- الأحد ديسمبر 20, 2009 8:08 pm
#23875
نظرية السوس
للشيخ/ محمد حسين يعقوب
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوتي في الله ..
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني أحبكم في الله .. وأسأل الله أن يجمعني وإياكم بهذا الحب في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ..
أحبتي في الله ..
الحياة مواقف ..
ومواقف عجيبة .. والناس فيها أشكال وألوان .. فمنهم من لا ينظر إلا إلى الأمور الكبيرة .. ومنهم من لا يدقق النظر إلا في الأمور الصغيرة .. ومنهم من لا يعبأ بالصغير ولا الكبير ؛ فحياته كيفما اتفق .. ومنهم الرجل الرشيد الذي فهم الحياة فأعطى كل شيء حجمه المطلوب وأهميته المطلوبة .. لذا نريد أن نفهم الحياة ..
نعم .. تحتاج الحياة إلى فهم لكي نعيشها كما يريدها ربنا سبحانه وتعالى منا ..
ومن فهم الحياة : أن هناك أشياء دقيقة تعكر صفو الحياة ..
أشياء دقيقة.. قد يعتبرها البعض تافهة ولا تذكر ولكنها تكدر صفو الحياة ..
أشياء دقيقة.. صغيرة جدا ولكن تأثيرها في إفساد هذه الحياة كبير ..
أشياء دقيقة.. قد تغيب عن نظر الكبير يتفطن لها صغير ناصح أمين ، فيتوجه الكبير لاستدراكها فيستعلي عليها ويتغافل عنها فيتسبب منها فساد عريض ..
أشياء دقيقة.. لا يتفطن إليها ولا يكون لها تأثير في وقتها أو وقع في ساعتها ، ولكنها مع الوقت والزمن يكون تأثيرها كبيرًا وخطيرًا ، وأخطر ما في ذلك بالطبع : الذنوب والمعاصي ..
يقول ابن القيم عليه رحمة الله في " الداء والدواء: « وها هنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب ، وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال ، وقد يتأخر تأثيره فينسى ، ويظن العبد أنه لا يغير بعد ذلك ، وأن الأمر كما قال القائل :
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وسبحان الله !!
ماذا أهلكت هذه النكتة من الخلق ؟
وكم أزالت من نعمة ؟، وكم جلبت من نقمة ؟
وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء ، فضلا عن الجهال ، ولم يعلم المغتر أن الذنب ينقض ، ولو بعد حين ، كما ينقض السم ، وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدغل .
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء: « اعبدوا الله كأنكم ترونه ، وعدوا أنفسكم في الموتى ، واعلموا أن قليلا يغنيكم خير من كثير يلهيكم ، واعلموا أن البر لا يبلى ، وأن الإثم لا ينسى » .
ونظر بعض العباد إلى صبي ، فتأمل محاسنه فأتي في منامه وقيل له : لتجدن غبها بعد أربعين سنة ..
هذا مع أن للذنب نقدا معجلا لا يتأخر عنه ، قال سليمان التيمي : إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته ..
وقال يحيى بن معاذ الرازي: عجبت من ذي عقل يقول في دعائه : اللهم لا تشمت بي الأعداء ، ثم هو يشمت بنفسه كل عدو له ، قيل : وكيف ذلك ؟، قال : يعصي الله فيشمت به في القيامة كل عدو .
قال ذو النون: من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية .. » اهـ كلام ابن القيم
ثم هي الدنيا :
قُلَّب والأيام دُوَل وعالم الأسباب عجب
قال الملك سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران :26-27] .
وقد جعل الله لكل شيء قدَرًا ، ولكل شيء سببا ، وعالم الأسباب من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ولا يظهر للناس منه ويبدو من خبره إلا كمثل رشح الإناء.
أحبتي في الله ..
كم في حياة المسلم من أسرار وعجائب !!
كم يقول المسلم في حياته مرات : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا أو لم أفعل كذا .. أو قلت كذا وكذا .. أو سكت عن كذا أو كذا .. ويقينا قد أتته قبل موقفه هذا إشارات لو انتبه ، ونصائح لو رأى ، ونذر لو تفطن ، ورسائل لو علم أنها تخصه لما جرى ما كان ..
