعام.
مع نهاية اليوم الأول ستبدأ آثار غياب الإنسان في الظهور أكثر. المحطات والمصانع ذاتية التشغيل ستوقف نفسها عن العمل آلياً مع تراكم إنذارات زيادة الحِمل وعدم وجود مراقبين يديرون المفاتيح اللازمة. مكائن توليد الكهرباء وتحلية المياه ستتوقف عن الدوران بعد نفاد وقودها الكربوني. حتى مفاعلات الطاقة النووية ستغلق ذاتها آلياً بعد 24 ساعة من غياب الإشراف. وهكذا فإذا كانت الليلة الأولى ستمر ومعظم الأضواء الصناعية تلفظ أنفاسها، فإن الليلة الثانية ستكون مثالاً للظلام الدامس عبر الكوكب بأسره. ويجادل البعض بأن آخر بقعة ستتلألأ بالضوء الصناعي عل سطح الكوكب هي مدينة (لاس فيغاس) بولاية (نيفادا) الأميركية التي تغذيها المولدات الهيدروليكية لسد (هوفر) العظيم والمصممة لتعمل بدون تدخل بشري لأسابيع وربما أشهر!
اليومان الأولان لن يمرا بدون حوادث طبعاً فهناك آبار ومحطات تكرير وقود وغاز تدور بلا مراقبة قبل أن تنقطع عنها الطاقة. بوسعنا أن نتخل إذاً بضعة حرائق هائلة عبر مدن العالم خلال هذه الفترة. أما تحت الأرض فإن (كارثة) آخرى ستتكون سريعاً. فكل المدن الكبرى حول العالم تسبح في الواقع فوق بحيرات هائلة من المياه جوفية التي تغذيها البحار والأمطار وبرك الصرف الصحي كذلك. هذه المياه تهدد أنفاق (المترو) والقطارات تحت الأرض. وما لا يعرفه الكثيرون هو أن هناك جيوشاً من الفنيين والأجهزة تتعامل مع هذه الظاهرة على مدار الساعة تلافياً لغرق شبكات المواصلات تحت الأرضية. مدينة (نيويورك) مثلاً تعتمد على 1700 مضخة لتخليص الطبقة الأرضية أسفل شوارعها من 130 مليون جالون من المياه الجوفية كل يوم. وفي غضون 36 ساعة من غياب البشر وتوقف عمليات الضخ هذه فإن كل شبكات النقل تحت شوارع المدن الرئيسية في العالم ستكون قد انغمرت تماماً في بحر من المياه الآسنة.
يمكن القول بأن اليومين الأولين لغياب البشر سيكونان حافلين بـ (القذارة). فمع انقطاع الكهرباء فإن مخزونات اللحوم والثمار في ثلاجات البيوت والمتاجر وفي المستودعات ستتعفن كلها. كما وأن نسبة كبيرة من الحيوانات الأليفة ستكون قد هلكت جوعاً لتبقى جثثها حبيسة المنازل والأقفاص. الحيوانات الكبيرة والمواشي ستهيم على وجوهها -يوجد في العالم حوالي نصف مليار كلب مستأنس، و 1.3 مليار رأس من الأبقار- أما ملايين الجرذان والصراصير وسواها من الكائنات المعتالة على القمامة البشرية فهذه ستفتقدنا هي الأخرى وتترك مخابئها لتستكشف هذا الوضع الجديد.
كيف ستنهار الحضار؟
يقول الخبراء أن حضارتنا الاصطناعية ستبدأ في التضعضع فعلاً مع أول شهر (مارس/آذار) يمر عليها من دوننا. حين يكون الشتاء بقسوته قد فرغ من تسديد ضرباته للمباني والهياكل المعمارية، مفسحاً المجال للمملكة النباتية لتكتسح كل ما في طريقها.
خلال سنة واحدة من اختفاء البشر، فإن النبْتَات البرية والحشائش ستكون قد أطلت من كل شق وكل فجوة تسقط عليها الشمس عبر مدننا جميعها.. بما في ذلك شروخ الأسفلت وأسطح المباني الأسمنتية والخشبية وأنابيب المياه الجافة. الفئران ستكون قد أجهزت على كل فضلة غذائية وصلت إليها وواصلت الاقتيات على المكونات العضوية لمواد البناء والأثاث. أما الوحوش البرية التي عاشت يوماً على تخوم المدن فستكون قد استوطنت منازلنا ومكاتبنا منذ ستة أشهر كاملة.. بعدما تأكدت من غياب الناس وجذبتها الوفرة الغذائية لقطعان المواشي الهائمة. مدننا الصحراوية ستكون أفضل حظاً من هذه الناحية. فباستثناء أشعة الشمس التي تصليها دوماً، فإن لا شيء سيغزو المباني المهجورة إلا أمواج الرمال والغبار الذي سيغطي كل سنتيمتر مربع من غرفها. وفي غياب وسائل التبريد، فإن المنازل المغلقة ذات الجدران العازلة ستتحول إلى أفران صغيرة تميع فيها هياكل المنتجات البلاستيكية والورقية. ومن نافلة القول أن هذه المنازل ستغدو هي الأخرى مآوي للكائنات الصحراوية.
خلال هذه السنة الأولى فإن حرائق الغابات سوف تستعر بدون أن يطفئها أحد عنوة. ولا يستبعد أن تصل هذه لمراكز بعض المدن الهامة كـ (شيكاغو) و (لوس آنجليس) فتسوي معمارها الخشبي بالأرض. هذه الحرائق إذا ما قدر لها أن تطال مصافي النفط أو مخزونات الغاز الطبيعي في الأنابيب والمواد الكيماوية المكدسة بالمصانع فإنها ستستعر أكثر وستمحو المزيد من المعالم. لكن هذه لن تكون في مجملها أكثر من (خدوش) في وجهه الحضارة.
التغييرات الأكثر تأثيراً ستحدثها ببطء وتؤدة عوامل من قبيل التغيرات المتطرفة في الطقس، الرطوبة والصدأ، مياه الأمطار المتجمعة داخل الشقوق والمتحولة إلى ثلوج شتاءاً، الزحف الصحراوي والترسبات الملحية.
هذه العوامل التي نتعايش معها يومياً ونقاومها على مدار الساعة تمثل أكبر هموم مهندسي الانشاءات وفنيي الصيانة في كل مكان. الصدأ هو العدو الحقيقي لكل منتج فولاذي.. من قضبان الخرسانية التي (تدعّم) الملاط الاسمنتي وحتى جسر (البوابة الذهبية) في (سان فرانسيسكو). الأملاح التي تتراكم على الهياكل الحجرية تعمل على تفتتيها ببطء. هذه العوامل كلها ستمارس نشاطها بدون جيوش عمال الصيانة الذين كانوا يزيلون آثارها.
إلا أن القوة الطبيعية الأشد تأثيراً إطلاقاً سيمثلها الغطاء النباتي الذي عمل الإنسان طوال آلاف السنين على إزالته كي يؤسس مدنه فوقه.. ليعود بعد غيابه ويسترجع مكانته وكأن شيئاً لم يكن. بدون أي بستنة أو عمليات جزّ، فإن الأشجار ستأخذ في النمو خلال بضع سنوات عبر أسفلت الشوارع في الساحات ومواقف السيارات. أرضيات الملاعب ستتحول لغابات حقيقة تحجب أغصانها الشمس. كما وأن النباتات المتسلقة والحشائش ستفترش دواخل أي مبنى يمكننا تخيله: المستشفيات والمصانع والأبراج السكنية أيضاً.
