أحمد مطر
مرسل: الخميس ديسمبر 31, 2009 4:54 am
أحمد مطر
ربّما يفلح الكاتب في إنجاز قصة قابضة على جمرة الفن، بأقل عدد من الكلمات، لكنّ ذلك مرهون بأن يكون على سجيته، أي أن يكون كاتباً فقط، لا كاتباً ومحاسباً في الوقت نفسه.
في أواخر عام 1987 خطر للكاتب الصحافي الأميركي 'ستيف موس' أن يطرح على المهتمين مشروع كتابة قصص قصيرة جداً، بحيث لا تتعدّى الواحدة منها خمساً وخمسين كلمة.
ولم يكن الرجل جاهلاً بالمصاعب التي تنتظر مثل هذا المشروع، فقد كان يدرك منذ البداية، أن الأمر نوع من المقامرة، وأنه ليس واثقا من أن دعوته ستغري الكتّاب بالاستجابة، ولذلك كان من السهل عليه أن يعترف في أعقاب ذلك بأن أغلب القصص التي وصلته في ذلك العام لم يكن جيداً بالقدر الذي كان يأمل فيه.
لكنّه في عام 1995، أصدر كتاباً ضمّ ما يزيد على مئة وخمسين قصّة مكتوبة حسب المواصفات التي اشترطها، وفي مقدمته كتب منشرحاً: «كنت كثيراً ما أشرح مشروعي للناس، لكنّ معظمهم كان يظنني مجنوناً. أما الآن، فلدي هذا الكتاب الذي يمكنني أن أريهم إيّاه، وهو يضمّ مجموعة من أفضل القصص التي وصلتنا على مرّ أعوام».
وتحت تأثير ما يراه نجاحاً، كرّر الدعوة في كتابه هذا، مشدداً على أن كتابة قصة من خمس وخمسين كلمة ليست بالسهولة التي تبدو لأوّل وهلة.. فقصيدة 'الهايكو' اليابانية قصيرة جداً، لكن ينبغي ألا يعتقد أحد أنها بسيطة الإنجاز. إنها تبدو بسيطة لأن الناس الذين يحسنون إبداعها هم الذين يجعلونها تبدو كذلك.
ودون أن يلتفت، عند استشهاده بقصيدة الهايكو، إلى أنه عقد مقارنة بين فنين لكلّ منهما شروطه الخاصة، راح يهدهد قلق الكتاب الأمر إذا لم يكن سهلا، فهو أيضا ليس مستحيلا، وفي محاولة لكسر هذه الاستحالة، يذكر بنصيحة وجهها الروائي الأميركي 'راي برادبري' لجمهوره، ذات مرّة، ملخصها أن المرء إذا أراد أن يتعلم كيف يكتب، فينبغي أن يكتب قصة قصيرة كل يوم، وإذا فعل ذلك فإنه في نهاية السنة سيكون قد كتب 365 قصة، ثم بعدئذ لا بد أن تكون ثلاث أو أربع منها جديرة بأن تعتبر قصصا جيدة، لأن من المستحيل أن يكتب المرء ثلاثمئة وخمساً وستين قصة رديئة!
ولم ينتبه 'موس' في غمرة ذلك، إلى أن نصيحة 'برادبري' قد انصبّت كلياً على الناحية التدريبية، ولم تلامس على الإطلاق مسألة 'الإيجاز'.
ولكي يضاعف جرعة الإغراء، دعا الكتّاب إلى إيلاء الكلمة عناية فائقة بحيث تتحقق فيها ذروة الامتلاء والتأثير، متخيلين أنفسهم القصصي الشهير (أو.هنري) وقد أراد كتابة قصّة، بينما لم يجد ما يكتبها عليه سوى ظهر 'بطاقة عمل'.
وهنا أيضا، نسي 'موس' أن موهبة (أو.هنري) غير عادية، ونسي أيضا أن قصصه كلها تقريبا تتميز بكونها تنتهي بمفاجآت.