لذلك إخوتي وعن خبرات حياتية أتوجه إليكم اليوم بنصيحة صدق من ناصح أمين :
في حياتك أشياء قد تعتبرها صغيرة تافهة وهي خطيرة ..
في علاقتك مع الله خطايا وأخطاء من جهل وغباء ..
من صغائر ولمم قد تودي بحياة إيمانك فانتبه لها ..
نصيحتي : لا تهمل شيئا ولا تستصغر أمرا وأصلح حالك أولا بأول ..
أرى خلل الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام
ومحبة لإخواني أنقل لكم هنا نصا طريفا للشاعر أحمد شوقي كتبه فيما كتب من شعر الرموز وهو نص ظريف وجميل ولكنه صادق حقيقي استللت منه فوائد أذكرها بعده إن شاء الله تعالى ، طالعه معي أولا يقول الشاعر :
حكي أن ملكا للغربان يعيش في مملكته وقصره المشيد على قمة نخلة كبيرة ، وكان لهذا الملك خادم أمين ناصح ، اسمه ندور .
جاءت ذات يوم سوسة فانغرست في جذور هذه النخلة فانتبه لذلك الأمر الخادم الناصح ، فدار بينه وبين ملك الغربان حوار لطيف تدور أحداثه وكلماته حول هذه السوسة ، وما يمكن أن تحدثه من مصائب على الأمد البعيد ، يقول أحمد شوقي شارحا هذا الحوار :
كان للغربان في العصر مليك
وله في النخلة الكبرى أريك
فيه كرسي وخدر ومهود
لصغار الملك أصحاب العهود
جاءه يوما ندور الخادم
وهو في الباب الأمين الحازم
قال : يا فرع الملوك الصالحين
أنت مازلت تحب الناصحين
سوسة كانت على القصر تدور
جازت القصر ودبت في الجذور
فابعث الغربان في إهلاكها
قبل أن نهلك في أشراكها
ضحك السلطان من هذا المقال
ثم أدنى خادم الخير وقال :
أنا رب الشوكة الضافي الجناح
أنا ذو المنقار غلاب الرياح
« أنا لا أنظر في هذي الأمور »
أنا لا أنظر تحتي يا ندور .
ثم لما كان عام بعد عام
قام بين الريح والنخل خصام
وإذا النخلة أهوى جذعها
فبدا للريح سهلا قلعها
فهوت للأرض كالتل الكبير
وهوى الديوان وانقض السرير
فدها السلطان ذا الخطب المهول
ودعا خادمه الغالي يقول :
يا ندور الخير أسعف بالصياح
ما ترى ما فعلت فينا الرياح
قال : يا مولاي لا تسأل ندور
« أنا لا أنظر في هذي الأمور »
وقد استخرجت من نص الشاعر بعض الفوائد السريعة فخذها هنيئا مريئا :
أولا : لابد لكل إنسان من ناصح أمين يكون قريبا منه مطلعا على بواطنه وأسراره وخفاياه ينصح له فيها ويكون مقبولا نصحه ، وكلما رأيت إنسانا يجمع حوله المنافقين والإمعات ويطرد الصادقين والنصحاء فاعلم أنه إنسان فاشل في الدنيا والآخرة .
ثانيا : في أدب النصح انظر إلى قول ندور :
يا فرع الملوك الصالحين أنت مازلت تحب الناصحين
فتعلم أن تشجع من تنصحه كي يقبل نصحك ..
قال الإمام الشافعي رحمه الله لبعض تلاميذه : إذا رأيت من أخيك زلة لم يكن لك بد من أن تنصحه فيها ، فإن واجهته بها أوحشته ، وإن كتمتها فقد خنته ، قال فكيف أفعل يا إمام ؟، قال : تعرض بها في الكلام وتجعلها في بعض حديثك ..
إنه فن معالجة الأخطاء :
· قدم شيئا من المدح والثناء عليه بالحق وبما فيه دون كذب أو مبالغة أو بخس.
· وأتبعها بذكر فوائد قبول النصح وأمثلة ممن استفاد ممن هو أصغر منه.
· ثم اعرض المسألة دون مبالغة في أهميتها ولا تضخيم لها .