بعد عشرين عاماً ستأخذ الهياكل الخرسانية للمباني في التآكل بعد أن تمددت أجوافها بسبب تسلل الرطوبة لدعامتها الخرسانية، وستستعمر الحيوانات والطيور فجواتها. وخلال 25 عاماً من اختفاء البشر وتعطل السدود وأنظمة التصريف الصناعية، فإن أجزاء رئيسية من (أمستردام) و (لندن) ستكون قد انغمرت تحت الماء. ستكون المدن قد تحولت لغابات حقيقية تمرح فيها الوحوش بما فيها تلك التي كانت مهددة يوماً بالانقراض والتي زال مهددها الرئيسي عن الوجود، وستختفي سلالات الحيونات الأليفة تماماً. وبعد 40 سنة من اختفائنا فإن هياكل المباني الخشبية (90% من بيوت أمريكا) ستكون قد انهارت تماماً وسويت بالأرض بفضل الحشرات الآكلة كالنمل الأبيض، هذا إذا لم تكن الحرائق والنباتات المتسلقة قد أجهزت على نسبة معتبرة منها.
القرن الأول بعد الغياب
المائة إلى المائة والخمسين عاماً الأولى من عمر العالم بدوننا ستكون حاسمة بالنسبة لكل النفايات الحديدية التي تركناها ورائنا. هذه ستشمل الـ 700 مليون سيارة المهملة في الشوارع، وملايين هياكل السفن والطائرات، أضافة للجسور المعلقة والأبراج الفولاذية. بدون طلاء ولا استبدال أجزاء تالفة فإن قرناً كاملاً من الصدأ سيفتت التركيب الجزيئي للفولاذ ويحوله لمسحوق. هنا ستبدأ مدننا في الانهيار بالمعنى الحرفي للكلمة. الجسور العظمى حول العالم ستتهتك حبالها الفولاذية لتسقط في المياه التي امتدت فوقها. المركبات ستتآكل بما عليها من نباتات متسلقة وسيكون من المستحيل التعرف على أي هيكل معدني لسيارة بعد 150 سنة. أما الأعمدة الفولاذية التي ترفع أسقف الأنفاق تحت الأرض وترفع الشوارع المعبدة فوقها كذلك.. فهذه بعدما غمرتها المياه الجوفية في الساعات الأولى من القصة فقد أخذت في التفكك والانهيار أخيراً ساحبة معها أرضيات الشوارع والأرصفة فوقها . لتنكشف الأدوار السفلية للمدن وتتحول مجاريها الداخلية لأنهار تجري على (السطح) الجديد.
خلال هذه الفترة أيضاً فإن مخزونات النفط المكدسة في ملايين البراميل وداخل مستودعات الاحتياط، والتي كانت عصب حياتنا العصرية يوماً، ستكون هذه الكميات من النفط قد اختفت بعد أن تكاثرت وتغذت عليها طيلة قرن سلالات من البكتريا المجهرية!
مصير الثروة النفطية سيتكرر أيضاً مع الثروة الفكرية للبشرية والمدونة على الورق والقماش. هذه الكنوز هي اليوم محفوظة في المتاحف والمكتبات تحت ظروف حرارة ورطوبة دقيقة. خلال 100 عام من التقلبات الحرارية داخل مخازنها فإن أسعد هذه الكنوز حظاً – تلك التي لم تقع عليها أشعة الشمس ولم تأكلها الحيوانات باكراً- ستكون قد اهترأت تماماً وتحولت لغبار. الوثائق الإكترونية مصممة لتعيش أكثر من ذلك في الظروف (الاعتيادية).. هذا إذا ضمنا إلا تكون قد تعرضت للبلل أو الاحتراق أو طمرتها الرمال والنباتات الطفيلية!
فترة انهيارات الأبراج والمباني العظيمة التي ترمز اليوم لمدينتنا المهيبة ستبدأ بين 100 إلى 300 سنة من تاريخ اختفاء البشر. المباني الفولاذية الصرفة –كبرج (إيفل) الباريسي- ستنهار أولاً بفعل قرون من الصدأ والتقلبات المناخية. ثم ستليها ناطحات السحاب الخرافية التي تضعضعت أساساتها بفعل ارتفاع المياه الجوفية وتشققت بُناها بسبب المياه إيضاً إضافة للأشجار والحيوانات التي ستستعمر كل طابق منها. ناطحات (دبي) و(نيويورك) و (شيكاغو) ستنهار خلال 3 قرون من الإهمال في مشهد مهيب لن يشهده كائن عاقل واحد.
بعد 500 سنة فإن المباني الاسمنتية (الحديثة) ستأخذ في السقوط هي الأخرى بعدما استنفدت أساستها ودعاماتها مقاومتها. قد يكون من المدهش أن تنهار هذه المباني خلال هذه الفترة الوجيزة في حين أن مبانٍ أثرية أخرى ما تزال وربما ستستمر قائمة بعدها. لكن المدهش أكثر أن منتجات حضارتنا المعاصرة تحمل في داخلها مبررات فنائها. فالخلطة الاسمنتية مدعمة بالحديد، وهذا كما ذكرنا سيقع ضحية الصدأ وهو ما لا يحدث مع الملاط الذي استخدمه أجدادنا قبل آلاف السنين. كما وأن المادة الاسمنتية الحديثة تحوي مياهاً وجيوباً هوائية أكثر بكثير من نظيرتها المستخدمة قديماً. ما يعني أن مباني منازلنا ومكاتبنا ستنهار قبل (الكولوسيوم) في (روما) ومعابد (الكرنك) وآثار (بعلبك) بوقت طويل!
ماذا سيتغير؟ ماذا سيبقى؟
بعد 1000 سنة من انسحاب الجنس البشري من مسرح الحياة، فإن لاشيء من مظاهر حضارتنا.. مدننا، مصانعنا، مزارعنا ومنشآتنا.. لا شيء من هذا ولا سواه سيكون ظاهراً للعيان. ستكون الأرض قد عادت لحالتها الطبيعية الأولى.. تقريباً.
مظاهر الحضارة التي لم تنهر أو تغرق أو تحترق ستكون قد اختفت تحت غضاء كثيف من النباتات والرماد. وفي المناطق القاحلة فإن زحف الرمال وعواصف الصحراء سيتكفلان بطمس المشهد البشري تماماً. هذا إذا لم يلف الأرض عصر جليدي ثانٍ يمحو ما كان قبله.
حتى المباني الأثرية الحجرية التي اتفقنا أنها تفوق مبانينا متانة.. حتى هذه – باستثناء أهرامات الجيزة وأجزاء من سور الصين ربما- ستختفي خلف الشجر وتحت التراب طالما لايوجد من يدفعهما عنها. ستجري الأنهار مجدداً مكان الشوارع التي بنيت فوقها.. وستتغير تضاريس السواحل وفقاً لسطوة الأمواج. أما التضاريس الصناعية التي أوجدانها بأيدينا كقنوات (السويس) و (بنما)، فهي ستلتئم وتختفي كأنها لم تكن.