وفي نهاية الكتاب حدد شروط العمل التقليدية بضرورة احتواء القصة على: (المكان، والشخصية أو الشخصيات، والحدث، والحل)، ولم ينس أن يختم ذلك بقوله: «تذكّروا.. خمس وخمسون كلمة فقط».
وعلى الجملة، فإن المشروع بمقدمته ونتائجه، يبدو مفيدا جدا في التدريب على الاختزال، وهو أمر رائع إذا كان تدريبا مطلقا، أو إذا تعلق بكتابة خبر أو تقرير أو رسالة.
أما إذا تعلق بالإبداع القصصي، فلاأزال في شك من نجاحه، خصوصا بعد أن قرأت جميع القصص التي احتواها الكتاب، وذلك لأن صاحب المشروع أعطى الكاتب خمساً وخمسين كلمة، وأخذ منه أهم ما يحتاجه في مجال الكتابة الإبداعية: الحريّة.
فحتى إذا كان الكاتب محترفاً، متقد الموهبة، راغبا في الإيجاز، فإن سيجد نفسه شبه عاجز عن الإجادة، وسط حصار يحسب عليه أنفاسه.
وربّما يفلح الكاتب في إنجاز قصة قابضة على جمرة الفن، بأقل من هذا العدد من الكلمات، لكنّ ذلك مرهون بأن يكون على سجيته، أي أن يكون كاتباً فقط، لا كاتباً ومحاسباً في الوقت نفسه، أما من دون ذلك فإن التصنع والتكلف والميكانيكية ستفرض نفسها على العمل، ولن يجد أمامه مفرّاً من اللجوء الى المفارقة أو المفاجأة لإضفاء ما يشبه السحر على ما يشبه القصة، وعندئذ يتحول العمل على الفور إلى فن آخر هو: النكتة.
وذلك بالضبط هو ما آلت إليه قصص المجموعة كلها... والمشكلة أن قليلا منها أفلح في أن يكون نكتة جيدة.
وهنا نماذج من أفضل هذه القصص:
(حظ عاثر) - آلان. إي. ماير:
أفقت على آلام كاوية تحتلّ جسدي كلّه، فتحت عينيّ، فأبصرت ممرضة تقف إلى جوار سريري.
قالت: كنت محظوظا ياسيد «فوجيما» لقد كتبت لك النجاة من القنبلة التي ألقيت فوق هيروشيما منذ يومين.. عليك ألا تقلق، فأنت الآن بمأمن في هذا المستشفى.
سألتها بوهن: أين أنا؟
أجابت: في ناغازاكي.
• (خطط ضائعة)- مونيكا وير:
طفح من الفواتير الجديدة جاء هذا الصباح. الرسالة التي وصلت من شركة التأمين تضمّنت إشعاراً بإلغاء بوليصتهم، تنهدت، ثم هبت بقلق لإبلاغ زوجها.
المطبخ مفعم برائحة الغاز، على طاولته وجدت ملاحظة: «... مبلغ التأمين على حياتي، سيكون كافيا لك وللأولاد».
• (في الحديقة) - هوب. أ. توريس:
كانت واقفة في الحديقة، عندما رأته يتقدّم نحوها راكضا.
- تينا.. زهرتي.. حبّ عمري.
ها هو يقولها أخيراً.
- أوه.. توم!
- تينا.. زهرتي!
- أوه توم.. أنا أحبك أيضاً.
ما إن وصل إليها حتى انحنى، ثم بسرعة دفعها جانباً.
- زهرتي! لقد كنت واقفة فوق زهرتي الفائزة بالجائزة!
وبالمقارنة، فإن النكتة التالية التي سمعتها أخيراً، تعد قصة أقصر بكثير من جميع قصص كتاب 'موس' بل إن المفاجأة فيها أكبر برغم كونها متوقعة جداً:
(سيناريو فيلم هندي): عثر كومار على طفلة رضيعة مرمية على قارعة الطريق. حملها إلى بيته، وعكف على تربيتها، ومرّت الأعوام، فلمّا كبرت الرضيعة وأصبحت امرأة، اكتشف كومار أنها.. أمّه!