· ثم التمس له بعض الأعذار وقدم له ما يمكن أن يكون من المبررات.
· استعمل أيضا الأدب في العرض والهدية البسيطة المناسبة.
· أخيرا لا تحوجه إلى اعتذار أو سوق مبررات، بل احسم الموضوع بمجرد عرض النصيحة.
· واختم قولك بأنك قد تكون أنت المخطئ وهو المحق فسامح واعذر من أحبك.
ثالثا : إياك والكبر والغرور
قالوا في المثل العربي : إذا كان عدوك نملة فلا تنم له ، انظر إلى قول الغراب :
أنا لا أنظر في هذي الأمور أنا لا أنظر تحتي يا ندور
ينبغي للإنسان أن ينظر تحته وفوقه وعما حوله ليدفع عن نفسه الأذى أسأل الله أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمته أن نغتال من تحتنا
قال سبحانه وتعالى حكاية عن إبليس قوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف :17] .
فلا يركبنك الغرور ، وانظر في جميع الأمور ، ولا تكن كما قيل : "الزوج آخر من يعلم " .
رابعا : السوسة .. وما أدراك ما السوس ، ينخر من تحت حتى يسقط السقف من فوق ، وهذا موضع الشاهد وركيزة هذا الموقف في النصح ..
أحبتي في الله ..
كم في حياتنا من سوس ينخر في ديننا وعلاقاتنا وأعمالنا وجملة حياتنا .. كم من سوس ينخر فعلا ونحن نراه ونهمله ولا نهتم به ولا نعمل على علاجه والتخلص منه ..
أخي الحبيب .. وأنا أحبك في الله : أدرك الأمر .. أنقذ نفسك :
· هناك سوسة تنخر في دينك أدركها :
معصية صغيرة أو كبيرة مع الإصرار ..
أو سوسة أخرى: سوء الظن بالله ..
أو سوسة أخرى : كبر أو عجب أو رياء ..
أو سوسة أخرى : عدم رضا عن الله ..
أو سوسة أخرى : جهل وتمادي ..
ابحث عن السوس في علاقتك مع الله ، واسترشد ناصحا أمينا منك قريب ..
· وهناك سوسة أخرى تنخر في بيتك :
إهمال زوجتك وأولادك ..
خطايا الزوجات وخطيئات الأولاد ..
منكرات موجودة بالبيت ( تلفاز ، موسيقى ، صور ، تماثيل ، اختلاط .... )
· وهناك سوسة أخرى تنخر في علاقتك مع الناس :
سوء الظن بالآخرين ..
تعلق القلب بالآخرين ..
طلب الحقوق ونسيان الواجبات ..
ابحث عن السوس وانقذ بنيانك من الانهيار وأدرك نفسك قبل أن تغرق بك السفينة ، وضع خطة عامة لترميم ما أفسده السوس في قلبك وفي عباداتك وفي معاملاتك ..
وفي النهاية ثمة أمر آخر ألا وهو :
لقد قام كثير من المصلحين بواجبهم ، آمرين أمتهم بالمعروف، ناهينها عن المنكر، ناصحين إياها بكل خير، ولكن نخشى أحيانا أن يحق في بعضنا قول القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد
أينما جال الإنسان ببصره في أرجاء هذه الأمة وجد سوسة تنخر في جسدها..
سوسة تفتك بالدين والقيم والخلق
سوسة لا ترحم
سوسة يبصرها أولو الأحلام والنهى ويقدرون عاقبتها .... ألا إن عاقبتها وخيمة !
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : « الدين النصيحة » ، قلنا : لمن ؟ ، قال : « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » [رواه مسلم] .
ورحم الله عملاق هذه الأمة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه حينما قال : (رحم الله رجلا أهدى إلي عيوبي) .
فهل تعي أمتنا ، حكاما ومحكومين ، أغنياء وفقراء ، وجهاء وبسطاء ، هذا الأمر العظيم ؟، وهل نعي نحن جميعا عبادة التناصح فيما بيننا ؟، وهل نذل أنفسنا للحق ونقبله مهما كان؟، نأمل ذلك والله ولي التوفيق .