هذا التصور السوداوي أعلاه ليس كله ضرباً من الخيال. بل هو مبني جزئياً على أمثلة صغيرة موجودة حولنا اليوم. هناك بقايا مدينة (Angkor) الحجرية في قلب غابات (كمبوديا) والمهجورة منذ مئات السنين. هناك المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين والتي لم يستعمرها بشر منذ 1957. وهناك مدينة (Pripyat) الأوكرانية والتي غدت مدينة أشباح منذ كارثة (تشيرنوبل) النووية عام 1986. هذه المواقع كلها تتيح لنا فرصة تأمل الكيفية التي ستتعامل بها الطبيعة مع مخلفات مدنيتنا.
إذا أغرقنا في الخيال –أكثر- وافترضنا زيارة كائنات فضائية عاقلة لكوكبنا بعد مرور عشرة قرون على اختفائنا، فإن هؤلاء الزوار سوف لن يعثروا غالباً على أي دليل يشير لوجود حضارة عاقلة قبلهم بهذا المكان. كل ذكرياتنا سوف يطويها العدم.
لكن هذه العبارة الأخيرة ليست دقيقة تماماً. هناك مخلفات لحضارتنا الصناعية ستظل موجودة في تركيبة الجو والماء طويلاً بعد أن نرحل وبعد أن تختفي كل منشآتنا الكبيرة. فالمبلمرات الصناعية الكربونية. مركّبات البلاستيك التي تدخل اليوم في صناعة كل شئ تقريباً.. الأكياس والحاويات والإلكترونيات والدهانات، مستحضرات التجميل والنايلون وقوالب (الستايروفوم). كل هذه (الملوثات) التي نشتكي منها اليوم.. هذه لن تفنى ببساطة. وستظل (آثارها) باقية في البيئة لآلاف السنين بعدنا. المطاط الصناعي لعجلات السيارات سيصمد هو الآخر. سينتظر من ينتشله من تحت الأرض يوماً كدليل إثبات.
حتى ثاني أكسيد الكربون الذي نلقي عليه بلائمة ظواهر (الاحتباس الحراري).. لن تُحل مشكلته مع كوكب الأرض بمجرد غيابنا. فالحسابات تشير إلى أننا لو توقفنا –تماماً- عن ضخ المزيد من هذا الغاز لطبقات الجو، فإن الكوكب سيحتاج إلى 100 ألف سنة كي تتوازن نسبة غاز الكربون في الأجواء والبحار وترجع لما كانت عليه قبل العصر الصناعي!
آخر ما سيتذكره الكون من آثار حضارتنا على الإطلاق ستمثله موجات الإذاعة والتلفاز التي ستتردد –نظرياً- عبر أجواز الفضاء إلى الأبد. لكن هذه الموجات ستكون غير ذات قيمة حتى لو التقطتها حضارة متطورة أخرى. لإنها ستضعف وتفقد قدرتها على حمل أي رسالة مفيدة خلال مسافة لا تتجاوز السنة الضوئية الواحدة.
لكن، هل يمر وجودنا على سطح هذا الكوكب هكذا بدون أي أثر إيجابي على كائناته؟ ألن تتأثر أي من المخلوقات الحية التي ستبقى بعدنا بالتجربة المشتركة التي خضناها معاً خلال بضعة عشر آلاف من السنين؟
بالنسبة للحيوانات المستأنسة التي وُجدت عبر عمليات التهجين، فمعظمها سوف لن يستمر. كلاب وقطط الزينة الأليفة سوف لن تعيش بعدنا لأكثر من أسبوع. والأخرى الأكثر تحملاً سوف تفتك بها الضواري الحقيقية التي ستستعمر المدن. لاشيء يمنع تخيل حصول عمليات تزاوج بين بعض السلالات (الداجنة) التي قاومت الفناء والحيونات البرية.. والتي ستنتج في النهاية أجيالاً متوحشة أيضاً إنما ذات صفات أكثر تنوعاً.
الكائنات المعتالة على البشر، كالفئران والصراصير وحتى النوارس التي انتعش تعدادها بفضل الغذاء والدفء الذي وفرته البيئة الصناعية، هذه ستتعرض لانتكاسة شنيعة عقب اختفائنا، ثم ستتطور لتغدو أكثر اعتماداً على أنفسها. هناك –على كلٍ- سلالة حية ستختفي تماماً معنا: حشرة القمل التي تعتاش على الجسم البشري، وشقيقتها التي تعتاش على النسيج القماشي. هذان النوعان سيفقدان باختفائنا موارد حياتهما الوحيدة!
بالنسبة لحضارتنا الزراعية فهذه لن تصمد أبداً أمام الزحف الطبيعي. نباتات المحاصيل التي طورناها ونشرناها عبر آلاف السنين ستموت مع انعدام الرعاية البشرية وأطنان السماد الكيماوي. وتلك التي ستتكيف مع الظروف البرية ستنتج بالتأكيد ثماراً مختلفة عن التي نعرفها. ومع أن الإنسان قد حوّل 12% من مساحة الأرض إلى مزارع في حين خصص 3% فقط لأجل مدنه، إلا أن المدن ستصمد أكثر من المزارع بكثير.
بقيت البحار التي تشكل ثلاثة أرباع مساحة الكوكب. هذه ستنتعش مجدداً بعدما كاد الإنسان يفتك بثروتها السمكية. كما وأن التلوث سينقطع عنها باختفاء سيول الصرف الصحي ومخلفات السفن والمصانع وحوادث بقع الزيت.
باختصار، يبدو أن الكوكب الذي نتشدق دوماً بأنه (مُسخّر) بما فيه لأجلنا، سيتعافى وينتعش بعدنا. هل يكون هذا الاختفاء عقاباً مستحقاً على سوء استخدامنا للأرض؟ هل سنفسح بغيابنا المجال لسلالة عاقلة أخرى كي تحل محلنا وتجرب حظها في إدارة موارد هذا الكوكب؟ أم أن وجودنا أصلاً ليس سوى حدث هامشي في تاريخ الكون؟ الحقيقة الحسابية تقرر أنه لو كان بوسعنا أن نضغط تاريخ الأرض الممتد لأربعة ونصف مليار عام في فيلم مدته 24 ساعة، فإن الفترة التي سيستغرقها ظهور الجنس البشري في هذا الفيلم سوف لن تتجاوز لقطة مدتها 30 ثانية.
ستة مليارات إلا واحداً
ثيمتا (النهاية) و(اليوم الأخير) حاضرتان وراسختان في الأدبيات البشرية حول العالم بأسره. ولا يكاد تراث شعبي يخلو من روايته الخاصة لآخر أيام البشر على هذه الأرض. القصة حاضرة في التراث اللاهوتي من خلال أسفار Armageddon كما هي حاضرة في الموروث الإسلامي عبر أحاديث (الملاحم الكبرى). هذا الموروث الغيبي العريض شكل أرضاً خصبة لإبداعات إدبية لا تقل تأثيراً في وعينا الجمعي عن أساسها الأسطوري.. لكن مع لفتة إضافية. فالأدباء في رواياتهم الخاصة بالنهاية لا يفترضون محواً كاملاً للسلالة البشرية، إنهم غالباً ما يضيفون ذروة درامية بترك إنسان وحيد على قيد الحياة. شاهد أخير يقوم أيضاً مقام الراوي ومقام عين القارئ ولسانه في هذا العالم الخالي من البشر.. إلا واحداً.