*نقلا عن جريدة "الجريدة" الكويتية
ربّما يفلح الكاتب في إنجاز قصة قابضة على جمرة الفن، بأقل عدد من الكلمات، لكنّ ذلك مرهون بأن يكون على سجيته، أي أن يكون كاتباً فقط، لا كاتباً ومحاسباً في الوقت نفسه.
في أواخر عام 1987 خطر للكاتب الصحافي الأميركي 'ستيف موس' أن يطرح على المهتمين مشروع كتابة قصص قصيرة جداً، بحيث لا تتعدّى الواحدة منها خمساً وخمسين كلمة.
ولم يكن الرجل جاهلاً بالمصاعب التي تنتظر مثل هذا المشروع، فقد كان يدرك منذ البداية، أن الأمر نوع من المقامرة، وأنه ليس واثقا من أن دعوته ستغري الكتّاب بالاستجابة، ولذلك كان من السهل عليه أن يعترف في أعقاب ذلك بأن أغلب القصص التي وصلته في ذلك العام لم يكن جيداً بالقدر الذي كان يأمل فيه.
لكنّه في عام 1995، أصدر كتاباً ضمّ ما يزيد على مئة وخمسين قصّة مكتوبة حسب المواصفات التي اشترطها، وفي مقدمته كتب منشرحاً: «كنت كثيراً ما أشرح مشروعي للناس، لكنّ معظمهم كان يظنني مجنوناً. أما الآن، فلدي هذا الكتاب الذي يمكنني أن أريهم إيّاه، وهو يضمّ مجموعة من أفضل القصص التي وصلتنا على مرّ أعوام».
وتحت تأثير ما يراه نجاحاً، كرّر الدعوة في كتابه هذا، مشدداً على أن كتابة قصة من خمس وخمسين كلمة ليست بالسهولة التي تبدو لأوّل وهلة.. فقصيدة 'الهايكو' اليابانية قصيرة جداً، لكن ينبغي ألا يعتقد أحد أنها بسيطة الإنجاز. إنها تبدو بسيطة لأن الناس الذين يحسنون إبداعها هم الذين يجعلونها تبدو كذلك.
ودون أن يلتفت، عند استشهاده بقصيدة الهايكو، إلى أنه عقد مقارنة بين فنين لكلّ منهما شروطه الخاصة، راح يهدهد قلق الكتاب الأمر إذا لم يكن سهلا، فهو أيضا ليس مستحيلا، وفي محاولة لكسر هذه الاستحالة، يذكر بنصيحة وجهها الروائي الأميركي 'راي برادبري' لجمهوره، ذات مرّة، ملخصها أن المرء إذا أراد أن يتعلم كيف يكتب، فينبغي أن يكتب قصة قصيرة كل يوم، وإذا فعل ذلك فإنه في نهاية السنة سيكون قد كتب 365 قصة، ثم بعدئذ لا بد أن تكون ثلاث أو أربع منها جديرة بأن تعتبر قصصا جيدة، لأن من المستحيل أن يكتب المرء ثلاثمئة وخمساً وستين قصة رديئة!
ولم ينتبه 'موس' في غمرة ذلك، إلى أن نصيحة 'برادبري' قد انصبّت كلياً على الناحية التدريبية، ولم تلامس على الإطلاق مسألة 'الإيجاز'.
ولكي يضاعف جرعة الإغراء، دعا الكتّاب إلى إيلاء الكلمة عناية فائقة بحيث تتحقق فيها ذروة الامتلاء والتأثير، متخيلين أنفسهم القصصي الشهير (أو.هنري) وقد أراد كتابة قصّة، بينما لم يجد ما يكتبها عليه سوى ظهر 'بطاقة عمل'.
وهنا أيضا، نسي 'موس' أن موهبة (أو.هنري) غير عادية، ونسي أيضا أن قصصه كلها تقريبا تتميز بكونها تنتهي بمفاجآت.