رابط المقال:
http://www.yaqob.com/site/docs/articles ... &cat_id=10
للشيخ/ محمد حسين يعقوب
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوتي في الله ..
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني أحبكم في الله .. وأسأل الله أن يجمعني وإياكم بهذا الحب في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ..
أحبتي في الله ..
الحياة مواقف ..
ومواقف عجيبة .. والناس فيها أشكال وألوان .. فمنهم من لا ينظر إلا إلى الأمور الكبيرة .. ومنهم من لا يدقق النظر إلا في الأمور الصغيرة .. ومنهم من لا يعبأ بالصغير ولا الكبير ؛ فحياته كيفما اتفق .. ومنهم الرجل الرشيد الذي فهم الحياة فأعطى كل شيء حجمه المطلوب وأهميته المطلوبة .. لذا نريد أن نفهم الحياة ..
نعم .. تحتاج الحياة إلى فهم لكي نعيشها كما يريدها ربنا سبحانه وتعالى منا ..
ومن فهم الحياة : أن هناك أشياء دقيقة تعكر صفو الحياة ..
أشياء دقيقة.. قد يعتبرها البعض تافهة ولا تذكر ولكنها تكدر صفو الحياة ..
أشياء دقيقة.. صغيرة جدا ولكن تأثيرها في إفساد هذه الحياة كبير ..
أشياء دقيقة.. قد تغيب عن نظر الكبير يتفطن لها صغير ناصح أمين ، فيتوجه الكبير لاستدراكها فيستعلي عليها ويتغافل عنها فيتسبب منها فساد عريض ..
أشياء دقيقة.. لا يتفطن إليها ولا يكون لها تأثير في وقتها أو وقع في ساعتها ، ولكنها مع الوقت والزمن يكون تأثيرها كبيرًا وخطيرًا ، وأخطر ما في ذلك بالطبع : الذنوب والمعاصي ..
يقول ابن القيم عليه رحمة الله في " الداء والدواء: « وها هنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب ، وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال ، وقد يتأخر تأثيره فينسى ، ويظن العبد أنه لا يغير بعد ذلك ، وأن الأمر كما قال القائل :
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وسبحان الله !!
ماذا أهلكت هذه النكتة من الخلق ؟
وكم أزالت من نعمة ؟، وكم جلبت من نقمة ؟
وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء ، فضلا عن الجهال ، ولم يعلم المغتر أن الذنب ينقض ، ولو بعد حين ، كما ينقض السم ، وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدغل .
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء: « اعبدوا الله كأنكم ترونه ، وعدوا أنفسكم في الموتى ، واعلموا أن قليلا يغنيكم خير من كثير يلهيكم ، واعلموا أن البر لا يبلى ، وأن الإثم لا ينسى » .
ونظر بعض العباد إلى صبي ، فتأمل محاسنه فأتي في منامه وقيل له : لتجدن غبها بعد أربعين سنة ..
هذا مع أن للذنب نقدا معجلا لا يتأخر عنه ، قال سليمان التيمي : إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته ..
وقال يحيى بن معاذ الرازي: عجبت من ذي عقل يقول في دعائه : اللهم لا تشمت بي الأعداء ، ثم هو يشمت بنفسه كل عدو له ، قيل : وكيف ذلك ؟، قال : يعصي الله فيشمت به في القيامة كل عدو .
قال ذو النون: من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية .. » اهـ كلام ابن القيم
ثم هي الدنيا :
قُلَّب والأيام دُوَل وعالم الأسباب عجب
قال الملك سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران :26-27] .
وقد جعل الله لكل شيء قدَرًا ، ولكل شيء سببا ، وعالم الأسباب من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ولا يظهر للناس منه ويبدو من خبره إلا كمثل رشح الإناء.
أحبتي في الله ..
كم في حياة المسلم من أسرار وعجائب !!
كم يقول المسلم في حياته مرات : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا أو لم أفعل كذا .. أو قلت كذا وكذا .. أو سكت عن كذا أو كذا .. ويقينا قد أتته قبل موقفه هذا إشارات لو انتبه ، ونصائح لو رأى ، ونذر لو تفطن ، ورسائل لو علم أنها تخصه لما جرى ما كان ..