أول الأعمال الشهيرة في هذا الصدد كانت رواية (ماري شيلي) التي ظهرت عام 1824 بعنوان (الرجل الأخير- The Last Man). (شيلي)،التي اشتهرت قبل ذلك بروايتها (د. فرانكنشتاين)، قفزت في هذه القصة بخيالها إلى بدايات القرن الحادي والعشرين. حيث يُزهق طاعون مجهول كل أرواح البشر إلا نبيلاً إنجليزياً واحداً يتمتع بحصانة خفية تجعله الإنسان الحي الوحيد في العالم.
نفس الموال كررته أعمال أدبية وفنية عبر السنين لعل آخرها الفيلم الهوليوودي (أنا أسطورة – I Am Legend) مع تنويعات مختلفة هنا وهناك. وعبر الأعمال الشبيهة كلها: حرب العوالم لهربرت ج. ويلز، رواية (The Road) لكورماك مكارثي، وسلسلة (Y: The Last Man) التي تفترض وباء يقتل كل الرجال ويُبقي على النساء! فإن أسباب النهاية البشرية هي صناعة محلية، أو قادمة من كوكب آخر.. لكنها تظل نهايات (صناعية) وقعت نتيجة أفعال أقدمت عليها كائنات عاقلة ما. المتأمل لكل هذه الخيالات الكئيبة لا يسعه إلا أن يتنبه لمقدار الخوف الذي يمزق ضمائر أصحابها. لتفسيرهم للحضارة وللمدنية كوحش لا يلبث أن ينفلت من عقاله ليلتهم أصحابه.. أو على الأقل كتمرد على الحالة الأصلية أو مغامرة لا تلبث أن تنتهي ليعود كل شيء “على ما كان عليه”.. هذه الحالة الأصيلة عند هؤلاء المبدعين لا تتضمن مكاناً للبشر. إنها تستلزم زوالهم.. إلا واحداً: البطل الذي سيحكي.
لو صح تحقق ثمة خيال، فإن هذا الناجي البشري الوحيد سيكون أتعس إنسان عاش على هذه الأرض. إنه أسوأ حالاً من (روبنسون كروزو) الذي قرأنا قصته كرجل وحيد على جزيرة مهجورة. (كروزو) كان يحيا على أمل أن يرجع للحضارة يوماً.. أما هذا الناجي الأخير فيعرف تماماً ألا بشري سواه. إنه يعرف أن عليه أن يحيا وحده ضد الطبيعة الصرفة وضد المدن المنهارة وضد الحياة الحيوانية والنباتية التي تسنمت الآن سدة السيطرة. عليه أن يفعل ذلك كله بدون مبرر واضح، بدون هدف معين. حتى عذر “حفظ النسل” لن يكون قائماً في حالته.
لو حصل وفنيَ الستة مليارات بشري إلا واحداً فإن هذا البشري الأخير قد لا يعمر طويلاً. قد لا يخوض أياً من المغامرات التي قرأنا عنها وشاهدناها في الأفلام الخيالية. إنه قد لا يتأخر في اللحاق ببقية البشر كثيراً. هو بانتمائه الفادح للمدنية الصناعية التي سلبته لياقته للانتماء الأصلي للطبيعة، إن لم يقتله الجوع أو تقضي عليه الوحوش والجوائح سريعاً فإنه قد يسلب روحه بيده قبلاً وينتحر. قد ينهار داخلياً وينهزم أمام محض فكرة وجوده المتفرد.. ولتكونن هذه أقوى نهاية درامية لجنسنا البشري.
لكن فلنأخذ هذه القاعدة البدهية ولنلوِ أطرافها قليلاً. لنتخيل أن البشر بالذات –دوناً عن كل أشكال الحياة الأخرى- قد اختفوا من هذه الأرض. لنتخيل عالمنا اليوم وقد خلا تماماً من أي ابن آدم. لا يهم إن كان ذلك قد حصل في طرفة عين أو خلال فترة زمنية ما. المهم أننا سنقف عند اللحظة التي لم يعد فيها إنسان واحد على قيد الحياة. والسؤال الذي سنطرحه ليس عن الكيفية التي اختفى بها البشر.. لكنه عن المصير الذي ستواجهه الحضارة التي خلّفوها وراءهم.. عن مظاهر المدنية بأسرها: الطرق والسدود وناطحات السحاب. المساكن والمستشفيات والمصانع. مصادر الطاقة ووسائل الاتصال وحتى الأثاث المنزلي والحيوانات الأليفة. ناهيك عن التراث الفكري بصيَّغه التقليدية والإلكترونية. كيف سيمر العام الأول بلا بشر على هذه (المخلّفات) كلها؟ وإذا كُتِب للحياة –بصورها الأخرى- أن تستمر لألف عام بعد فَناء الناس، فكيف سيكون شكل العالم.. الذي شكَّلَته حضارتُنا.. من بعدنا؟
العالم من دوننا ميت.. حقاً؟!
لوهلة، يبدو إرغام العقل على تصور ثمة مشهد صعباً وقاسياً. أن نتخيل مدناً بأكملها، (نيويورك) أو (لندن)، (القاهرة) أو (جدة)، خاوية على عروشها. بلا ضوضاء ولا زحام ولا ملايين الوجوه والأصوات والروائح البشرية التي تمتزج بها لترسم ملامح الحياة الإنسانية. أن نتخيل ساحة الـ (تايم سكوير) أو ميدان (التحرير) فارغين وصامتين، وشوارع (شانغهاي) و (دبي) بلا أي حركة سيارات عبرها.
النجاح في استحضار هذه الصورة الخيالية سيقودنا لقناعة أوليّة واحدة. تخيُّل أي من هذه الحواضر بلا بشر يدبون على أرضها.. تصوّرها بدون أصوات تخترق سكونها إلا حفيف الشجر، هديل الحمام بالنهار ونباح الكلاب الضالة بالليل سيدفعنا دفعاً لإعلان هذه الأماكن “مُدناً ميتة”. سنعتبرها كذلك بدون أن نلقي بالاً لجزئيتي “الحمام” و “الكلاب” الواردتين بعاليه!
الحقيقة أن النقطة الأولى التي يجدر بنا أن نعيها ونتأقلم معها وقد ارتضينا الخوض في هذه اللعبة التخيلية، وهي النتيجة التي سنخرج بها من هذا الموضوع بأسره، هي مدى هشاشة وهامشية وجودنا البشري. نحن البشر اعتدنا أن نعتبر أنفسنا كـ “محور للوجود” مقابل باقي الكائنات التي تشاركنا الحياة بهذه الأرض. نحن وعبر حضارتنا الصناعية التي أوصلتنا لقمة المدنية قد أسأنا تأويل الكيفية التي (سُخّرت) لنا بها هذه الأرض بمواردها وموجوداتها. حَولنا علاقة الشراكة بيننا وبين هذه العناصر إلى علاقة استنزاف واستهلاك من طرف واحد بصفتنا “كائناً مسيطراً”. والحقيقة المدهشة التي سيأخذنا إليها تصور هذا العالم من بعدنا تتعلق بزيف هذه السيطرة، وبعظمة الخلق واتساع دائرة الحياة التي ستتجاوز وجودنا لتنتعش بل وتتعافى من الأدواء التي صنعناها نحن؛ مبتلعة عبر السنين أي أثر لحضارتنا التي نراها فائقة وعظيمة. العالم من بعدنا سترثه كل أشكال الحياة الأخرى الحيوانية والنباتية. ومخلفات حضارتنا سترتع وتمرح فيها الكائنات المجهرية قبل الكبيرة، هي وكل عوامل الطبيعة الأخرى.