وفي نهاية الكتاب حدد شروط العمل التقليدية بضرورة احتواء القصة على: (المكان، والشخصية أو الشخصيات، والحدث، والحل)، ولم ينس أن يختم ذلك بقوله: «تذكّروا.. خمس وخمسون كلمة فقط».
وعلى الجملة، فإن المشروع بمقدمته ونتائجه، يبدو مفيدا جدا في التدريب على الاختزال، وهو أمر رائع إذا كان تدريبا مطلقا، أو إذا تعلق بكتابة خبر أو تقرير أو رسالة.
أما إذا تعلق بالإبداع القصصي، فلاأزال في شك من نجاحه، خصوصا بعد أن قرأت جميع القصص التي احتواها الكتاب، وذلك لأن صاحب المشروع أعطى الكاتب خمساً وخمسين كلمة، وأخذ منه أهم ما يحتاجه في مجال الكتابة الإبداعية: الحريّة.
فحتى إذا كان الكاتب محترفاً، متقد الموهبة، راغبا في الإيجاز، فإن سيجد نفسه شبه عاجز عن الإجادة، وسط حصار يحسب عليه أنفاسه.
وربّما يفلح الكاتب في إنجاز قصة قابضة على جمرة الفن، بأقل من هذا العدد من الكلمات، لكنّ ذلك مرهون بأن يكون على سجيته، أي أن يكون كاتباً فقط، لا كاتباً ومحاسباً في الوقت نفسه، أما من دون ذلك فإن التصنع والتكلف والميكانيكية ستفرض نفسها على العمل، ولن يجد أمامه مفرّاً من اللجوء الى المفارقة أو المفاجأة لإضفاء ما يشبه السحر على ما يشبه القصة، وعندئذ يتحول العمل على الفور إلى فن آخر هو: النكتة.
وذلك بالضبط هو ما آلت إليه قصص المجموعة كلها... والمشكلة أن قليلا منها أفلح في أن يكون نكتة جيدة.
وهنا نماذج من أفضل هذه القصص:
(حظ عاثر) - آلان. إي. ماير:
أفقت على آلام كاوية تحتلّ جسدي كلّه، فتحت عينيّ، فأبصرت ممرضة تقف إلى جوار سريري.
قالت: كنت محظوظا ياسيد «فوجيما» لقد كتبت لك النجاة من القنبلة التي ألقيت فوق هيروشيما منذ يومين.. عليك ألا تقلق، فأنت الآن بمأمن في هذا المستشفى.
سألتها بوهن: أين أنا؟
أجابت: في ناغازاكي.
• (خطط ضائعة)- مونيكا وير:
طفح من الفواتير الجديدة جاء هذا الصباح. الرسالة التي وصلت من شركة التأمين تضمّنت إشعاراً بإلغاء بوليصتهم، تنهدت، ثم هبت بقلق لإبلاغ زوجها.
المطبخ مفعم برائحة الغاز، على طاولته وجدت ملاحظة: «... مبلغ التأمين على حياتي، سيكون كافيا لك وللأولاد».
• (في الحديقة) - هوب. أ. توريس:
كانت واقفة في الحديقة، عندما رأته يتقدّم نحوها راكضا.
- تينا.. زهرتي.. حبّ عمري.
ها هو يقولها أخيراً.
- أوه.. توم!
- تينا.. زهرتي!
- أوه توم.. أنا أحبك أيضاً.
ما إن وصل إليها حتى انحنى، ثم بسرعة دفعها جانباً.
- زهرتي! لقد كنت واقفة فوق زهرتي الفائزة بالجائزة!
وبالمقارنة، فإن النكتة التالية التي سمعتها أخيراً، تعد قصة أقصر بكثير من جميع قصص كتاب 'موس' بل إن المفاجأة فيها أكبر برغم كونها متوقعة جداً:
(سيناريو فيلم هندي): عثر كومار على طفلة رضيعة مرمية على قارعة الطريق. حملها إلى بيته، وعكف على تربيتها، ومرّت الأعوام، فلمّا كبرت الرضيعة وأصبحت امرأة، اكتشف كومار أنها.. أمّه!
*نقلا عن جريدة "الجريدة" الكويتية