لذلك إخوتي وعن خبرات حياتية أتوجه إليكم اليوم بنصيحة صدق من ناصح أمين :
في حياتك أشياء قد تعتبرها صغيرة تافهة وهي خطيرة ..
في علاقتك مع الله خطايا وأخطاء من جهل وغباء ..
من صغائر ولمم قد تودي بحياة إيمانك فانتبه لها ..
نصيحتي : لا تهمل شيئا ولا تستصغر أمرا وأصلح حالك أولا بأول ..
أرى خلل الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام
ومحبة لإخواني أنقل لكم هنا نصا طريفا للشاعر أحمد شوقي كتبه فيما كتب من شعر الرموز وهو نص ظريف وجميل ولكنه صادق حقيقي استللت منه فوائد أذكرها بعده إن شاء الله تعالى ، طالعه معي أولا يقول الشاعر :
حكي أن ملكا للغربان يعيش في مملكته وقصره المشيد على قمة نخلة كبيرة ، وكان لهذا الملك خادم أمين ناصح ، اسمه ندور .
جاءت ذات يوم سوسة فانغرست في جذور هذه النخلة فانتبه لذلك الأمر الخادم الناصح ، فدار بينه وبين ملك الغربان حوار لطيف تدور أحداثه وكلماته حول هذه السوسة ، وما يمكن أن تحدثه من مصائب على الأمد البعيد ، يقول أحمد شوقي شارحا هذا الحوار :
كان للغربان في العصر مليك
وله في النخلة الكبرى أريك
فيه كرسي وخدر ومهود
لصغار الملك أصحاب العهود
جاءه يوما ندور الخادم
وهو في الباب الأمين الحازم
قال : يا فرع الملوك الصالحين
أنت مازلت تحب الناصحين
سوسة كانت على القصر تدور
جازت القصر ودبت في الجذور
فابعث الغربان في إهلاكها
قبل أن نهلك في أشراكها
ضحك السلطان من هذا المقال
ثم أدنى خادم الخير وقال :
أنا رب الشوكة الضافي الجناح
أنا ذو المنقار غلاب الرياح
« أنا لا أنظر في هذي الأمور »
أنا لا أنظر تحتي يا ندور .
ثم لما كان عام بعد عام
قام بين الريح والنخل خصام
وإذا النخلة أهوى جذعها
فبدا للريح سهلا قلعها
فهوت للأرض كالتل الكبير
وهوى الديوان وانقض السرير
فدها السلطان ذا الخطب المهول
ودعا خادمه الغالي يقول :
يا ندور الخير أسعف بالصياح
ما ترى ما فعلت فينا الرياح
قال : يا مولاي لا تسأل ندور
« أنا لا أنظر في هذي الأمور »
وقد استخرجت من نص الشاعر بعض الفوائد السريعة فخذها هنيئا مريئا :
أولا : لابد لكل إنسان من ناصح أمين يكون قريبا منه مطلعا على بواطنه وأسراره وخفاياه ينصح له فيها ويكون مقبولا نصحه ، وكلما رأيت إنسانا يجمع حوله المنافقين والإمعات ويطرد الصادقين والنصحاء فاعلم أنه إنسان فاشل في الدنيا والآخرة .
ثانيا : في أدب النصح انظر إلى قول ندور :
يا فرع الملوك الصالحين أنت مازلت تحب الناصحين
فتعلم أن تشجع من تنصحه كي يقبل نصحك ..
قال الإمام الشافعي رحمه الله لبعض تلاميذه : إذا رأيت من أخيك زلة لم يكن لك بد من أن تنصحه فيها ، فإن واجهته بها أوحشته ، وإن كتمتها فقد خنته ، قال فكيف أفعل يا إمام ؟، قال : تعرض بها في الكلام وتجعلها في بعض حديثك ..
إنه فن معالجة الأخطاء :
· قدم شيئا من المدح والثناء عليه بالحق وبما فيه دون كذب أو مبالغة أو بخس.
· وأتبعها بذكر فوائد قبول النصح وأمثلة ممن استفاد ممن هو أصغر منه.
· ثم اعرض المسألة دون مبالغة في أهميتها ولا تضخيم لها .