الإنسان خلال تاريخه على هذه الأرض قد أوجد، دوناً عن سائر المخلوقات، علامة فارقة بين ماهو (طبيعي) وماهو (صناعي). الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تجاوز مرحلة (التكيّف) مع الظروف الطبيعية إلى (التمرد) عليها وتحديها. والإنسان كان الكائن الذي لوى ذراع البيئة وعناصرها وطغى بحضارته على توازنها فأخلَّ به.
ما سيحصل، في حال اختفاء الإنسان، هو عودة للحالة الأولى.. قبل ظهوره. الغابات والمحيطات والصحاري ستدير ذاتها بذاتها كما خُلقت لتفعل منذ ملايين السنين. وفي اليوم الذي يختفي في البشري الأخير، فإن الحياة الفطرية ستتولى الزمام.. وستبدأ في تنظيف المشهد!
اليوم الأول بعد اختفاء البشر
المتانة المزيفة للحضارة البشرية ستنكشف خلال الساعات الأولى لغياب الإنسان عن الساحة. فحضارتنا بكل تعقيدها وعظمتها الظاهرية هي في الواقع حضارة اصطناعية.. استمرارها قائم على الصيانة المتواصلة. وبانتفاء هذه الصيانة والحماية ضد العوامل (الطبيعية)، فإن معالم وجودنا ستقع في يد العدم. وستكون مجرد مسألة وقت لتنهار الواحدة تلو الأخرى.
لنفهم الصورة أكثر فإننا سننتقي مدينة كبرى ما.. لتكن (نيويورك) أو (القاهرة). مظاهر المدنية الأبرز في أي من هذه الحواضر تتمثل في شبكات الربط الكهربائي والاتصال والطرق. هناك أيضاً البنى التحتية الخاصة بالمياه والصرف الصحي، وأنفاق القطارات تحت الأرض. ثم المنظومة العمرانية التي تقوم فوقها: ملايين البيوت والمتاجر والمصانع والمستشفيات، ومحطات التكرير والتوليد. وملايين الأطنان من المواد الأولية والمستصنعة التي تدخل في تركيب أضعافها من الآليات والمستحضرات. كل هذه وغيرها تعتمد كلياً على المُشغّل الآدمي، وبغيابه فإنها ستتوقف عن العمل.. إنما ليس فورياً.
خلال البضع ساعات الأولى لغياب البشر لن يتغير المشهد العام بشكل جذري. المحطات ستستمر في تغذية المدن بالكهرباء. المصابيح التي تُركت مضاءة ستبقى كذلك ومثلها إشارات المرور ولوحات الإعلانات وشاشات التلفاز التي لن تنقل سوى مشهد انقطاع الإرسال. سيبدو الكوكب كما لو أنه منزل هائل هجره سكانه بغتة.
للسخرية.. فإن الوحيدين الذين سيفتقدوننا خلال ساعات غيابنا الأولى هم الحيوانات الأليفة والداجنة التي روضها الإنسان عبر آلاف السنين لتصبح معتمدة عليه في مأواها وغذائها. ومعها أيضاً ستستأخِرُنا الحيوانات المتوحشة المأسورة في الحدائق. هذه الكائنات كلها سيعضها الجوع وستحاول الخروج من البيوت والحظائر بحثاً عن الطعام.
مع نهاية اليوم الأول ستبدأ آثار غياب الإنسان في الظهور أكثر. المحطات والمصانع ذاتية التشغيل ستوقف نفسها عن العمل آلياً مع تراكم إنذارات زيادة الحِمل وعدم وجود مراقبين يديرون المفاتيح اللازمة. مكائن توليد الكهرباء وتحلية المياه ستتوقف عن الدوران بعد نفاد وقودها الكربوني. حتى مفاعلات الطاقة النووية ستغلق ذاتها آلياً بعد 24 ساعة من غياب الإشراف. وهكذا فإذا كانت الليلة الأولى ستمر ومعظم الأضواء الصناعية تلفظ أنفاسها، فإن الليلة الثانية ستكون مثالاً للظلام الدامس عبر الكوكب بأسره. ويجادل البعض بأن آخر بقعة ستتلألأ بالضوء الصناعي عل سطح الكوكب هي مدينة (لاس فيغاس) بولاية (نيفادا) الأميركية التي تغذيها المولدات الهيدروليكية لسد (هوفر) العظيم والمصممة لتعمل بدون تدخل بشري لأسابيع وربما أشهر!
اليومان الأولان لن يمرا بدون حوادث طبعاً فهناك آبار ومحطات تكرير وقود وغاز تدور بلا مراقبة قبل أن تنقطع عنها الطاقة. بوسعنا أن نتخل إذاً بضعة حرائق هائلة عبر مدن العالم خلال هذه الفترة. أما تحت الأرض فإن (كارثة) آخرى ستتكون سريعاً. فكل المدن الكبرى حول العالم تسبح في الواقع فوق بحيرات هائلة من المياه جوفية التي تغذيها البحار والأمطار وبرك الصرف الصحي كذلك. هذه المياه تهدد أنفاق (المترو) والقطارات تحت الأرض. وما لا يعرفه الكثيرون هو أن هناك جيوشاً من الفنيين والأجهزة تتعامل مع هذه الظاهرة على مدار الساعة تلافياً لغرق شبكات المواصلات تحت الأرضية. مدينة (نيويورك) مثلاً تعتمد على 1700 مضخة لتخليص الطبقة الأرضية أسفل شوارعها من 130 مليون جالون من المياه الجوفية كل يوم. وفي غضون 36 ساعة من غياب البشر وتوقف عمليات الضخ هذه فإن كل شبكات النقل تحت شوارع المدن الرئيسية في العالم ستكون قد انغمرت تماماً في بحر من المياه الآسنة.
يمكن القول بأن اليومين الأولين لغياب البشر سيكونان حافلين بـ (القذارة). فمع انقطاع الكهرباء فإن مخزونات اللحوم والثمار في ثلاجات البيوت والمتاجر وفي المستودعات ستتعفن كلها. كما وأن نسبة كبيرة من الحيوانات الأليفة ستكون قد هلكت جوعاً لتبقى جثثها حبيسة المنازل والأقفاص. الحيوانات الكبيرة والمواشي ستهيم على وجوهها -يوجد في العالم حوالي نصف مليار كلب مستأنس، و 1.3 مليار رأس من الأبقار- أما ملايين الجرذان والصراصير وسواها من الكائنات المعتالة على القمامة البشرية فهذه ستفتقدنا هي الأخرى وتترك مخابئها لتستكشف هذا الوضع الجديد.
كيف ستنهار الحضار؟
يقول الخبراء أن حضارتنا الاصطناعية ستبدأ في التضعضع فعلاً مع أول شهر (مارس/آذار) يمر عليها من دوننا. حين يكون الشتاء بقسوته قد فرغ من تسديد ضرباته للمباني والهياكل المعمارية، مفسحاً المجال للمملكة النباتية لتكتسح كل ما في طريقها.
خلال سنة واحدة من اختفاء البشر، فإن النبْتَات البرية والحشائش ستكون قد أطلت من كل شق وكل فجوة تسقط عليها الشمس عبر مدننا جميعها.. بما في ذلك شروخ الأسفلت وأسطح المباني الأسمنتية والخشبية وأنابيب المياه الجافة. الفئران ستكون قد أجهزت على كل فضلة غذائية وصلت إليها وواصلت الاقتيات على المكونات العضوية لمواد البناء والأثاث. أما الوحوش البرية التي عاشت يوماً على تخوم المدن فستكون قد استوطنت منازلنا ومكاتبنا منذ ستة أشهر كاملة.. بعدما تأكدت من غياب الناس وجذبتها الوفرة الغذائية لقطعان المواشي الهائمة. مدننا الصحراوية ستكون أفضل حظاً من هذه الناحية. فباستثناء أشعة الشمس التي تصليها دوماً، فإن لا شيء سيغزو المباني المهجورة إلا أمواج الرمال والغبار الذي سيغطي كل سنتيمتر مربع من غرفها. وفي غياب وسائل التبريد، فإن المنازل المغلقة ذات الجدران العازلة ستتحول إلى أفران صغيرة تميع فيها هياكل المنتجات البلاستيكية والورقية. ومن نافلة القول أن هذه المنازل ستغدو هي الأخرى مآوي للكائنات الصحراوية.
خلال هذه السنة الأولى فإن حرائق الغابات سوف تستعر بدون أن يطفئها أحد عنوة. ولا يستبعد أن تصل هذه لمراكز بعض المدن الهامة كـ (شيكاغو) و (لوس آنجليس) فتسوي معمارها الخشبي بالأرض. هذه الحرائق إذا ما قدر لها أن تطال مصافي النفط أو مخزونات الغاز الطبيعي في الأنابيب والمواد الكيماوية المكدسة بالمصانع فإنها ستستعر أكثر وستمحو المزيد من المعالم. لكن هذه لن تكون في مجملها أكثر من (خدوش) في وجهه الحضارة.
التغييرات الأكثر تأثيراً ستحدثها ببطء وتؤدة عوامل من قبيل التغيرات المتطرفة في الطقس، الرطوبة والصدأ، مياه الأمطار المتجمعة داخل الشقوق والمتحولة إلى ثلوج شتاءاً، الزحف الصحراوي والترسبات الملحية.
هذه العوامل التي نتعايش معها يومياً ونقاومها على مدار الساعة تمثل أكبر هموم مهندسي الانشاءات وفنيي الصيانة في كل مكان. الصدأ هو العدو الحقيقي لكل منتج فولاذي.. من قضبان الخرسانية التي (تدعّم) الملاط الاسمنتي وحتى جسر (البوابة الذهبية) في (سان فرانسيسكو). الأملاح التي تتراكم على الهياكل الحجرية تعمل على تفتتيها ببطء. هذه العوامل كلها ستمارس نشاطها بدون جيوش عمال الصيانة الذين كانوا يزيلون آثارها.
إلا أن القوة الطبيعية الأشد تأثيراً إطلاقاً سيمثلها الغطاء النباتي الذي عمل الإنسان طوال آلاف السنين على إزالته كي يؤسس مدنه فوقه.. ليعود بعد غيابه ويسترجع مكانته وكأن شيئاً لم يكن. بدون أي بستنة أو عمليات جزّ، فإن الأشجار ستأخذ في النمو خلال بضع سنوات عبر أسفلت الشوارع في الساحات ومواقف السيارات. أرضيات الملاعب ستتحول لغابات حقيقة تحجب أغصانها الشمس. كما وأن النباتات المتسلقة والحشائش ستفترش دواخل أي مبنى يمكننا تخيله: المستشفيات والمصانع والأبراج السكنية أيضاً.
بعد عشرين عاماً ستأخذ الهياكل الخرسانية للمباني في التآكل بعد أن تمددت أجوافها بسبب تسلل الرطوبة لدعامتها الخرسانية، وستستعمر الحيوانات والطيور فجواتها. وخلال 25 عاماً من اختفاء البشر وتعطل السدود وأنظمة التصريف الصناعية، فإن أجزاء رئيسية من (أمستردام) و (لندن) ستكون قد انغمرت تحت الماء. ستكون المدن قد تحولت لغابات حقيقية تمرح فيها الوحوش بما فيها تلك التي كانت مهددة يوماً بالانقراض والتي زال مهددها الرئيسي عن الوجود، وستختفي سلالات الحيونات الأليفة تماماً. وبعد 40 سنة من اختفائنا فإن هياكل المباني الخشبية (90% من بيوت أمريكا) ستكون قد انهارت تماماً وسويت بالأرض بفضل الحشرات الآكلة كالنمل الأبيض، هذا إذا لم تكن الحرائق والنباتات المتسلقة قد أجهزت على نسبة معتبرة منها.
القرن الأول بعد الغياب
المائة إلى المائة والخمسين عاماً الأولى من عمر العالم بدوننا ستكون حاسمة بالنسبة لكل النفايات الحديدية التي تركناها ورائنا. هذه ستشمل الـ 700 مليون سيارة المهملة في الشوارع، وملايين هياكل السفن والطائرات، أضافة للجسور المعلقة والأبراج الفولاذية. بدون طلاء ولا استبدال أجزاء تالفة فإن قرناً كاملاً من الصدأ سيفتت التركيب الجزيئي للفولاذ ويحوله لمسحوق. هنا ستبدأ مدننا في الانهيار بالمعنى الحرفي للكلمة. الجسور العظمى حول العالم ستتهتك حبالها الفولاذية لتسقط في المياه التي امتدت فوقها. المركبات ستتآكل بما عليها من نباتات متسلقة وسيكون من المستحيل التعرف على أي هيكل معدني لسيارة بعد 150 سنة. أما الأعمدة الفولاذية التي ترفع أسقف الأنفاق تحت الأرض وترفع الشوارع المعبدة فوقها كذلك.. فهذه بعدما غمرتها المياه الجوفية في الساعات الأولى من القصة فقد أخذت في التفكك والانهيار أخيراً ساحبة معها أرضيات الشوارع والأرصفة فوقها . لتنكشف الأدوار السفلية للمدن وتتحول مجاريها الداخلية لأنهار تجري على (السطح) الجديد.
خلال هذه الفترة أيضاً فإن مخزونات النفط المكدسة في ملايين البراميل وداخل مستودعات الاحتياط، والتي كانت عصب حياتنا العصرية يوماً، ستكون هذه الكميات من النفط قد اختفت بعد أن تكاثرت وتغذت عليها طيلة قرن سلالات من البكتريا المجهرية!
مصير الثروة النفطية سيتكرر أيضاً مع الثروة الفكرية للبشرية والمدونة على الورق والقماش. هذه الكنوز هي اليوم محفوظة في المتاحف والمكتبات تحت ظروف حرارة ورطوبة دقيقة. خلال 100 عام من التقلبات الحرارية داخل مخازنها فإن أسعد هذه الكنوز حظاً – تلك التي لم تقع عليها أشعة الشمس ولم تأكلها الحيوانات باكراً- ستكون قد اهترأت تماماً وتحولت لغبار. الوثائق الإكترونية مصممة لتعيش أكثر من ذلك في الظروف (الاعتيادية).. هذا إذا ضمنا إلا تكون قد تعرضت للبلل أو الاحتراق أو طمرتها الرمال والنباتات الطفيلية!