· ثم التمس له بعض الأعذار وقدم له ما يمكن أن يكون من المبررات.
· استعمل أيضا الأدب في العرض والهدية البسيطة المناسبة.
· أخيرا لا تحوجه إلى اعتذار أو سوق مبررات، بل احسم الموضوع بمجرد عرض النصيحة.
· واختم قولك بأنك قد تكون أنت المخطئ وهو المحق فسامح واعذر من أحبك.
ثالثا : إياك والكبر والغرور
قالوا في المثل العربي : إذا كان عدوك نملة فلا تنم له ، انظر إلى قول الغراب :
أنا لا أنظر في هذي الأمور أنا لا أنظر تحتي يا ندور
ينبغي للإنسان أن ينظر تحته وفوقه وعما حوله ليدفع عن نفسه الأذى أسأل الله أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمته أن نغتال من تحتنا
قال سبحانه وتعالى حكاية عن إبليس قوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف :17] .
فلا يركبنك الغرور ، وانظر في جميع الأمور ، ولا تكن كما قيل : "الزوج آخر من يعلم " .
رابعا : السوسة .. وما أدراك ما السوس ، ينخر من تحت حتى يسقط السقف من فوق ، وهذا موضع الشاهد وركيزة هذا الموقف في النصح ..
أحبتي في الله ..
كم في حياتنا من سوس ينخر في ديننا وعلاقاتنا وأعمالنا وجملة حياتنا .. كم من سوس ينخر فعلا ونحن نراه ونهمله ولا نهتم به ولا نعمل على علاجه والتخلص منه ..
أخي الحبيب .. وأنا أحبك في الله : أدرك الأمر .. أنقذ نفسك :
· هناك سوسة تنخر في دينك أدركها :
معصية صغيرة أو كبيرة مع الإصرار ..
أو سوسة أخرى: سوء الظن بالله ..
أو سوسة أخرى : كبر أو عجب أو رياء ..
أو سوسة أخرى : عدم رضا عن الله ..
أو سوسة أخرى : جهل وتمادي ..
ابحث عن السوس في علاقتك مع الله ، واسترشد ناصحا أمينا منك قريب ..
· وهناك سوسة أخرى تنخر في بيتك :
إهمال زوجتك وأولادك ..
خطايا الزوجات وخطيئات الأولاد ..
منكرات موجودة بالبيت ( تلفاز ، موسيقى ، صور ، تماثيل ، اختلاط .... )
· وهناك سوسة أخرى تنخر في علاقتك مع الناس :
سوء الظن بالآخرين ..
تعلق القلب بالآخرين ..
طلب الحقوق ونسيان الواجبات ..
ابحث عن السوس وانقذ بنيانك من الانهيار وأدرك نفسك قبل أن تغرق بك السفينة ، وضع خطة عامة لترميم ما أفسده السوس في قلبك وفي عباداتك وفي معاملاتك ..
وفي النهاية ثمة أمر آخر ألا وهو :
لقد قام كثير من المصلحين بواجبهم ، آمرين أمتهم بالمعروف، ناهينها عن المنكر، ناصحين إياها بكل خير، ولكن نخشى أحيانا أن يحق في بعضنا قول القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد
أينما جال الإنسان ببصره في أرجاء هذه الأمة وجد سوسة تنخر في جسدها..
سوسة تفتك بالدين والقيم والخلق
سوسة لا ترحم
سوسة يبصرها أولو الأحلام والنهى ويقدرون عاقبتها .... ألا إن عاقبتها وخيمة !
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : « الدين النصيحة » ، قلنا : لمن ؟ ، قال : « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » [رواه مسلم] .
ورحم الله عملاق هذه الأمة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه حينما قال : (رحم الله رجلا أهدى إلي عيوبي) .
فهل تعي أمتنا ، حكاما ومحكومين ، أغنياء وفقراء ، وجهاء وبسطاء ، هذا الأمر العظيم ؟، وهل نعي نحن جميعا عبادة التناصح فيما بيننا ؟، وهل نذل أنفسنا للحق ونقبله مهما كان؟، نأمل ذلك والله ولي التوفيق .
رابط المقال:
http://www.yaqob.com/site/docs/articles ... &cat_id=10