فترة انهيارات الأبراج والمباني العظيمة التي ترمز اليوم لمدينتنا المهيبة ستبدأ بين 100 إلى 300 سنة من تاريخ اختفاء البشر. المباني الفولاذية الصرفة –كبرج (إيفل) الباريسي- ستنهار أولاً بفعل قرون من الصدأ والتقلبات المناخية. ثم ستليها ناطحات السحاب الخرافية التي تضعضعت أساساتها بفعل ارتفاع المياه الجوفية وتشققت بُناها بسبب المياه إيضاً إضافة للأشجار والحيوانات التي ستستعمر كل طابق منها. ناطحات (دبي) و(نيويورك) و (شيكاغو) ستنهار خلال 3 قرون من الإهمال في مشهد مهيب لن يشهده كائن عاقل واحد.
بعد 500 سنة فإن المباني الاسمنتية (الحديثة) ستأخذ في السقوط هي الأخرى بعدما استنفدت أساستها ودعاماتها مقاومتها. قد يكون من المدهش أن تنهار هذه المباني خلال هذه الفترة الوجيزة في حين أن مبانٍ أثرية أخرى ما تزال وربما ستستمر قائمة بعدها. لكن المدهش أكثر أن منتجات حضارتنا المعاصرة تحمل في داخلها مبررات فنائها. فالخلطة الاسمنتية مدعمة بالحديد، وهذا كما ذكرنا سيقع ضحية الصدأ وهو ما لا يحدث مع الملاط الذي استخدمه أجدادنا قبل آلاف السنين. كما وأن المادة الاسمنتية الحديثة تحوي مياهاً وجيوباً هوائية أكثر بكثير من نظيرتها المستخدمة قديماً. ما يعني أن مباني منازلنا ومكاتبنا ستنهار قبل (الكولوسيوم) في (روما) ومعابد (الكرنك) وآثار (بعلبك) بوقت طويل!
ماذا سيتغير؟ ماذا سيبقى؟
بعد 1000 سنة من انسحاب الجنس البشري من مسرح الحياة، فإن لاشيء من مظاهر حضارتنا.. مدننا، مصانعنا، مزارعنا ومنشآتنا.. لا شيء من هذا ولا سواه سيكون ظاهراً للعيان. ستكون الأرض قد عادت لحالتها الطبيعية الأولى.. تقريباً.
مظاهر الحضارة التي لم تنهر أو تغرق أو تحترق ستكون قد اختفت تحت غضاء كثيف من النباتات والرماد. وفي المناطق القاحلة فإن زحف الرمال وعواصف الصحراء سيتكفلان بطمس المشهد البشري تماماً. هذا إذا لم يلف الأرض عصر جليدي ثانٍ يمحو ما كان قبله.
حتى المباني الأثرية الحجرية التي اتفقنا أنها تفوق مبانينا متانة.. حتى هذه – باستثناء أهرامات الجيزة وأجزاء من سور الصين ربما- ستختفي خلف الشجر وتحت التراب طالما لايوجد من يدفعهما عنها. ستجري الأنهار مجدداً مكان الشوارع التي بنيت فوقها.. وستتغير تضاريس السواحل وفقاً لسطوة الأمواج. أما التضاريس الصناعية التي أوجدانها بأيدينا كقنوات (السويس) و (بنما)، فهي ستلتئم وتختفي كأنها لم تكن.
هذا التصور السوداوي أعلاه ليس كله ضرباً من الخيال. بل هو مبني جزئياً على أمثلة صغيرة موجودة حولنا اليوم. هناك بقايا مدينة (Angkor) الحجرية في قلب غابات (كمبوديا) والمهجورة منذ مئات السنين. هناك المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين والتي لم يستعمرها بشر منذ 1957. وهناك مدينة (Pripyat) الأوكرانية والتي غدت مدينة أشباح منذ كارثة (تشيرنوبل) النووية عام 1986. هذه المواقع كلها تتيح لنا فرصة تأمل الكيفية التي ستتعامل بها الطبيعة مع مخلفات مدنيتنا.
إذا أغرقنا في الخيال –أكثر- وافترضنا زيارة كائنات فضائية عاقلة لكوكبنا بعد مرور عشرة قرون على اختفائنا، فإن هؤلاء الزوار سوف لن يعثروا غالباً على أي دليل يشير لوجود حضارة عاقلة قبلهم بهذا المكان. كل ذكرياتنا سوف يطويها العدم.
لكن هذه العبارة الأخيرة ليست دقيقة تماماً. هناك مخلفات لحضارتنا الصناعية ستظل موجودة في تركيبة الجو والماء طويلاً بعد أن نرحل وبعد أن تختفي كل منشآتنا الكبيرة. فالمبلمرات الصناعية الكربونية. مركّبات البلاستيك التي تدخل اليوم في صناعة كل شئ تقريباً.. الأكياس والحاويات والإلكترونيات والدهانات، مستحضرات التجميل والنايلون وقوالب (الستايروفوم). كل هذه (الملوثات) التي نشتكي منها اليوم.. هذه لن تفنى ببساطة. وستظل (آثارها) باقية في البيئة لآلاف السنين بعدنا. المطاط الصناعي لعجلات السيارات سيصمد هو الآخر. سينتظر من ينتشله من تحت الأرض يوماً كدليل إثبات.
حتى ثاني أكسيد الكربون الذي نلقي عليه بلائمة ظواهر (الاحتباس الحراري).. لن تُحل مشكلته مع كوكب الأرض بمجرد غيابنا. فالحسابات تشير إلى أننا لو توقفنا –تماماً- عن ضخ المزيد من هذا الغاز لطبقات الجو، فإن الكوكب سيحتاج إلى 100 ألف سنة كي تتوازن نسبة غاز الكربون في الأجواء والبحار وترجع لما كانت عليه قبل العصر الصناعي!
آخر ما سيتذكره الكون من آثار حضارتنا على الإطلاق ستمثله موجات الإذاعة والتلفاز التي ستتردد –نظرياً- عبر أجواز الفضاء إلى الأبد. لكن هذه الموجات ستكون غير ذات قيمة حتى لو التقطتها حضارة متطورة أخرى. لإنها ستضعف وتفقد قدرتها على حمل أي رسالة مفيدة خلال مسافة لا تتجاوز السنة الضوئية الواحدة.
لكن، هل يمر وجودنا على سطح هذا الكوكب هكذا بدون أي أثر إيجابي على كائناته؟ ألن تتأثر أي من المخلوقات الحية التي ستبقى بعدنا بالتجربة المشتركة التي خضناها معاً خلال بضعة عشر آلاف من السنين؟
بالنسبة للحيوانات المستأنسة التي وُجدت عبر عمليات التهجين، فمعظمها سوف لن يستمر. كلاب وقطط الزينة الأليفة سوف لن تعيش بعدنا لأكثر من أسبوع. والأخرى الأكثر تحملاً سوف تفتك بها الضواري الحقيقية التي ستستعمر المدن. لاشيء يمنع تخيل حصول عمليات تزاوج بين بعض السلالات (الداجنة) التي قاومت الفناء والحيونات البرية.. والتي ستنتج في النهاية أجيالاً متوحشة أيضاً إنما ذات صفات أكثر تنوعاً.
الكائنات المعتالة على البشر، كالفئران والصراصير وحتى النوارس التي انتعش تعدادها بفضل الغذاء والدفء الذي وفرته البيئة الصناعية، هذه ستتعرض لانتكاسة شنيعة عقب اختفائنا، ثم ستتطور لتغدو أكثر اعتماداً على أنفسها. هناك –على كلٍ- سلالة حية ستختفي تماماً معنا: حشرة القمل التي تعتاش على الجسم البشري، وشقيقتها التي تعتاش على النسيج القماشي. هذان النوعان سيفقدان باختفائنا موارد حياتهما الوحيدة!
بالنسبة لحضارتنا الزراعية فهذه لن تصمد أبداً أمام الزحف الطبيعي. نباتات المحاصيل التي طورناها ونشرناها عبر آلاف السنين ستموت مع انعدام الرعاية البشرية وأطنان السماد الكيماوي. وتلك التي ستتكيف مع الظروف البرية ستنتج بالتأكيد ثماراً مختلفة عن التي نعرفها. ومع أن الإنسان قد حوّل 12% من مساحة الأرض إلى مزارع في حين خصص 3% فقط لأجل مدنه، إلا أن المدن ستصمد أكثر من المزارع بكثير.
بقيت البحار التي تشكل ثلاثة أرباع مساحة الكوكب. هذه ستنتعش مجدداً بعدما كاد الإنسان يفتك بثروتها السمكية. كما وأن التلوث سينقطع عنها باختفاء سيول الصرف الصحي ومخلفات السفن والمصانع وحوادث بقع الزيت.
باختصار، يبدو أن الكوكب الذي نتشدق دوماً بأنه (مُسخّر) بما فيه لأجلنا، سيتعافى وينتعش بعدنا. هل يكون هذا الاختفاء عقاباً مستحقاً على سوء استخدامنا للأرض؟ هل سنفسح بغيابنا المجال لسلالة عاقلة أخرى كي تحل محلنا وتجرب حظها في إدارة موارد هذا الكوكب؟ أم أن وجودنا أصلاً ليس سوى حدث هامشي في تاريخ الكون؟ الحقيقة الحسابية تقرر أنه لو كان بوسعنا أن نضغط تاريخ الأرض الممتد لأربعة ونصف مليار عام في فيلم مدته 24 ساعة، فإن الفترة التي سيستغرقها ظهور الجنس البشري في هذا الفيلم سوف لن تتجاوز لقطة مدتها 30 ثانية.
ستة مليارات إلا واحداً
ثيمتا (النهاية) و(اليوم الأخير) حاضرتان وراسختان في الأدبيات البشرية حول العالم بأسره. ولا يكاد تراث شعبي يخلو من روايته الخاصة لآخر أيام البشر على هذه الأرض. القصة حاضرة في التراث اللاهوتي من خلال أسفار Armageddon كما هي حاضرة في الموروث الإسلامي عبر أحاديث (الملاحم الكبرى). هذا الموروث الغيبي العريض شكل أرضاً خصبة لإبداعات إدبية لا تقل تأثيراً في وعينا الجمعي عن أساسها الأسطوري.. لكن مع لفتة إضافية. فالأدباء في رواياتهم الخاصة بالنهاية لا يفترضون محواً كاملاً للسلالة البشرية، إنهم غالباً ما يضيفون ذروة درامية بترك إنسان وحيد على قيد الحياة. شاهد أخير يقوم أيضاً مقام الراوي ومقام عين القارئ ولسانه في هذا العالم الخالي من البشر.. إلا واحداً.
أول الأعمال الشهيرة في هذا الصدد كانت رواية (ماري شيلي) التي ظهرت عام 1824 بعنوان (الرجل الأخير- The Last Man). (شيلي)،التي اشتهرت قبل ذلك بروايتها (د. فرانكنشتاين)، قفزت في هذه القصة بخيالها إلى بدايات القرن الحادي والعشرين. حيث يُزهق طاعون مجهول كل أرواح البشر إلا نبيلاً إنجليزياً واحداً يتمتع بحصانة خفية تجعله الإنسان الحي الوحيد في العالم.
نفس الموال كررته أعمال أدبية وفنية عبر السنين لعل آخرها الفيلم الهوليوودي (أنا أسطورة – I Am Legend) مع تنويعات مختلفة هنا وهناك. وعبر الأعمال الشبيهة كلها: حرب العوالم لهربرت ج. ويلز، رواية (The Road) لكورماك مكارثي، وسلسلة (Y: The Last Man) التي تفترض وباء يقتل كل الرجال ويُبقي على النساء! فإن أسباب النهاية البشرية هي صناعة محلية، أو قادمة من كوكب آخر.. لكنها تظل نهايات (صناعية) وقعت نتيجة أفعال أقدمت عليها كائنات عاقلة ما. المتأمل لكل هذه الخيالات الكئيبة لا يسعه إلا أن يتنبه لمقدار الخوف الذي يمزق ضمائر أصحابها. لتفسيرهم للحضارة وللمدنية كوحش لا يلبث أن ينفلت من عقاله ليلتهم أصحابه.. أو على الأقل كتمرد على الحالة الأصلية أو مغامرة لا تلبث أن تنتهي ليعود كل شيء “على ما كان عليه”.. هذه الحالة الأصيلة عند هؤلاء المبدعين لا تتضمن مكاناً للبشر. إنها تستلزم زوالهم.. إلا واحداً: البطل الذي سيحكي.
لو صح تحقق ثمة خيال، فإن هذا الناجي البشري الوحيد سيكون أتعس إنسان عاش على هذه الأرض. إنه أسوأ حالاً من (روبنسون كروزو) الذي قرأنا قصته كرجل وحيد على جزيرة مهجورة. (كروزو) كان يحيا على أمل أن يرجع للحضارة يوماً.. أما هذا الناجي الأخير فيعرف تماماً ألا بشري سواه. إنه يعرف أن عليه أن يحيا وحده ضد الطبيعة الصرفة وضد المدن المنهارة وضد الحياة الحيوانية والنباتية التي تسنمت الآن سدة السيطرة. عليه أن يفعل ذلك كله بدون مبرر واضح، بدون هدف معين. حتى عذر “حفظ النسل” لن يكون قائماً في حالته.
لو حصل وفنيَ الستة مليارات بشري إلا واحداً فإن هذا البشري الأخير قد لا يعمر طويلاً. قد لا يخوض أياً من المغامرات التي قرأنا عنها وشاهدناها في الأفلام الخيالية. إنه قد لا يتأخر في اللحاق ببقية البشر كثيراً. هو بانتمائه الفادح للمدنية الصناعية التي سلبته لياقته للانتماء الأصلي للطبيعة، إن لم يقتله الجوع أو تقضي عليه الوحوش والجوائح سريعاً فإنه قد يسلب روحه بيده قبلاً وينتحر. قد ينهار داخلياً وينهزم أمام محض فكرة وجوده المتفرد.. ولتكونن هذه أقوى نهاية درامية لجنسنا البشري.